القرآن الكريم والعود الأبدي للمعنى


فئة :  مقالات

القرآن الكريم والعود الأبدي للمعنى

".. ..لَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ، وَلَا يَخْلَقُ عَنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ، وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، وَهُوَ الَّذِي لَمْ يَنْتَهِ الْجِنُّ إِذْ سَمِعَتْهُ أَنْ قَالُوا (إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا).."

جزء من حديث نبوي

"إن القرآنَ حمالُ أوجه"

علي بن أبي طالب

"إنّ الأثرَ لا يخلد لكونه يفرض معنى وحيداً على أناسٍ مختلفين، وإنّما لكونه يوحي بمعان مختلفةٍ لإنسانٍ وحيد"

رولان بارت

"النص يحتوي دومًا على معان إلا أنّه يحتوي على عودة المعنى.

فالمعنى يأتي ثم ينصرف، ثم ينتقل إلى مستوى آخر وهكذا دواليك.

ربما وجب الحديث بهذا الصدد، مع نيتشه، عن العود الأبدي.

إنّ المعنى يعود، لكن كاختلاف لا كتطابق وهوية"

رولان بارت

ما الذي يحتاجه المسلم ليتجدد في القرآن وبه؟ ما الذي يستوجب أن يتحلَّى به كيما يقطِف بعض عجائب التنزيل التي لا تنقضي؟ ما الذي يجعل هذا الوحي دائم التنزل على قلب كل "قارئ" لآياته؟ كيف يتأهل المسلم لتلقي هذا "القول الثقيل"؟ ما الذي يجعله قادرًا على استمداد "الشفاء" من القرآن الكريم؟ أعني شفاء حيرته الوجودية واضطرابه النفسي وتيهانه الروحي؛ كيف يكف القرآن الكريم عن أن يكون، اليوم، مجردَ "مصحف للتبرك"، أو موضوعَ فهمٍ مكرورٍ، أو مناطَ إسقاط دلالي لا تاريخيّ؛ ليصير كتاب فتوحاتٍ أصيلةٍ لا تنضُب، ومنبع معان قرآنيةٍ لا نهاية لمفجرِّها!؟

لنتأمل ما سبق لعلي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، أن تنبه إليه مبكرًا، حين أدرك أنّ القرآن "حمالُ أوجه"؛ ذلك أنّ هذا الأمر الذي كان عِلّة صرفه لعبد الله بن عباس - مبعوثه إلى مفاوضة الخوارج - عن الاحتجاج بالقرآن، هو ذاته الذي يُشَكِّلُ بالنسبة إلى رؤيتنا اليوم، حُجةَ خلود القرآن وتجاوزه للأزمنة والأحقاب. إنّ القرآن الكريم بحر بلا ساحل، كلماتُ الله التي لا ينفد معناها؛ "قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً" (سورة الكهف، الآية 109) . إنّه مقروء لا نهائي؛ مقروءٌ "لا تنقضي عجائبه" لكونه "حمال أوجه"، "عجائبه" في تعدد "أوجهه"، ولذا سيكون من باب اغتيال روح القرآن الكريم اختزالُ معانيه في "وجه" واحد، ففي ذلك "وأد" لـ"عجائبه"؛ بل في ذلك "إخراسٌ" له، فيما هو يستلزم الاستنطاقَ الدائم، لكونه صار بعد غياب الرسولِ صلى الله عليه وسلم "مُصحفاً صامتاً"، أو خَطًّا مسطوراً بين دفتين "لا ينطق بلسان، ولا بد له من ترجمان، وإنّما ينطق عنه الرجال" كما قال علي بن أبي طالب. من هنا تعددت أوجه القرآن الكريم وتنوعت معانيه بتعدد مستنطقيه وتنوعهم، ويكفي الرجوع إلى تنوع التفاسير القرآنية بمختلف أوجهها اللغوية والبلاغية والكلامية والإشارية.. شيعية ومعتزلية و"سنية"... إلخ، لنتبين هذا الأمر.

