النبوّات الغامضة في العهد القديم: قراءة في سير أنبياء لم يفصّـل العهد القديم القول في نبوّاتهم


فئة :  مقالات

النبوّات الغامضة في العهد القديم: قراءة في سير أنبياء لم يفصّـل العهد القديم القول في نبوّاتهم

بيّنت مجموعة من الدراسات المعاصرة؛ أنّ النبوّة في العهد القديم مفهوم غير واضح وغير دقيق[1]، وهي إلى جانب ذلك متّصلة اتصالًا وثيقًا بجملة من النظم المعرفية؛ (السحر، الكهانة، العرافة، ....)[2] وهو ما يجعل من تحديد مميّزات النبوّة من غيرها من النظم المعرفية مسألة شديدة التعقيد.

وللتوسّع في هذه المسألة؛ نتناول بالبحث سِيَر جملة من الأنبياء الذين ظلّت نبوّاتهم محلّ تساؤلات عديدة من الدارسين المختصّين في الديانة اليهوديّة، والنصوص الدينية اليهودية، ويعود ذلك إلى طبيعة المعطيات التي ذكرتها النصوص اليهودية، وفي مقدّمتها التوراة في شأنهم؛ ففي أغلب الأحايين، اكتفى واضعوا أسفار العهد القديم بذكر أسمائهم دون أنْ يشيروا من قريب أو بعيد إلى ما ميّز نبوّاتهم، ونحن إذا ما تأمّلنا المواضع التي تعلّقت بهؤلاء الأنبياء، وجدناها تتوزع على صنفين؛ صنف اقتصرت الإحالة فيه على النبيّ بذكر اسمه دون ذكر أيّ عمل من أعماله[3]. أمّا الصنف الآخر ففيه تمّت الإحالة على الأنبياء بذكر أهمّ أحداث حياتهم، وقد خُصّ بعضهم بأسفار مستقلّة تحمل أسماءهم.

ميخا Micha حوالي 730 ـ 701 ق.م

هو نبيّ من أنبياء المملكة الجنوبيّة من أصل فلاحيّ، وقد عاصر الملك يوثام، والملك آحاز، والملك حزقيا، المملكة الجنوبية، ويبدو أنّه قد عاصر إشعياء، وقد نشر تعاليمه بين عاميْ 730 و722 ق.م، ومن أهمّ ما أخبر به؛ تنبّؤه بخراب كلّ من السّامرة وأورشليم وسبي سكّانها[4]، وقد اتّخذ النّبيّ ميخا مواقف واضحة من الطّبقة الحاكمة واضطهادها للشّعب[5]؛ فكان مناصرًا للفئات المسحوقة.

وهو بذلك كان يعبّر عن مشاغل بني شيعته في ذلك العصر، أضف إلى ذلك تنبّؤه بقدوم المخلّص/ الملك[6]، الّذي ينتمي إلى نسل داود، والّذي سيأتي بالخير للعالم.

وهي دعوة تعبّر بعمق عن تقاطع نزعتين مختلفتين هما؛ النّزعة العالمية، والنزعة القومية، فإذا بهما يحملان مدلولًا واحدًا، وهو قدرة الرّبّ على تسيير التّاريخ وفق إرادته[7].

ناحوم[8] Nahum حوالي 633 ق.م

ناحوم: هو نبيّ من أنبياء يهوذا وهو من قوش، ويشير واضعوا "قاموس الكتاب المقدّس" إلى أنّه قد تنبّأ، وهو في يهوذا؛ أيْ قبل أنْ يُؤخذ مع مَنْ أُخذ في السّبي، وأهمّ ما تنبأ به هو إخباره بدمار مدينة طيبة المصريّة وسقوط نينوى، معتبرًا أنّ الرّبّ الإله هو الّذي يتحكّم في التّاريخ؛ فهو المُسيّر له وفق إرادته، وقد بالغ في إبراز دور الخطيئة في تدهور أوضاع الفرد والجماعة، مُرْجِعًا إليها جميع ما حلّ بجماعة اسرائيل. أمّا من النّاحية الأسلوبيّة، فقد تميّز سفر ناحوم بدقّة الوصف، والإفراط في استخدام الرّموز مثل؛ مأوى الأسد، والبغي، والجراد، والتّين....إلخ[9].

