العصيان المدني مدخل إلى الديمقراطيَّة


فئة :  مقالات

العصيان المدني مدخل إلى الديمقراطيَّة

العصيان المدني مدخل إلى الديمقراطيَّة

عزّ العرب لحكيم بناني*

مقدّمة:

تنبني الديمقراطيَّة على ركيزتين أساسيتين: الأولى مؤسَّسات سياسيَّة تُفوَّض لها مختلف السلطات وفق قوانين يُجمع المواطنون على عدالتها، أو، على الأقل، على شرعيتها، والثانية منظومة قانونيَّة تراقب النظام السياسي، وتمنع الانحراف باستعمال العنف في اتجاه يناقض مبدأ دولة القانون. ومن خلال هاتين الركيزتين، لا يحقُّ للسلطة السياسيَّة أن تحُلَّ محلَّ المنظومة القانونيَّة في ضمان مشروعيَّة المؤسَّسات الديمقراطيَّة، في حين يحقُّ للمواطن أن يعترض على قوانين يرى أنَّها غير عادلة من خلال اللجوء إلى القضاء الدستوري. ورغم توافر إمكانيَّة المراجعة الدستوريَّة (Judicial Review)، التي تبدو، بالنسبة إلى فقهاء وفلاسفة القانون، أمثال: دووركين، ورولز، وهارت، وكلسن، وراتز وغيرهم، ركناً أساسياً من أركان دولة القانون الحديثة، يظلُّ هناك اعتقاد قوي لدى العديد من المنظّرين السياسيين بأنَّ الديمقراطيَّة لا تستقرُّ داخل المجتمع إلا بإحداث توازن دقيق بين شرعيَّة القانون ومشروعيَّة السلطات الديمقراطيَّة المكتسبة عبر الانتخاب من جهة، والمقاومة السلميَّة للقوانين والقرارات السياسيَّة من خلال اللجوء إلى العصيان المدني من جهة أخرى؛ غير أنَّ هذا الموقف الأخير، الذي يعترف للعصيان المدني بالمشروعيَّة والجدوى، ليس الموقف السائد لدى فقهاء القانون؛ إذ يتعارض، في رأي أغلبيتهم، العصيان المدني مع وجوب احترام القوانين والإذعان لها. فلا أحد يتمتَّع بامتياز خرق القانون، سواء بحكم ما يتمتَّع به من نفوذ سياسي عندما يُنصِّب نفسه فوق القانون، أم نتيجة مواقفه السياسيَّة. ولا يتضمَّن وجوب احترام القانون استثناءً داخل الدول الديمقراطيَّة، سواء في الغرب الذي يبجّل القانون أكثر من تبجيل الكتاب المقدَّس نفسه، أم في بلدان المشرق التي تسود فيها القوانين الاستبداديَّة، والتي لا تحترم الحقوق الأخلاقيَّة للأفراد. ولذلك، سنتساءل: هل العصيان المدني حقٌّ أساسيّ؛ بمعنى أنَّه حقٌّ «يضمن لنا فرادى وجماعات مشروعيَّة انتهاك معايير المنع، بطريقة خالية من العنف لأسباب سياسيَّة أخلاقيَّة، إذا ما كان الاحتجاج موجَّهاً ضدَّ ظلم خطير»؟[1]. ولأنَّ هذه المسألة خلافيَّة بين الفلاسفة وفقهاء القانون، فإنَّنا سنعمل في هذا المقال على إبراز الخلفيات الفكريَّة والفلسفيَّة والحجج القانونيَّة لكلٍّ من الطرفين؛ المناصر للعصيان المدني والرافض له، مع تأكيد من طرفنا على أهميَّة العصيان المدني في الديمقراطيَّة، ودوره في تطوير المؤسَّسات والتشريعات على نحو يجعلها أكثر استجابة للمطالب الأخلاقيَّة المشروعة للأفراد، وأكثر قدرة على إدماج الأصوات الاحتجاجيَّة. وللحجاج من أجل موقفنا هذا سنقوم بمناقشة جملة من النظريات حول العصيان المدني، وعلى نحو خاص نظريَّة رولز، التي دافع عنها في كتابه العمدة (نظرية في العدالة)، التي حدَّدت الحق في العصيان المدني في الديمقراطيَّة الليبراليَّة وفي مجتمع عادل، ضمن شروط نرى أنَّها ضيّقة أكثر من اللزوم. وسندافع في هذا المقال أيضاً، عن رأي يرى أنَّ العصيان المدني وسيلة فعَّالة في الدفاع عن الحقوق الأخلاقيَّة للأفراد والمجموعات، سواء في الغرب؛ أي في الدول التي تُعدُّ ديمقراطيَّة، أم في دول الشرق التي تُعرف بالشموليَّة والاستبداد.

