الفكر الإصلاحي العربي المعاصر: التأويل والمفارقة


فئة :  مقالات

الفكر الإصلاحي العربي المعاصر: التأويل والمفارقة

الفكر الإصلاحي العربي المعاصر: التأويل والمفارقة

لبنى بن البوعزاوي

إن الحديث اليوم عن مفارقات الكتابة السياسية في الوطن العربي، يقتضي الوقوف عند حقل الممارسة السياسية للكشف عن عوائق هذه الممارسة التي لا تخرج عن كونها مفارقات لاحت بالفكر السياسي العربي بعامة، والفكر الإصلاحي العربي المعاصر بخاصة في جملة من المتناقضات، ظهرت على نحو جلي في الخطاب السياسي، وفي الجهاز المفاهيمي الذي تأسس إثر عملية التأويل؛ أيّ تأويل؟ تأويل لكل من مفاهيم السياسة الليبرالية كما تشكلت في الغرب الأوروبي إبان القرن السابع عشر، ولكل من منظومة السياسة الإسلام ية كما تأسست في باب السياسة الشرعية.

لم ينفلت الفكر الإصلاحي العربي المعاصر من قبضة المقاربة النقدية، والفلسفية، التأملية والتحليلية، الرامية إلى تقصي الفكر المعني من خلال التفكير في بنيته ومفاهيمه وقضاياه، قصد إبراز معالم قصوره وفقره في باب تناوله للمسألة السياسية، فضلا عن غياب النجاعة، وانعدام التأثير والفعالية العائدة إلى تلك المماثلة غير الممكنة؛ وذلك الخلط الشنيع الذي أقامه الإصلاحيون بين مفاهيم السياسة الليبرالية، ومفاهيم الإسلام السياسي. فبأي معنى يمكن اعتبار تأويلات ومماثلات الإصلاحيين في هذا الصدد مماثلات غير ممكنة؟ وفيما تتعين مفارقات العقل السياسي العربي في سياق الحديث عن الفكر الإصلاحي؟

قبل الخوض في جزئيات الحديث عن مفارقات العقل السياسي العربي، لا بد من الوقوف عند مدلول العقل السياسي أولا، كما عرفه "محمد عابد الجابري" 1935-2010م، وهو عقل يرتبط أساسا في أية حضارة بالنظام أو النظم المعرفية التي تحكم عملية التفكير في تلك الحضارة، ولكن فقط بما هو عقل وليس بما هو سياسي، حيث ارتباطه بالحضارة بما هو سياسي، يجعله عقلا غير خاضع لتلك الحضارة، بل على العكس من ذلك، يحاول هو إخضاعها لما يريد تقريره، فيمارس السياسة فيها. إن العقل السياسي على هذا النحو إذن، ليس بيانيا فقط ولا حتى عرفانيا ولا برهانيا وحسب، بل إنه عقل يوظف مقولات وآليات مختلف النظم المعرفية حسب الحاجة. وبما أن السياسة تقوم على البراغماتية (اعتبار المنفعة) وجب على العقل بالتلازم المنطقي ألا يناقض موضوعه -الذي هو السياسي-، ما منه يستمد هويته. لذلك عمل الفكر الإصلاحي العربي جاهدا على إخضاع محددات الفعل السياسي وتجلياته لمنطق داخلي يحكم تلك المحددات، وينطلق من قناعة تامة بأن الوسيلة الكفيلة بتجاوز طور التأخر التاريخي والهيمنة الاستعمارية، وما ينجم عنهما من مشكلات، تكمن فقط في الرجوع إلى الأصل ونبذ الركود والجمود، مع المناداة بضرورة المطابقة والاقتباس من الأفكار الغربية.

لا ريب أن الشروط التاريخية التي تشكل خلالها الفكر العربي المعاصر في غضون القرن التاسع عشر إلى حدود منتصف القرن العشرين، ساهمت إلى حد بعيد في تشكل هذا الفكر بناء على التراث السياسي الأوروبي الحديث والمعاصر؛ أي إنه تشكل أولا وأخيرا كتأويل لهذا التراث، وليس كانعكاس لواقع المجتمع العربي ولهمومه السياسية والاجتماعية والثقافية التي تمثل الأساس الذي يجب الانطلاق منه لبلورة فكر سياسي مستقل، له أسس وآليات من نتاج الواقع. فعوض أن تكون عملية التأويل في سياق الحديث عن الفكر الإصلاحي العربي خاضعة لمنطق ينطلق من الخصوصية من أجل الخصوصية، تم الدؤوب في تأويل الفكر السياسي الغربي وفق منظومة الفكر السياسي الإسلام ي بمنأى عن الاعتبار؛ أي إنه عمل على فهم مفاهيم السياسة الغربية فهما إسلامويا قاده منطق القياس: لا فهما وقراءة فقط، بل تأويلا وتحليلا أيضا، وهنا مكمن الخطأ في نظرنا؛ إذ من جملة ما أثمرته هاته العملية التأويلية نجد فهما يمزج ويزاوج في داخله بين منظومتين سياسيتين غير متوافقتين لا من حيث الأهداف والمرامي، ولا من حيث السياقات السوسيوتاريخية. فمن غير الممكن بمكان أن تحل الشورى على سبيل المثال محل الديموقراطية، أو أن تؤخذ كتأصيل لهذه الأخيرة؛ ذلك مرده من منظورنا لسببين اثنين يمكن تعيينهما فيما يلي:

السبب الأول: أن الشورى على حد علمنا، لا يمكن أن تستمر حالما حدوث البيعة؛ بمعنى آخر أنها تنتهي بالبيعة وعند حدوثها، إذ لا يتعلق الأمر فيها بمؤسسات سياسية، بل بشخص الخليفة.

السبب الثاني: أن الشورى لا تستجيب تماما لمعيار التنافس الانتخابي بين الأحزاب السياسية أو الفرق المرشحة. ومن ثمة، فإن الشورى لا تستجيب حتى للأسس وللمبادئ الأولى المؤسسة لنظام الديموقراطية.

إن التسليم بمبدأ القول إن ما تتضمنه منظومة الفكر السياسي الغربي الليبرالي، وأن ما تشمله من مفاهيم سياسية هو معطى جاهز في الدين الإسلام ي، لاعتبارات أهمها أن الإسلام برنامج تفصيلي ونظام شامل لا يهمل شاردة ولا واردة، بل ولأبلغ من ذلك هو قانون إلهي مطلق ومتعالي، به وعليه وجب الالتزام بوصفه الأصل. هذا التسليم لن يجعل من التأويل عملية للفهم والمماثلة وحسب، بل محاولة لإضفاء الشرعية على بعض مفاهيم السياسة الليبرالية اعتمادا على وحدة القياس- قياس المتشابه على المحكم- لكي لا تناقض موضوع السياسة الشرعية – الذي هو الإسلام - ما منه تستمد هويتها، في حين أن مفاهيم الدعوة السياسية الليبرالية لا تستمد هويتها إلا من ذلك الفصل الذي تم بين سلطة الدين والسياسة. وفي هذا المقام، نستحضر قول ورد عن كمال عبد اللطيف معناه: "أن عملية التأويل لم تكن قراءة نصية ولا قراءة نقدية ولا ترجمة فعلية، بقدر ما غدت أولا وقبل كل شيء "التوجه الإصلاحي العملي الذي شكل الهاجس الأكبر في الفكر العربي المعاصر".[1]

لا شك أن ما يفسر قلق المفاهيم السياسية الليبيرالية في الوطن العربي، يعود في المقام الأول إلى كون مفكري الاصلاح قد قرأوا "الحديثَ" بمعطيات تراثية قديمة، تمثل المرجع والأساس الذي ينبغي أن تقوم عليه السياسة في فكر الإسلام السياسي؛ ذلك هو المنطلق الأساسي لفكر الاصلاح من أجل تحديث الفكر السياسي في الإسلام. إن شأن مفكري الإصلاح في هذا الصدد، شأن الفقهاء الذين يسعون إلى نصرة الآراء التي صرح بها واضع الملة، وتزييف ما خالف الآراء أو الأفعال التي صرح بها واضع الملة، بذريعة مفادها أن الأفعال والآراء والأوضاع التي صرح بها واضع الملة، أعلى وأرفع مرتبة من العقل البشري الإنساني؛ لأن مصدرها الوحي الإلهي. إنه من منظورنا لَتحديث لمفاهيم السياسة في الإسلام ولَنصرة لهذا الأخير في الآن نفسه.

وهكذا فما وجد من المفاهيم السياسية الليبرالية شاهدا أو مشابها لما صرح به الإسلام نُصر به الإسلام، وما وجد منها مناقضا لما صرح به واضع الملة، وأمكن حمله على ما يوافق الملة، حُمل على ما يوافق الملة، وأمكن تأويل لفظ الملة على ما يوافقه. وما وُجد من المفاهيم مناقضا، ولم يمكن حمله على ما يوافق الملة، ولا إخراج لفظ الملة على ما يوافقه، زُيفَ، أو تُركَ. من هذا المنطلق، يمكن القول بصفة عامة: إن فقدان منظومة الفكر السياسي الليبرالي لقوتها ونجاعتها، وفعاليتها المفهومية الإجرائية عند انتقالها من المجتمع الأوروبي إلى الوطن العربي؛ يفسر بكون كلا من هذين المجتمعين له منطلقات أساسية وسياقات تاريخية وثقافية خاصة، تفرض نفسها بوصفها وضعيات أنطولوجية، فيستحيل التلويح بها بوصفها كذلك، ضمن وضعيات أنطولوجية أخرى خاصة، إذ من غير الممكن اقتطاع مفاهيم الإسلام السياسي مثلا وتجريدها من منظومتها الكلية، ثم التلويح بها ضمن واقع أوروبا الليبرالية، دون أن يحدث ذلك قلقا ولبسا وخلطا شنيعا بين المفاهيم، ناهيك عن المفارقات التي ستطال الفكر السياسي الغربي تنظيرا وممارسة. فكذلك ومثال بالنسبة إلى الفكر الإصلاحي العربي المعاصر.

