حقوق الإنسان بين الكونية والمحلية: في ضرورة التأصيل الثقافي للمفهوم لبنى


فئة :  مقالات

حقوق الإنسان بين الكونية والمحلية:  في ضرورة التأصيل الثقافي للمفهوم   لبنى

حقوق الإنسان بين الكونية والمحلية:

في ضرورة التأصيل الثقافي للمفهوم

تقديم

أثار مفهوم حقوق الإنسان جدلا لا يستهان به في الفكر والممارسة على كافة الأصعدة أكانت محلية، إقليمية أو عالمية، ومازال الموضوع يعرف شجونا واستفسارات تكاد لا تنفك عن التناسل إلى الوقت الراهن؛ فضلا عن كونه موضوعا ينطوي على جدلية الكوني والمحلي أو الخصوصية والعالمية إن صح القول. لئن كانت الأخيرة ها هنا تختلف من حيث المفهوم عن الكونية، إلا أن العلاقة الجدلية بينهما تظل قائمة رغما عن ذلك، سواء تعلق القول بالكونية أو العالمية؛ كلا المصطلحان مثيران للسجال المحلي. إنها إشكالية رغم الخوض فيها بحثيا، لم تُغَطَ قضاياها بمقاربات نقدية جادة بعيدا عن أي نزعة إيديولوجية عمياء؛ حيث عرفت مقولة حقوق الإنسان في العقود الأخيرة توظيفا إيديولوجيا واسعا جعل أصول المفهوم وغاياته تتوارى وتغيب على نحو مضطرد.

ليس من العجيب أن تُهاجَم الكونية ردّا لاعتبار الخصوصية، وهو ما ليس من غير المعقول، كما ليس من غير المشروع أن يتم الطعن في الخصوصية باسم الكونية. قد يلزم بالضرورة على عالمية حقوق الإنسان أن تشمل دعائم كل الخصوصيات الثقافية لتحقيق أوسع وأعمق إجماع عالمي حول مبادئها، وإلا ستبقى قاصرة حتى لو كانت تقوم على قدر من الإجماع العالمي الرسمي الذي تزعم بمقتضاه أنها حقوقا لم تكن وصفا لخصوصية تاريخية معينة، بقدر ما هي ارتفاع بالواقع إلى ما يجب أن يكون، وهو بالذات ما يعني معيارية حقوق الإنسان؛ فسواء تعلق الأمر بالمعيارية أو العالمية أو حتى الكونية، فإن الإشكال يبقى بالنسبة لنا هو نفسه.

لقد استدعى المبدأ المعياري، هذا بشكل أو بآخر وعلى نحو مباشر، التفكير في مسألة التأصيل الثقافي للمفهوم، عليه تكون معيارية حقوق الإنسان تنم ضمنيا عن جدلية المثالي والواقعي، باعتبارها جدلية بين الكوني والمحلي، تعكس علاقة دياليكتية بين الحقوق المثالية المجردة والحقوق الواقعية المعيشة. هذا الأمر، هو الذي تطلب منا التساؤل عن مكامن المفارقة عند الخوض في الحديث عن حقوق هذا "الإنسان" الكوني المجرد من أي اعتبار، في ضوء وعينا بمسألة انعدام إنسان مجرد على المستوى الواقعي. بما أن ما هو موجود، يبقى الإنسان بوصفه كائنا ثقافيا لطالما وجوده لا يتحدد من منطلق مفاهيمي خالص؛ أي من منطلق ذاتيته ووجوده الثقافي والاجتماعي الذي يجعل منه "إنسانا" محليا بالضرورة الأنطولوجية الاجتماعية. على أن فكرة "عالمية" حقوق الإنسان لا تشمل مجموع الثقافات المحلية بالعالم على نطاق واسع، في كونها لا تعكس العالمية الحقيقية المزعومة.

