الفلسفة والديمقراطية: أبعاد العلاقة الممكنة


فئة :  مقالات

الفلسفة والديمقراطية: أبعاد العلاقة الممكنة

ماهي العلاقة الممكنة بين الفلسفة والديمقراطية؟ سؤال غير جديد، ليس من حيث صياغته، بل من زاوية الظرفية التي ولّدت ضرورة إعادة طرحه كذلك. وإذا كان التاريخ الثقافي الفرنسي بوجه خاص قد تميز، منذ القرن التاسع عشر، بانشغاله الدائم بعلاقة الفلسفة بالتربية، ودور الفلسفة في تحصين النظام الديمقراطي وخلق مواطنين إيجابيين، فإن بعض المنظمات الدولية، وعلى رأسها اليونسكو، قد اهتمت منذ نشأتها بموضوع تدريس الفلسفة وتعميمها داخل أنظمة "الثقافة والتربية والعلوم"، وإدماجها في البرامج التربوية والإعلامية بهدف توفير "تبادل ثقافي دولي، وخلق شروط تثاقف إنساني يعترف باختلاف الثقافات وتنوع الأنساق الرمزية والدلالية". هذا ما دعت إليه منظمة اليونسكو، منذ سنوات، من خلال استقصاء دولي حول علاقة الفلسفة بالتعليم ودور هذا النشاط الفكري الخصوصي في العملية الديمقراطية، إذ تمخض عن ذلك إصدار كتاب تحت عنوان "الفلسفة والديمقراطية في العالم"، وقد حرره الفيلسوف والصحافي الفرنسي روجيه بول دروا.

هل يمكن تصور دور ما للفلسفة في ظل التحولات الجارفة الجارية على الصعيد الدولي؟ وهل يحتمل منطق العولمة والنجاعة والمردودية الاقتصادية إمكانية إدخال هامش من التأمل والتفكير؟

يحضر هذا النمط من الأسئلة بشكل طاغٍ كلما تم التعرض إلى الفلسفة حقلاً للتفكير ومادةً للتدريس، ففي زمن الثورة المعلوماتية وهوس الربح والتسابق على المواقع لتأمين أكثر معاني المصلحة سطحيةً وتوحشًا، ماذا يبقى للفلسفة، بوصفها نمطًا خاصًا في النظر، من مشروعية ومن دور؟

يعد أصحاب كتاب "الفلسفة والديمقراطية في العالم"، وعلى رأسهم فريديركو مايور المدير العام السابق لليونسكو أن للفلسفة دورًا لا جدال فيه لسببين اثنين؛ الأول يتمثل في كون التراث الفلسفي العالمي يزخر بأدوات فكرية لا حصر لها، من شأنها أن تسعفنا على فهم التحولات الجارية أمامنا، ولا يتعلق الأمر بمطالبة الفلاسفة، في الماضي والحاضر، بتقديم أجوبة جاهزة بمقدار ما يتعين الرجوع إلى ذلك الخزان الهائل من الأفكار والمفاهيم الذي تقدمه للإنسان مختلف المذاهب الفلسفية حين تقترح علينا عناصر وأدوات لإعادة صياغة القضايا الراهنة بطرائق جديدة. وتمثل الفلسفة، من هذا المنظور، مدرسة حقيقية للحرية وحقلاً لتنشيط العقل وشحذ الحس النقدي. وأما السبب الثاني، فيعود إلى الطبيعة التربوية للفلسفة، وعلى الرغم من النعوت الملتصقة بهذا المجال من التفكير، والتي كثيرًا ما تختزل في التجريد والغموض والمثالية، فإن الفلسفة، منذ نشأتها النسقية مع أفلاطون، ارتبطت بالمؤسسة التعليمية؛ أي أن الآخر، في أبعاده البيداغوجية، ظلَّ هاجسًا دائمًا بالنسبة للتراث الفلسفي. وللفلسفة نزعاتها المضادة لما هي مؤسسة، والمنتفضة على كل تأطير يحصر نشاطها وتتشبّت بحريتها في السؤال والنقد، ولكونها كذلك فإن المرونة التي نهجتها بعض السياسات في تأطيرها المؤسسي كثيرًا ما نجحت في استيعاب أبعادها النقدية وميلها الدائم نحو السؤال وإعادة النظر.