يرى البعض أنَّ العصيان المدني ليس حقّاً أساسياً؛ ففورتاس (Fortas) يرى مثلاً أنَّه «لا يوجد مبرّر للعصيان المدني داخل مجتمعنا [المقصود: الأمريكي والغربي عامَّة]؛ لأنَّ المادة القانونيَّة التي تمَّ انتهاكها ليست هي موضوع المنازعات»[2]. كما يرى (Joseph Raz) أنَّ الدول الليبراليَّة ليست معنيَّة بصورة جوهريَّة بالعصيان المدني، ما دام يرتبط ارتباطاً مباشراً، بحسب رأيه، بالمشاركة السياسيَّة التي هي متاحة لجميع المواطنين في هذه الدول. فالدَّولة في الغرب تنبني على وجود مبادئ ليبراليَّة تفرض نفسها على المشرع الذي يصوغها في قوانين؛ فالحقوق تتدخل في سنّ القوانين، كما تساهم القوانين في تنظيم الحقوق، من خلال المشاركة السياسيَّة داخل المجتمعات الليبراليَّة. وعليه، «لا يحقُّ للدول الليبراليَّة أن تمارس العصيان المدني»[3]، ويقتصر الحق في العصيان المدني، وفق هذا الرأي، على الدول غير الليبراليَّة؛ لأنَّ دفاع المواطن عن حقّه في هذه الدول «يتطلّب منه انتهاك القانون، وقد يؤدّي به هذا التصرُّف أحياناً إلى عواقب غير محمودة كان بالإمكان تجنُّبها لو كان تصرُّفاً وفق القانون»[4]. يظلُّ اعتراض فورتاس قائماً؛ لأنَّنا ننتهك مادَّةً قانونيَّة، ونحن نَعدّها صحيحة (valide)، بدعوى رفع مطالب أخرى لا تسمح بها، أو تتعارض معها. وإذا لم تكن هذه المادة نفسها هي موضوع النزاع، فلا يجوز بالتالي انتهاكها باسم العصيان المدني. صحيحٌ أنَّ المواطن داخل المجتمعات «العادلة»؛ أي التي تحكمها دول قانون، يملك حقَّ عدم التعاون مع السلطات، إذا ما أخلّت بالتزاماتها الأخلاقيَّة، و«ليس ملزماً، كما يقول (Vinit Haksar)، الامتثال للقانون في كلّ الظروف»[5]. لكنَّ الغاية، حتى ولو كانت نبيلة من وراء العصيان المدني، لا تبرّر الخروج عن القانون. ولهذا، لا تتضمَّن الدساتير بنداً صريحاً يضمن الحقَّ في العصيان المدني؛ لأنَّ نصَّ القانون سيمنحنا آنذاك حقَّ الخروج عن نصّ القانون، وهذا غير معقول. فما يسمح به القانون هو الاعتراض على مادة قانونيَّة بدعوى عدم دستوريتها، واللجوء إلى القضاء الدستوري للطعن فيها؛ إذ يمكن أن ينتهك المواطن معياراً قانونياً (موضوع نزاع قانوني) باسم معيار قانوني أسمى، مثلاً، بالرجوع إلى تعديلات الدستور الأمريكي (الأوَّل والخامس والرابع عشر: حريَّة الضمير وحريَّة التعبير وحريَّة المعتقد وعدم التمييز بين المواطنين)، أو الطعن في نص قانوني ما باسم قيمة أخلاقيَّة عليا. لكن في هذه الحالة إذا ما قمنا بانتهاك قانون كنَّا قد اعترضنا عليه أخلاقياً وأنصفتنا المحكمة الدستوريَّة، فلن نكون آنذاك قد انتهكنا قانوناً صحيحاً[6]. وهذا ما يؤكّد كلام فورتاس الذي سقناه في البداية؛ إذ إنَّنا في هذه الحالة نكون قد اعترضنا على دستوريَّة القانون نفسه، ولم ننتهك قانوناً صحيحاً ساري المفعول لا يشكّ أحدٌ في دستوريته لغرض بلوغ أهداف أخرى.

ونجد في مسرحيَّة (أنتيغونا) لسوفكليس مثالاً رائعاً للعصيان المدني؛ فأنتيغونا (Antigone)، التي تحدَّت القانون الذي أصدره الملك (Creon)، بعدما منعها من دفن أخيها (Polynices)، قامت بدفنه دفاعاً عن الحقّ الطبيعي لكلّ إنسان في أن يُدفن بعد موته، وأن تحفظ كرامته، وألَّا يُترك جسده في الفلاة تنهشه الطيور والحيوانات، وقامت بذلك ضدَّاً للقانون. فمعنى العصيان هنا هو انتهاك قانون عَدَّته أنتيغونا باطلاً، باسم حقٍّ تراه أعلى شأناً منه، ويكتسي العصيان في هذه الحالة معنى العصيان الذي ينتهك قوانين صحيحة؛ أي نافذة أصدرتها سلطة لها حقّ سنّ القوانين، وذلك لأهداف أخرى أخلاقيَّة وسياسيَّة. لكنَّ الغموض يظلُّ قائماً بين انتهاك قانون صحيح وانتهاك قانون يخامرنا الشكُّ في مدى دستوريته؛ فالفرق بين الشرعيَّة والمشروعيَّة لا يزال يثير مشاكل عظمى بين الفقهاء. فقد نرى مثلاً أنَّ قانون الحريَّات العامَّة، الذي ينظّم الاحتجاج والمسيرة، لا يطرح مشكلة من حيث صحّته القانونيَّة، لكنَّه قد يتحوَّل إلى مبرّر لقمع ممارسة حريَّة التعبير، ويتحوَّل في ظروف معيَّنة إلى قانون ظالم. وعليه، يظلُّ، من وجهة نظر كلٍّ من فورتاس ورولز ودووركين، إمكان وجود قانون يتضمَّن دواعيَ للظلم، سواء من حيث صياغته أم من حيث النتائج التي تترتَّب على تفعيله وتنفيذه، مبرّراً العصيان، بينما لا يرى آخرون أنَّ هذا الشرط ضروريٌّ.