إننا أمام واقعين منفصلين، مختلفين ومتباعدين؛ بالرغم من تبعات وتداعيات الظرفية الاستعمارية التاريخية التي ساهمت بما فيها من حول وقوة في سبيل تكريس استمرارية للتبعية والهيمنة الاستعمارية. فالمغلوب مولع أبدًا بالاقتداء بالغالب على سبيل ما ورد عن "ابن خلدون" 1332-1406م في كتابه "المقدمة"؛ إذ كثيرا ما تراه متشبها بغالبه في سائر شعاراته وأحواله، بل وحتى عوائده، وهو ما عبر عنه بالقول: "والسّبب في ذلك أنّ النّفس أبدا تعتقد الكمال في من غلبها وانقادت إليه، إمّا لنظره بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه أو لما تغالط به من أنّ انقيادها ليس لغلب طبيعيّ، إنّما هو لكمال الغالب. فإذا غالطت بذلك واتّصل لها اعتقادا، انتحلت جميع مذاهب الغالب وتشبّهت به وذلك هو الاقتداء، لذلك ترى المغلوب يتشبّه أبدا بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه بل وفي سائر أحواله، وما ذلك إلّا لاعتقادهم الكمال فيه"[2]. فليس ثمة تحول اجتماعي تاريخي في الوطن العربي، إلا بشق طريق الاستقلال التاريخي الذي من شأنه أن يدفع بالعقل السياسي العربي إلى إنتاج فكر سياسي مطابق لإيقاع البنيات التاريخية، ومستجيب للسيرورة الاجتماعية والتاريخية للعالم العربي، بدل البحث عن حلول من خلال المطابقة والتوفيق والاقتباس.

فما يهمنا في ما عرضناه، هو النتائج السياسية التي ترتبت على عملية "التأويل" وعامل "الهيمنة الكولونيالية" اللذين أديا كلاهما إلى حدوث معضلة في الفكر السياسي العربي، بدت جليا على مستوى الممارسة السياسية النظرية والعملية في سياق الحديث عن الفكر الإصلاحي العربي المعاصر، فكان من الأهمية بمكان بيان حقيقتها وبواعث كونها، ودورها الفاعل في ظهور مفارقات من قبيل: "غياب المجتمع المدني وظهور مفاهيم السياسة الليبرالية"[3]، ظهور الدولة الحديثة في ظل نظام حكم سياسي تقليدي قائم على الملكية وإمارة المؤمنين مثلا..."التأويل وغياب النقد التاريخي"[4]، حيث يبدو من الصعوبة بمكان الحديث عن التأويل في غياب ما يسمى بالنقد التاريخي، بل إن محض النظرة النقدية المتيقظة، تكشف اللبس الكبير الواقع بشأن مثل هذه المفارقات، بالرغم من شيوعها وانتشارها، باعتبار الجهاز المفاهيمي الذي يصلح لواقع مجتمع معين، لا يصلح بالضرورة لواقع مجتمع آخر. على هذا النحو يمكن اعتبار النقد التاريخي آلية فعالة وهادفة تساهم بشكل أو بآخر في تقرير مسألتين أساسيتين: إما أجْرَأَة المفاهيم وتبيئها لتُحدث تأثيرها التاريخي، أو الحث على ضرورة تفكيك وهدم وتقويض هذا الفكر السياسي الذي يقتبس من الخارج، من أجل إعادة بناء فكر سياسي عربي ينطلق من الداخل ويراعي للخصوصية، بهدف تحقيق النجاعة المنشودة؛ ذلك أن تخطي وتجاوز التأخر التاريخي لا يتحقق بالاقتباس فقط من القيم والأفكار الغربية سياسية كانت أو ثقافية أو حتى فكرية، بل يتحقق بالحس النقدي والوعي بفرق السياقات.