صفنيا Zephaniah (حوالي 630 ق م)[10].

ثمّة اختلاف في تحديد تاريخ ظهور صفنيا[11]، فهو عند البعض جاء قبل حبقوق، ويشير البعض الآخر إلى أنّه معاصر له (حبقوق 630-624) على أنّ المُتّفق عليه أنّ هذا النّبيّ من أسرة نبيلة في المملكة الجنوبيّة، وقد تنبّأ في السّنين الأولى من حكم يوشيا، وكانت نبوءاته ذات طابع أخرويّ؛ فهو يصف يوم الإله، باعتباره يومًا ساخطًا، وفيه تتمّ الدّينونة ومعاقبة الأشرار، وهو عقاب شامل لليهود وغيرهم[12]، وفيه تسقط الوثنيّة، وهو يوم يجب أنْ يعلن فيه الشّعب توبته.

ويؤكّد سفر صفنيا أنّ الفقراء سيرثون الأرض، وأنّ كلّ الأمم سـتعود إلى الإله، وفي مقدّمتهم بقيّة جمـاعة اسرائيل، وآنذاك تصبح هذه الجماعة مقدَّسة؛ لأنّه سيجمعهم ويصيِّرهم تسبيحةً في الأرض كلّها، ويحكم وسطهم ملكاً في وسط شعبه[13].

حبقوق[14] Habkuk (حوالي 605 ق.م).

حبقوق؛ أحد الأنبياء الصّغار، وقد تنبّأ في المملكة الجنوبيّة، وكان لاويًا يغنّي في الهيكل[15]، وقد تنبّأ في القرن السّابع أثناء حصار الكلدانيين البابليين لنينوي، ومن أهمّ مضامين نبوته مناداته بالتّوبة؛ فالبار بإيمانه يحيا في تصوّر حبقوق[16].

والمتأمّل جيّدًا في سفر حبقوق، يجد أنّ دعوة هذا النّبي لا تخلو من نَفَس قوميّ؛ إذ تكثر فيها الشّكوى إلى اللّه، فأيّ معنى لمعاقبة إسرائيل على يد البابليين، هل البابليون أفضل البشر؟.

على أنّ ما يميّز نبوّته فيما يتعلّق بمجال دراستنا وصفه لظهور اللّه في المستقبل "يوم الرّبّ"[17]، وقد اختلف المهتمّون باليهوديّة القديمة بشأن هذه النبوءات؛ فرأى فريق أنّها مجرّد إخبار عن انتصار اللّه لشعبه في الدّنيا بإهلاك أعدائهم، ورأى فريق آخر أنّ الأمر يتعلّق بعالم الآخرة[18].

النّبيّ إرميا: Jeremiah (حوالي 626-586 ق م)[19].

هو ابن الكاهن حلقيا، عاصر (يوشيا، ويهوياقيم، ويهوياكين، وصدقيا) في المملكة الجنوبيّة[20]، وقد جاءته النبوّة، وهو ما يزال حَدَثًا، وقد ظهرت أوّل نبوءاته في عام 627 ق.م في عهد الملك يوشيا؛ إذ دعاه اللّه عبر الرّؤيا، وأخبره الرّبّ برفض اليهود له، وقد تنبّأ بالسّبي وبالعودة منه؛ إذ أعلن أنّه سيأتي يوم تسقط فيه أورشليم بيد البابليين، وقد عرفت دعوته معارضة شديدة من قبل أوساط اجتماعيّة يهوديّة مختلفة، بالنّظر إلى مضامينها الإصلاحيّة الّتي كانت تروم ترك عبادة الآلهة الأخرى.