أولا: الحق في الحقوق وفكرة أولية الحق على كل تصور للإنسان

يعد الإنسان وحده الكائن الذي يتمتع بالعقل وملكة النطق والقدرة على الاختيار، والتمييز بين الخير والشر وبخاصية التفكير التي تميزه عما عداه من الكائنات والموجودات غير العاقلة، وهو الذي يمنح الإنسان عن غيره الحق في الحقوق، بل إن ما يجعله يبرهن على أحقيته في الحقوق ذاتها هو العقل وقدرته على التفكير نفسهما؛ ذلك أن الكائنات الأخرى غير العاقلة ونقصد بها الحيوان على وجه التحديد، هي أكثر الكائنات خضوعا لسيادة الإنسان، حيث لا تحظى بشرف السيادة على البشر. ليس ثمة كائن غير الإنسان طمح إلى تسخير الطبيعة وجعلها تحت سيطرته من أجل خدمته إلا الإنسان، إذ كان طموحه هو السيطرة على الطبيعة، فكانت الكائنات غير العاقلة جزءا لا يتجزأ منها؛ فمن غير المنطقي أن تسند السيادة للحيوان في حضرة الإنسان الكائن العاقل؛ "إننا لا نقول عن أحد أنه سيد إلا على ما يخضع لسلطته. فإذا لم تكن لي سيادة أقول: ليس في قدرتي ولا في استطاعتي. والحال أن الحيوان لا يتحرك من تلقاء ذاته، وإنما يُحرَك كما يقول القديس توما الأكويني، لهذا فلا سيادة له."1

قد يتم القطع والحسم في هاته المسائل نظريا، إذا ما نحن فكرنا فيها بصورة عقلانية ومنطقية بعيدا عن أي شائبة، لكن إذا ما فكرنا فيها من داخل خصوصية ثقافية معينة، سيغدو من الوارد جدا أن يكون ما يناقض هذا التصور. إذا عدنا على سبيل المثال إلى "مذهب الاكتساب الحتمي"2 مع الأشاعرة، ونعني بها فرقة المتكلمين الأشاعرة المنتسبة إلى أبي الحسن الأشعري (874-936هـ) "نجد أن أفعال الإنسان هي أفعال مخلوقة تعود في الأصل إلى الله؛ يأتي الفعل الواحد من فاعلين اثنين أحدهما يخلقه وهو الله، والثاني يكتسبه وهو الإنسان. ومن جملة ما ينطوي عليه هذا التفسير، أن الله هو فاعل أفعال البشر والبشر هم وسائل فعلها في الواقع: بما معناه أفعال البشر تعود جميعها إلى الله، والانسان يكتسب القدرة والارادة لفعل هذه الأفعال، هي إذن من إرادة الله".3

يُستنتج أن حتى الإنسان يحرَك ولا يتحرك من تلقاء نفسه وإرادته، يعني أنه خاضع لإرادة الله؛ فهو محرَك أو لنقل مسير بالمفهوم التيولوجي. وعلى غرار منطق "توما الأكويني" لا سيادة له هو الآخر. فلا يمكن أن نقول عنه سيد، وهو يخضع لإرادة أعلى من خاصته، ومنها، يظهر لفكرة السيادة في علاقتها بأحقية الإنسان في الحقوق ما يفندها في الثقافة الإسلامية، اللهم إذا كان مفهوم الطبيعة أعلاه قد جاء مرادفا لكلمة الله كما هو الحال مع الفيلسوف "اسبينوزا" الذي ينظر إلى الله على أنه الطبيعة، بالقول في كتابه "حول الله والانسان ورفاهه" إن الله هو الطبيعة والطبيعة هي الله. عما إذا وفقط كانت الطبيعة هي نفسها الله يجوز لنا القول إن للإنسان سيادة عليها من ناحية تسخيرها لصالحه، غير أن المفهوم هنا يختلف كلّيا من جهة اسبينوزا. رغم ذلك، يظل مفهوم الطبيعة بالنسبة إلينا غير واضح المعالم كلها في خضم هذا المضمار، يكتنفه الغموض من نواح عديدة حتى لو كان واضحا وبديهيا من جوانب أخرى.

يمكن الاتفاق مبدئيا على أن الإنسان له الأحقية في الحقوق بوصفه كائنا عاقلا ومفكرا، كما يمكن الاتفاق أيضا على كون فكرة الحق لها أولية على كل تصور للإنسان، لا سيما إذا كان التصور ينطلق من الإيمان بالطبيعة والإنسان كما صنعته هذه الأخيرة وأعدته ليكون حرًّا. باعتبار الحق على منوال هذا المنظور يحدد صفة الإنسان، وينظر قبل كل اعتبار إلى المعطى العام الموجود والمشترك في كل إنسان من حيث هو، بصرف الانتباه عن الطريقة التي يمكن تصوره بها وبقطع النظر عن كل اعتبار ثقافيا كان أم محليا، لكن إذا كان وجود الإنسان يتعين من منطلق ذاتيته ووجوده الثقافي والمحلي، فلن يكون من العدمية الحديث عن إنسان مجرد من أي اعتبار باسم العالمية أو الكونية؟