لا ينبغي أن يفهم من قولنا أننا أمام دعوة للرفض المطلق للغرب ولمنظومة الفكر السياسي الليبرالي؛ لأن ذلك يعد انتحارا حضاريا، ولا يجب أن يفهم أننا أمام دعوة لتديين السياسة أو لتسييس الدين؛ لأن ذلك سيفرغ السياسة من مدَنيتها والدين من قدسيته، حيث لا عقائد راسخة من حيث المبدأ في السياسة، بل إن ما ينبغي فهمه واستيعابه هو أن المجتمع هو الذي يجب أن ينتج فكره السياسي لتحقيق الفعالية والتأثير وكذا النجاعة المطلوبة. يبدو لنا أن هناك هوة عميقة بين تصور النخبة لنموذج المجتمع الذي تريد أو النظام السياسي الذي تسعى إليه، وبين تصور المجتمع للنموذج الذي يريد أن يكون عليه أو عن نموذج الدولة التي يريد. فما أحدث تأثيرا إيجابيا ونجاعة في الغرب الأوروبي هو شبه إجماع النخبة – المفكرون السياسيون- والمجتمع على النموذج المجتمعي المنشود، بل إن المجتمع هو الذي نتج فكره السياسي، بالمعنى الذي تنطوي عليه فكرة أن مفاهيم السياسة الليبرالية هي انعكاس لطموح الشعب الأوروبي ولإرادته السياسية خلال فترة تاريخية، بينما في السياق العربي هناك خلاف واختلاف عميقان وعدم اتفاق تام حول المجتمع النموذج. فلا بد من تشييد بنيان فكر سياسي عربي يعبر عن الهموم السياسية والاجتماعية للمجتمعات العربية، وليس عن هموم النخب الفكرية السياسية. من الممكن جدا أن يكون طموح النخب يتجاوز بكثير طموح الشعوب، ولا يتوافق مع واقع المجتمع العربي، أو العكس تماما. على هذا النحو يمكن القول، إن الممارسة السياسية في الوطن العربي لا تعكس الارادة السياسية للشعوب، إنما هي انعكاس لإرادة النخبة السياسية. لذلك، وإضافة إلى ما أنفنا ذكره، يغيب التأثير فتغيب معه النجاعة والفعالية إلى جانب فاعلية الأفراد السياسية. وعليه وجب الأخذ بعين الحسبان أن للمجتمع رأي سياسي لا يقل شأنا عن شأن النخب، إذ يتبين في أكثر من حديث أن الفكر السياسي العربي متخلف نوعا ما عن إرادة الشعوب السياسية، بل والأكثر من ذلك، يبدو أن المفكرين السياسيين العرب المعاصرين لا يفطنون للتحولات الاجتماعية التي طرأت وما برحت تطرأ على مجتمعات الوطن العربي، يمكن تفسير ذلك بإيقاع هذه التغيرات والتحولات التي تنحو نحو التجلي على نحو بطيء، لكنها ظاهرة لمن يريد أن يرى بعيون ناقدة متيقظة.

لقد ظل العقل السياسي العربي في إطار الحديث عن الفكر الإصلاحي العربي المعاصر، يعاني من قصور وانعدام التأثير والفعالية الإجرائية، في سياق بناء هذه المفارقات العائدة في أسها، إلى غياب المعالجة التاريخية النقدية لمنظومة الفكر السياسي الليبرالي، فيما يتعلق بعملية التأويل التي ارتبطت أيما ارتباط بفكرة المماثلة والمطابقة: بين مفاهيم السياسة الليبرالية ومفاهيم الإسلام السياسي، دون مراعاة السياق النظري التاريخي الذي اجتثت منه هذه المفاهيم أو تلك؛ فضلا عن إيمان الإصلاحيين أن مشروع الاصلاح لا يتحقق إلا على قاعدة الإسلام الذي يصلح لكل زمان ومكان؛ بيد أن افتقار رؤية الإصلاحيين للتأصيل ولليقظة النقدية والوعي التاريخي بفرق السياقات، جعل أمر العودة للتراث السياسي الأوروبي - الحديث والمعاصر- والتعويل عليه، أمرا مضعفا ومقوضا لتماسك رؤية الفكر الإصلاحي وخطابه، بل ومعطلا حتى لبنيته كفكر سياسي عربي.

[1] عبد اللطيف، كمال. التأويل والمفارقة نحو تأصيل فلسفي للنظر السياسي العربي، الطبعة الأولى. (المركز العربي الثقافي، 1987). ص 113.

[2] ابن خلدون، ولي الدين عبد الرحمن بن محمد. مقدمة ابن خلدون، الطبعة. دمشق (دار يعرب، 2004). ص184

[3] عبد اللطيف، كمال. التأويل والمفارقة نحو تأصيل فلسفي للنظر السياسي العربي، الطبعة الأولى. (المركز العربي الثقافي، 1987). ص 112

[4] عبد اللطيف، كمال. المرجع نفسه، ص 114