وقد نادى النّبي إرميا إلى تبنّي قيم عامة مثل (التّقوى) متجاوزًا بذلك البعد القوميّ الضيق الّذي ميّز أغلب الأنبياء من اليهود، أمثال يونان، وقد غلبت على نبوّاته الفواجعُ والكوارثُ، وتشير بعض الدراسات إلى وجود صلة بينه وبين البابليين[21]، فلقد نصح العبرانيين بعدم الوقوف في وجه الغزاة، وهو موقف فسّرته الطّبقة الحاكمة يومها بالتّواطؤ مع العدو، وناصبته الأسرة الكهنوتيّة العداء؛ بسبب موقفه المُقوّض لنفوذها، فاتّهموه بالانضمام إلى العدو وسجنوه في قبو، بيد أنّ الملك أمر بالإحسان إليه، دون معرفة الأسباب، إلى أنْ سقطت القدس في يد البابليين الّذين أحسنوا معاملته، ومع مقتل جداليا[22]، قرّر العبرانيون الفرار إلى مصر، وكان إرميا من بينهم، وقد استــمرّت نبــوءاته في مصر، وكانت آخــرها؛ أنّ اللّعنة سوف تـحلّ على يهود مصر لعبادتهم الأوثان[23].

إنّ ما يميّز نبوّته؛ تركيزه على مسؤولية الفرد في الجانب الأخلاقيّ، وتأكيده أهمّيّة الجانب الرّوحي، فلا قيمة للقرابين؛ لأنّ اللّه لا يطلب الذّبائح فحسب؛ بل يطلب الطّاعـة والإيمان الصّادق[24]، وهو لا يرضى إلاّ عن ذبائح المطيع له[25]، ولا معنى للتّابوت ما لم يكن دالاّ على إيمان الشّعب؛ بل سيأتي وقت لا يُذكَر فيه[26].

فالعبرة بما يخالج الإنسان من إيمان صادق[27]، وليس في ما يُظهر من تقوى والتزام بأوامر الشّريعة ونواهيها؛ بل على الشّعب أنْ يكتب شريعة الرّبّ في القلب[28].

وما يلفت الانتباه في هذا المجال؛ أنّ نبوّته تجاوزت فكرة الإله القوميّ الخاص ببني إسرائيل، إلى الحديث عن إله عالمي[29]، فالأمم الأخرى ستعرف بأنّ آلهتهم كاذبة لا قيمة لها، حينئذ يهرعون إلى عبادة يهوه[30].

وعلى الرغم من غلبة الطّابع التّشاؤميّ على نبوته، فإنّنا نلتمس في نهاية السّفر نفسًا تفاؤليًّا، يتمثّل في التّبشير بـالعهد الجديد؛ إذ يقطع يهوه عهدًا جديدًا مع شعبه؛ بأنْ يجعل شريعتهم في نفوسهم، ويكتبها على قلوبهم بدلًا من الألواح الحجرية (لوحيْ الشريعة).

حزقيال Ezekiel [31] (حوالي 593 ـ 570 ق.م).

ظهر النّبيّ (حزقيال) في آخر أيّام النّبي إرميا، وقد كان شديد التّأثّر بنبوّته؛ بل كانت نبوّة حزقيال تعدّ امتدادًا لنبوّة كلّ من (إرميا وهوشع)[32] في الأسلوب والمضمون؛ إذ عمل حزقيال على شرح نبوّة إرميا، والتّوسّع فيها من جهة، ومن جهة أخرى عمد إلى استلهام جملة من الصّور الواردة في نبوّات هوشع[33].

ويشير "العهد القديم" إلى أنّ حزقيال كان كاهنًا أوّل عهده؛ فهو ينتمي إلى عائلة كهنوتيّة[34]، وهي عائلة (صادوق الكهنوتية) من قبيلة إفرايم من سبط لاوي، وقد حُمل في السّبي الّذي تمّ سنة 597؛ أيْ بعد نفي دانيال بثماني سنين، وقد بدأت نبوّاته سنة 592؛ إذ تنبّأ بخراب أورشليم ودمارها، ممّا جعل عبد الوهاب المسيري يذهب إلى "أنّه نُفي قبل التّدمير النّهائي للقدس (586 ق.م)"[35]، وفي المقابل يرى بعضهم أنّه كان من المَسْبِيّين مع الملك يهو ياكين[36]، وقد قسّم الدّارسون نبوّته إلى فترتين؛ الأولى: كانت في القدس قبل السّبي. والثّانيّة: تمّت في بابل؛ أي أثناء السّبي من593 ق م إلى 570ق م؛ ففي الأولى: وجّه أصابع الاتّهام لليهود ساكني المملكة الجنوبيّة لارتكابهم الشّرور، ولثقتهم المفرطة في نجاتهم من السّبي البابليّ، وقد اقتبس حزقيال من نبوءات هوشع صورة «الزّنى» محمّلًا إيّاها بدلالات مجازية جديدة، فتاريخ الشّعب منذ الخروج إلى السّبي، تاريخ عصيان وتمرّد على الله[37]. أمّا المرحلة الثّانية: فتتمثّل في نبوءات ذات نزعة تفاؤليّة من مظاهرها؛ تنبّؤه بالعودة، وذلك لشدّ أزر المتّقين، فكثرت عنده الرّؤى المبشّرة بقرب الخــلاص وخـراب ديار الأعداء، بيد أنّه جمع بين تحقّق الخلاص ومسؤوليّة الفرد عن أفعاله[38]، فأورشليم الجديدة[39] الّتي سوف تُؤسّسها جماعة الإله الجديدة، هي أورشليم الصّدق والوفاء ليهوه.

