الفيلسوف اليوناني كريتياس والدين خدعةً سياسيةً


فئة :  مقالات

الفيلسوف اليوناني كريتياس والدين خدعةً سياسيةً

 

مقدمة:

إذا كان الفيلسوف اليوناني بروديكوس قد قدم نظريةً لغويةً عن أصل الدين فإنّ كريتياس آثر أن يقدم نظريةً سياسيةً أخلاقيةً يفسر بها أصل المعتقدات اليونانية. وسوف نعالج هذه النظرية على النحو الآتي:

  1. مسرحية سيسيفوس عن أصل الدين.
  2. النظرية السياسية والأخلاقية لأصل الدين:

    ‌أ-       حالة الفوضى الأولى.

   ‌ب-     الدين خدعةً سياسيةً.

   ‌ج-     مخترع الدين وصانع الخوف من الآلهة.

   ‌د-       فكرة التقابل بين الجزاء الوضعي والجزاء الإلهي.

   ‌ه-       فكرة تقدم الجنس البشري.

  1. تقدير نظرية كريتياس.

1- مسرحية سيسيفوس عن أصل الدين:

كان كريتياس (Critias) الأثيني (حوالي 460-403ق.م.)، ينتمي إلى أسرة أرستقراطية من أعرق الأسر الأثينية وكانت تربطه بأفلاطون صلة قربى، وكان على علاقة بسقـراط وألكبيادس (Alcibiades). وخاض معارك سياسية شتى انتهت بمقتله عام 403ق.م، وهو على رأس حكومة الثلاثين الأوليجاركية الاستبدادية. وكان من أنصار إسبرطة ومن أشد المعجبين بنمط حياة أهلها واعتدالهم في المأكل والمشرب. وكان قاسياً متعطشاً للدماء، وكاتباً متعدد المواهب ومفكراً واسع الثقافة([1])، وينسب إليه أفلاطون محاورة "كريتياس" التي تروي أسطورة الأطلنطس. وكان قد ألَّف عدداً من الكتب: نثراً وشعراً، أهمها: قصيدة في الدساتير، ومحادثات وحِكَم، ومقالة في ماهية الحب، وفي الفضائل. ويثني المتأخرون على أسلوبه الخطابي الذي كان يمتاز بالصفاء والصراحة وتغلب عليه الروعة الأدبية التي استمدها من جورجياس. وقد عده بعض القدماء بين أئمة الفصاحة([2]). وقد كتب كريتياس المسرحيات أيضًا ولدينا مقتطفاتٍ من ثلاث مآس: "تينيس" (Tennes)، "رادامنثيس" (Rhadamanthys)، "بيريثئوس" (Peirithous)، ولدينا أيضًا مقطوعة طويلة من مسرحية "سيسيفوس" (Sisyphus)، وهي تتضمن نظريةً مبتكرةً عن أصل الدين([3]). وقد نُسبت مسرحية سيسيفوس أيضًا إلي يوربيدس([4])، ولكن أكثر المؤرخين يؤكدون أنّها لكريتياس، ولو لم يكن كريتياس هو مؤلف هذه المسرحية فليس ثمة مبرر يجعلنا نصنفه– كما يقول كيرفيرد بحق- بين السوفسطائية، ولأخرجناه من زمرتهم([5]).

تضمنت مسرحية كريتياس المسماة "سيسيفوس"، والتي حفظ لنا سكستوس امبريكوس شذرةً طويلة منها، نظريته الإلحادية في الدين، وعلينا قبل أن نعرض لهذه النظرية أن نطرح التساؤل الآتي: هل يجوز لنا أن نعتمد آراء وردت في مسرحية أدبية وعلى لسان شخصية قد لا تعبر بالضرورة عن رأي مؤلفها؟