لعل الحديث يستحيل كما يقول هيثم مناع: "عن عالم الزي الموحد واللغة الموحدة والمطعم الواحد والفن الوحيد النغم والمعطى المشترك الموجود باسم العالمية مهما كانت خصائلها. فدراسة النفس والفرد تظهر إلى أي مدى يختلف الأفراد، وبالتالي صعوبة معالجة المرض نفسه بالطريقة مثلها عند شخصين من بيئة واحدة، فكيف الحال في اختلاف البيئة والمحيط الاجتماعي والفضاء الثقافي"4 كما يبقى النظر للإنسان المجرد على غراره مستحيلا. حتى فعل الإدراك نفسه: إدراك الإنسان للإنسان وإدراك الإنسان لنفسه لا يتأتى إلا بإخضاع فعل الادراك لمعطى الزمان والمكان الذي يتعين عند أحد جوانبه في السياق الثقافي، الذي لا يمكن عزله ولا فصله عن أي اعتبار من الاعتبارات المذكورة في كل عملية إدراكية وحسية للعالم.

وهذا ما سنناقشه بإسهاب في إجابتنا عن السؤال التالي: هل ثمة إمكانية للعثور على نقاط تشابه بين منظومة حقوق الإنسان العالمية ومجموع الثقافات في العالم؟ لنعيد طرح السؤال بعبارة أخرى، هل عالمية حقوق الإنسان تشمل كل قيم الثقافات الموجودة في العالم؟ ثم هل يمكن القول فعلا بكونية حقوق الإنسان وعالميتها؟

ثانيا: حقوق الإنسان من منظور الكونية

لعل أبرز ما يميز عالمية حقوق الإنسان هو ذلك الطابع الكوني الذي يسم كل الحقوق، ومن تم كان لابد لمصطلح "عالمي" الذي يقترن بالمسمى إعلان حقوق الإنسان (أي الاعلان العالمي لحقوق الإنسان) أن يفيد "انطباقه على مطلق إنسان لأنها حقوق واجبة للإنسان من حيث هو، وبلا تمييز على أساس الجندر أو الدين. هذا يعني أيضا، انطباقها على كل الأفراد والجماعات بحسب مقتضى الحال"5. إنه مفهوم قائم بموجب القوانين الدولية السارية التي منحته صفة الشمولية، على إثرها أصبحت الحقوق المعنية حقوقا للناس كافة.

لم يكن الدين ولا الثقافة، كنتاج للحضارة الإنسانية، المرجعية الكلية "العالمية" لحقوق الإنسان من منظور البعض، بل إن التأسيس يعود إلى مرجعية عقلية مستقلة تتجاوز حدود الدين والثقافة والتاريخ وتعلو على الزمان والمكان. تعتبر مرجعية ترتكز في أسها على مبدأ القول بالتطابق بين نظام الطبيعة ونظام العقل، وافتراض ما أسموه فلاسفة أوروبا خلال القرن الثامن عشر بحالة الطبيعة. وفي مسار التطور الفكري تبلور مفهوم خاص للطبيعة، تحديدا بعد تقدم العلم الحديث خلال القرنين السادس والسابع عشر، فأضحى معناها إبان القرن الثامن عشر يشمل لا الأشياء الجامدة المعروضة أمام الإنسان وحسب، بل النظام العقلي للأشياء بوصفه نظاما كليا يحتضن كل ما في الطبيعة بما في ذلك الإنسان. ونتيجة ذلك، أضحى الناس يطابقون بين ما هو طبيعي وما هو عقلي6. ومن تم باتت حقوق الإنسان حقوقا طبيعية، باعتبارها صادرة عن العقل الطبيعي نفسه –أي إن العقل يفترض وجودها لدى كل فرد- بما أن الإنسان جزء من الطبيعة كنظام كلي شامل. وتأسيسا على ذلك تكاد حقوق الإنسان تكون الحقوق الطبيعية التي يعرفها الفيلسوف "طوماس هوبز" بأنها "الحرية الممنوحة لكل إنسان لاستخدام قواه الخاصة من أجل الحفاظ على حياته الخاصة، وبالتالي حريته في أن يفعل أي شيء يكون في تقديره، وأن يتصور عقله أنه أنسب الوسائل لتحقيق هذه الغاية. ويبقى حق البقاء أو المحافظة على الذات، هو الجوهر الذي ينبع منه كل حق آخر، أساس عقلي يعمد نفيه في الحال أو رفضه إلى الوقوع في تناقض كلي، وبالتالي هو مسلمة أساسية يبدأ منها كل إنسان سليم العقل"7.