وقد فسَّر حزقيال الغرض الإلهي من شتات اليهود؛ بأنّه نشر العدالة في العالم، وقد تضمّنت نبوّته جملة من الرّؤى تتعلّق بالعواصف بما هي رموز للعقاب الإلهي، زد على ذلك؛ أنّه قد تنبّأ نبوءات تتعلّق بالأمم الأخرى (موآب، مصر، آدوم، فلسطين، صيدون، صور، عمّون)[40].

حجّي[41] Haggai حجَّاي (حوالي 520 ق م).

يذهب أغلب دارسي اليهوديّة؛ إلى أنّه قد تنبّأ بعد العودة من بابل في العـام الثـّاني من حكــم دارا الأوّل، وقد عاصر هذا النبيُّ النبيَّ زكريّا، ولا تخلو نبوءاته من نزعة تفاؤليّة بالمستقبل الزاهر قصد حثّ اليهود على إعادة بناء الهيكل، وإعلان توبتهم واستقامتهم مع اللّه، فنجد في سفره حديثًا عن عظمة الهيكل، إلى جانب حديثه عن ضرورة ترك النجــاسات.

زكريّا بن برخيا بن عدّو[42] Zechariah (حوالي520ـ518 ق.م).

كتب زكريا سفره بعد العودة من بابل، وقد كان من عائلة لاويّة، وشغل منصب الكاهن، ونحن لا نجد في "العهد القديم" أيّة إشارة تتعلّق بالظّروف الحافة بتحوّله من العمل الكهنوتي إلى العمل النّبويّ، وإنّما نعثر على شرح لمضامين نبوّاته؛ إذ اهتمّ بتجميع المنفيّين، وحثّهم على التحرر من السّبي.

أمّا بعد العودة؛ فقد عمد إلى تشجيع العائدين على إعادة بناء القدس، على أنّ ما يميّز رسالته؛ الطّابع الرؤيويّ؛ إذ كثيرًا ما يعمد إلى تفسير رؤاه التفاؤليّة من خلال ملاك[43].

عوبديا Obadiah (حوالي 450 ق.م).

عوبديا: نبيّ من يهوذا تنبّأ بـ"يوم الرّبّ"، وهو يوم قريب في تصوّره، ومن خصال ذلك اليوم؛ أنّ الرّبّ الإله ينقذ الشّعب من محنته، وفي المقابل يدمّر أدوم؛ لأنّها لم تسارع إلى مساعدة أورشليم ساعة محنتها.

ملاخي Malachi (حوالي 450 ق.م).

أجمعت المصادر الّتي تناولت سيرة هذا النّبيّ على أنّه عاش بعد بناء الهيكل الثّاني؛ إذ يعدّ ملاخي آخر أنبياء "العهد القديم" وقد جاء بعد حجّي وزكريا، وهو من معاصري نحميا، ويعتبره البعض النّبي بعزرا[44]، في حين رأى البعض الآخر أنّ «ملاخي» ليس اسم عَلَم، وإنّما صفة اتّصف بها واضع السّفر[45]، ومهما يكن من أمر الاسم؛ فإنّنا نجد دعوته تتميّز بأمرين؛ أوّلهما: تنبؤه بقدوم المسيح وإيليا[46]. وثانيهما: توبيخه للكهّان على تراخيهم في تنفيذ أوامر الشّريعة، لاسيّما فيما يتعلّق بطقس القربان، وشروط العشور، فالكهّان يقدّمون إلى اللّه ذبائح بها عيوب، ويُؤثرون أنفسهم بالسّليمة، وهم لا يطبّقون الشّريعة، وإنّما ينشرون التّعاليم الخاطئة بين النّاس، أضف إلى ذلك دعوته إلى تجنّب الزواج بالأجنبيّات.