تسهم الفلسفة بطريقتها الخاصة إذن، في تكوين مواطنين أحرار، قد يقال إن المؤسسة التربوية، من حيث الجوهر، هي إطار للترويض والتكييف والدمج، وبأن عملية إقحام الفلسفة في نسيج المؤسسة سيفقدها طبيعتها النقدية وأبعادها السالبة. هنا بالضبط تختلف الاختيارات وتتنوع المقاربات، تربويًا وفكريًا وسياسيًا، أي أن المسألة، في أولاً وأخيرًا، مرتبطة بالمقاصد المتوخاة من النظام التربوي برمته. هل ينحصر الهدف في إعادة إنتاج ما هو سائد وتوفير شروط تكرار القيم المألوفة، أم أن الأمر يتجاوز هذا المستوى لخلق بعض عوامل القول الحر والسلوك المتحرر والمبادرة؟ ينطبق هذا السؤال على كل اختيار مجتمعي وسياسي يرهن خطابه، حقيقةً أو ادعاءً، بالديمقراطية. وأما النتائج وأنماط التواصل وأشكال تنظيم المجال العمومي وانعكاس كل ذلك على حياة الإنسان، فهي التي تشكل المعيار المحدد للحكم والقياس. غير أنه سيكون من الخطأ اعتبار الفلسفة دعامة للديمقراطية بالضرورة، وأننا سنكون واهمين، كما يقول روجيه بول دروا، إذا عملنا على تنمية تدريس الفلسفة وانتظرنا، من خلال ذلك، نتائج تخدم وتنشر القيم الديمقراطية بكيفية آلية ونفعية. وإذا حصل واقتنعنا بوجود تقارب جوهري بين حرية الفكر والكلام في الفلسفة من جهة، وبين المساواة والتعددية المميزة للديمقراطية من جهة ثانية، فإنه يصعب الاستنتاج بأن كل فيلسوف هو إنسان ديمقراطي بالضرورة.

يتمثل العنصر الذي يقرب الفلسفة والديمقراطية في القدرة المشتركة على النقد الذاتي. تعيد الفلسفة النظر في أساسياتها كلما اقتضى ذلك تطور الفكر والعلم والتاريخ، ولا تكف الديمقراطية عن تطوير مؤسساتها وتشريعاتها وآليات اشتغالها كلما استوجب ذلك مصلحة المواطنين.

ولا يمكن القول بأن العلاقة بين الفلسفة والديمقراطية مباشرة، كما يصعب تصور تسخير الأولى قصد تحقيق الثانية، ومن المعلوم أن مصطلحيْ الفلسفة والديمقراطية يرجعان إلى الأصل الإغريقي، والوعي باقترانهما في هذا الزمن لم يكن قائمًا، بل إن الديمقراطية الأثينية لم تتردد في إعدام سقراط وإسكات صوته، كما أن أفلاطون، وإن أدرج الفلسفة في أعلى مراتب نظامه التربوي المتخيل فلأنه رفض رفضًا باتًّا مبدأ النظام الديمقراطي. وبمعنى آخر لا يتطور التاريخ الثقافي والفكري بشكل متساوق مع التاريخ السياسي، إذ إن هناك بلدانًا ديمقراطية لا تعير الفلسفة أي اهتمام ولا تدمجها في نظامها التربوي أو تستدعيها في حياتها الثقافية، كما هو الشأن بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، كما نجد، في تاريخ الفكر الفلسفي، فلاسفة كبار لم يعبّروا عن أي تعاطف مع الديمقراطية. وعلى العكس من ذلك، هناك أنظمة لا تتخذ من الديمقراطية نهجًا في الحكم تسمح بتدريس الفلسفة وتساعد على نشرها والتعريف بنصوصها، وبمعنى آخر فإن العلاقة بين الفلسفة والديمقراطية لا تحوز مضمونًا خاصًا يفرض ذاته بكيفية ملزمة.

ويبدو أن العلاقة التأسيسية التي تجمع الفلسفة والديمقراطية في نظر بول دروا تلتقي في المستويات الأربعة التالية: أولاً، الكلام، فلا مجال للحديث عن الفكر من دون أن يكون منطوقًا ومعروضًا على المناقشة والنقد وفي وضعية مواجهة مع حجج الآخرين. تنطبق مسألة الكلام على الفكر الفلسفي كما تنسحب على المواقف السياسية داخل نظام ديمقراطي. وثانيًا المساواة، فالمرء، في سياق المناقشة والكلام، لا تطلب منه "الصفة" التي بها يتدخل في المناقشة، إذ لا يتعين عليه حيازة سلطة أو ترخيص بمقدار ما يفترض فيه أن يتكلم ويحاجج، إن هذا الأمر يهم الديمقراطية السياسية إذ يستدعي المواطن فيها للمشاركة في المناقشة، كما هو الشأن، وبشكل مختلف، مع الفلسفة ما دام النوع البشري كله معني بقضاياها وأسئلتها. ثالثًا الشك، لكي ينفتح مجال البحث عن الحق والمناقشة المشتركة حول العدالة يتعين خلخلة اليقينيات ومساءلة الثابت، أي أن ننتقل من عالم الأجوبة إلى أفق السؤال، ومن حقل الاعتقاد إلى انفتاحات البحث والعادة النظر. رابعًا التأسيس الذاتي، بمعنى أن النهج الفلسفي أو الجماعة الديمقراطية تستوحي قرارها من داخلها، ولا توجد سلطة خارجية قادرة على منحها مشروعيتها، ولا شيء يضمنها، مما لا يمت بصلة إلى حركيتها الداخلية. فالفلسفة والديمقراطية تستمدان قوتهما من ذاتيهما ولا تخضعان لأية قوة غير منبعثة منهما. إن البحث عن الحقيقة بالنسبة للفلسفة، أو سلطة الشعب في الديمقراطية، يتقابلان ولو أنهما يتمايزان، وتنمحي البديهيات المطمئنة في كل من الفلسفة والديمقراطية كما يشكل النقد والسؤال وإعادة النظر والتغيير عناصر يشترك فيها كلا الحقلين.