كانت الغاية من هذا التأسيس الذي يستند في جوهره إلى العقل، والذي قُدم ويُقَدم عادة على أنه مرجعية عقلية كلية ومستقلة بذاتها، أساس التأصيل لحقوق الإنسان من منطلق مرجعية تبرر نفسها بنفسها وتضع نفسها فوق التاريخ، مما يضفي عليها خاصية الكونية والشمولية، بل وحتى العالمية من منظور فلاسفة أوروبا.

هذا ما ننافح عليه بالتحديد، وهو عين ما يبرهن على لا واقعية حقوق الإنسان ومثاليتها، لا ويؤكدها بجلاء. إذا كانت مرجعتيها مرجعية متعالية ومستقلة على معطى الزمكان، فإن المفارقة وكما ورد على لسان العالم الفزيائي "ألبرت إنشتاين" هو كون الإنسان "جزءا من الكون؛ جزءا محدودا في الزمان والمكان"8، عليه يبدو أي تأصيل لحقوق الإنسان كان خارجا من حيث المبدأ والنظر عن معطى الزمكان هو بالفعل خارجا عن الإنسان بوصفه جزءا محدودا ضمن هذا المعطى. وحتى إن كانت كونية الحقوق تستند مشروعيتها على حالة الطبيعة، كما يزعم فلاسفة الفكر السياسي الحديث في أوروبا، التي تمثل حالة سابقة عن التنظيم الاجتماعي والسلطة السياسية. كما قد سعى من قبل الفيلسوف الانجليزي "جون لوك" إلى جعلها تتخذ شكل الصورة التي تجعلها قابلة، لتكون مرجعية تؤسس لعالمية حقوق الإنسان فضلا عن كونها حالة مساواة وحرية مطلقة بين جميع الأفراد، غير أنه بالرغم من وجود هاتين القيمتين (المساواة والحرية الطلقة) كان لا بد لنا أن ننظر من جهة أخرى إلى كيفية حؤول اللامساواة في القوة الفزيوية بين الفرد وحقه في الحياة، بل وحريته في التصرف؛ فلا يمكن للضعيف أن يتمتع بحريته لطالما الحق يتأسس على القوة مثلما صدر عن "توماس هوبز" بغض النظر عن "جون جاك روسو" الذي يقف من موقفه موقف النقيض. فما لبث الحق في العيش بحرية ينعم به القوي على حساب الضعيف. أما القول بالمساواة بالمعنى الذي ورد عن لوك، فلا يمكن اعتباره صحيحا بالنظر إلى القوة. إن الحياة كلها سواء في الحالة الطبيعية أو المدنية قائمة أساسا على مفهوم القوة؛ إذا كنت قويا أنعم بالاحترام أما في حال كنت ضعيفا، أسقط أنا ويسقط حقي وحريتي معي، ومما لا شك فيه أن تسقط محليتي وقيم ثقافتي معي سقوط المغلوب على أرض الحلبة. لعل المبدأ عام أن صراعات المصالح بين الناس تسوى باستخدام القوة، وهذا ينطبق على مملكة الحيوان بأسرها، شأن المملكة التي لا يمكن للناس استبعاد أنفسهم عنها.

يقول سيغموند فرويد في هذا المقام: "كبداية كانت القوة العضلية الأكثر تفوقا هي التي تقرر من يملك الأشياء وإرادة من هي التي تسود، وسريعا ما أضفيت إلى القوة العضلية واستعيض عنها باستخدام الأدوات. فالفائز هو من يملك الأسلحة الأفضل أو من يستخدمها بطريقة أكثر مهارة. تلك إذن الحالة الأصلية للأمور: سيطرة من يملك القوة الأكبر. وفي مسار الارتقاء، أفضى الطريق إلى حقيقة أن القوة المتفوقة لفرد يمكن منافستها باتحاد قوى ضعيفة متعددة، فتصبح قوة أولئك الذين اتحدوا هي التي تمثل القانون. وهكذا نرى أن الحق هو قوة الجماعة"9.

