الغفران في الأديان الكتابية: تقديم كتاب مـحمّد يوسف إدريس


فئة :  قراءات في كتب

الغفران في الأديان الكتابية: تقديم كتاب مـحمّد يوسف إدريس

أصدرت مؤسسة مؤمنون بلا حدود سنة 2015م، كتابًا بعنوان "الغفران في الأديان الكتابية" للباحث التونسي (محمّد يوسف إدريس)[1]، وقد تألّف الكتاب من ثلاث مئة وأربعة وثلاثين صفحة، هي؛ مجموع أربعة أبواب، ومقدّمة، وخاتمة، وقائمة المصادر والمراجع، وفهرس المحتويات. وقد احتوى كلّ باب من تلك الأبواب على ثلاثة فصول. وفيما يلي أبواب الكتاب:

الباب الأول: حدّ الغفران.

الباب الثاني: الغفران في اليهودية (العهد القديم).

الباب الثالث: الغفران في المسيحية (العهد الجديد).

الباب الرابع الغفران في الإسلام (القرآن الكريم).

I- محتويات أبواب الكتاب ومظاهر تكاملها:

إنّ المتأمّل في بنية فصول أبواب الكتاب، باستثناء الباب الأوّل، يلاحظ بيسر اتّخاذ الباحث نفس المحاور لمعالجة المسألة؛ فقد ارتأى التطرّق إلى منزلة الغفران في النصوص الدينية، بالأساس، وذلك بالنظر في: (أطراف الغفران، وشروط الغفران ومجالاته، وزمن الغفران وفضائه)، وهي عناصر، على المستوى الإجرائي، تتصل اتصالًا واضحًا بالغفران، باعتباره؛ فعلًا يتطلب أطرافًا تشارك فيه (الغافر، المغفور له، الشافع)، ويتطلّب من المغفور له القيام بأفعال، هي بمثابة شروط اجتهد المعني بالغفران (طالب الغفران) للقيام بها، أو هي من وضع الغافر. يضاف إلى ذلك، أنّ تلك الأفعال/الشروط تتعلق بمجالات دون أخرى، وعليه، فإنّ الغفران يتعلق بإساءات دون أخرى، وهو إلى جانب ذلك، يتطلب فضاءً وزمانًا يتحقّق فيهما.

وما يشدّ الانتباه في هذا التمشّي المعتمد في البحث، اختيار المؤلّف مقاربة خاصة، تتجلى فيها المقارنة، بطريقة غير مباشرة؛ فهو يعرض للمنظومة الدينية، ويبيّن وجوه التكامل بين العناصر التي ذكرناها (أطراف، شروط، الفضاء، ...) داخل الدين الواحد، وهو، إلى جانب ذلك، ما انفك بين الفينة والأخرى يشير إلى أهمّ وجوه الائتلاف والاختلاف القائمة بين الأديان الكتابية الثلاثة؛ (اليهودية، المسيحية، الإسلام) في تناولها لتلك العناصر. وقد عمّق الباحث هذا المنحى في الخاتمة؛ حيث قارن فيها بين الأديان الثلاثة، وحدّد أهم مظاهر التشابه والتباعد بين النصوص المقدّسة، على مستوى طرحها لقضايا الغفران. وبهذا الشكل، تدّرج محمّد يوسف إدريس في عرض إشكاليات البحث، من الجزء إلى الكل، وانتقل من التفكيك والتحليل إلى التأليف.

وقد بدا البحث، في هذا المجال، شديد التناسق والتكامل؛ فالأبواب أخذت برقاب بعضها البعض من جوانب عديدة، لعلّ أهمها؛ التتابع التاريخي للأديان (اليهودية، فالمسيحية، فالإسلام)، وذلك قصد توضيح مظاهر التجاوز والمغايرة التي جاء بها النص (الدين)، اللاحق في تعامله مع ما قبله. أمّا الفصول التي تفرع إليها كل باب، فقد قامت على التدرج؛ من الفواعل، إلى متطلبات الفعل ومقتضياته، ثم الأطر التي يتحقق فيها. فإذا بالأبواب والفصول السابقة، تمهّد لما بعدها، وما بعدها يكون تتمّة لما سبقها، وهكذا دواليك، ودأب الباحث في انتقاله من دين إلى آخر، ومن إشكالية أو جزئية إلى أخرى.