على أنّ "انفتاح" معنى القرآن الكريم، من أبرز العلامات الرئيسة لتعاليه الإلهي، إذ به يخاطِبُ الحقُّ الواحدُ بالوحي الواحِدِ المخَاطَب المتعدد؛ وهذا الانفتاح هو البرزخ الذي يتواشج فيه النصُّ المحدود بأفقه الدلالي اللامحدود، ويتضايفُ على أرضه المخَاطِب الواحدُ الأحد بالمخَاطَب المتنوع المتعدد، تضايفَ تعالي المخاطِب ومُطلقيته مع بشرية المُخاطَب ونسبيته، وذلك عبر "واسطة نبوية" برزخية يلتقي عندها الأفق النسبي البشري بالأفق النبوي المتعالي؛ "قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُم إِلَهٌ وَاحِدٌ" (سورة الكهف، الآية 110). وهنا، ينطرح سؤال رئيس: ألا يُفضي هذا "الإطلاق" في انفتاح المعنى إلى تشتيت هذا الأخير وإتلافه؟ ألن يُفضي هذا الانفتاح اللامحدود إلى عدمية دلالية، خلالها يُعصَف بالمعنى باسم تعدده اللانهائي؟ ألا يتعلق الأمر بـ"الإيمان" وبنَصٍّ هو "وحيٌ يوحى"؛ أي بمصدر لـ"حقائق" وجودية وميتافزيقية عنوانها "التقديس" و"الثبات" و"التعالي" لا الانفراط والتحول اللذان يسمان "الأرضي" و"التاريخي" و"النسبي"!؟

ها هنا تتدخل المعرفة التي ما فتئت تُطور نفسها من أجل تقديم فهم مُؤسِّس للنصوص، فهم ما يبرح يجدد أدواتِه ويُشذِّب مفاهيمَه ويحذق مناهجَه كيما يضبط المعاني وطرائق استخلاصها، ويؤطر الفهم وإواليات بنائه وعقلنته. ولعل مبحث "الهيرمينوطيقا"، بما هو اشتغال بطرائق تأويل النصوص وأشكال فهمها وبناء دلالاتها، أكبر مجلى للسعي الإنساني المعرفي المذكور. ومن ثم، فإنّ القول بتعدد الفهم ليس نزوعًا اعتباطيًّا لتقويل النص ما لا يقوله، بل هو قبل ذلك نتيجةٌ من نتائج دراسة أشكال فهم النص وبحث في سر تعددها واختلافها؛ ذاك السر الذي تتنوع عناصره بين شروطِ الفهم المنهجية، ومُسْبَقاتِ المتولي عمليةَ الفهم، وطبيعةِ النص، وشروطِ إنتاجه، ومحدداتِ تلقيه. وهو ما يعني أنّ القول بتعدد الفهم كان إدراكًا عقلانيًّا لمسارات فهم النصوص، وتفسيرًا علميًّا لصراع التأويلات الذي كان يتخذ في أحايين كثيرة مظاهر عنيفة دموية، خصوصًا حين يتعلق الأمر بنصوص ذات قيمة استثنائية في صياغة المشروعيات الروحية والسياسية والحضارية والاجتماعية على مدى طويل من تاريخ الإنسانية، أعني أساسًا النصوص الدينية التأسيسية.

لقد أفضى تطور المعرفة إلى اعتبار الحقيقةِ المقروءة في نصٍّ لغوي مُعَيّن نتاجَ تشارك بين "تجربة النص" و"تجربة القارئ"؛ لاسيما إذا كان النصّ المقروءُ مجازيَّ الهوية، يُؤْثِرُ لغةً شعرية شعائرية ذات أفق يراوح بين "العقل" و"الخيال"، بين "التقرير" و"الإيحاء"، بين "القصصي" و"الحجاجي"، بين "التأملي" و"النبوئي"... إلخ، نصٌّ هويته الأساس "شفاهية" باعتباره موضوعَ "تلاوة" بما هو "قرآن" يُتلى أساسًا؛ نص يحضر في لغته "البعدُ الغيبي الشعائري" بما هو بعد وجداني روحي يتيح استبطانًا قلبيًّا للحقائق الغيبية المتعالية من خلال تلق تعبدي وترتيلي يتجسد، بشكل واضح، في شعيرة الصلاة والتلاوة التنسكية[1]، وهي تلاوة يُؤْجَر فيها "القارئ" (التالي المتعبِّد) عن كل حرف من حروف القرآن الكريم[2]؛ مثلما يحضر في لغة هذا النص "البعدُ التاريخيّ التشريعي" بما هو بعد يتعلق بتدبير سيرورة الحياة في الاجتماع والتاريخ وصيرورتها، ويتمثل في كثير من الأحكام المتعلقة بالعلاقة بأهل الكتاب والمشركين والمنافقين... ثم بأحكام أهل الإيمان في العقيدة والمعاملات؛ كالزواج والطلاق والإرث والمعاملات الاقتصادية والاجتماعية..، فيما بينهم ثم بينهم وبين غيرهم في السلم والحرب... إلخ.