يراد للفهم من هذا المتن التحليلي أن يصيب القوة المتصاعدة للثقافة الغربية والأمريكية تحديدا، لولاها ما عرف مفهوم حقوق الإنسان هذا شيوعا ولما طفى فوق سطح العالمية؛ باعتبار أمريكا القوة السياسية والاقتصادية والثقافية المهيمنة على العالم بكامله، إن لم نقل إنها القوة التي تقدم نفسها ويُنظر إليها عادة على أنها النموذج الأمثل للدولة الديمقراطية الليبرالية الذي تتطلع باقي الدول إلى إرساء مرتكزاته. فسوف لا نتردد في انتقاد الطابع الغربي لحقوق الإنسان كما تمت صياغته في الإعلان العالمي الصادر عن الأمم المتحدة، والذي يعكس منظومة حقوق الإنسان بوصفها منظومة ليبرالية في الجوهر.

تعد منظومة أقل ما يقال عنها في سياق سجالنا عن الكوني والمحلي، أنها تتعارض مع بعض مبادئ وأسس الخصوصيات الثقافية الأخرى، بالأخص المجتمعات العربية، التي ما فتئت تفتقر لمفهوم الفرد وتحول نظمها دون نشوء مفهوم الفردانية الذي يعتبر لُباب كل فكر ليبرالي. ماتزال مجتمعات يحكمها وعي مشترك يوحد الأفراد داخل الجماعة الواحدة، على أن نمط الحياة داخل الجماعة يختلف كثيرا عن أنماط الحياة ضمن المجتمع الليبرالي الحديث؛ هو نمط تبدو فيه حياة الفرد غير مستقلة عن الجماعة، بما أن الأفراد لا يمكنهم التحرك باستقلال تام عنها. من تم يعد نمطا تتخلله تبعية تؤسس للعيش المشترك والحياة المشتركة إلى حد لا يستطيع الفرد أن يعيش حياته إلا داخل مجال يؤطره وعي جمعي. لعلها إحدى السمات التي تتعارض مع المنظومة الليبرالية الغربية لحقوق الإنسان، والتي غدا الفرد بمقتضاها متمتعا باستقلالية كاملة ومجال خاص يخول له التمتع بحريته الفردية وحقوقه المدنية دون قيد أو رادع.

ثالثا: حقوق الإنسان من منظور المحلية

دأبت مقاربة الإشكال إلى الكشف عن المفارقات التي يتضمنها مفهوم حقوق الإنسان، على الأقل في إطار إشكاليتنا المعلنة. فلا ينبغي بحال أن يفهم من لفظ "عالمية" أن مبادئ حقوق الإنسان قد شملت قيم الحضارات الإنسانية والثقافات جميعها، فإنها على عكس ما يُزعم، ظلت بمنأى عن أي تأصيل ثقافي للمفهوم الذي من شأنه تحقيق العالمية الحقيقية المنشودة. لعل ذلك يدعو إلى ضرورة خلق حوار بين مختلف الثقافات في أفق تحقيق أوسع وأعمق إجماع حول أسس المفهوم ومبادئه، شريطة أن يكون هذا التأصيل يراعي في صميمه للتعددية الملازمة للثقافة أو المحلية في سبيل جعل عالمية المفهوم تستجيب في الآن نفسه لمبادئ الثقافات المقصية والمهمشة، وكذا سيرورة تطورها على مستوى منظومتها القيمية، التي هي نتاج لسيرورة اجتماعية وتاريخية لا يجوز وأدها بأي شكل من الأشكال مهما كانت المآرب.

فلا بد إذن وأن يستوعب مفهوم حقوق الإنسان الخصوصيات الثقافية للمجتمعات التي بقيت غير مستساغة؛ لم تحظ قيمها باستيعاب تام، بالأخص قيم الثقافات الشرقية التي ما تزال تنظر لمبادئ حقوق الإنسان نظرة مشككة. والسبب كما هو معلوم، واضح لا يتطلب منا اجتهادا كبيرا، على الأقل في حدود ما اطلعنا عليه في هذا الشأن، كونه مفهوما يُسَوغ لشكل جديد من أشكال الهيمنة الغربية ويمثل مظهرا آخرا من هيمنة وسيادة قيم الغرب الأوروبي على منظومة القيم الشرقية، وهو ما يثير القلق في نفوس الغالبية خاصة بعد تداعيات الصدمة الكولونيالية التي ما برحت تكرس في نفوس الناشئة حقدا دفينا للغرب وثقافة الميتروبول على نحو شامل.