النّبيّ يوئيل[47] Joel (حوالي 450 ق.م).

هو يوئيل بن فثوئيل بعث إلى مملكة يهوذا، وموطنه أورشليم، وقد اختلف المؤرّخون ورجال اللّاهوت في تحديد العصر الّذي عاش فيه؛ فالبعض اعتبره معاصرًا للنّبيّ إشعياء، والبعض الآخر اعتبره معاصرًا للملك يوشا، وقد مال أغلب الباحثين إلى الفرضيّة الثّانية[48]، ممّا يجعله ينتمي إلى أنبياء ما بعد العودة من السّبي، والحقيقة أنّ سفر يوئيل يدعو إلى التّساؤل حول هذا التّصوّر؛ إذ صيغ في أسلوب يجعل العبارة الواحدة تحتمل أكثر من دلالة؛ فالجراد والقحط اللّذان يُذكران في الإصحاحين الأوّل والثّاني من السّفر، رأى فيهما البعض تعبيرًا رمزيًّا خياليًّا، واعتبرهما فريق آخر تعبيرًا حقيقيًّا المقصود به؛ هجوم الجراد، باعتباره حدثًا تاريخيًّا حقيقيًّا.

ولعلّ الأمر في ذلك يعود إلى الصّعوبات الّتي وجدها الباحثون في تحديد تاريخ دقيق للعصر الّذي عاش فيه النّبيّ يوئيل؛ فالبعد الرّمزي يتحدّد وفق الحدث، فإذا ما كان بعد العودة فالرّموز تفقد بعدها المُتخيّل، أمّا إذا كان قبل السّبي؛ فإنّ إصحاحات السّفر مثقلة بالرّموز، والعلامات الدّالة على أحداث مُتخيّلة.

وقد أشار "عبد الوهاب المسيري" في موسوعته إلى اتّفاق علماء الدّيانة اليهوديّة، على أنّه قد "تنبّأ بعد العودة من بابل"[49]، في حين نجد في سفر يوئيل ما يفنّد هذا التّصوّر، من ذلك؛ أنّ يوئيل تحدّث عن أنّ الرّبّ يعيد شعبه من السّبي، ويعاقب أعداءه[50]، أضف إلى ذلك حديثه عن يوم الرّبّ، ودعوته الجماعة اليهوديّة إلى التّوبة.

على أنّنا نجد من ناحية أخرى؛ تركيز صاحب السّفر على نقد ممارسات الكهّان، ممّا يُوحي بأنّه كُتب بعد العودة من السّبي، إنّ هذين الأمرين يصعّبان على الباحث الجزم بأحد التّاريخين، وهو ما يترك الباب مفتوحًا على مصراعيه للتّأويلات المختلفة.

فإنْ كانت أحداث حياته تتعلّق بفترة ما قبل السّبي؛ فإنّه بوسعنا حينئذ الحديث عن رؤى تخبر عن الغيب، بما في ذلك حديث عن "يوم الرّبّ"[51]، أمّا إذا صحّ تنبؤه بعد السّبي؛ فإنّ قسمًا كبيرًا من الأحداث لا يمكن نعته بالمُتخيّل؛ لأنّ ذكرها في السّفر يصبح من قبيل الإشارة إلى أمر تحقّق عن طريق الاستعارات والكنايات.

النّبيّ عدّو Iddo[52].

هو رائيّ[53]، كتب للملك رحبعام[54]، ويشير "العهد القديم" إلى أنّه قد زامن النّبيّ شمعيا، وما يمكن الإشارة إليه فيما يتعلّق بسيرة هذا النّبيّ شحّ الأحداث، واقتصر "العهد القديم" وسائر المعاجم والقواميس المُختصّة، على ذكر أنّه كان كاتبًا لرحبعام، ممّا يجعلنا نذهب إلى اعتباره بمنزلة المؤرّخ، إلى جانب اضطلاعه بمهمّة الكتابة للملك.