لقد ذهب بارنيس (Burnes) مثلاً إلى أنّ كريتياس في مسرحيته تلك لم يكن جاداً، وأنّه قد ذكر ما ذكر لمجرد المزاح- طالما أّه أورد ذلك في مسرحية هزلية وليس في رسـالة لاهوتية. وأول ما نلاحظه على كلام بارنيس هو أنّ مسرحية كريتياس المشار إليها ليست ملهاة (Comedy) بل إنّ بعضهم يعدها مأساة (Tragedy) كما وصفها بوجومولوف (Bogomolov)([6]). وعادة ما تكون التراجيديا أكثر تعبيراً عن أفكار صاحبها من الملهاة التي عادة ما تأخذ صورة هزلية كاريكاتورية مبالغًا فيها جدًّا كما نرى مثلاً في مسرحية أرستوفانيس "السحب" (The Clouds)، والتي رسم فيها عبقري الكوميديا في كل العصور، صورةً هزليةً لسقراط قد تختلف عن صورة سقراط في الواقع، في حين أنّ التراجديا عادة ما تتصف بالرزانة والجدية؛ وإن كان هذا لا يمنع بالطبع أن تكون الملهاة معبرة عن أفكار مؤلفها؛ فنحن لا يمكننا أن نغفل مسرحية السحب لمجرد أنّها ملهاة ونأخذها جنباً إلي جنب مع المصادر الأخرى عن سقراط فهي روايةٌ لا تقل كثيراً جدّاً في أهميتها عن رواية أفلاطون في محاوراته، (ولا ينبغي هنا أن ننسى أنّ محاورات أفلاطون تتخذ شكلاً أدبيّاً أقرب ما تكون إلى المسرحيات)، أو رواية كسينوفون، في ذكرياته، عن سقراط. وعلى أي حالٍ فسواء كانت مسرحية سيسيفوس مأساة أو ملهاة فإنّ وهن حجة بارنيس - كما يقول الدكتور محمود مراد- يبدو واضحاً غاية الوضوح؛ وذلك لأنّ إيراد أي مؤلف أو فيلسوف أو أديب آراءه في مسرحيات ساخرة هزلية لا يعني بالضرورة أنّه قالها لمجرد التسلية فقط؛ فكثيرٌ من الأدباء والفلاسفة قد اتخذوا الملهاة وغيرها من الأشكال الأدبية المتنوعة، وعاءً يفرغون فيه أفكارهم العظيمة الجريئة التي يريدون توصيلها إلي الآخرين؛ تهرباً من وصاية أو رقابة غاشمة([7]). لقد كتب سارتر - مثلاً - مسرحية "الذباب" وأودع فيها آراءه الإلحادية ولم يستبعد أحد ممن ناقش نظريات سارتر الفلسفية الوجودية هذه المسرحية من مجال أفكاره، لمجرد أنّه قد صاغ تلك الأفكار في قالب فني أدبي. وعلى ذلك الأساس نعد هذه الأفكار التي وردت في مسرحية "سيسيفوس" هي بعينها أفكار كريتياس، لاسيما وأنّ القدماء ومؤرخي الفلسفة اليونانية قد عدوها كذلك. وربما يكون من المشكوك فيه إذا ما كانت هذه النظريات قد أعلنت صراحة على المسرح الأثيني أم لا. وربما كانت مسرحية سيسيفوس على الأحرى - كما يقول فيرنر ييجر - (a closet-drama) (أي مسرحية للقراءة فقط)، لذلك نحن ربما نفترض بأنّ مثل هذه الأعمال قد وُجِدت قرب انتهاء القرن الخامس([8]). وكل ذلك لا يقلل من قيمة المسرحية، ويمكننا أن نعتمد عليها في تحليلنا لنظرية كريتياس وبيان إلحاده، وعلى أيّ حال، هذه النظرية الأخلاقية السياسية لأصل فكرة الإله، التي عرضها كريتياس في مسرحيته سيسيفوس تتنفس روحاً أكثر ثوريةً وإلحادية مقوضةً الدين الرسمي من أساسه، وهي حيلة واضحة - كما يقول جثري - من مؤلف أراد تقويض الدين دون أن يناله أذى جراء هجوم غير مباشر، يقدم فيه نظريةً عن تقدم الحياة الإنسانية من الوحشية والفوضوية إلى إدخال القوانين والعقوبات والعدالة إلى حياة البشر([9]). وعلينا الآن أن نعرض لهذه النظرية على النحو الآتي:

2- النظرية السياسية والأخلاقية لأصل الدين:

أ- حالة الفوضى الأولى:

افترض كريتياس أنّ البشر قد عاشوا حالةً من الفوضى الشاملة، في بداية تاريخ الإنسانية، كما ورد في مسرحيته سيسيفوس: "كانت حياة البشر في حالة من الفوضى والوحشية وتحكم القوة، فلم يكن ثمة ثواب لحياة الفضيلة أو عقاب لحياة الشر، عندها - كما أتصور - سنَّ البشرُ قوانينَ الجزاء والعقاب، على أمل أن تصبح العدالة حاكمةً للجنس البشرى كله، وحتى يخضع لها المتكبر، ويتم توقيع العقاب على كل مذنب"([10]).

وقد عرض كريتياس لتصوره عن أصل الدين والحياة المتحضرة، قائلاً بهذه النظرية باعتبارها حلاً للخروج من حالة الفوضى التي افترضها، فهو يقول على لسان سيسيفوس: "عاش البشر في البداية في حالة من الوحشية فلم يكن ثمة تفرقة بين الخير والشر"([11]).

هكذا كانت البداية الأولي للبشر في رأي كريتياس لم يكن يحكمهم أي قانون، ولم تكن هناك دولة أو سلطة حكومية أو تشريعات قانونية، يخضع لها الناس وتنظم حياتهم المضطربة، فهي حالة من الفوضى الأولى، التي لم تخضع لأي نظام قانوني أو سياسي أو اجتماعي. وهذه الحالة التي يصفها كريتياس هي مجرد افتراض وليست واقعةً تاريخيةً. وكريتياس بهذا الافتراض يسبق كل فلاسفة العقد الاجتماعي خاصة أولئك الذين تكلموا على حالة الفوضى الأولي وعلى رأسهم الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز (1558 - 1679). ويردد كلام بروتاجوراس زعيم المدرسة الذي سبق وأن قال بحالة الامتثال الجماعي والفوضى في محاورة بروتاجوراس لأفلاطون، وهكذا تنطلق افتراضات كريتياس والتي تتعلق بأصل المعتقد الديني وطبيعته من حالة مفترضة بوجود حرب جماعية، يعيش فيها الناس بدون الخضوع للقانون أو النظام([12]). هذه الحرب الجماعية هي التي سيطلق علها هوبز، فيما بعد، حرب الكل ضد الكل (Bellum Omnium Contra Omenes)([13]).

ب- الدين خدعةً سياسيةً (Religion as a Political Device):

لقد وصف كريتياس حالة الوحشية التي كان يعيشها البشر وأنّهم كانوا لا يفرقون بين الخير والشر ولكن في مرحلة تالية، سنَّ الإنسان القوانين للجزاء والعقاب، حيث ينبغي أن تسود العـدالة، على الجميع وبلا استثناء، وينبغي أن يخضع لها المتكبر. لكن هذه العدالة كانت ذات مصدر بشري ولم تعد إلهية، كما كان الأمر عند هسيودوس مثلاً، ولم تعد عدالة كونية ميتافيزيقية كما هي عند أنكسمندروس وهيراكليتوس؛ إنّما هي - وربما لأول مرة في تاريخ الفكر البشري - عدالة بشرية، أنشأها الإنسان وأقام دعائمها بنفسه: "إنّها تماثل عمل المشرع، الذي ينبغي عليه أن يسوس المدينة عن طريق صرفها عن الحياة الظالمة إلى الحياة العادلة. لكن الناس ارتكبوا سرًا تلك الأعمال التي لا يستطيعون أن يفعلوها علنًا خوفاً من القانون، وهكذا عاشوا وفقًا للطبيعة"([14]).