والحال أن قلقهم هذا مشروع وليس حالة عصبية كما نعتها "عبد الله أحمد النعيم" في مقالته عن "عالمية حقوق الإنسان من خلال الخصوصية الثقافية"، لكنها "عُصابية" من منظور علم النفس الاجتماعي، وآلية دفاعية ضد كل ما يهدد هويتنا كأفراد داخل جماعات. فكثيرا ما يوَلد عندنا القلق الهوياتي حيال ما يهدد شعور الانتماء والأصل المشترك. يعود ذلك أساسا إلى النظرة الإيديولوجية الغربية الصارخة عن الاسلام –لطالما اكتسبت المجتمعات الشرقية جل قيمها منه كدين إلى أن أصبح يتخذ أبعادا ثقافية وأنطولوجية مرات عديدة من دون مبالغة- والتي ظلت مستمرة على الدوام، مما جعل الشرقيين يدعمون قلقهم هذا ويعززون خوفهم "بازدواجية المعايير والمعاملة التي يلمسونها في سياسات وسلوك حكومات الدول الغربية والإعلام الغربي بصورة عامة. وعادة ما يأخذ المسلمون هذا العداء وهذه الازدواجية كدليل على غياب الالتزام الصادق مع قيم حقوق الإنسان نفسها، وعلى غياب سيادة حكم القانون."10

يتوجب علينا بناء على ما جاء في هذه المقاربة، عدم الحكم على قلق دعاة المحلية حكما معياريا ملغما، فلو كان الأمر نفسه في الغرب الأوربي مثلا، وإذا ما كان مفهوم حقوق الإنسان عينه مفهوما آتيا من الشرق، ليتعامل معه الغربيون بتوجس شديد وقلق يفوقان أضعافا مضاعفة القلق والخوف الذي صدر وما لبث يعتري الثقافات الشرقية أو لنقل الإسلامية في أشخاصها. ما برحنا نتذكر مظاهر القلق والفوبيا اللذين صدرا عن بعض الدول الأوروبية ومنها فرنسا، حينما طرحت قضية هجرة المسلمين إلى دول أوروبا إشكاليات عديدة من مثل إشكالية الهوية والغيرية. عندها، غدا سؤال الهوية يطرح بقوة في أوساط أوروبا، بما أن إقبال المسلمين عليها بدأ يعرف تزايدا وارتفاعا كبيرين بعثا على ظهور خطاب جديد يحذر من مخاطر الدين الإسلامي في المجتمع الفرنسي.

فاحتدم النقاش عن تجليات ومرئيات الإسلام داخل الفضاءات العامة، كأنها مرئيات معارضة لمعتقدات الفرنسيين الدينية والثقافية المشكلة للهوية الفرنسية: المساجد، صلاة الجمعة، الحجاب الذي كان يحمل لدى غالبية الأوروبيين وليس فقط الفرنسيين معنيين اثنين: الرمزية التفاخرية والعزل الجنسي، ثم نظر بعضهم إلى القوى التقليدية حاملة لواء الشريعة وتحجيب النساء داخل أوروبا كهجمة ترفعها قوة الإسلام الوافدة من أرض المسلمين؛ أي كواقع متحقق عندهم. فبرزت النتيجة الفعلية لذلك في تحجيم مرئية الإسلام من خلال منع حمل الرموز الدينية داخل الفضاءات العامة من أجل التخفيف والتقليل من مظاهر «الإسلاموفوبيا» التي اجتاحت المجالات العامة لدول أوروبا.11

هذه المرئيات تحدد بجلاء بعض مظاهر القلق الهوياتي الذي غزا الأوساط الأوروبية برمتها، فيتوجب إذن أخذها بعين الحسبان، على أن لا ينبغي النظر إلى حاملي لواء الخصوصية نظرة الإنسان الرجعي المتخلف، لئن كُنا "متخلفون"، يظل التخلف جزءا لا يتجزأ من ذات الخصوصية التي تميز مجتمعاتنا الشرقية عما عداها؛ لهي نظرة مثقلة بحكم غربي على نموذج الشرقي. فليس أي دفاع عن الخصوصية هو في الحقيقة دفاع من أجل تبرير انتهاك حقوق الإنسان. ليس ثمة جواب مُحمل بعبء إيديولوجي أعمى غير هذا الذي يقدم مرارا وتكرارا وتصادفه أعيننا بشكل متكرر في الصحف والمجلات والكتب والمقالات. منذ متى أصبح الدفاع عن الخصوصية الثقافية أو أي دفاع عن المحلية كان، هو دفاع تحركه دائما بنى وخلفيات إيديولوجية ما؟ إن لكل ثقافة خصوصية لا ينبغي طمسها بتاريخيها الطويل العريض باسم قيم يراد لها أن تكون عالمية وكونية على حساب أخرى. يكاد حديثنا هنا كما كتب "كلود ليفي ستراوس" أن يكون "عن ظاهرة وضع العالم في بوتقة أحادية اللون قائلا: تتقولب البشرية على الثقافة الأحادية وتعد نفسها لإنتاج الحضارة بالجملة (أو بالجمع) كما هو حال الشمندر؛ إذ لن يحتوي صحنها اليومي فيه على وجبة غيره. ملاحظة ستراوس هذه، قد صدرت عنه كعالم أنثروبولوجيا وليس عنه كرجل سياسة."12