إنّنا إزاء نص يتداخل فيه الروحيّ الغيبي بالتاريخي الأرضي، والتوجيهُ القلبي المتعالي بالتوجيهِ التدبيري الاجتماعي، وهو ما يتبدى في تنوع مستويات لغة الوحي. على أنّ المقصد الديني التوحيدي الموجِّهَ للتاريخ نحو غائية السعادة في الدنيا وطلب النجاة في الآخرة، هو المهيمنُ على مختلف مستويات لغة الوحي. ويمكن القول إنّ هذا المقصد يتبدى ويتبلور بشكل واضح في "البعدِ القِيمي الأخلاقي" للغة الوحي، وهو البعدُ الذي يُشكِّل الواشجَ العميق بين البعدين "الغيبي الشعائري" و"التاريخي التشريعي". إنّها مستويات ثلاثة، نرى أنّها تشكل النسيج الدلالي القرآني، ومن خلالها يتشكل الوعي الإدراكي الإيماني المتمحور حول "مفهوم" مركزي رئيس يحضر بسبحانيته وتعاليه في بؤرةِ الوحي القرآني؛ ذاك هو "مفهوم" ("الله"). فكيف يحضر هذا "المفهومُ" في المستويات الثلاثة للغة القرآنية، "المستوى الغيبي الشعائري"، و"المستوى التاريخي التشريعي" و"المستوى القيمي الأخلاقي"!؟

لنسجل، بداية، أنّنا لن نتتبع هنا بتفصيلٍ حضورَ هذا "المفهوم" طبقًا للقراءات التي تعاملت مع الوحي، والتي كانت تتأثر بمرجعيات قراءتها وبإكراهاتِ تاريخيةِ فهم الوحيِ وموجِّهاتها في هذا الفهم، مثلما أنّ بحث مثل هذا "المفهومِ" على المستويات المذكورة يتطلب تضافر جهود كبيرة من تخصصات متنوعة تجمع بين اللساني والبلاغي والتيولوجي والأنتروبولوجي والسيميائي وعلم الأديان المقارن... إلخ، مما يعني أنّ عملاً جماعيًّا مُؤَطَّرًا ومُنظَّمًا هو الكفيلُ بتقديم رصدٍ دقيق لجينيالوجيا هذا "المفهوم"، وتاريخ إدراكه، ومسارات نشأة هذا الإدراكِ وتشكله وتطوره وتوسعه في القرآن الكريم، وذلك من خلال قراءاته المختلفة على مر الأزمنة والعصور، وبالمقارنة مع حضور "المفهوم" ذاته في قراءات النصوص الدينية الكبرى في الأديان التوحيدية، وفي غيرها من الأديان التي احتفت بهذا "المفهوم"، والتي انتعشت، أساسًا، في منطقة الهلال الخصيب الممتدّة على حوض نهري دجلة والفرات والجزء الساحلي من بلاد الشام، ثم في منطقة البحر الأبيض المتوسط. لذا، لا يعدو ما نقترحه هنا أن يكون إلماعاتٍ يمكن اعتبارُها محفِّزاتٍ ومُحرِّضاتٍ على الاقتراب الممكن من هذا الأفق المعرفي الرحب والمنشود.

ونؤكد أيضًا على مهاد رئيس آخر، وهو أنّ هذا النمط من الاقتراب الذي ننشدهُ يتعلقُ بالإدراك البشري لأفقٍ يتقدم في رحابةِ مُطْلَقٍ يستعصي على كل "حدٍّ" أو "تعريف"؛ نمطٍ يسعى لرصد مسارِ الإدراكِ لا المُدرَكِ المُقدَّسِ في ذاتهِ، مما يفترضُ أنّ للمفهوم المُدرَكِ تاريخًا، وأنّه ما فتئ يتحوَّل ويصير، ومن ثم يلغي أي تعاط جوهراني مع مفهوم ثابت يشكل ماهية مطلقة لا تتحول ولا تصير[3]؛ ذلك أنّنا قررنا آنفًا أنّ هذا المنظور يرى إلى الحقيقة إنتاجًا تشاركيًّا بين النص والقارئ، وما دام القارئ يتغير بوصفه خلفيةً ومكونات ومسبقات وسياقات وأدوات وأفقًا، فإنّ الحقيقةَ المنتجَة لا محالة متغيرةٌ تبعًا لتغير هذه المحدِّدات[4]. لكن هذا لا يعني أيضًا، كما سلف، تمييعَ "المفهوم" بحيث يغدو النصُّ مجرد ذريعة لصياغة أي صورة مفهوميةٍ عن ("الله") دون مراعاة "شخصية" النصِّ و"أخلاقه"؛ أي دون اعتبار شروطه اللغوية والدلالية والسياقية والبنيوية. من هنا نذهب إلى أنّ النص يقدم نواةً ممتدةً لهذا "المفهوم"، تلك النواة التي ما تفتأ تتبلور وتأخذ صورًا تاريخيةً شتى بحسب المعطيات المؤثرة في الفهم والقراءة.