وللخروج من حالة الوحشية السرية هذه يقرر كريتياس أنّ خدعةً سياسيةً ماكرةً كانت قادرة على إخراج الناس من الفوضى إلى النظام، ومن التمرد والعصيان إلى الطاعة والخضوع، ومن انعدام الأمن إلى إقراره، ومن غياب الآلهة في حياة البشر إلى اختراعها اختراعًا بشريًا خالصًا.

ج- مخترع الدين وصانع الخوف من الآلهة:

ما حدث بعد ذلك من أجل القضاء على ارتكاب الجرائم غير المشروعة بشكلٍ سري هو أن أدخلَ صانع ماكر (A Cunning Craftsman) الألوهية في حياة البشر وخدعهم قائلاً: "إنّ ثمة إلهًا يتصف بالحياة الأزلية، يسمع ويرى بعقله، ويحيط ويعتني بكل شيء، ويتصف بالطبيعة الإلهية، وهو يستمع لكل كلمة يتفوه بها البشر، ولديه القوة ليرى كل ما يصنعون؛ حتى لو أنّك خططت لأن تفعل الشر، فإنّ ذلك لن ينطلي على الآلهة بالتأكيد، فلدى الآلهة تستقر الحكمة؛ لذلك قدم- هذا الرجل بالغ الذكاء- بقوله هذا الكلام- أكثرَ المذاهب مكرًا، وليس ثمة حقيقة فعلية تتخفى وراء كلامه هذا. وقد تكلم عن المكان الذي تقيم فيه الآلهة، واختار هذا المكان الذي كان الأعظم ترويعًا للبشر؛ المكان الذي يعلم أنّ منه تنزل على البشر كلُّ أشكال الرعب، وكذلك أنواع الرخاء التي تسهل حياة البشر المتعبة. هناك يقيم الإله في عليائه، حيث يرسل بالبرق، وضربات الرعد، وحيث صفحة السماء المليئة بالنجوم، التي تلمع متلألئة، والتي أبدعها فنان ماهر، ومنها جاء الزمان. وكذلك من هناك أيضًا، تسقط كتلةُ النيازك الوهَّاجة، تتسارع، وينحدر معها المطرُ أيضًا على الأرض. وكانت هذه هي المخاوف التي طوق بها هذا الحكيمُ البشرَ واستطاع أن يفرد بها مكاناً ملائماً للإله. وبكلامه هذا، وبهذا البيت المناسب، استطاع - ذلك الرجل الحكيم الذكي - أن يقضي على الفوضى بالقوانين. إنّها - مرة أخري - نظرية الخوف (Fear-Theory) التي عرضنا لها عند ديموكريتوس من قبل. ولكن الجديد عند كريتياس هو استغلال هذا الداهية السياسي الماكر لنظرية الخوف هذه؛ فهو يضيف بعد أن يسترسل قليلاً:

"بهذا استطاع رجل ما - فيما أعتقد - للمرة الأولى، إقناع البشر بأن يؤمنوا بوجود جنس من الآلهة "([15]).

على ذلك وللخروج من حالة الفوضى الأولي التي مر بها الجنس البشري نجد كريتياس يقدم نظريةً سياسيةً مبتكرةً قوامها: أنّ الدين قد قام باختراعه سياسيٌ ماكر؛ ليتمكن من فرض سيطرة القانون والنظام على الناس حتى يتمكن من أن يسوسهم ويتحكم فيهم كيفما شاء؛ وحتى يتمكن من إخراجهم من حالة الفوضى التي كانوا عليها؛ ولكي يتجنب هذا الأمر المزعج الذي ينتهك حكم القانون: اخترع ذلك الرجلُ، بالغ الذكاء، الموهوب بنعمة الحكمة الخوفَ من الآلهة وأقنع به البشر، وبذلك "جعل الأشرار يخافون من ارتكاب الجرائم في السر كما كانوا، بل ويخافون حتى من مجرد الكلام عنها أو حتى التفكير فيها، لذا اخترع الاعتقاد في الآلهة([16])".