عندما نتحدث عن الثقافة في سياق هذا العنصر، يجدر بنا أن نفهم منها وبصورة عامة "مجموع قيم وأعراف ومؤسسات وأنماط السلوك المتناقلة جيلا عن جيل في إطار المجتمع، وهي أيضا تمثل القيم والأعراف والمعتقدات التي تربط بين أعضاء المجتمع كأفراد وجماعات وتخلق بينهم أواصر الانتماء لكيان واحد، لهي بحكم طبيعتها هذه، تحتوي بالضرورة على قدر كبير من التنوع والتعددية؛ لأنها تستجيب لحاجات المجتمع ككل وحاجات أفراده وجماعاته المختلفة في آن معا."13

هكذا يظهر على نهج هذا التحليل، إن مفهوم ومبادئ حقوق الإنسان لن تنشد العالمية الفعلية إلا إذا كانت مثل الثقافات المحلية تستجيب لحاجات المجتمعات ككل وحاجات أفراده وجماعاته المختلفة في آن واحد، فعالميتها لن تطال الحيز العملي إلا إذا كان مفهومها قادرا على الجمع بين خصوصية الثقافات المحلية وبين الاتساق والتجانس من ناحية، والتعددية والتنوع من الناحية الأخرى، ما سيجعلها حقوقا تحتكم لمبدأ الواقعية العالمية إن صح التعبير.

على سبيل المثال، ثمة حقوق ينص عليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تتعارض كلية مع القيم السائدة في بعض المجتمعات ومنها الاسلامية كالحق في حرية الضمير والاعتقاد أو الحق في الحرية الجنسية والخصوصية. فكل الحقوق المنصوص عليها في الاعلان العالمي، هي حقوق، جلها، لا تستوعبها خصوصية الثقافة الإسلامية، وحتى الإسلام الذي تستقي الثقافة الشرقية منه منظومة قيما وأنماطها السلوكية.

يلزم التشديد ها هنا والحالة هذه على الإسلام بمعناه الثقافي الذي تشترك فيه الثقافات الشرقية جميعها، حيث أبرز السمات والخصائص المشتركة بين كل المجتمعات الشرقية هي ملامح مرتبطة في جوهرها بالإسلام والثقافة الإسلامية بشكل عام، باعتبارها خواص تحظى بتجاوب وتفاعل الثقافات العربية على نحو مماثل حتى غير المسلمين منهم.

فإذا كان في القرآن ما يمنع المرء من حرية الاعتقاد كالآية 19 من سورة "آل عمران": "إن الدين عند الله الإسلام" حتى لو كانت هنالك آية تقول بـ: "لا إكراه في الدين" (سورة البقرة 256). وأخرى تقول: "قل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"(الكهف: 29). فلا يجب أن نصرف النظر عن الجزئية الثانية من هذه الآية الأخيرة والتي تتوعد الظالم وتترصد له عذاب النار: "وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا اعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا"(الكهف: 29).

أما إذا عدنا إلى الآية القائلة "بلا إكراه في الدين"، فإن هناك آيات أخريات لا تقر بحرية الضمير في الثقافة الاسلامية منها نجد الآية 29 من سورة التوبة: "قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ." أما الثانية فهي الآية 5 من نفس السورة: "فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ"(التوبة: 5). أما الدليل الثالث فيمكن الاحالة إليه من خلال هاته الآية: "ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين"(آل عمران: 85).