خصائص العصيان المدني في التصوُّر الليبرالي:

عُرف العصيان المدني في البداية باسم مقاومة السلطات، وعُرف مع أشهر رموزه: ثورو، وغاندي، ومارتن لوثر كينغ، حيث أطلق هنري دافيد ثورو (Henry David Thoreau) على شكل الاحتجاج السلمي على الحكومة مصطلح العصيان المدني (civil disobedience). وقد نظر كلٌّ من (Joseph Raz) و(Fortas) إلى العصيان المدني نظرة سلبيَّة؛ لأنَّه ارتبط لدى كثير من النشطاء السياسيين بالاحتجاجات التي تتحوَّل إلى استخدام للعنف ومواجهات مع قوات الأمن ومقاومة السلطات وروح التمرُّد، وحتى الدعوة إلى الثورة. في حين اتخذ جون رولز حياله موقفاً وسطاً، إذ رأى أنَّ العصيان المدني مشروع، ويساهم في تجديد المجتمع والنخب السياسيَّة، ولكنَّه يحتفظ بمميزات تتناسب مع المجتمعات الغربيَّة الليبراليَّة. فما هي خصائص العصيان المدني لدى رولز؟

يؤكّد رولز العناصر التالية: إنَّنا نملك «الحق» في عصيان قانون غير عادل في دولة عادلة تقريباً (near just)، إذا ما كان عصياننا مدنياً، وهو ما ذهب إليه فورتاس، حينما يتَّخذ العصيان صورة احتجاج سياسي غير عنيف يمتثل إلى وازع الضمير (conscentious)، وإذا ما قمنا به علانيةً، وخاطبنا حسّ العدالة لدى الأغلبيَّة، شريطة أن يتبين أنَّ الظلم (unjustice) واضح للعيان، ويمسُّ الجوهر، وبعد أن نكون قد استنفدنا كلَّ طرق الطعن القانونيَّة المعتادة، عن حسن نية، وأيضاً، شريطة ألَّا يؤدّي العصيان إلى سقوط هيبة القانون.[7]

يقبل رولز العصيان المدني داخل المجتمع الليبرالي، لكنَّه يلزمه بشروط تقيّده في مواجهة قانون ظالم، مع تأكيد ضرورة تجنُّب العنف والتمرُّد والثورة. فإذا امتنع شخص عن أداء واجب دفع الضرائب، وإذا ما تمسّكت امرأة بارتداء الحجاب داخل المدارس الفرنسيَّة، كان «الرفض مبنياً على ضمير الشخص» (conscientious refusal)، ولا يُعدّ عصياناً مدنياً في نظر رولز؛ لأنَّ أداء الضرائب واجب شرعي، ولأنَّ رفض أداء الضريبة لا يخاطب حسَّ العدالة الموجود لدى الأغلبيَّة»، الذي هو حسٌّ ينبني على مبدأ التعاون الاجتماعي بين الناس الأحرار والمتساوين، ويحظى بالإجماع ويشكّل أسَّ النظام السياسي؛ لأنَّه «إذا ما التزمنا هذه الحدود فلن يشكّل العصيان المدنيُّ خطراً على المجتمع، ما دام المتمرّد على بنود قانونيَّة محدَّدة يقرّ بسلطة القانون، ويعترف بأنَّ الدولة عادلة»[8]؛ فامتناع ثورو عن أداء الضريبة لا يُعدّ عصياناً مدنياً بالمعنى الذي يراه رولز؛ إذ إنَّ ما يبرّر مشروعيَّة العصيان المدني لدى رولز هو وجود بعض القوانين المحدودة التي تنتهك أحد المبادئ العليا للعدالة، التي نفترض أنَّ المجتمع العادل والجيّد التنظيم، وفق تعبير رولز، يتوافر عليها سلفاً. لكنَّ تصوّر رولز يحصر العصيان المدني داخل الدول الغربيَّة الديمقراطيَّة ما دام موضوع العصيان هو القانون الذي يراه البعض ظالماً، ولا ينسجم مع المبادئ العليا التي يحتكم إليها الناس عند تقييم مدى عدالة القوانين التي تحكم مؤسسات مجتمعهم. وفق هذا المعنى الذي يأخذه العصيان لا يُعدُّ حسّ العدالة موجوداً بالضرورة في سائر المجتمعات ما دام وجوده وتطوُّره لدى الأفراد يظلُّ مشروطاً، في نظر رولز، بوجود تصوُّر عمومي للعدالة قائم على مبادئ علنيَّة معروفة ومعلومة من الجميع يتفق أفراد المجموعة حولها، وتشتغل وفقها المؤسسات الكبرى للمجتمع[9]. أمَّا في المجتمعات التي يغيب فيها مثل ذلك التصوُّر العمومي للعدالة، وتغيب معايير الحكم على القوانين وعدالتها، فيواجَه العصيان بالقمع، وينعدم حسُّ العدالة الذي تحدَّث عنه رولز.[10]