وتمضي الفرضية لتبين لنا أنّه في حين تكون قوانين العقوبات صالحة للجرائم القابلة للاكتشاف فإنّها تكون غير ملائمة لمنع التجاوزات التي ترتكب في السر، فأراد هذا السياسي الذكي أن يتغلب على هذه العقبة بغرس الخوف من الآلهة الخفية، المطلعة على كل شيء، والتي تجزى بالعقوبات الإلهية. ويجب ملاحظة أنّ كريتياس يعد هذا الاختراع بمثابة: "الحقيقة الكامنة خلف الكلام الزائف"([17]).

وبذلك يقرر كريتياس نظريته السياسية الأخلاقية؛ التي تعطينا تفسيرًا عقلانيًّا خالصًا لأصل الدين؛ الذي يرده إلى منبع العدالة والقانون؛ إذ أنّ القانون من الممكن أن يمنع فقط الجرائم التي تتم في العلن، أما الجرائم التي يتم ارتكابها في السر فقد اخترع الدين لمنعها، والذي اخترع الدين هو رجلٌ حكيمٌ ذكىٌ. وقد أقنع هذا الرجل الناسَ- المغرمين بالألوهية- بأنّ هناك إلهًا يعلم الأشياء جميعًا، أبديًّا، ومهتمًّا بالفضيلة. وقد أعلن هذا الرجل أنّ الآلهة تقطن في السماء، ومنها تأتي الرعود والبروق، وحيث توجد النجوم "الزخرفة الجميلة للزمان من قبل صانع ماهر"، والشمس والقمر، هكذا غمرهم بالرعب. وقد استطاع هذا الإنسان منع الفوضى بين الناس عن طريق بث المخاوف بين البشر، وإقامة الألوهية بالحجة البينة، وفى مكان يليق بها([18]).

وهكذا يكون الإيمـان الديـني قد صُور باعتـباره "خدعة متعمدة، وهي خـدعة سيـاسية (Political Device) - الغرض منها ضمان التزام المواطنين جادةَ الصواب؛ خشيةَ العقاب الذي يمكن أن توقعه الآلهة عليهم([19]).

د- فكرة التقابل بين الجزاء الوضعي والجزاء الإلهي:

يمكننا أن نستنتج من كلام كريتياس السابق أنّه يفرق بين نوعين من العقاب، ربما لأول مرة في تاريخ الفكر البشري بهذا الوضوح؛ الأول: العقاب الوضعي؛ أي القانون الذي سنه البشر لمواجهة الجرائم العلنية؛ أي تلك التي يرتكبها الناس علنًا؛ والثاني: العقاب الإلهي؛ أي الجزاء الذي توقعه الآلهة على أولئك الذين يرتكبون سرًا من الجرائم ما يعجز عن كشفه القانون الوضعي.

لقد طور كريتياس نظريةً قانونية نادى بها "كاليكليس" أيضًا، وقد كان كاليكليس، من تلاميذ جورجياس، وهو القائل بنظرية "الحق للأقوى" وبحسب هذه النظرية تصبح الأخلاق والقوانين من عمل الضعفاء من الناس، وهم أغلبية أفراد المجتمع الذين يريدون بهذه القوانين أن يكبحوا جماح الأقوياء؛ فيطيلوا الكلام عن نظريات العدالة وأساس القانون والعرف والتقاليد وما تحكم به الأخلاق، كل هذا لغرض واحد هو السيطرة على الأقوياء وانتزاع الحق والسلطان من أيديهم. لكن الطبيعة والتاريخ يناقضان هذا الاتجاه وهذه النظرية التي يصطنعها الضعفاء، ذلك لأنّ القوي حين يكشف عن خداع الجماهير سيحطم ما أقاموه حوله من القيود وسيقيم من نفسه سيداً على الضعفاء وحين ذلك يسود القانون الطبيعي بين البشر([20]).