إذن ألا نرى أن معيار القول بحقوق الإنسان يجب أن يقاس بحرية الاعتقاد أو الضمير؛ هكذا قد نذهب إلى القول: إن هذه الأخيرة هي التي تؤسس جوهريا للحق في الحرية كشرط أول، غير أن الأمر يبقى غير ممكن في هذا المقام بما أن "الديني" يقع في صميم "الثقافي" ويشكل مفاصله الرئيسية، ويبرز ذلك في تصور المجتمعات الشرقية لذاتها من خلال الدين وعن طريقه. لهذا، يستحيل علينا استيعاب عالمية هاته الحقوق دون أن تكون مستساغة لدى الناس كافة. بالتالي ورد الإقرار على ضرورة خلق حوار بين الثقافات المختلفة في أفق مراعاة خصوصيتها المحلية، في سبيل تحقيق إجماع عن مبادئ مفهوم حقوق الإنسان تكون من صميم تلك الثقافات نفسها لتحقيق العالمية الحقيقية المزعومة. إن ما لدينا في الواقع، هو الإنسان العربي، الإنسان الافريقي، الإنسان المغربي، الفرنسي، الإنسان الياباني، الصيني... الأندونيسي... وهلم جرا، ليس أبدا الإنسان المجرد من أي اعتبار ثقافي أو محلي كان.

خاتمة

هكذا إذن وبناء على ما سبق، يجب أن تشمل عالمية حقوق الإنسان مختلف الثقافات المحلية المتعددة، ولا ينبغي بحال الركوب على موج الكونية في كل حديث عن حقوق الإنسان يؤول إلى وأد هوية الإنسان الثقافية أو طمس خصوصيته المحلية. فالتأسيس للحقوق على مبدأ التجريد من أي اعتبار، هو في جوهره انتهاك لهوية الإنسان الأم ولحقه في الانتماء المحلي. لذلك، وجب مراعاة هذا الحق الذي يتحدد على ضوئه واقع الإنسان ووجوده في نطاق الزمكان. ومن هنا وجب التأكيد على ضرورة خلق حوار بين الثقافات المختلفة في أفق مراعاة خصوصيتها المحلية، سعيا لتأكيد إجماع على مبادئ للمفهوم تكون من صميم تلك الثقافات عينها، في سبيل إرساء العالمية الحقيقية لحقوق الإنسان ؛ لأن ما عندنا في الواقع هو الإنسان بمختلف المرجعيات الثقافية والخلفيات الاجتماعية، وليس الإنسان المجرد من أي اعتبار هوياتي كان أو أنطولوجي اجتماعي.

 

لائحة المصادر والمراجع

1- سبيلا، محمد، بنعبد العالي، عبد السلام. حقوق الإنسان، الطبعة الأولى (الدار البيضاء: دار توبقال، 1997)، ص 12

2- هف توبي، فجر العلم الحديث: الإسلام-الصين-الغرب، ترجمة محمد عصفور، سلسلة علم المعرفة 2060 (الكويت: المجلس الوطني للثّقافة والفنون والآداب، 2000)، ص 129

3- المرجع نفسه، ص 129 

4- مناع، هيثم. الخصوصيات الحضارية وعالمية حقوق الإنسان، 2021. ص 3

5- النعيم، عبد الله أحمد. نحو عالمية حقوق الإنسان من خلال الخصوصية الثقافية (الكويت: دار سعاد الصباح، 1993)، ص. 18

6- سبيلا، محمد، بنعبد العالي، عبد السلام، لعريصة، مصطفى. في التأسيس الفلسفي لحقوق الإنسان، الطبعة الأولى (الدار البيضاء: دار توبقال، 2013)، ص207 

7- المرجع نفسه، ص 208.

8- Selon « The New York Times » (29 Mars 1972) et « The New York Post (28 Novembre 1972), cette citation provient d’une lettre écrite par Einstein en 1950

9- فرويد، سيغموند. أفكار لأزمنة الحرب والموت، ترجمة سمير كرم، (بيروت: دار الطليعة، 1977)، ص4-46

10- النعيم، عبد الله أحمد. نحو عالمية حقوق الإنسان من خلال الخصوصية الثقافية (الكويت: دار سعاد الصباح، 1993)، ص-25 ص-24

11- نيلوفر غول. مسلمون في الحياة اليومية تحقيق أوروبي حول المجادلة المحيطة بالإسلام، قراءة: ريتا فرح، (باريس: لاديكوبرت، 2015)، ص 310

12- مناع، هيثم. الخصوصيات الحضارية وعالمية حقوق الإنسان، 2021. ص15

13- النعيم، عبد الله أحمد. نحو عالمية حقوق الإنسان من خلال الخصوصية الثقافية (الكويت: دار سعاد الصباح، 1993)، ص 27