وعلى الرغم من محاولة رولز وضع الإطار النظري للعصيان المدني في الديمقراطيات الليبراليَّة يظلُّ مع ذلك موضوع العصيان غامضاً، فهل الموضوع هو القانون، أم ما ينتج عن القانون؟ وهل العنف جائزٌ أم لا في حالات العصيان المدني؟ لقد استعمل (José Bové) العنف لتدمير محاصيل زراعيَّة خضعت لتعديل جيني في فرنسا، وأصبح مع ذلك نائباً يمثل فرنسا في البرلمان الأوربي. وقد انتهك بوفي مجموعةً من القوانين الصحيحة والنافذة المتعلقة بالأملاك الشخصَّية والملك العمومي دخل على إثرها السجن؛ غير أنّه لولا هذا العنف لما انتبه الفرنسيون إلى مشكلة الصوجا المعدّلة جينياً، وما قد تحمله من مخاطر صحيَّة وبيئيّة. ومع ذلك يصرّ (Stuart Brown) على أنَّه لا مسوّغ لاستعمال العنف في العصيان المدني إذا ما كانت الظروف التي تنجم عن استخدام العنف يمكن أن تكون أكثر مأساويَّة من الظروف العاديَّة.[11] فمثلاً، لا يكون العنف مسوَّغاً إلا إذا كانت مقاومة النظام السياسيّ باللجوء إلى العنف أهون من شرّ النظام السياسي ذاته. غير أنَّنا «إذا ما عجزنا، كما يرى براون، عن تبرير مشروعيَّة التمرُّد المدني، فإنَّنا لا نستطيع تبرير استعمال القوَّة أو العنف»[12]. ولا يجيز براون استعمال العنف في الغرب، بالمقارنة مع دواعي التمرُّد والثورة في الدول غير الليبراليَّة، في حين يعترض عليه (John Morreall)، معتبراً أنَّه بإمكان العصيان المدني أن يلجأ إلى عنف محدود في الشرق وفي الغرب أيضاً، شريطة أن نوضح معنى العنف؛ إذ يشير إلى أنَّ الدولة تستعمل العنف طول الوقت، وإلى أنَّه يجوز لنا أن نستعمله نحن أيضاً للدفاع عن أنفسنا.[13]

فضلاً عن ذلك، افترض رولز أنَّ المجتمع قد توافَق على نحو إجماعي على تصوُّر محدَّد للعدالة، وقلّص بذلك من احتمال أن تجدَّ ظروف لقيام العصيان. والحال أنَّ مفهوم المجتمع العادل تصوُّر مثالي لا يأخذ واقع المجتمعات في الاعتبار، كما يرى (Peter Singer)، ولاسيَّما المشاكل الواقعيَّة في الدول العربيَّة؛ كما أنَّ مفهوم المجتمع العادل يُفضي إلى إجماع لا يترك مجالاً للعصيان المدني بشأن مفهوم العدالة ذاته.[14] وهكذا، يتعارض، في نظرنا، التوافق الإجماعي المزعوم مع الحقّ في القيام بالعصيان المدني، وقد كان افتراض وجود مثل ذلك الإجماع وراء منع المرأة والسود قروناً طويلة من المشاركة السياسيَّة.

العصيان المدني بين التصوُّر الحقوقي والسياسي:

إنَّ ما يجب أن ننتبه إليه أنَّ العصيان لا يوجَّه ضدَّ قوانين محدَّدة فحسب؛ بل قد يُوجَّه أيضاً ضدَّ فكر الأغلبيَّة، أو ضدَّ النظام السياسي القائم، أو للدفاع عن قضايا لا تهمُّ أغلبيَّة السكَّان، (النظام النباتي في الأكل ومواجهة الطاقة النوويَّة والمضاربات العقاريَّة، ... إلخ)[15]. ويرى المفكر الهنديّ (Vinit Haksar)، وهو يتذكّر نموذج غاندي، أنَّ العصيان المدني، على خلاف ما يدَّعيه رولز وسينغر، يرفض على الأقل مهادنة النظام السياسي القائم[16]، في حين يرى رولز أنَّ المنشقَّ يهادن النظام ويتعاون معه، بقبوله عواقب خرق القانون، ما دام يَعدّ القانون صحيحاً، وهذا الأمر يُعدُّ مظهراً من مظاهر التعاون بين المنشق والدولة[17]. وسأركز على نقطتين: على العصيان المدني السياسي، وهو الصورة الأساسيَّة الواردة في العالم العربي، والعصيان المدني الحقوقي الذي يواجه الفساد.

العصيان المدني السياسي:

فرض الواقع السياسي، الذي عاشه العالم العربي، منظوراً جديداً للعصيان المدني. فقد أصبح ممارسة تطالب بالحق في تقرير المصير الجماعي، كما انتبه إلى ذلك (Celikates)[18]، فإذا كانت المطالب تحمل طابعاً نقابياً مثلاً وتدافع عن مصالح عمَّاليَّة ضيّقة، فهي لا تندرج ضمن إطار العصيان المدني[19]. وأيضاً «إذا كانت طرق الاحتجاج تخضع للقانون، فإنَّها لا تدخل في إطار العصيان المدني كذلك»[20]، فهذه الحالات من العصيان تتنافى مع فهم رولز للعصيان المدني الذي يراه احتجاجاً سياسياً وعمومياً يعترض من خلاله شخص أو مجموعة من الأشخاص على قانون يَعدّونه ظالماً. لكنَّنا نجد صوراً سياسيَّةً جديدةً للاحتجاج تضع تصوُّراً جديداً للعصيان المدني، حيث يتجاوز الموضوع الاعتراض على قانون نشكّ في مشروعيّته؛ إذ يذكّرنا الفيلسوف الأمريكي ميكل وولزر هنا «كيف أنَّ بعض الفئات الاجتماعيَّة ترفع مطالب شموليَّة، وتجد نفسها مجبرة على تحدّي النظام الشرعي القائم، وعلى إسقاط حكومة وتعويضها بحكومة أخرى، وعلى مهاجمة المجتمع ذاته والنظام السياسي برمّته»[21]. ويمكن في هذا المضمار التذكير بالقضيَّة الفلسطينيَّة التي كانت تجد من بين أنصارها من يمارس العصيان المدني نضالاً من أجلها، حتّى لو أدَّى ذلك إلى خرق القوانين الوطنيَّة لبلدان ما. ويذكّرنا بيداو بحركات مقاومة الاستعمار والأنظمة الفاشيَّة، عندما كانت شبكات سريَّة تتولَّى عصيان الأوامر لحماية المقاومة[22]، حيث كانت أعمال التخريب جزءاً من المقاومة المشروعة. وقد كتب سارتر مقدّمة مستفزّة لكتاب «المعذبون في الأرض» لفرانس فانون، جاء فيها ما يلي: «إنَّ سلاح المقاتل هو إنسانيّته. يصبح القتل ضرورياً في المرحلة الأولى من التمرُّد. إنَّ قتل أوربي هو قتل عصفورين بحجر واحد؛ هو التخلّص من المضطهَد ومن المضطهد».[23]وقد كانت نصوص سارتر هذه مسوّغاً لاستخدام العنف في المقاومة، غير أنَّ مفهوم العنف يحتاج إلى المراجعة والتدقيق، حتى لا نخلط بين المقاومة السلميَّة والمقاومة المسلَّحة والعصيان المدني.

العصيان المدني ونداء الضمير

لن نستطرد في هذا المجال للحديث عن العصيان السياسي، وسنتوقف عند طابع العصيان الذي يكون فرديَّاً وغير سياسي، ويرتبط بضمير الشخص وبالقيم الأخلاقيَّة العليا[24]، وهو عصيان يتَّخذ الصورةَ المعروفة عند فورتاس ورولز، ويتبنَّاها دووركين بدوره، حينما أكَّد شرعيَّة مواجهة قانون ظالم بالاستناد إلى مبادئ الدستور (مثلما هو الأمر في حالة الدستور الأمريكي). فمن هذه الزاوية يرى دووركين أنَّ «عصيان القانون له مسوّغ أخلاقي، حتى ولو لم يكن يمتلك مسوّغاً قانونيَّاً»[25]، بل يذهب ميكل وولزر إلى أبعد من ذلك ويقول: «في بعض الأحيان، يجب على من يطيع الدولة أن يبرّر السبب الذي دعاه إلى ذلك، لو ثبت أنَّ الواجب كان يفرض عليه أن يتَّخذ موقف العصيان»[26]. وعليه، إنَّ المنشقَّ ليس مجرَّد مجرم بسيط، ما دام يتصرَّف وفق تقديره الخاص بأنَّ القانون لا يتطابق مع الحقّ الذي يزعمه هو[27]. وقد اقترح ميكل وولزر منذ القرن الماضي «أن تضيف الدولة إلى كلّ نصّ قانوني إجراء يفيد أنَّ العصيان بموجب الضمير لا يستوجب العقاب»[28]. لكنَّ عدم تجريم العصيان المدني يتطلب اجتهاداً خاصاً من فقهاء القانون؛ لأنَّ دعوة وولتزر تظلُّ مقيَّدة بالسياق الأمريكي الذي «يجعلنا نرى أنَّ قانوناً ما غير صحيح إذا ثبت أنَّه غير دستوري»[29]؛ فقد يكون القانون صحيحاً في الظاهر فقط؛ أي من حيث إجرائيات سنِّه، وعدم تضاربه مع قوانين سارية المفعول، في حين يرى من يتجاوزه، أو يدعو إلى عصيانه، أنَّ مدى تطابق منطوقه مع نصّ الدستور غير واضح، أو أنَّه مشكوك فيه، مثلما يبيّن ذلك دووركين[30]. لنفترض أنَّ الدولة وضعت قانوناً سنة 2000 يفرض على الطلبة تحيَّة العلَم قبل بداية المحاضرة، ثمَّ لنفترض أنَّ الطلبة مارسوا حقهم في العصيان، وامتنعوا عن تحيَّة العلَم أو تقديم السلام الوطني، ولنفترض أنَّ المحكمة الدستوريَّة رأت سنة 2002 أنَّ هذا القانون غير صحيح. فهل خالف الطلبة القانون بين 2000 و2002؟ هنا يصبح مبدأ «لا رجعيَّة في القانون» مبدأ غير صحيح؛ لأنَّ الطلبة لم يخالفوا أيَّ قانون بين التاريخين المذكورين، وهذا الأمر هو ما أشار إليه (Greenwalt) بقوله: «لو تمَّ تأكيد الدعوى المرفوعة، لما كان صاحب الدعوى قد خالف قانوناً صحيحاً، لو نظرنا إلى الأمر نظرة تراجعيَّة»[31]. يسهم إذاً العصيان المدني في تحسين جودة القوانين من خلال إلغاء القوانين الظالمة، وتكريس الحقوق الأساسيَّة.