وبناءً عليه، وأخذًا في عين الاعتبار هذه النواة، نطرح السؤال المفتاح: كيف يمكن التقاط المعالم الأولى لهذا "المفهوم" حسبَ تمفصلاتِ المستويات المشار إليها آنفًا في النص القرآني، أعني "المستوى الغيبي الشعائري"، و"المستوى التاريخي التشريعي" و"المستوى القيمي الأخلاقي"، وكيف يمكن استثمار تلك المعالم والتمفصلات لتقديم أفق تأويلي مفتوح للمعنى القرآني يراعي تعالي الوحي وصيرورة التاريخ؟؟

I- المستوى الغيبي الشعائري

من خلال فحص الصورة المفهومية المتبلورة عن ("الله") في القرآن الكريم على "المستوى الغيبي الشعائري"، يمكن القول إنّ ("الله") يُدرَكُ في هذا المستوى بوصفه خالقًا معبودًا مخصوصًا بالألوهية دون غيره، وهو إله واحد أحد فرد صمد خلق الأكوان وأوجد الموجودات لتقوم شاهدة على وجوده وكماله المفارق، وقد خلق الإنسان وكرَّمه على سائر المخلوقات لكي يتحمل مسؤوليةَ "الاستخلاف في الأرض"، ويضطلع بوظيفة العبادة بما هي ارتقاء لا نهائي في معرفة المعبود المطلق في أسمائه وصفاته، المُنَزَّه عن الشبيه والمثال. بهذه الحقائقِ بعثَ "الله" إلى البشرِ رسلاً منهم، ليذكروهمْ بمسؤولية الإنسانِ في حمل "أمانة" الاستخلاف، والتي جعلت حياةَ هذا الإنسان مدار َاختبار ومناطَ ابتلاء؛ وذلك لمعرفة مدى قدرته على القيامِ بأعباءِ هذه الأمانةِ والوفاء لأصله الإلهي بما هو نفخة إلهية، ومن ثم اختبار مدى قدرته على احتواء غرائزه وميولاته وحيوانيته وطبيعانيته، ومدى قدرته على السيرِ وفق الأفق الاعتقادي والسلوكي الذي بسطهُ الوحي الإلهي، وهذه القدرة هي موضوعُ محاسبة اقتضتها مسؤولية الاستخلاف المذكورة، ليُكافَأ بالنعيم أو يُعَاقبَ بالجحيم عند البعث في الآخرة.

من هنا، يعتبر اسمُ الذاتِ ("الله")، على المستوى الغيبي الشعائري، دالاًّ ينحصرُ مدلولُه في أسماءِ الله وصفاتِه كما بسطها القرآنُ الكريم؛ أما "ذاتُه" فهي غيب في غيب، ومن ثم كان التواصل مع هذا الغيب الغيبي تواصلاً بالقلب والجَنان لا بالعقل والبرهان؛ هو تواصل يتوسل فيه المؤمن بالشعائر التعبدية "التوقيفية"؛ أي التي أمره بها القرآن وورثها عن السنة النبوية الجامعة بين القول والعمل والحال، وهي العبادة التي أرسى أصولُ الفقهِ قواعدَ استنباطها، وبلورها الفقه في بناءات معرفية سعى من خلالها إلى تقعيد العبادة وتقنينها مضفيًا القداسة على هذا التقعيد - مثلما أضفاها علم الأصول على مفاهيمه الاستنباطيةِ - ومحددًا صورها المشروعة في ما انتهت إليه "مذاهب فقهية" أُغلق فيها النقاش إلا من بعض الفروع، وذلك من أجل تكريس "توقيفية" العبادة. وقد تدخلت السلطة الزمنية والسياسية في تسييد هذا المذهب هنا أو هناك بحسب الاحتياجات الإيديولوجية لكل سلطة أو الرهانات التاريخية لكل مرحلة.

و يمكن إجمالُ محور هذا المستوى المحدد لإدراكِ "مفهوم" ("الله") وتلخيصُه في أسس: "الإيجاد"، و"أمانة الاستخلاف"، و"النبوة"، و"التوحيد"، و"العبادة"، و"البعث"، و"الثواب والعقاب". وتجد هذه الأسس معناها في أسماء الله وصفاته، كما تتبلور في لغة قرآنية ذات أسلوب روحاني متوهج، يتوسل بالمجاز والسرد وترميز كل كلمات الكون وأشيائه لجعلها مُؤَثِّثَةً للوعي الإيماني للفرد؛ أسلوب يستنفر "التدبر" و"التفكر" و"التذكر" و"التعقل" من أجل استبطان المعنى الغيبي الشعائري للدين بما هو تعرف ومعرفة قلبية بـ"الله"؛ باعتباره إلهاً يستوجب "الوحدانية" المطلقة وصفات الكمال المطلق كما تجسدها "أسماء الله الحسنى". وهو الأفق الذي ينبسط بجلاء في القرآن المكي وآياته أسلوبًا ودلالاتٍ وإيقاعاً ونسقًا.