كان كريتياس مشايعاً لموقف كاليكليس القانوني ولكنه رأى - وهذا ما أضافه كريتياس من عبقريته الخاصة - أنّ القانون الوضعي الذي شرعه المجتمع لا يحاسب إلا على الظاهر من الجرائم لذلك اخترع البشرُ الآلهة؛ تلك القوة الجبارة الخفية الرقيبة على أعمال الناس في السر والعلن([21]). وعلى هذا النحو فسر كريتياس الاعتقاد الشعبي والإيمان بالآلهة على أنّه: اختراع من جانب سياسي محترف للسيطرة على الغوغاء عن طريق الخوف([22]).

وهذا التقابل بين الجزاءين: الوضعي والإلهي سنراه، فيما بعد، قائمًا في نظرية القانون لدى أصحاب الديانات السماوية جميعها.

ه- فكرة تقدم الجنس البشري:

كانت فكرة تقدم الجنس البشري هي الفكرة التي أكمل أبداعها الفلاسفة السوفسطائيون، حيث ظهرت فكرة التقدم البشري عند كل من أنكسيمانيس وأنبادوكليس وديموكريتوس عمومًا، قبل أن يعاد بعثها من جديد خلال عصر النهضة والقرن الثامن عشر، قرن التنوير، فلقد تقاسم كريتياس- مع غيره من فلاسفة السوفسطائية - معتقدَ التقدم المستمر للجنس البشري، وذلك لأنّ كريتياس قد عدَّ القوانين لا هي متأصلة في الطبيعة البشرية من البداية، ولاهي هدية من أي إلهٍ من الآلهة، واعتقد أنّ الدين هو اختراعٌ إنسانيٌ تمامًا؛ استهدف منعَ السلوكيات الإجرامية. لقد اُخترع الدين لعامة الشعب، ولضمان طاعتهم، وليس للحاكم المستنير([23]).

لقد تحدث كريتياس عن تطور الإنسانية من حالة التوحش إلى المدنية بفضل اختراع البشر للقوانين والنظم السياسية الضابطة لسلوكهم، وكذلك اختراعهم للآلهة فكانت العدالة والحضارة والآلهة نفسها في نظر كريتياس من ابتكار العقل الإنساني([24]). وبهذا يقرر كريتياس فكرة تقدم الجنس البشري، وأنّ الحضارةَ والرقي محضُ خلقٍ إنساني.

3- تقدير نظرية كريتياس:

لم يُرد كريتياس أن يكون مصلحًا للدين الأوليمبي الذي ورثه اليونانيون عن هوميروس وهسيودوس، ولم يسعَ إلى إقامة دين عقلاني يكون بديلاً لأساطير اللاهوت اليوناني؛ كما سيفعل كسينوفانيس مثلاً، وكما سوف نرى في الفصل الأول من الباب الرابع من هذا البحث؛ وكما يمكن أن يُستنتج من نظريته السياسية عن أصل الدين والمعتقدات في الآلهة؛ بل إنّ كريتياس - في تقديرنا - لا يسعى إلى إقامة مجرد قانون ودين عقلاني؛ ولكنه سعى إلى إسقاط الدين إسقاطًا كليًا؛ "باعتباره خداعًا وغشًا". لقد وجدنا في كريتياس وفي مسرحيته سيسيفوس - تمامًا كما وجد "دارشمان" (Drachman) في كريتياس وفي مسرحيته - "دليلنا الأول، المباشر والواضح، على الإلحاد القديم"([25]).

قائمة المصــادر والمراجـــع:

- مراجع باللغة الإنجليزية:

  1. Bogomolov، A.S.: History of Ancient Philosophy، Greece and Rome، trans. By: V. Stankerich، Progress Pubishers، Moscow، 1985.
  2. Freeman، K.: The Pre-Socratic philosophers، 2nd ed. Basil Black Well Oxford، 1959.
  3. Greene، W. Ch.: Moira (Fate، Good، and Evil in Greek Thought) Harvard University Press، New York، 1948.
  4. Jeager، W.: The Theology of The Early Greek Philosophers، At Clarendon Press، Oxford، London. 1948.
  5. Nahm، M. C.، : Selections from Early Greek Philosophy، 3rd Ed، Appleton Century Inc. New York، 1967.
  6. Untresteiner، M.: The Sophists، Trans by: K. freeman، Basil Blackwell، Oxford، 1954.