هل الفلسفة والديمقراطية، بوصفهما ذوات أصول، إغريقية أو بالأحرى غربية، يمكن أن نعثر لهما على نظائر في الثقافات الإنسانية الأخرى؟ هل تحوز كل من الفلسفة والديمقراطية أبعادًا كونية؟ وهل الثقافات والمرجعيات السياسية المختلفة يمكن أن تختزن نماذج إنسانية مشتركة مع الحفاظ على ما يؤسس هويتها واختلافها؟ أسئلة من هذا القبيل هي التي افترضت القيام باستقصاء دولي حول تدريس الفلسفة والديمقراطية يفترض نظرة شمولية وأفقًا كونيًا، وإذا اعتبرنا أن شروط هذا التفكير منعدمة الآن، فإن الشروع فيه مستحب ومطلوب، إذ كيف يمكن للفلسفة، وللديمقراطية معها، أن تساهم في تكوين المواطنين؟ وماهي وسائلها ومقاصدها؟ وكيف نتصور إمكانية الجمع بين استعمال الوسائل التقليدية، كالكتب، والحوارات، والدروس... إلخ، ووسائط الاتصال الجديدة، كالفيديو، الأنترنت...إلخ.

يستمد التفكير في هذا الموضوع من هذه الزاوية، بالنسبة لبول دروا، مشروعيته من كون العالم بدأ يتشكل أمامنا بقوة لا مثيل لها، وبدأت التقنيات الجديدة للإعلام تنسج "تاريخًا مباشرًا للوعي" على الصعيد الكوني بكيفيات باهرة. يحوز التواصل قدرة خارقة على الربط بين الأفكار والمصالح والقرى والجهات بطرائق جعلت من مقولتي الزمان والمكان تكتسبان أبعادًا وجودية مغايرة بشكل جذري تمامًا. وكيف يمكن، إذن، لنشاط فكري لم تتغير طبيعته طيلة خمسة وعشرين قرنًا؛ أي الفلسفة، أن يحتفظ بقدرته على التحفيز العقلي وعلى تنوير الأطفال والمراهقين في زمن الثورة المعلوماتية والصور الافتراضية والتلفزيون؟

إن الفلسفة، أولاً وأخيرًا، اختيار فكري تربوي وسياسي، نجد من يعتبره وسيلة لتعزيز العملية الديمقراطية وتحفيز التفكير الحر، ونلقى بالمقابل من يرى بأن هناك أولويات اقتصادية واجتماعية يتعين توفيرها أولاً قبل الانشغال بقضايا الفلسفة وبأمور تدريسها. وفي الحالين، فإن الهم الفلسفي، فكريًا وتربويًا، حاضر لدى أصحاب القرار، لا سيما من طرف الذين لا يتخذون موقفًا عدائيًا من مادة الفلسفة، سواء من زاوية اعتبارها حقلاً لتوليد الاحتجاج أو من منظور اعتبارها مجالاً غير نافع لا مردود من ورائه. والظاهر أن ممارسة التأمل الفلسفي لا تفهم بوصفها مقاربة لتاريخ الأفكار بمقدار ما يفترض فيها المساعدة على تكوين المواطن وتطوير حسه النقدي التحليلي وتقديره لتنوع الحجج واختلافها ووعيه بنسبية الأمور. وتمثل المساهمة في تنمية القدرة على الحكم معطى أساسيًا في الحياة الديمقراطية، خصوصًا إذا ما حصل تجاوز الإطار الضيق للاختصاص وتلاه الانفتاح الملائم على وسائط الاتصال الجديدة لمحاربة الأمية الفكرية ونشر الفكر العقلاني.

وتعني الحاجة إلى الفلسفة الحاجة إلى التنوير وإلى قول الحقيقة والتحرر من عوامل التخلف، ومن الملاحظ أنه رغم كون الفكر الفلسفي العربي لم يجد في المناخ الثقافي إلا ما يعيق تحركه ويخنق تساؤله، لأن تقليدية هذا المناخ لا تحتمل القدرة التنويرية لهذا الفكر، إلا أننا لا زلنا نجد من يجتهد داخل حقل الفلسفة، ومن يعمل على توصيل السؤال وتبليغ الهم الفكري، فلا يمكن القول بمجتمع منفتح من دون تعلم ملكة النقد وممارستها والجهر بها. ومن الأجدر، وبجميع المقاييس، تعزيز الدرس الفلسفي داخل المؤسسات الثانوية والجامعية بدل نهج أساليب تخلق الفراغ وتترك الميدان مفتوحًا للنزعات المشجعة على التحجر واللاتسامح والعنف.