فإذا ما انتفض العصيان المدني ضدَّ قانون ظالم فإنَّه يسهم في تطوير المنظومة القانونيَّة، وهذا الضرب من العصيان هو ما يدعوه بيداو العصيان المدني المباشر. لكنَّنا نجد عصياناً مدنياً غير مباشر من خلال الشعور بواجب التضامن؛ أي من خلال الشعور بالمسؤوليَّة غير المباشرة عن الظلم الذي يتعرَّض له غيرنا. ولتوضيح ذلك، لنفترض أنَّ الدولة فرضت رسوماً باهظة على استيراد اللحوم، فقام طلبة الجامعات باحتلال إدارة الجامعات ومقاطعة الدروس احتجاجاً على ذلك. وسيعترض كلُّ من يرى أنَّ القانون الجديد لا يهمُّ الطلبة مباشرةً، وسيرفض ممارستهم ضغطاً على الدولة. وعندها ستُعَدّ مقاطعة الامتحانات شكلاً من أشكال التمرُّد، ويصبح العصيان طريقاً إلى الفوضى الاجتماعيَّة، ولن يسهم في تربية الأجيال[32]، غير أنَّ التخلي الكامل عن التضامن بين الناس ضدَّ قانون ظالم، إذا نظرنا إلى الأمر من جهة أخرى، قد يصبح ذريعةً للفصل بين السياسة والمبادئ الأخلاقيَّة والسياسيَّة. فلو افترضنا مثلاً أنَّ الشرطة قامت بانتهاك حقوق الإنسان، تحت مسؤوليَّة الدولة، عند التصدي لاحتجاجات الطلبة، فسوف يصبح عندها من حقّ المواطن العادي أن يتَّخذ موقفاً من هذه الانتهاكات، وأن يؤازر الطلبة ضدَّ ما اقترفه أعوانها إزاء المحتجّين السلميين[33]. ويمكن أخذ مثال آخر لتوضيح فكرة بيداو تلك. فحينما أعلم أنَّ موظفاً ما يستغلُّ موقعه أو نفوذه، وأعلم أنَّه سيستمرُّ في صنيعه ذاك لو لم أتدخَّل، هنا، يصبح من واجبي أن أمارس اعتراضاً علنيَّاً على هذا التصرُّف. وهذا ما يدعو بيداو إلى الحديث عن مسؤولية أخلاقيَّة لا تتحوَّل إلى مسؤوليَّة جنائيَّة، لكنَّها تسمح على الأقل بتطبيق المبدأ التالي: «يُعدّ كلُّ شخص مسؤولاً عن أفعال ظالمة، سواء اقترفها هو أم اقترفها غيره، وهو ملزمٌ بأن يتصرَّف على نحو يبرّئه من الخطأ الذي ينتج عن تلك المسؤوليَّة».[34]وبطبيعة الحال يتضامن من يمارس العصيان المدني مع من خضع للقوانين الجائرة، ويرى أنَّ مبادرته مفيدةٌ في مقاومة الظلم. وعندما تنجح المقاومة، وينتهي الصراع السياسي بحدوث التغيير المطلوب، تتمُّ معاقبة أعوان النظام السياسي، الذين تسبَّبوا في دفع الناس إلى العصيان، لكنَّه، وكما ينبّه وولتزر إلى ذلك، «لا يمكن أن نتّخذ إجراءً في حقّ الذين تخلّوا عن المشاركة في المواجهات. ولا يحسُّون بأيّ التزام للقيام بذلك».[35] ويسمح العصيان المدني، في هذا الصدد على الأقلّ، بعدم التورُّط شخصيَّاً في الانتهاكات الجسيمة، وعدم مباركتها، أو التحالف مع مرتكبيها. غير أنَّ المسألة ليست في عمقها بالجنائيَّة ولا بالعقابيَّة؛ بل تظلُّ مرتبطة بمستويات التضامن مع ضحايا حقوق الإنسان. وهنا يرى «المخالف للقانون أحياناً أنَّه ملزمٌ بالعصيان، بحكم انتسابه إلى ‹الجنس البشري»، أو بحكم تضامنه مع المظلوم».[36]

خاتــمة:

لاحظنا وجود تصوُّرين للعصيان المدني هما: تصوُّر سياسي لا يشكُّ في مشروعيَّة القانون، ولكنَّه ينتهكه لأسباب سياسيَّة، بينما يعترض التصوُّر المقيّد للعصيان على القانون الظالم نفسه. فمن يرفض قبول العصيان المدني يرفض انتهاك القانون لأسباب سياسيَّة، انطلاقاً من مبدأ أنَّ الغاية لا تبرّر الوسيلة. كما أنَّ الدول الديمقراطيَّة الغربيَّة، على خلاف غيرها من الدول، لا تحتاج إلى ثورة سياسيَّة، ولا إلى العصيان المدني في نظرها، رغم بروز عدَّة حركات «احتلال وول ستريت في أعقاب الربيع العربي»، ما دام أنَّ المشاركة السياسيَّة مضمونة للجميع في تلك الدول؛ غير أنَّ هنالك من أظهر الحاجة إلى العصيان المدني داخل الدول الغربيَّة ذاتها، من خلال مواجهة القوانين الظالمة، ما دامت هذه المواجهةُ تساعد على تطوير الترسانة القانونيَّة والحياة السياسيَّة، مؤكّداً أنَّ الدول غير الليبراليَّة تعيش في مرحلة دقيقة، ما دامت لا تميّز بوضوح بين العصيان والعنف والثورة. وقد حاولنا أن نبرز أهميَّة العصيان المدني في الشرق والغرب من جانب المسؤوليَّة الشخصيَّة ومحاربة الفساد. فهو مهمٌّ من جهة أولى في إعادة صياغة مفهوم القانون من زاوية مشروعيته الدستوريَّة، وهو مهمّ من جهة ثانية في إثارة موضوع المسؤوليَّة الأخلاقيَّة والتضامن مع ضحايا القوانين الظالمة. وانتهينا إلى وجوب التمييز بين مجرم الحقّ العام والمنشقّ عن القانون، داعين إلى ضرورة مراعاة هذا التمييز داخل القوانين الداخليَّة، من أجل تعزيز دولة الحقّ والقانون.