II- المستوى التاريخي التشريعي

ظل القرآن الكريم ينزل بتفاعل مع التاريخ الأرضي مدة ثلاث وعشرين سنة، لذا تفاعل مع فضول بشري ما فتئ يطرح السؤال، كما يؤشر عليه بجلاء فعل الأمر "قل" الذي اقترن بجملة "يسألونك" في اثني عشر موضعًا في القرآن الكريم[5]؛ فضلاً عن ارتباط الوحي بتفاعلات الدعوة المحمدية في مختلف أطوارها التاريخية، مثلما تبدى ذلك بشكل واضح في إفراد علم من علوم القرآن لبيان صلة الوحي بالتاريخ من خلال ما يعرف بـ"أسباب النزول".

و مثلما طرح الواقعُ على الوحي أسئلة تتعلق بالأصل والمآل والساعة (القيامة) والروح والبعث والحساب والجنة والنار... إلخ، وأسئلة تتصل بأشكال العبادة والشعائر التنسكية والقربات..، وأخرى تتعلق بالأديان السابقة والرسل المنصرمين وكتبهم وتعاليمهم وأقوامهم ومصائرهم...؛ طرح كذلك أسئلة تهم تدبير الحياة المعيشة في الزواج والطلاق والتبني والإرث... وكل ما يتعلق بما صار يسمى لاحقًا بـ"الأحوال الشخصية"، أضف إلى ذلك أحكامًا تخص المعاملات الاجتماعية والاقتصادية بين أفراد "الجماعة المؤمنة"، ثم بينها وبين غيرها من "الملل" في السلم والحرب... وقد اقتضت الأسئلةُ الأخيرةُ أجوبةً صارت بفضل مجهود بنائي فقهي متين تمثل الوجه التشريعي للإسلام، ومن خلالها ترتسمُ صورة مفهوميةٌ لـ ("الله") بوصفه "مُشرِّعًا" أو "شارعًا"؛ صورة ظلت منفتحة استنادًا إلى مصادر تشريعية حددها علماءُ الأصولِ في الكتاب والسنة، وألحقوا بها مصادر أخرى مثل الإجماع والقياس، بل وتفاوتت فعالية صورة الإله المشرع بتفاوت (واختلاف) المُعتمَدات التشريعية وأصولها بين المذاهب الفقهية وآليات تشغيلها..إلخ. وعلى الرغم من أنّ العملية التأصيلية لم تكف عن إضفاء البعد القدسي على مختلف المصادر والأصول، إلا أنّ تشغيلاتها ما فتئت تُوسِّع من دائرة الاختلاف في الفهم والتنزيل بحسب السياقات والظروف، مما أعطى رحابةً قانونيةً للتشريع أضحت معها الإحالةُ على ("الله") باعتباره "مُشرِّعًا" إحالةً بالتفريع لا بالأصالة.

وبالعودة إلى اللغة القرآنية لالتماس الخصائص اللغوية والتعبيرية للمستوى "التاريخي التشريعي" وضبط إسهامها في التشكيل الإدراكي لمفهوم ("الله")، نسجل أنّ الآيات التشريعية القرآنية أقلُّ عددًا في المنظور الإحصائي من آيات المستوى السابق. وإذا كان انتعاشُها واضحًا في القرآن المدني لارتباطها بشروط إنشاء الدولة ومقتضياتها وما تستلزمه وتحتاجه من "تشريع"، فإنّ لغة هذه الآياتِ، وإن كانت تنحو نحو التقريرية والمباشرة واستنفار المنطق الاجتماعي والروح التدبيرية لحياة الجماعة، فإنّها لم تكنْ لتنفصل عن آياتِ المستويين "الغيبي الشعائري" و"القيمي الأخلاقي" ولغتهما، سواء من خلال التوالج أو المجاورة النصية، الأمر الذي نستطيع تلمسه في قابليةِ الآيات التشريعية للقراءة التعبدية النسكية نفسها التي أشرنا إليه آنفًا، وهو ما ظلت تُتلقى به كسائر الآيات القرآنية، مما يعطي، من وجهة نظر فقهية، للآيات التشريعية قوةً روحيةً خاصة لتفعيل تنزيلها وتطبيقها، ومما قد يُفْرِغها، من وجهة نظر مغايرة، من قوتها القانونية التقريرية لانغراسها في نسق روحاني ينحو نحو مخاطبةِ القلب والتوسل بالإيحاء والمجاز لتغذية القلوب وصياغة الوجدان الديني والوعي الإيماني للمؤمنين.