عزرا أو عزرياEzra [55].

يشير "العهد القديم" إلى أنّ عزرا قد عاصر الوالي نحميا، وقد تولّى أمر خروج اليهود من أرض بابل نحو أورشليم (العودة من السّبي)، فيكون بذلك "الزّعيم الرّوحيّ" للجماعة اليهوديّة العائدة من بلاد السّبي، وقد ذهب أغلب الباحثين إلى أنّ خروج اليهود من بابل قد تمّ حوالي 458 أو457؛ أيْ في عهد ارتحتشتا الأوّل، وفي المقابل وجدنا من قال؛ إنّ العودة من السّبي قد تمّت في عهد ارتحتشتا الثّاني[56].

والحقيقة أنّنا لا نجد في المراجع الّتي وقفنا عندها من تعامل مع عزرا باعتباره نبيًّا؛ إذ تقتصر هذه المراجع على اعتباره كاهنًا[57]؛ بل نجد العهد القديم لا يذكر عملًا واحدًا يمكّننا من إدراجه في مؤسسة النبوّة.

ونحن إذا ما تأمّلنا الأحداث المُتعلّقة بأنبياء هذه الزّمرة، وجدناها قليلة العدد، تتعلّق بحدث تاريخيّ (السّبيّ/حرب ضد المصرييّن)، ويكاد يقتصر دور النّبيّ في هذه الأحداث، على التّنبؤ بما سيحل بالدّولة من خراب، أو الإخبار عن هزيمة العدو، فإذا بالنبوّة ضرب من ضروب مطالعة الغيب، ولا شكّ أنّ قسمًا كبيرًا من هذه المطالعات، كان محكومًا بخلفيّات (نفسيّة واجتماعيّة وسياسيّة) تدفع النّبيّ إلى التّشاؤم أو التّفاؤل ممّا يجعل النبوّة أقرب إلى العرافة منها إلى النبوّة؛ إذ إنها اتّصال بعالم مفارق.

وإذا ما نظرنا في المضامين المتعلّقة بنبوءاتهم، وجدناها على ضربين؛ ضربٍ يتعلّق بالإصلاح والدّعوة إلى العودة إلى طريق الرّبّ، فيكون ظاهر هذه الدّعوة دينّيًّا، في حين أنّ للمسألة وجها آخر؛ إذ لا تخلو الدّعوة إلى التّوبة من تعليلات تجعل من السّبي والهزيمة، أشكالًا للعقاب الإلهيّ الّذي لا سبيل إلى رفعه ما لم يعلن الإنسان ضعفه بالتّوبة. أمّا الضّرب الثّاني، وهو متّصل بالأوّل اتّصالًا وثيقًا، فيجعل من اختيار يهوه لبني إسرائيل دون شعوب الأرض، مسألة تخضع لحسابات دقيقة، فلم يعد يهوه ذلك الإله الصّبور على تجاوزات شعبه، مثلما كان مع موسى وهارون؛ بل هو إله قادر على استبدال جماعة إسرائيل بجماعة أخرى، ما دامت الجماعة لا تتوانى عن اتّخاذ بعل أو داجون إلهًا لها بدلًا منه.


[1] إدريس، محمّد يوسف، النبوّة والنّظم المعرفيّة فـي النصوص المقدّسة (الكتاب المقدّس أنموذجا): قراءةٌ في سلطة الواقع السياسي والاجتماعي، العـــددان 10/09 من مجلة آداب القيروان، كلّية الآداب والعلوم الإنسانية بالقيروان، 2012-2013.

[2] المرجع نفسه.