أمّا فيما يخصّ الباب الأول، الموسوم بـ"حدّ الغفران": فإنّ الفصول الثلاثة المكوّنة له، هي بمنزلة المهاد النظري، الذي عالج فيه الباحث قضايا الغفران من منظور لساني لغوي، مستفيدًا، في ذلك، من معارفه الدقيقة والواضحة باللسانيات وفقه اللغة والمعجمية. ومن مظاهر ذلك؛ تقليب الباحث النظر في المواضع التوراتية والإنجيلية، وفي ترجمات القرآن، للقبض على الدال الحامل لمدلولات الغفران في الاستعمال اللغوي العربي. وقد أظهر الباحث في هذا المجال تمرّسًا بآليات البحث، تجلّى في؛ حسن اختياره للمداخل، واقتصاده في استعمال المقاربات، حسب وجوه الحاجة إليها. ففي الفصل الأول، "الغفران في الثقافة المسيهودية وفي الكتاب المقدّس": حاصر الباحث مختلف الدوال التي تدور في فلك الغفران، في اللغتين الفرنسية والإنجليزية:

Pardon / Remettre des péchés / Absoudre /Indulgence /To forgive .

قصد تحديد مواضع (الآيات) التي تتعلق بالبحث في الكتاب المقدّس، بعهديْه القديم والجديد.

وفي هذا السياق، لم يقنع الكاتب بالبحث في المعاجم اللغوية الأجنبية، ودلالات الدوال الأجنبية، وإنّما أعمل، أيضًا، آلة البحث في ترجمات القرآن، محاولًا الكشف عن الدوال التي استعملها مترجمو النص القرآني، للتعبير عن معاني الغفران. وقد توصّل الباحث، بعد إدامة النظر والتدقيق، إلى أنّ لكل دالّ تاريخًا خاصًّا به. واستنتج من ذلك: أنّ الدال الواحد يحيل على دلالات معيّنة، تتقاطع مع غيرها من الدوال، دون أنْ تتماهى معها من جهة. ومن جهة أخرى، بيّن أنّه لا يوجد دال أجنبي يحمل دلالات الغفران في الثقافة العربية الإسلامية. ويعود ذلك، في تقدير الباحث، إلى عوامل عديدة، منها؛ أنّ لكل تجربة دينية مقوّماتها ورؤيتها الخاصة بها، والتي لا توافق رؤى بقية الأديان، وهو ما يتجلّى في دلالات الدوال المستعملة في كل نصّ من النصوص المقدّسة، وهو، بذلك، يستمد من النظريات الكلاسيكية في "علم الأديان المقارن"، ربطها بين الدين واللغة. (ماكس ميلر (1823م -1900م) Max Müller). على أنّ الباحث لم يكتف، في هذا المجال، بالبحث عن الدوال اللغوية الأجنبية التي تتحرّك في دائرة الغفران، وإنّما راح يُقلّب النظر في الفروق الدلالية للمفاهيم القرآنية؛ ففي الفصل الثاني: تطرّق إلى "الغفران في النص القرآني وفي الثقافة العربية الإسلامية"، وفي ثنايا هذا الفصل غاص المؤلّف في دقائق البحث المعجمي والدلالي، وحدّد الفروق القائمة بين الغفران، والصفح، والكفّارة، والتسامح، والعفو. وانتهى إلى أنّ جميع الدوال (الغفران، العفو، التكفير، الصفح) قريبة من بعضها البعض على مستوى الدلالة، (دون أنْ يعني ذلك؛ عدم وجود فروق دلالية بينها)، تتجلى في العلاقات التي تربط بين الأطراف المعنية بالعفو أو الغفران، (وبالنظر أيضًا) في الأطراف الذين يشملهم هذا التجاوز، (وبالنظر في) القائم بفعل التجاوز عن العقاب"[2]، وانطلاقًا من ذلك التصوّر، خرج الباحث بجملة من الفروق، ومن أهمها: "أنّ التّكفير يشارك الغفران، في أنّه؛ فعل خاص بالجماعة المؤمنة، يأتيه الطالب عن إرادة، ولكنّه يتميز عن العفو والصفح والغفران، بكونه لا يتحقّق إلاّ في ظلّ مقابل مادي (الكفّارة) أو معنوي، في حين أنّ العفو: هو فضل وهبة، لا يشترط في تحقّقه، دائمًا، وجود مقابل مادي أو معنوي، وإنّما يشترط اعتراف أو توبة من المعفّو عنه، في أغلب الأحيان، وهو تكرّم من العَافِي على المعفّو عنه، شأنه في ذلك، شأن الصّفح. والغفران، وهو: مفهوم إسلامي (الدّية في العمد)، ومشروط بالقدرة والإرادة، في حين يتعلق الصّفح في القرآن الكريم بالمشركين وأهل الكتاب غالبًا، والغفران على النّقيض من ذلك. وقد اختلف المسلمون في فهم العلاقة بين الكفّارة، والعفو، والغفران، والصفح، مؤكدًا أنّ أغلب المسلمين تعاملوا مع (العفو، والصّفح، والغفران، والتّكفير) باعتبارها مترادفات لغوية، معتبرين الاختلاف بينها يتمثّل في الدّال، لا في المدلول، (مبيّنًا أنّ) الغفران، في معناه اللّغوي، لا يتطابق تطابقًا تامًّا مع معناه الشّرعي"[3].