[1] - Günter Frankenberg: Unordnung kann sein. In: Zwischen Betrachtungen. Im Prozess der Aufklärung. Axel Honneth, Thomas McCarthy, Claus Offe und Albrecht Wellmer: Suhrkamp, 1989, p. 704

[2] - Abe Fortas, cite par Kent Greenwalt "Justifying Nonviolent Disobedience", in Hugo Adam Bedan Civil Diobedience in Focus, Routledge University Press, 1991, p. 182

[3] - Joseph Raz: "Civil Disobedience", In: Hugo Adam Bedan: Civil Diobedience in Focus, op.cit, P. 167

[4] - Idem

[5] - Vinit Haksar, "Civil Disobedience and Non-Cooperation", In: Hugo Adam Bedan: Civil Diobedience in Focus, op.cit, p. 150

[6] - Kent Greenwalt, "Justifying Nonviolent Disobedience", In: Hugo Adam Bedan, op.cit, p. 171

[7] - John Rawls, a Theory of Justice, Harvard University Press, Cambridge, 1971, p. 371-375

[8] ـ المصدر السابق.

[9] - Peter Singer, "Disobedience as Plea for Reconsideration", p. 124. In: Hugo Adam Bedan, op.cit.

[10] - Peter Singer: Disobedience as Plea for Reconsideration, P. 124. In: Hugo Adam Bedan: Civil Diobedience in Focus: Routledge, 1991

[11] - John Morreall, "The Justifiability of violent Civil Disobedience", In Hugo Adam Bedan, op.cit, p. 140

"إذا كان البديل للعصيان المدني العنيف شراً أكثر فظاعة من الشر الذي يحدثه العنف، فالعنف الذي نبرّر مشروعيّته لا ينبني على العصيان المدني؛ بل على أسس الثورة".

[12] - John Morreall, "The Justifiability of violent Civil Disobedience", In: Hugo Adam Bedan, op.cit, p. 140

[13] - John Morreall, The Justifiability of violent Civil Disobedience, In: Hugo Adam Bedan, op.cit, p. 141

"تستعمل الدولة العنف طول الوقت، في الحروب وأثناء تدخل الشرطة والإعدام، ونفترض أنَّها تقوم بذلك بصورة مشروعة. ونحن بدورنا كمواطنين ذاتيين نعاقب أبناءنا. وإذا ما تعرضنا لهجوم في الشارع العام، دون تدخل شرطي، نستعمل العنف للدفاع عن أنفسنا".

[14] - Peter Singer, op.cit, p 126

يستحضر زينغر عالم الحيوان، ويبرز تهميشه داخل الإجماع حول حسّ العدالة لدى رولز؛ فالوحشيَّة التي يتعرض لها الحيوان لا تبرّر العصيان، فنحن نتحدث عن الرفق بالحيوان، ولا نتحدث عن حقوق الحيوان، لأنَّها تباع وتشترى وتملك من زاوية القانون صفة شيء مثل الكرسي والطاولة.

[15] - Kent Greenwalt, "Justifying Nonviolent Disobedience", op. cit, p. 176

[16] - Vinit Haksar, "Civil Disobedience and Non-cooperation", In: Hugo Adam Bedan, op. cit, p. 145

[17] ـ دعا دووركين بدوره الدولة إلى أن تقدّم حصانة كاملة للمنشقين، دون أن يمنعها ذلك من محاكمتهم، وإلا أصابها الشلل في تحقيق سياستها العامة. ولكنَّ المنشق يقدّر هذه المخاطر، ويتحمل عن طيب خاطر عواقب فعله. يُراجع: دووركين، رونالد، أخذ الحقوق على محمل الجدّ، ترجمة منير الكشو، سناترا للنشر، تونس، 2015، الفصل 8

[18] - Robin Celikates, Ziviler Ungehorsam und radikale Demokratie. Konstituierende vs. Konstituierte Macht? In: Das Politische und die Politik. Hsg. Thomas Bedorf und Kurt Röttgers, Suhrkamp, 2010, P. 290

[19] - لكنَّ الاحتجاجات النقابيَّة والمهنية ليست عصياناً مدنياً. لا ينكر أحدٌ أهميَّة المعارضة التي يعبّر عنها المواطنون في الشارع خارج المعارضة البرلمانيَّة المعروفة. تظهر هذه المعارضة في صور الاحتجاج الذي يضمنه الدستور، مثل المظاهرات والمقاطعة والمسيرة والعزوف عن شغل المناصب السياسيَّة.

