الصراع بين العلم والدين


فئة :  مقالات

الصراع بين العلم والدين

قبل أكثر من أربعين عاماً بعد تخرجي من كلية الطب، استولت علي فكرة كانت تتخمر على مدى سنوات طويلة، وهي محاولة رؤية الطب في منظار جديد، بل رؤية كافة العلوم في هذا الضوء. والذي حرك هذا الموضوع عندي، هو نصف آية من القرآن جاء ذكرها عرضاً بشكل خجول متردد في كتاب الفسيولوجيا، ذلك العلم الجميل الذي كنا نتعرف عليه في ذلك الوقت.

الآية أو بالأحرى نصف الآية، هي: (وجعلنا من الماء كل شيء حي).

ما أثار انتباهي في ذلك الوقت، أن الآية لم تذكر حتى نهايتها؛ مع أن الآية ذكرت من أجل الوصول إلى تقرير جدوى ومغزى الآية، ونهايتها كلمتان فقط (أفلا يؤمنون). لقد أثارت هاتان الكلمتان عندي زوبعة فكرية في محاولة اكتشاف العلاقة بين العلم والإيمان، في البيولوجيا، في الفيزياء النووية، في الكوسمولوجيا، في علم مباحث الأعصاب الحديثة، في التطور، في الجنس، في التسلح النووي، في السلم والحرب والأمن الدولي، في التعليم، في قضية المرأة، في الكفاح الأخلاقي، في علم النفس الحديث، في دورة الاقتصاد، في مشكلة العنف واللاعنف، في الأنثروبولوجيا، في علم الجينات وجراحة الكروموسومات، الذي يشكل علم المستقبل، والذي هو أخطر من السلاح النووي، جعلني كل هذا أنكب على دراسة هذه الظاهرة، في محاولة لبناء فلسفي جديد، يدخل فيها العقل المسلم المعاصرة، ويتكيف معها بعد أن يهضمها ويتمكن منها، لينتقل بعد ذلك إلى الإبداع فيها.

لذلك كتبت كتابي الأول في حياتي (الطب محراب للإيمان - جزء أول)، وبعدها بأربع سنوات الجزء الثاني من نفس الكتاب، الذي طورت فيه البحث خطوة جديدة في رسم معالم فلسفة إسلامية معاصرة للتعامل مع العلوم الجديدة التي تخترق فضاءات جديدة للمعرفة كل يوم.

كانت مزية الكتاب هي أنه اقتحم مجالاً جديداً كان رائداً في وقته، ولا يزال يتمتع بصلابة، حتى وقت كتابة هذه الأسطر. والآن، وبعد أربعة عقود من المحاولة الأولى، أشعر أن هذا الاتجاه الذي شققت الطريق إليه لا يقتصر على الطب، بل يجب أن يشمل كل حقول المعرفة الإنسانية، لذا قمت بمشروع حفر جديد للتعامل مع أحدث المعلومات التي تتدفق إلى السوق الفكرية، وهي أنه ليس (الطب فقط محراب للإيمان)، بل علم الذرة والفيزياء النووية، البيولوجيا وعلم الخلية الحديث، الكروموسومات، واكتشاف الشيفرة السرية للخلق العام، ومنه الإنساني، حيث تتفجر الثورة العلمية الحديثة في القرن الحادي والعشرين، علم النفس الإنساني في مدرسته الجديدة التي طورت ما يعرف بعلم النفس الإنساني، بعيداً عن فهم الإنسان كدفعة غريزة، أو آلة، بل ككائن فريد متميز.

كانت محاولة الكتاب هي في استيعاب الإعصار العلمي، وصدمة الحداثة، تلك التي دخلت العالم الإسلامي، وأحدثت ما يشبه فقداناً في التوازن الثقافي.

أردت أن أقرأ الطب في ضوء القرآن، واستخرج عجينة جديدة بين العلم والإيمان. (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) (المجادلة 11).

