الصراع الديني في الغرب مدخلاً لقراءة إشكاليتا الهوية ومصدرالسيادة في مجتمعاتنا


فئة :  مقالات

الصراع الديني في الغرب مدخلاً لقراءة إشكاليتا الهوية ومصدرالسيادة في مجتمعاتنا

من المقاربات المهمة التي تتطلب مزيداً من البحث والنقاش والتنظير المنهجي أن يُقرأ الصراع الديني الذي شهدته المجتمعات والدول الغربية منذ قرون باعتباره مدخلاً جوهرياً للتعامل مع الأزمات التي يشهدها الشرق الأوسط، خاصة أنها أزمات تدور في الأساس حول فكرة الهوية، ووضعية الشريعة، وهي قضايا مؤثرة في التاريخ المسيحي الغربي أيضاً، وكان لها تأثير في التحولات التي مرّ بها الغرب، وفق ما يقول جون أوين، أستاذ العلوم السياسية في جامعة فيرجينيا الأمريكية في دراسة تحليلية نشرتها مجلة "فورين أفيرز" الأمريكية في عدد مايو / يونيو 2015.

يؤسس أوين تحليله (المقتبس من كتابه الأخير بعنوان "في مواجهة الإسلام السياسي: ستة دروس مستفادة من تاريخ الغرب") على فكرة مصدر السيادة في المجتمع، باعتبارها فكرة حاكمة للصراعات القائمة في المجتمعات الإسلامية؛ فالكثير من هذه المجتمعات لم يحسم مسألة الهوية ومصدر السيادة؛ وهو الأمر الذي أوجد مساحة كبيرة من التجاذب بين تيارَيّن رئيسيَّين، أحدهما يرى أن السيادة في المجتمع يتعيّن أن تكون إلهية، ومن ثمّ تكون المرجعية للشريعة والنص الديني، بينما يؤكد التيار الآخر السيادة البشرية، التي تعني أن التشريع وإدارة شؤون المجتمع مستمدّان في الأساس من القوانين الوضعية والمصالح التي يُقدّرها العقل البشريّ. صحيح أنّ هناك بعض الاتجاهات التي حاولتْ التوفيق بين المنطلقات الفكرية لكلا التيارين، ولكن بالرغم من ذلك، فقد ظلا التيارين الأكثر تأثيراً وحضوراً في الساحة الفكرية، وفقاً لأوين، الذي يؤكد أنّ هذا الصراع الأيديولوجي بدأ مع تعرّض منطقة الشرق الأوسط للاستعمار الغربيّ؛ حيث سعت القوى الغربية إلى فرض خبرتها العلمانية على دول المنطقة؛ لتوجِد حاضنة للتيار العلمانيّ الذي نشأ في المنطقة، ووجدت له النخب المقتنعة به، التي رأت أنّ العلمانية الغربية هي النموذج النهضوي الأمثل للدول الإسلامية، ولم تؤدِ مرحلة الاستقلال إلى تراجع التيار العلمانيّ، ولكنه استمرّ وطرح نفسه بصفته بديلاً، وفي المقابل بدأ تيار إسلامي يكرّس هو الآخر لفرضياته المتعارضة بالضرورة مع أطروحات التيار العلماني.

يفترض أوين أن المجتمعات الإسلامية تمرّ، في الوقت الراهن، بأوضاع تشبه ما كانت تشهده الدول الغربية، (ولا سيما في غرب أوروبا)، منذ نحو 450 عاماً؛ حيث كانت الحروب الدينية والثورات التي قام بها أتباع البروتستانتية الجديدة المعروفة بالكالفينية، التي كانت تعبّر عن مذهب يحمل توجهات دينية وسياسية واقتصادية في آنٍ واحد. وقد أدت معارضة المذهب الجديد للنظام الاقتصادي والاجتماعي المتمحور حول الكنيسة الكاثوليكية إلى تنامي حدّة الصراع الديني في الغرب، وإعادة تعريف دور الكنيسة والمسيحية داخل الدولة.

والقضية الرئيسية التي يطرحها أوين في هذا السياق هي قضية الشرعية؛ فالصراع الديني الذي بدأ بين البروتستانتية (الكالفينية) والكاثوليكية يعكس ـ بشكل أو بآخر ـ صراعاً حول فكرة الشرعية، ومَنْ يملك الصلاحية الفكرية لإدارة الدولة، ولم تتوقف هذه الأزمة مع انتهاء الصراع الديني، ولكنها تجلتْ فيما بعد عبر الصراع بين الملكية والدستورية، ثم الصراع بين الليبرالية والشيوعية. وعطفاً على ما سبق؛ فإن المقارنة بين الخبرة التاريخية الغربية وواقع الشرق الأوسط تكشف عن دلالتين جوهرتين:

أولاً، ثنائية الداخل والخارج؛ فالكثير من الصراعات الإيديولوجية، سواء في الغرب أو الشرق الأوسط، انطوت على درجة ملحوظة من التفاعل بين الداخل والخارج، وقد ظهر هذا الأمر في أثناء الحروب الدينية في الغرب؛ حيث إنّ كل طرف في الصراع كان لديه ظهير خارجي يعتمد عليه، خصوصاً أنّ الحرب كانت عابرة للقوميات، ولا تقتصر على منطقة بعينها، وتمّ استدعاء هذا النموذج في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية أيضاً، وفي خضم الصراع بين الليبرالية والشيوعية، حيث سعى الرئيس الأمريكي الأسبق، هنري ترومان، إلى استغلال التباينات داخل التيار الاشتراكي الفرنسي، وأقام تحالفاً مع الاشتراكيين المعارضين للشيوعية والنقوذ السوفيتي. وهي الاستراتيجية التي لم تنجح كثيراً داخل إيطاليا، خاصة مع تقارب الأحزاب اليسارية من الاتحاد السوفيتي، ومن ثمّ لجأت الولايات المتحدة الأمريكية إلى سياسة بديلة، متمثلة في إقامة أحزاب منافسة، كالحزب المسيحي الديمقراطي، الذي تمكن من الفوز بانتخابات عام 1948 بمساعدة أمريكية.