III- المستوى القيمي الأخلاقي

لقد مر معنا أنّ هذا المستوى هو الذي يشكل الواشج الرقيق والدقيق بين المستويين السابقين؛ ذلك أنّ مجمل القيم الروحية والأخلاق الدينية التي تتبلور في الآيات القرآنية ذات امتدادين، امتداد أول في "المستوى الغيبي الشعائري" باعتبار المصدر الإلهي لتلك القيَم، وباعتبار أنّ "المستوى القيمي الأخلاقي" يبلور "تعاليم إلهية" لها مترتباتٌ ونتائج على المآل الروحي والمصير الأخروي للمؤمن، حيث يشكل الالتزام بهذه التعاليم علامةً على صدق الإيمان، وأمارةً على الأثر القلبي النافذ الذي يُطلب من إقامة الشعائر، والذي مداره روحنة حياة المؤمن وجعل مقتضياتها في خدمة أمانة استخلافه في الأرض لا في خدمة أهواء نفسه وميولاتها؛ ثم امتداد ثان في "المستوى التاريخي التشريعي"، حيث يظهر "المستوى القيمي الأخلاقي" في البعد الغائي من الأحكام التشريعية الواردة في القرآن الكريم، والتي تطلب مقاصد رئيسة تؤول إلى تحقيق تلك القيم والأخلاق المتعالية في السياقات التاريخية والاجتماعية والثقافية المعيشة، فكل الآيات التشريعية تشفع في القرآن الكريم بالتذكير بمقاصدها مثل طلب "العدل" و"الرحمة" و"الحق" و"الخير" و"المودة" و"السكينة" و"التيسير" و"الجمال"... إلخ، في الدنيا، والمفضية إلى النجاة في الآخرة كما تبلورت علاماتُ هذه النجاة في آيات "المستوى الغيبي الشعائري".

بهذه المثابة، يضطلع "المستوى القيمي الأخلاقي" بتجسير العلاقة بين "الإيمان" و"العمل الصالح"، وبذلك تمتدّ الصلة العضوية بين الإيمان بالغيب وإقامة الشعائر وبين الالتزام العملي والتحقق التاريخي بالتشريعات والأحكام المقرَّرة؛ ذلك أنّ "المستوى القيمي الأخلاقي" يعتبر تجريدًا مؤمثِلاً لمقاصد "أمانة الاستخلاف" كما تنطرح في "المستوى الغيبي الشعائري"، وكذا لمقاصد "التشريع" مثلما ينطرح في "المستوى التاريخي التشريعي"، ومن ثم يصبح القصد الرئيس تضافر المستويات الثلاثة هو "تكريم الإنسان" (بني آدم). إنّه "مقصد المقاصد"، وكل فهم للمستويات الثلاثة ينأى عن هذا المقصد هو، في اعتبارنا، فهم قاصر لآي القرآن الكريم ولروح رسالة الإسلام. ومن ثم يشكل "المستوى القيمي الأخلاقي"، في نظرنا، بؤرة الدين لكونه الواشج بين الغيب والشهادة، بين اللامرئي والمرئي، بين المتعالي والتاريخي، بين الثابت والمتحول. وهو ما يتبدى بعمق في اللغة التي يتجسدن بها هذا المستوى، وكذا في أسلوب العرض الذي ينبسط به في النسيج النصي القرآني.

تتعدد علامات هذا الأسلوب، لكن مَعْلمها الأبرز هو المنحى السردي القصصي الذي يتخذ في نسيج الآي القرآني موقعًا رئيسًا يتغيى به "تثبيت الأفئدة على الحق" و"تحصيل الاعتبار"، أي يقصد منه تمنيع أهل الإيمان ضد تناقضات التاريخ ومفاجآته ومفارقاته، مثلما يقصد منه إبراز أشكال التمفصلات الممكنة بين الإيمان والتاريخ، بين الغيب والشهادة، بين القيم المثلى وإكراهات تحققها التاريخي، أي إبراز مختلف أشكال التوتر بين المثل الإلهية المطلقة، وبين تمزقات تنزيلها البشري في التاريخ النسبي.