وقد كان ذلك دأب الباحث، أيضًا، في الفصل الثالث: الموسوم بـ "أهمّ المـفاهيم الدّينية المتّصلة بالغفران في نصوص الأديــان الكتابـية"؛ ففيه عرّج على طائفة من المفاهيم المتعلقة بالغفران، مثل؛ الخطئية، والزلّة، والمعصية، والشفاعة، والرحمة، والتوبة. باعتبارها مفاهيم تدور في فلك شروط الغفران ومظاهره ومجالاته، ومن أهم النتائج التي توصّل إليها في هذا الفصل؛ أنّ تلك المفاهيم لها حضور مكثّف في متون النصوص المقدّسة، بيد أنّها لم تحمل نفس الدلالات في هذا النص أو ذاك. وقد لاحظ أيضًا: أنّ بعض تلك المفاهيم، لم تتخذ نفس التأويل داخل المنظومة الدينية الواحدة، (الشفاعة في التصوّر السنّي، الشفاعة في التصوّر الشيعي).

واعتمادًا على تلك المقاربة اللسانية والمفهومية، أقرّ الكاتب أنّ الاختلاف اللغوي، وتباعد المفاهيم ودلالاتها، وتباعد وجوه استحضارها في كل نص، يعبّر عن اختلاف النصوص الدينية في تمثلها لمنزلة الإنسان في الوجود، ومسؤوليته عن أفعاله، وقدرته على تجاوز أخطائه. ولكي يؤكّد ذلك، عمد إلى دراسة الغفران من مستويات عديدة، أهمها؛ صورة أطراف الغفران، ومجالاته، وشروطه، وزمانه، وفضائه. وهي مستويات توسّع في تحليلها في الأبواب الثلاثة المتبقية، فخصّص كل واحد منها للنظر في منظومة دينية معيّنة.