وإذْ يقارن أوين ما تقدم بالحالة في الشرق الأوسط، يبدو السياق مشابهاً؛ فقد لعب الغرب دوراً مؤثراً في الصراعات الأيديولوجية، وكان لهذا الدور ثلاثة تجليات؛ أولها في أثناء الحقبة الاستعمارية، وسعي الدول الغربية حينها إلى تعزيز الانقسامات الأيديولوجية داخل مجتمعات المنطقة. أما التجلي الثاني؛ فقد اتصل بالتدخلات العسكرية المعاصرة في المنطقة، التي قامت بها الولايات المتحدة الأمريكية في العراق وأفغانستان، لتؤدي إلى مزيد من الإشكاليات والصراعات داخل المنطقة. وارتبط ثالث التجليات بطريقة التعامل مع تيار الإسلام السياسي؛ حيث ظهر اتجاه داخل الغرب، خلال السنوات الماضية، يضع تصنيفات للإسلاميين، وبناءً على هذا التصنيف طُرحت الكثير من السيناريوهات حول إمكانية التحالف مع فصيل من الإسلاميين، وتوظيف هذا التحالف في المواجهة مع فصائل إسلامية أخرى، وهو ما أسهم في تعزيز الاستقطابات الإيديولوجية في المنطقة.

ثانياً، مسارات التسوية؛ إذْ يشير التاريخ الغربي، وفق أوين، إلى أنّ أزمات الشرعية عادة ما تتم تسويتها عبر ثلاثة مسارات رئيسية وهي انتصار أحد الطراف بشكل حاسم، أو التوصل إلى حالة تعايش بين الأطراف المتنازعة (التسامي فوق الصراع)، أو من خلال تأسيس نظام هجين، يجمع بين المذاهب المتناحرة. وبالتعرض إلى حالة الشرق الأوسط؛ فليس من المرجح تحقق المسار الأول، خاصة أن الإسلام السياسي ليس كتلة واحدة متجانسة، وبالتالي فمن غير الواقعي الحديث عن انتصار حاسم لتيار الإسلام السياسي في المجمل.

ويذكر أوين أنّ الغرب شهد المسار الثاني بعد سنوات من الصراع بين البروتستانت والكاثوليك؛ إذْ توصل أتباع المذهبين إلى قناعة بحتمية التعايش، والتوقف عن التفكير في صيغة المعادلات الصفرية، وارتبط هذا الأمر أيضاً بالاقتناع المشترك بضرورة الفصل بين الكنيسة والدولة. بيد أنّ التوصل إلى نتائج مماثلة في الشرق الأوسط سيتطّلب من الإسلاميين والكتلة الجماهيرية الداعمة لهم إعادة النظر في مسألة الشريعة، ومساحة تداخلها في المجال العام والقوانين، ونظراً إلى صعوبة التراجع عن هذه الفكرة؛ فسيكون من غير المرجح تحقق هذا المسار. ويشكّل المسار الثالث أحد النماذج المهمة في التاريخ الغربي؛ حيث أفضتْ الصراعات الممتدة لعقود إلى التوصل لنظام هجين يمزج بين فرضيات المذاهب المختلفة، وذلك على غرار الصراع بين الملكيين الذين تمسكوا بتوريث الحكم والجمهوريين الذين تمسكوا بفكرة انتخاب الحكومات. وقد انتهى هذا الصراع عملياً مع تبني بريطانيا نظاماً هجيناً؛ حدث بموجبه اندماج بين الملكية والقيود البرلمانية والحريات الدينية. وهنا يفترض أنّ نجاح التجربة البريطانية، ورعايتها للنظام الهجين، أسهما في نشر النموذج نفسه في دول أخرى.

ويعتقد أوين أنّ الإشكالية الكبرى التي يعانيها الشرق الأوسط ستظلّ إشكالية الشرعية، وتحديد مساحات التقاطع بين الديني والدنيوي، التي على أساسها سيتضح مستقبل الصراع الأيديولوجي في المنطقة. وبعيداً عن التدخلات الخارجية، فإن حسم هذه القضايا مرتهن بالداخل، والخيارات التي ستلجأ إليها النخب والكتل الجماهيرية في المنطقة، وهي خيارات لن تكون بعيدة كثيراً عن المسارات التي مرّ بها الغرب.

الإشكالية التي تغيب عن مقاربة أوين، المهمة والمتماسكة إلى حد كبير، تكمن في غياب الربط بين تأثير التطور الاجتماعي والاقتصادي الذي شهدته المجتمعات الغربية وظهور البروتستانتية في القرن السادس عشر كرد فعل واستجابة للتحدي الذي تركه الاجتماعيّ والاقتصاديّ على الدينيّ، وهذا مدخل من المداخل الأساسية، التي لم يركز عليها أوين، من أجل معاينة وقراءة واستشراف سيناريوهات التحولات التي قد تصيب الحقل الديني في مجتمعاتنا العربية والإسلامية.