[3] هؤلاء الأنبياء هم: يوثام: ويعني اسمه "يهوه نام" (حوالي 760 ـ 746 ق.م)، وقد عاصر عزيا في المملكة الجنوبيّة، وعاصر يربعام الثّاني في المملكة الشماليّة، راجع بطرس عبد الملك، قاموس الكتاب المقدّس، دار الثقافة، القاهرة مصر، ط1، (د ت)، ص 1105. وعُوديد: ويعني اسمه "أعاد" وقد عاصر الملك "فقح" المملكة الشّماليّة، وقد اعترض طريق جيش المملكة الشّماليّة العائد من حربه ضد المملكة الجنوبيّة، ومعهم أسرى (الجنوبيّة) وبسبب ذلك وبّخهم النّبيّ. انظر: 2أخبار28/9-15، وأليعازَر بن داود: ويعني اسمه "الله عون" وهو من مريشة، وقد تنبّأ بغرق سفن يهو سافاط بسبب مساندته أخآب. انظر: 2 أخبار 20/37. وعزريا: يعني اسمه "من أعانه يهوه" وهو ابن عوديد، وهو نبيّ أرسله اللّه لتحذير الملك آسا من عبادة الأوثان، انظر: 2 أخبار 15/1-8. وياهو: ابن حناني، وهو الّذي ثار على يعشا (909 – 886 ق م) في المملكة الشّماليّة، وقد وبّخ يهو أيضًا سافاط على مساندته لأخاب. انظر: 1ملوك 16/1، و2ملوك 19/2. حناني/حننيا: يعني اسمه "يهوه قد أنعم" لا نجد أيّ شيء آخر عنه، انظر: قاموس الكتاب المقدّس (سبق ذكره)، ص: 323. وبَلْعَامْ يعني اسمه "الملتهم": وهو ابن بعور من فتور بين النّهرين (العراق)، ويعود نسله إلى إبراهيم الخليل، وقد نسبت إليه أعمال تشبه أعمال العرّافِين، مثل؛ معرفة ما سيقع لكلّ إنسان. انظر: العدد 22/9-25، والعدد 31/8-16. وميخا بن يَمْـلَةَ: Micaiah son of Imlah: يعني اسمه "من كيهوه" وهو من أخبر أخاب بهزيمته ضد راموت جلعاد، انظر: 1ملوك 22/13-28 و2 أخبار 18/7-27. ونبيّ مجهول يتقدّم لأخاب مبشّرا بالنّصر الآتي، ويُخبر بالغيب، انظر: 1ملوك 20/13 20/22 20/28. والنّبيّ يعدو: لا نجد أيّ شيء آخر عنه، انظر: 2 أخبار 9/29. والنبي آساف لا نجد أيّ شيء آخر عنه (غير اسمه). انظر: 2 أخبار 29/30. ونبيّ مجهول، لا نجد أيّ شيء عنه غير الإحالة عليه في 1صم 2/27.

[4] انظر: ميخا 3/12.

[5] انظر: ميخا 3/1 ـ 3.

[6] انظر: ميخا 5/2.

[7] انظر: أخبار 17/2.

[8] اسم عبري معناه «المُعزَّى» (صيغة اسم مفعول)، وناحوم: هو واحد من الأنبياء الصّغار.

[9] هي خصيصة مميّزة لأسفار أنبياء ما بعد العودة من السّبي. انظر عبد الملك، بطرس، قاموس الكتاب المقدّس، (سبق ذكره)، ص 944.

[10] صفنياه: اسم عبري معناه "يهوه يستر" نبي يعود نسبه إلى الملك حزقيا.

P. Bailey, Adriana: Ecole Biblique, traduction par Christine Lalier, édition, G.P. Maisonneuve, Paris, P 136

[11] انظر في مسألة اختلاف علماء اليهوديّة حول تواريخ ظهور بعض الأنبياء ظاظا، حسن، الفكر الدّينيّ الإسرائيليّ أطواره ومذاهبه، معهد البحوث والدّراسات العربيّة، (دون مكان)، 1971، ص 50 وما بعدها.

[12] عوبديا اسم عبري معناه "عبد يهوه".

[13] صفنيا 3/14.

[14] «حبقوق» اسم عبري معناه "يعانق".

[15] حبقوق 3/16-19.

[16] انظر: حبقوق 2/1 ـ 4.

[17] انظر: حبقوق الأصحاح الثالث.

[18] السفر في أساسه ـ فيما يُرجح العلماء ـ مكوَّن من إصحاحين (الأول والثاني) أما الإصحاح الثالث؛ فله جانب أسطوري واضح، ولذا افتُرض أنّه منحول. وممّا يؤكد ذلك اكتشاف تفسير للسفر في قمران لا يحتوي إلا على الإصحاحين الأوّلين منه.