وقد فصّل القول في تلك المحاور، فكان مجال البحث في أطراف الغفران؛ على الغافر، والمغفور له، والوسيط، والشفيع. وفي تناوله لتلك الأطراف، كشف عن اختلاف النصوص المقدسة عن التجارب التاريخية المتصلة بها من ناحية. ومن ناحية أخرى، أثبت بالأدلة القاطعة أنّ الغافر (الله، البشر، ...)، أو المغفور له (المؤمن، الكافر، ...)، أو الشافع (البشر، ابن الله، ...) في كل نص، ليس هو نفسه في النصّيْن المتبقّيين، وهو ما يعني؛ أنّ الاتفاق بين النصوص المقدّسة يظل في المستوى الظاهر. وكذلك الأمر بالنسبة لشروط الغفران ومجالاته، فالنظر في الشروط اتصل بما عدّ اجتهادًا من المغفور له، أو ما كان أمرًا من الغافر، سواء كانت تلك الشروط حسيّة أو رمزية أو تاريخية. وفي المقابل، بيّن أنّ الإحاطة بمجالات الغفران غير ممكن، ما لم ننظر في الإساءات والخطايا التي لا تغفر. وقد تفطّن في ثنايا البحث في تلك المسألة في النصوص المقدّسة، والتجارب الدينية المتولدة من تلك النصوص، إلى أنّ تلك المجالات يكتنفها بعض الغموض؛ فثمة إساءات وجرائم، تغفر في مواضع معيّنة، ولا تغفر في مواضع أخرى من النص الواحد. وقد فسّر تلك الظاهرة، بالقول: إنّ المؤسسة الدينية، لاسيّما في المسيحية، في إطار حرصها على منح نفسها سلطة دينية، جعلت كل الجرائم مجالات للغفران، إلا التجديف على الروح القدس، باعتباره الضامن الوحيد لسلامة ما يقول القائمون على الكنيسة. في حين وسع القرآن، حسب الكاتب، مجالات الغفران، مستثنيًا الشرك بالله، مشيرًا في الآن نفسه، إلى أنّ المسألة مع اليهودية تختلف اختلافًا واضحًا؛ ففي اليهودية، كان الشرك في مواضع معينة موضع غفران، وبالتوازي، فإنّ تلك المجالات اقتضت شروطًا اختلفت النصوص المقدسة في تحديد ماهيتها ونوعها؛ فالشروط التوراتية، كانت، في أغلبها، أعمالًا حسية. وأمّا الشروط الإنجيلية؛ فتميّزت ببعدها التاريخي و(الفداء). أمّا الإسلام؛ فقد اهتم بالشروط القيمية الأخلاقية والواقعية (تمتين العلاقات بين أفراد الجماعة المؤمنة). ولم يقتصر الاختلاف في هذا الإطار على الشروط والمجالات، وإنّما تعلق، أيضًا، بفضاء الغفران وزمنه؛ ففي شأنهما، بيّن الباحث أنّ الغفران في اليهودية اتصل أوّل الأمر بالأرض والزمن الدنيوي، ليتخذ بعد العودة من السَبْي، من آخر الأيام زمنًا له، ومن الجنّة السماوية بديلًا عن الجنة الأرضية. وفي المقابل، وزّعت المسيحية الإنجيلية الغفران على ضربيْن؛ ضرب يكون فيه الغفران دنيويًّا، ويتحقق على الأرض. وآخر موصول بالأوّل، اتصال السبب بالنتيجة، وهو أخروي، ويكون في الملكوت. أمّا القرآن، فجعل من الدنيا زمنًا للكسب، ومن الآخرة زمنًا للحصول على الغفران وتحقّقه، فإذا بالأرض والجنة متكاملتان، فما يجنيه الإنسان في الأولى يحدّد مصيره في الثانية.

II: الانضباط المنهجي والقدرة على تفكيك النصوص وتأويلها وبناء تصوّر جديد للمسألة:

قدّم الباحث، من خلال النظر في "الغفران في الأديان الكتابية"، مقاربة شديدة التماسك كشفت عن تمثّل واضح لأبعاد المسألة التي انبرى الباحث لدراستها، وقد بدا المؤلف في هذا البحث شديد الالتزام بآليات البحث المقارن، وله رؤية واضحة وثاقبة للمسألة وأبعادها، وله قدرة عالية على تأويل النصوص، وفكّ ما استغلق من أبوابها.

إنّ طرافة البحوث الأكاديمية، تظلّ رهينة قدرة أصحابها على تقديم الإضافة، على مستوى المنهج أو القراءات والتأويلات والنتائج. وغالبًا ما نجد الدراسات التي تزعم انخراطها في دائرة علم الأديان المقارن، تجترّ ما أتاه القدامى، أو تتّبع خطى المحدثين من علماء تاريخ الأديان في الغرب. ويندر، للأسف، أنْ نظفر في عالمنا العربي، ببحوث جيّدة وطريفة في مجال البحث المقارن بين الأديان، وفي تقديرنا، يُعتبر محمّد يوسف إدريس من الباحثين القلائل الذين تركوا في ما كتبوا بصمتهم الخاصّة بهم، وآيات ذلك عديدة لا تخطئها عين القارئ المنتبه، ومنها ما جاء في مقدّمة الكتاب، من جرد للأعمال التي كُتبت في موضوع "الغفران في الأديان الكتابية". ففي المقدّمة؛ قدّم الباحث قراءة تأليفية موجزة، أتى فيها على أهم ما أُنجز في هذا المجال، وقد نجح في ذلك العمل نجاحًا واضحًا؛ إذ إنّ القارئ للمقدّمة، يكوّن موقفًا واضحًا ممّا كُتب، ويستطيع (القارئ) الوقوف على أهم المزالق التي وقع فيها الباحثون السابقون في الغرب، أمثال: (جون أرنوت، ويليام إمري برنس، جاك دريدا). وفي الشرق: (عوض سمعان، إبراهيم خليل أحمد)، دون العودة إلى كتبهم. يضاف إلى ذلك، تدقيق الباحث في المصطلحات، استعمالًا وفهمًا، (الأديان الكتابية، الغفران، العفو، وغيرها من المفاهيم) إلى جانب ثراء الهوامش، وتنوّعها، وتكاملها مع المتن في أغلب الأحيان[4]. ومن مظاهر الجدّة والطرافة المميزة للبحث؛ عدم اكتفاء الكاتب بقراءة واحدة للمسألة، فكثيرًا ما أقدم على قراءة الظاهرة الواحدة أكثر من مرّة، مقدّمًا تأويلات وتفسيرات عديدة لها. وتلك، في تصوّرنا، من أهم سمات البحث العلمي، الذي لا يركن للسائد والمتعارف عليه، ولا يكتفي بتأويل واحد من جهة. ومن جهة ثانية؛ فإنّ ما يلفت الانتباه، ولع المؤلّف بتفكيك النصوص وتبيّن الطبقات المكوّنة لها. وخير مثال على ذلك: ربطه المقولات بالحيز الثقافي الذي نشأت فيه.