[20] - Hugo Adam Bedan, op.cit, p. 5

[21] - Michael Walzer, Obligations. Essays on Disobedience, War, and Citizenship, Harvard University Press, Cambridge, Massachussetts, London, England, 1970, p. 11

ولكن توجد أطرافٌ أخرى لا ترفع إلا مطالب جزئيَّة. إنَّها تطالب بأن يقوم المجتمع الممتدّ بالاعتراف بأولويتها (primacy) في بعض القطاعات من الحياة الاجتماعيَّة أو السياسيَّة، وعليه، يحدّ المجتمع ذاته من مجاله. إنَّها تدعو أعضاءها إلى العصيان في بعض الأحيان، وليس في كلّ الأحيان، وتدعو إلى رفض بعض التعليمات القانونيَّة الخاصَّة، ليس إلى رفض كلّ التعليمات القانونيَّة".

[22] ـ هنا نجد فهمين مختلفين للعصيان "المدني": يعني لدى رولز العصيان الذي يتخذ صورةً مدنيةً، ويعني لدى ثورو، كما جاء لدى سيمونس، عصيان السلطة "المدنيَّة". "فالعنوان الأوَّل الذي وضعه لكتابه المنشور كان Resistance to Civil Government، وقد كان العصيان على عهد ثورو، كما هو في الحالة العربيَّة، ضدَّ المشروعيَّة التاريخيَّة للدول التي تستوجب العصيان.

[23] - Richard J. Bernstein, Violence, Thinking without Banisters, Polity Press, 2013, p. 106

[24] ـ أورد سيمونس اعتراضات أخرى على رولز يذكر فيها: حالة غاندي الذي أراد زرع الإحباط في نفس المستعمر من خلال المقاومة السلميَّة والعصيان المدني، وحالة هنري دافيد ثورو، الذي رفض التواطؤ مع من يمارسون الظلم أو الفساد. ففي الحالتين لا يتمرَّد المرء على نصّ قانوني؛ بل على السلطة السياسيَّة التي تكرّس العبوديَّة والميز العنصري. ويعترف سيمونس بأنَّه "سيصبح من الصعب علينا أبداً، وهذا أمرٌ بدهيٌّ، أن نلتمس العذر لمن يمارس العنف على الأشخاص. ولكنَّه من البدهيِّ تماماً أنَّنا سنعتبر بعضَ ذلك العنف فعَّالاً ومبرَّراً، من قبيل القيام باختطاف شخصيَّةٍ عموميَّةٍ كانت أداةَ إدارة سياسةٍ غير عادلةٍ".

John Simmons, Disobedience and its Objects: Boston University Law Review, Vol. 90, 2010, p. 1808.. ولكنَّ عصيان القانون يؤدّي عادةً إلى عواقب سلبيةٍ على أطراف أخرى لا علاقة لها بالعصيان ذاته. وعليه، يجب علينا أن نُدخِلَ هؤلاء الأشخاص في عين الاعتبار. وإذا ما ظهر أنَّ مفعولَ العصيان سيصبح سلبيَّاً في حقِّ أشخاص لا علاقة لهم بالعصيان، فإنَّه يجب علينا آنذاك أن نحترم القانون، حتى ولو لم تكن للعصيان صلةٌ "بالواجب" و"الإلزام". راجع:

John Simmons, Moral Principles and Political Obligations, Princeton University Press, 1981, p. 193

[25] ـ يراجع رونالد دووركين، أخذ الحقوق على محمل الجد، (م. س). الفصل 8

[26] - Michael Walzer, Obligations. Essays on Disobedience, War, and Citizenship, op.cit, p 17

[27] - Ibid, p. 214

ويوضح والتزر الفرق بين الإجرام والعصيان بقوله: إنَّ المجرم "لا يسعى إلى الحدّ من سلطة سيادة الدولة؛ بل يبحث عن التهرُّب منها. لكنَّه لا يوجد تهرُّب من جانب العصيان المدني: إنَّ المطلب العمومي الموجَّه ضدّ الدولة يتمُّ التعبير عنه بصورة عموميَّة".

[28] - Michael Walzer, op. cit. p. 13

[29] - Kent Greenwalt, "Justifying Nonviolent Disobedience", op. cit, p. 171

[30] - Michael Walzer, op.cit, p. 17

يرى وولتزر من جهته أنَّ القانون ليس هو الحدّ الفاصل بين الفرقاء، "لأنَّ المنشقين يرون أنَّ القانون قد تضخّم في استعماله، وأنّه يجب حصر مجاله على نحوٍ ما، أو قد يرون أنَّ هذه الحرفة أو هذا الشخص يجب استثناؤه في هذه اللحظة أو بصورة دائمة. لا يوجد حكم ممكن يفصل في هذا الخلاف".

[31] - Kent Greenwalt, "Justifying Nonviolent Disobedience", p. 171

[32] - H. A. Bedau, "Civil Disobedience and Personal Responsibility for Injustice", In: Hugo Adam Bedan, op. cit, p. 56

[33] - H. A. Bedau, op.cit, 58

هذا ما يؤكده بيداو: "إنَّ المجتمع يصبح مسؤولاً عن تلك الأفعال، سواءً علم بها وباركها أم لم يكن على علم بها قبل ذلك الفعل. إذا ما قبل المرء العيش داخل الحياة الجماعيَّة وداخل مجتمع أجاز تلك الأفعال، فسيصبح آنذاك مسؤولاً عن تلك الأفعال، سواء علم بها وباركها أم لم يكن على علم بها قبل ذلك الفعل. نورد هنا مبدأ المسؤوليَّة الجماعيَّة".

[34] - H. A. Bedau, Ibid, p. 62

[35] - Michael Walzer, op.cit, p. 9

[36] - Ibid, p. 8