فهمت أن العلم والإيمان هما وجهان لعملة واحدة، بل أردت أن أقلب العلم إلى إيمان، والإيمان إلى علم، وفي اللحظة التي يتم فيها هذا التحول، سيحصل في تاريخ العالم ما حصل في اكتشاف اينشتاين للعلاقة بين الطاقة والمادة، حيث يتم تحول الطاقة إلى مادة وبالعكس.

إن الطاقة ليست إلا إحدى صور المادة، كما أن المادة ليست إلا طاقة مكثفة، وهذا الفهم لطبيعة الكون، بل إن نقص هذا الفهم عند الشيطان سابقاً هو الذي أودى به إلى اللعنة الأبدية، حين احتج بتميزه أنه من طاقة وأن آدم (مادة)، وفي الحين الذي نصل فيه إلى معادلة من هذا النوع، سيتوقف الصراع بين العلم والدين.

من هنا نفهم ما معنى أن القرآن يقرن في كثير من آياته بين العلم والإيمان، أو يشير إلى أن الذين يحملون العلم يعرفون أن ما جاء في القرآن حق، فتخشع قلوبهم له.

(ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد) تماماً كما يبذل العلماء الآن جهودهم في فهم القانون (التوحيدي) الذي ينتظم الكون، والذي قضى فيه اينشتاين العشرين سنة الأخيرة من حياته، لدمج قوانين الكون الأربعة الرئيسة، وهي الجاذبية، القوة الكهرطيسية، قوى النواة الضعيفة، قوى النواة القوية.

هذه المحاولة (معادلة العلم - الإيمان) لم تخلص من الزوابع بعد، ولم ترسو هذه السفينة الجديدة العجيبة على شاطئ السلامة بعد، فنحن في صدد إرساء توازن جديد أو هكذا أزعم.

هذا التوازن الجديد هو رؤية المعرفة في نور جديد، ويجب أن نكون حذرين جدا من مصطلح أسلمة المعرفة، فليس هناك علم إسلامي ومسيحي ويهودي وبوذي.

ما نريد بهذه المقاربة الجديدة وضع العلم في إطاره الفلسفي الملائم، ضمن الفكر والفلسفة الإسلامية، لا حصراً وحبسا، بل فهما للعلم ضمن هذا الإطار الفلسفي؛ أي أننا في صدد إرساء العلم من خلال فلسفة العلم.

في عالم النبات، يحصل شيء مثير عند تطعيم فرع على أصل، ما يحدث هو أن الفرع ينمو فيمتص النسغ والدفع من الأصل، إلا أن الحيوية تبقى للفرع، والثمار تخرج من الفرع شاهدة عليه، ليست ثماراً غريبة أو ثمار الأصل، بل ثمارأً غضة فتية من الفرع ونوعه.

إن (محمد إقبال) الفيلسوف المسلم فعل هذا الشيء أثناء احتكاكه بالحضارة الغربية، لأنه أخرج ثماراً يانعة إسلامية من عصارة الفكر الغربي؛ فأبدع كتابه (تجديد التفكير الديني في الإسلام).

نحن نريد أن نعرف ما يجد في العالم من ثمرات، ليس فقط من أجل التعرف عليها، بل حتى نحقق وظيفة ( الشهادة)، لأن الشاهد في أية قضية يجب أن يكون حاضراً واعياً للواقعة، كما قال القرآن (لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية) (الحاقة - 11)، بل يجب أن نهيئ أنفسنا للقفزة الأخرى، وهي ليس (لحاق) الآخرين، بل (تجاوزهم)؛ أي القيام بعمل ريادي في فضاءات المعرفة، مع الانتباه إلى أن تجاوز شيء ما يعني معرفته والوصول إليه قبل تجاوزه، لذا فالعلاقة مع العالم يجب أن تقوم على إدراكه، وإدراكه يجب أن يتم من خلال معرفته، وهذا اللون من المعرفة ريادي أيضاً، لأننا يجب أن نخترق العلم وفلسفة العلم ثم إرساء معرفتنا الجديدة.

* خالص جلبي مفكر و كاتب سوري