وما يحسب للمؤلف؛ القدرة الواضحة على التأليف (لا سيما في الجزء الأول من خاتمة الكتاب)، وهو ما لا يتوفر في أغلب البحوث المقارنة، التي تطالعنا في عالمنا العربي، ولعل سعة اطلاع المؤلف، وإلمامه بأهم المصادر والمراجع، قد أسهم في توسيع دائرة البحث عنده. على أنّ أهم مظاهر الجدّة في هذا البحث، حسب رأينا، تلك القراءة المتعلقة بالغفران في الإسلام؛ فالباحث لم يدرس الغفران في الإسلام، بقدر ما قدّم قراءة جديدة، ويكفينا، في هذا الموضع، الإحالة إلى ما استخلصه محمّد يوسف إدريس من البحث، في صورة الغافر، وصورة الشافع في النص القرآني. وكيف رفع التناقض الظاهر بين جملة من الآيات القرآنية، التي أكّدت على أنّ الغفران لا يقتصر على الله، في مقابل آيات أخرى، نصّت على أنّ الغفران فعل إلهي محض، وهو تضارب مربك لضمير المؤمن. وقد استطاع الباحث رفعه، بتقليبه للمسألة على وجوهها المتنوّعة، ومنها؛ اعتبار الغفران الإلهي، أشمل من الغفران البشري، وذلك بجعل الله قادرًا على غفران جميع أشكال الجرائم، في حين أن الإنسان قادر على ذلك، باستثناء الذنوب التي تظل متعلقة بالله دون غيره. ومن الحلول التي اقترحها الباحث، أيضًا؛ أنّ بعض الآيات القرآنية التي أشارت إلى قدرة الإنسان على الغفران (البقرة 2/263، والأعراف 7/155، والشورى 42/37 و43، والجاثية 45/14، والتغابن 64/14) لا يمكن توضيح المقصود بالغفران فيها، ما لم تنزّل في سياقاتها النصّية، التي تكشف عن اقترانها بوضعيّات تواصلية ومعتقدات دينية، لا تنفي قدرة الإنسان على الغفران، (مثل قصة بني إسرائيل زمن النبي موسى). وفي المقابل، فإنّ الغفران في بعضها (الآيات) الآخر، لم يخرج عن دائرة الدلالة اللغوية (الغفران/الستر). وقد أظهر الباحث، في هذا المجال، قدرة على استنطاق ما سكتت عنه النصوص القديمة، (كتب التفسير، كتب أسباب النزول، ...إلخ). أمّا في شأن الشافع في القرآن، فقد بيّن المؤلّف، أنّ الاعتقاد القائل: إنّ الشفاعة، تعني؛ منح المؤمن الغفران دون أنْ يكون كاسبًا له؛ هو اعتقاد لا وجود له في النص القرآني، الذي ورد فيه الحديث عن الشفاعة بصيغة النفي في أغلب الآيات القرآنية، من ناحية. ومن ناحية أخرى، دلّت الآيات على "انعدام تأثير الشفاعة على الذات الإلهية"[5]؛ بل دلّت في (النساء 4/85) على الشرّ والخير في الآن نفسه. والكاتب في ذلك، يميل إلى القول: "إنّ القرآن رفض جميع أشكال الوسائط، وآية ذلك؛ حرصـــه على اعتبار، المغفور له/المؤمن، المسؤول عن مصيره"[6].