- مراجع باللغة العربية:

  1. إمام عبد الفتاح إمام: توماس هوبز فيلسوف العقلانية، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، 1985م.
  2. ماجد فخري: تاريخ الفلسفة اليونانية من طالي إلى أفلوطين وبرقلس، دار العلم للملايين، بيروت، 1991م.
  3. محمد علي أبو ريان تاريخ الفكر الفلسفي، الفلسفة اليونانية، الجزء الأول، من طاليس إلى أفلاطون، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1990م.
  4. محمود السيد مراد: فلسفة التنوير لدى السوفسطائيين، بحث غير منشور، رسالة ماجستير، جامعة أسيوط، كلية الآداب، قسم الفلسفة، 1994م.
  5. ولتر ستيس: تاريخ الفلسفة اليونانية، ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد، دار الثقافة، القاهرة، 1984م.

([1]) J. Zeyl: “theism and atheism” in Encyclopedia of Classical Philosophy, Chicago, London, 1997, p. 159.

([2]) د. ماجد فخري: تاريخ الفلسفة اليونانية من طالي إلى أفلوطينوبرقلس، دار العلم للملايين، بيروت، 1991م، ص ص 62، 63.

([3]) W.K.C. Guthrie: The Sophists, Cambridge University press. New York, 1988, P. 303.

([4]) J. Zeyl: Op. Cit., p. 159.

([5]) G.B. Kerferd: The Sophistic Movement, Cambridge University press, London, 1984, p. 53.

([6]) A.S. Bogomolov: History of Ancient Philosophy, Greece and Rome, trans. By: V. Stankerich, Progress Pubishers, Moscow, 1985, p. 123.

([7]) د. محمود السيد مراد: فلسفة التنوير لدى السوفسطائيين، ص70.

([8]) W. Jeager: The Theology of The Early Greek Philosophers, At Clarendon Press, Oxford, London. 1948. P. 188.

([9]) W.K.C. Guthrie: Op. Cit., p. 243.

([10]) M.C. Nahm: Selections from Early Greek Philosophy, 3rd Ed, Appleton Century Inc. New York, 1967, F25, P. 263.

([11]) M. Untresteiner: The Sophists,Trans by: K. freeman, Basil Blackwell, Oxford, 1954.P. 333.

([12]) M.C. Nahm: Selections from Early Greek Philosophy, 3rd Ed, Appleton Century Inc. New York, 1967, P. 262.

([13]) د. إمام عبد الفتاح إمام: توماس هوبز فيلسوف العقلانية، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، 1985م، ص291.

([14]) M. Untresteiner: Op. Cit., P.333.

([15]) M.C. Nahm: Op. Cit., P. 264.

([16]) M. Untresteiner: Op. Cit., p. 334.

([17]) M.C. Nahm: Op. Cit., P. 262.

([18]) K. Freeman: The Pre-Socratic philosophers,2nd ed. Basil Black Well Oxford, 1959.p. 412.

([19]) A.S. Bogomolov: Op. Cit., p. 123.

([20]) د. محمد علي أبو ريان تاريخ الفكر الفلسفي، الفلسفة اليونانية، الجزء الأول، من طاليس إلى أفلاطون، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1990م، ص ص 105، 106.

([21]) المرجع نفسه، ص 106.

([22]) ولتر ستيس: تاريخ الفلسفة اليونانية، ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد، دار الثقافة، القاهرة، 1984م، ص 85.

([23])  W.K.C. Guthrie: The Sophists,p. 301.

([24]) د. محمود السيد مراد: الحرية في الفلسفة اليونانية، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، الإسكندرية، 1999م، ص 300.

([25]) W.Ch. Greene: Moira (Fate, Good, and Evil in Greek Thought) Harvard University Press, New York, 1948, P. 255.