وبالنظر إلى هذه الغاية النفيسة التي يطلبها الأسلوب السردي القصصي القرآني، سيكون من باب العبث البحث في تاريخية ما يسرده القصصُ القرآني، ذلك أنّ الغاية المطلوبة لم تكن تقديم معرفة تاريخية بالأزمنة السالفة؛ إذ لا نجد في هذه القصص تركيزًا على أسماء الأعلام والأماكن والتواريخ وكرونولوجيا الأحداث، بقدر ما نجد مقتطفات من هذه العناصر منتقاة بشكل يخدم الغاية المقصودة بحسب تطور مراحل الدعوة المحمدية، وهذا ما يفسر تكرار سرد القصة ذاتها في أكثر من موضع في أنساق وسياقات مرتبة ترتيبًا لا يوافق ترتيبها الكرونولوجي التاريخي، لأنّ الأفق "القيمي الأخلاقي" الذي تطلبه القصص لا يقتضي تلك الكرونولوجيا، مثلما لا تقضيها امتداداته في المستويين "الغيبي الشعائري" و"التاريخي التشريعي".

وفي ضوء هذا النزوع للتعالي عن التاريخ مع الانغراس فيه، تتشكل الصورة المفهومية لـ ("الله") على هذا المستوى. إنّها تتخذ بعدًا أخلاقيّا يجعل من ("الله") ضامنَ القيم الأخلاقية في كونيتها لملاءمتها للفطرة التي خلقها. فقيم "العدل" و"الرحمة" و"الحق" و"الجمال"... هي قيم إلهية، ومن ثم لا يُتصور ("الله") في القرآن الكريم إلا عادلاً رحيمًا جميلاً؛ إذ هو "الحق" عينه الذي وسعت رحمته كل شيء. وهذا الإدراكُ لـ ("الله") بما هو ضامن للقيم الأخلاقية العليا في إطلاقيتها، يحيل على العبادة في حقيقتها بما هي معرفة. إنّ التعرف على هذه القيم يستحيل إلى سعي حثيث نحو التخلق بها، من هنا تضحي مركزية ("الله") في القرآن الكريم على هذا المستوى، الذي يشكل كما سلف بؤرة النص والواشج بين المستويين الآخرين؛ تصبح تلك المركزية خادمة "للإنسان"، باعتبار استخلافه في الأرض ينحو بوجوده نحو استشفاف النفخة الإلهية التي صدر عنها، وصونها في التاريخ وبه ومن خلاله، وذاك هو الرهان الذي زوده "الحق" بنور إلهي مخصوص ليضطلع به، إنّه نور "العقل" المضيء والمقتبس، المنير والمستنير من نور "القلب".

إنّ تصوراتنا المفهومية عن ("الله") والمنبثقة أساسًا من قراءة المستويات الثلاثة في النص القرآني، تؤكد من ناحية على ضرورة الإقرار بالعود الأبدي للمعنى؛ أي جعل هذه التصورات دائمة التجدد في الفهم والقراءة بما يجعلها تشج بين ما هو "غيبي شعائري"، و"تاريخي تشريعي"، و"قيمي أخلاقي"، بشكل يجعل إدراكنا لـ ("الله") منتجًا للمعنى الروحي، ونافعًا في التدبير المعيشي، وفعالاً في التأطير الأخلاقي. وهو ما يقتضي عملاً تحيينيًّا دائمًا للفهم على مستوى الطرح واللغة والمفهمة والاستدلال، كما يقتضي اجتهادًا تحيينيًّا ابتكاريًّا لجعل المستوى "التاريخي التشريعي" مواكبًا لمختلف التغيرات الأنتروبولوجية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والحضارية والتقنية والتواصلية والعلمية التي تشهدها حياتنا في مختلف مجالاتها ومناحيها؛ وهو اجتهاد ينضبط بمتعاليات "المستوى الغيبي الشعائري" وبالمقاصد القيمية والأخلاقية العليا التي يتأسس عليها الإسلام كما تبلورت أساسًا في النص القرآني؛ وهي المتعاليات والمقاصد التي يجب أن تشكل معيارًا رئيسًا سواء في التعامل مع ما وصلنا من السنة النبوية، أو في غربلة الموروث التفسيري والفقهي الذي صار، في لحظة من اللحظات، يحجب عنا ما يكتنزه النص القرآني من إمكانات لا نهائية للفهم ترتاد آفاقًا جديدة للمعنى لم يكن في مُكنة الأقدمين ارتيادها؛ إمكانات تشج بشكل أكثر إجرائية وبمنظور إنسي كوني بين متعاليات الرسالة القرآنية ومقاصدها، وذلك وفق تصورات رحموتية أكثر عمقًا وإدهاشًا في فهمنا للمطلق الإلهي.