إنّ هذه القراءة الموجزة لكتاب "الغفران في الأديان الكتابية"، لا تغني بأية حال من الأحوال عن مطالعة الكتاب، والتعمّق في دقيق المسائل التي خاض فيها الكاتب، ولعل أهم ما يحسب في ميزان صاحبه، خروجه عن المألوف، وزعزعته للقراءات السائدة، دون أنْ يمسّ ذلك من البعد الإيماني للمؤلف وللقارئ.

تسلّح محمّد يوسف إدريس في جميع مراحل الكتاب، بالحجة الدامغة، وقدّم تأويلات متماسكة، فإذا بالقارئ لا يملك إلا تقدير جهد الباحث، سواء وافقه أو خالفه في الرأي.

لقد صاغ الباحث كتابه بلغة عربية فصيحة، جمعت بين جمال العبارة، ودقتها، ووضوحها، وبكثير من الثقة والتواضع المعرفي[7]، على أنّ الكتاب، يظل في تقديرنا، كتابًا خاصًّا بشريحة معينة؛ هي شريحة الباحثين المختصّين في علم الأديان المقارن، وللكاتب في ذلك كامل الحرية، فله أنْ يختار قرّاءه، وله أنْ يتوجّه في خطابه إلى من يريد؛ فالكتاب، على النحو الذي ذكره المؤلّف في الصفحة الخامسة: هو بحث أكاديمي، قدّمه للحصول على شهادة الماجستير في الدراسات المقارنة من الجامعة التونسية، وهو ما يفسّر العناء الذي قد يجده القارئ العادي في تتبّع المؤلّف وآرائه، على أنّ الإنصاف يقتضي منّا، القول بقدر معاناة القارئ في تمثّل الجهاز المفهومي، الذي انطلق منه المؤلف في تناوله لقضايا الغفران في الأديان الكتابية، تكون متعة الاكتشاف[8]، لما ظننا أنّنا نعرفه معرفة اليقين.


[1] محمّد يوسف إدريس، جامعي تونسي، وهو ينتمي إلى جيل جديد من الأكاديميين التونسيين، المختصين في علم الأديان المقارن. نشرت له بحوث وأعمال في مجلات مختصة ومحكّمة في بلدان عديدة، وله مشاركات في ندوات ومنتديات دولية مختصة، في؛ علم الأديان، وعلم تاريخ الأديان، وعلم الأديان المقارن، في أكثر من بلد عربي وأجنبي.

[2] إدريس، محمّد يوسف، الغفران في الأديان الكتابية، المركز الثقافي العربي ومؤمنون بلا حدود للأبحاث والدراسات، ط 1، الدار البيضاء- المغرب، 2015م، ص 56

[3] المصدر نفسه، ص ص 54-55

[4] على سبيل المثال لا الحصر، هوامش: ص 20، ص 21، ص 181، ص 191

[5] المصدر نفسه، ص 243

[6] المصدر نفسه، ص 246. (بتصرّف)

[7] راجع في ذلك: العتبات التي دوّنها المؤلّف، في ص 7 من الكتاب، وفيها نقرأ قولًا لأبي حيّان التوحيدي، في الإمتاع والمؤانسة، يقول: "الملحوظ بسيط، والمدرك بعيد، والإنسان باعه قصير، وفائته أكثر من مدركه، ودعواه أظهر من برهانه، وخطؤه أكثر من صوابه، وسؤاله أظهر من جوابه".

[8] يلحظ قارئ التعليقات على الكتاب، التي وضعها المعجبون على صفحة الفيسبوك الرسمية لـ"لمركز الثقافي العربي"، ضمن قائمة الكتب التي ينصح بها بشدّة: هذا الوعي بأهمية المسألة، وطرافة المقاربة التي اعتمدها المؤلّف، وأهمية ما توصّل إليه من نتائج من جهة. ومن جهة ثانية، يجوز لنا القول: إنّ تلك الآراء، تكشف عن تعطّش القارئ العربي للمعرفة الدينية المتسلحة بالمنهج المقارن.