[19] "إرميا" أو "إرميا": هو وهي عبارة عبرية تعني «الإله يُؤسّس» أو «الإله يُثبت» ويعدّ هذا النّبيّ ثاني الأنبياء الكبار.

[20] Voir Bailey, Adriana; Ecole Biblique; op cit, P 136

[21] Voir Solomon, Jana: les Prophètes de L'Ancien Testament, traduction Carl Gustav, 2ém Ed, Bordas, Paris, 1999. P 383.

[22] هو: جداليا بن اخيقام بن شافان، أحد القائمين بأمر أورشليم بعد العودة من السّبي، انظر: عبد الملك، بطرس، الكتاب المقدّس، (سبق ذكره)، ص 253.

[23] انظر: إرميا 43، 44.

[24] انظر: إرميا 7/21 ـ 23.

[25] انظر: إرميا 17/24 ـ 27.

[26] انظر: إرميا 3/16.

[27] انظر: إرميا 17/10، 20/12.

[28] انظر: إرميا 24/7.

[29] انظر: إرميا 3/17.

[30] انظر: إرميا 16/19ـ20.

[31] «حزقيال» أو «يحزقئيل»: كلمة عبرية معناها «الإله يقوِّي» من الأنبياء الكبار، وعاصر نبو خذ نصر.

[32] Bailey, Adriana: Ecole Biblique, op cit, P 119.

[33] Ibidem.

[34] حزقيال 1/3.

 [35]انظر: المسيري، عبد الوهاب، موسوعة اليهود واليهوديّة والصّهيونيّة (الموسوعة الكاملة)، سبعة مجلّدات، دار الشّروق، ط3، القاهرة مصر، 2003، مج 5، ص 92.

[36] Thiollier, Marguerite- Marie: Dictionnaire des religions, Larousse, Paris, 1985, P 325.

[37] انظر: حزقيال 20/1 ـ 38.

[38] انظر: حزقيال 33 /1 ـ 20.

[39] انظر: حزقيال 40/48.

[40] انظر: حزقيال من الإصحاح 25 إلى الإصحاح 30.

[41] «حجَّـاي»: اسـم عبــري معـناه «عــيد»، وحـجَّاي أحـد الأنبيــاء الصـغار.

[42] زكريا "زخارياه": اسم عبري معناه «يهوه قد ذكر». وزكريا أحد الأنبياء الصغار، وقبل تناول سيرة هذا النّبيّ نشير إلى ضرورة التّمييز بين زكريا النّبيّ الّذي عاصر النّبي حجي، وزكريا بن يهويا داع الكاهن الّذي عاش في أيّام أخزيا ويوآش.

[43] ينسب بعض العلماء الإصحاحات 9 - 14 إلى مؤلف آخر عاصر فترة الهيكل الأول، وذلك على أساس لغتها ومضمونها. انظر: عبد الملك، بطرس، قاموس الكتاب المقدّس، (سبق ذكره)، ص ص 427/429.

[44] انظر: المرجع نفسه، ص 913.

[45] Voir Solomon, Jana: les Prophètes de L' Ancien Testament, op.cit, p321.

[46] ملاخي 4/5.

[47] «يوئيل» تركيب عبريّ، معناه «يهوه هو الإله» ويوئيل أحد الأنبياء الصغار.

[48] انظر: عبد الملك، بطرس، الكتاب المقدّس، (سبق ذكره)، ص 1102.

[49] انظر: المسيري، عبد الوهاب، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، الموسوعة الكاملة، (سبق ذكره)، مج5، ص 93.

[50] انظر: الإصحاح الثّاني.

[51] انظر: الإصحاح الثّالث والإصحاح الرّابع.

[52] يعني اسم عدّو "مُزيّن".

[53] يشار إليه بالرّائي، ويُشار إليه بالنّبيّ الخاص، في 2 أخبار 13/22.

[54] اُنظر 2أخبار 12/15 و13/22 و6/29.

[55] يعني اسم عزرا أو عزريا "العون". وقد وردت سيرته في سفر عزرا وسفر نحميا.

[56] Voir Solomon, Jana: les Prophètes de L'Ancien Testament, op.cit, pp 263/264,

[57] عبد الملك، بطرس، قاموس الكتاب المقدّس، (سبق ذكره)، ص 621.