ليس معنى هذا أن نحمّل "المستوى التاريخي التشريعي" مسؤولية المعالجة القانونية لمختلف القضايا والأسئلة والمشاكل التي تطوق حياتنا المعاصرة، فهذا أمر لا يتوافق مع طبيعة النص القرآني الذي يعتبر نصًّا دينيًّا مؤسِّسًا قبل كل شيء، فهو ليس كتابًا قانونيًّا ولا مدونة تشريعية، وإنّما هو نص تأسيسي ديني مناطه الهداية، مما يجعل من هذا المستوى في القرآن الكريم أفقًا نموذجيًّا للتشريع يقدم شكلاً تاريخيًّا يوائم، في لحظة التنزيل، بين المتعاليات الغيبية والشعائرية والمقاصد القيمية والأخلاقية.

إنّ المستوى التشريعي هو بالضرورة مستوى تاريخي؛ ذلك أنّه يرتبط بشروط الزمان والمكان والأعراف ومقتضيات المعيش في ذاكرة معينة وضمن اشتراطات جغرافية واجتماعية وثقافية وحضارية مخصوصة، ومن ثم فإنّنا نذهب، على غرار بعض المجتهدين من علمائنا ومفكرينا المسلمين على قلّتهم، إلى كون هذا المستوى يشكل نموذجًا تاريخيًّا لتجسيد المقاصد الأخلاقية والقيمية العليا التي يطلبها القرآن الكريم، والتي عملت على شحذها وتغذيتها بالروح والمعنى متعالياتُ "المستوى الغيبي والشعائري". وعليه، إذا كانت متعالياتُ هذا المستوى ومقاصدُ "المستوى القيمي والأخلاقي"، متعالياتٍ ومقاصدَ لا ينال الزمن والتاريخ منها، وإنّما تحتاج فقط إلى تجديد في الفهم والقراءة لتجديد أنساق طرحها بما يتلاءم وتجدد معقوليات العصور المتعاقبة وتطورها المعرفي العلمي، فإنّ أحكام "المستوى التاريخي التشريعي" هي إجرائية وفعالة بقدر قدرتها على تحقيق تلك المتعاليات والمقاصد وتجسيدها في السياق التاريخي المتجدد، ومن ثم فهي تغدو أحكامًا نموذجيةً تترجم تلك المتعاليات والمقاصد في سياق تاريخي معين، وتشكل سُلَّماً - أي نموذجًا - وأفقًا لعمل أهل الإيمان، وما يجب أن يؤسسوه ويجددوه في هذا المستوى لكي يصلوا، بشكل متجدد، تلك المتعاليات والمقاصد بسياقهم التاريخي المخصوص، المرتبط حتمًا باشتراطات التطور البشري وأنماطه المعيشية المتجددة في مختلف المجالات والمناحي الحياتية الدنيوية.

إنّ قداسة الآيات التشريعية في النص القرآني تستمدها من مصدرها الإلهي باعتبارها نماذج للعمل التاريخي في التوليف والتوشيج بين متعاليات "المستوى الغيبي الشعائري" ومقاصد "المستوى القيمي الأخلاقي"، ولا تستمدها من حرفيتها أو من معناها الظاهري؛ لكون أفقها "التشريعي" و"القانوني" هو بالضرورة أفق تاريخي متحول كما اقتضت ذلك الحكمة الإلهية التي جعلت التاريخ دائم التحول والصيرورة.

ولعل من شأن هذه القراءة التحريرية للمعنى أن تُطلق سراح "العقل القانوني" في المرجعية الإسلامية المعاصرة، وأن تتفادى العديد من التناقضات والانفصامات بين السمو الروحي للمتعاليات الغيبية والشعائرية وكونية المقاصد القيمية والأخلاقية، وبين اضطرارية الفهم الحرفي للآياتِ التشريعيةِ في النص القرآني، مما يعود بالسلب على قوة الأثر الروحي والأخلاقي لتلك المتعاليات، ويعصف بتلك المقاصد القيمية الكونية عند محاولة الترجمة العملية لهذه المقاصد من خلال تلك الأحكام التي تبدو غريبة عن السياق التاريخي المعاصر، على الرغم من الاجتهادات المختلفة لمحاولة إعادة تبيئتها في نسق له المغايرة والاختلاف علامتان فارقتان عن سياق انبثاق تلك الأحكام ومجالها التداولي التاريخي.

هذا لا يعني، بأي حال من الأحوال، أن يصبح "العقل القانوني" في الإسلام أسير غربة أخرى، غربة "تغريبية"، بل المقصود أن يُعاد التفكير في مختلف الأسئلة التشريعية، القديمة والمستجدة، بالنظر إلى قوة "النموذج التشريعي القرآني" في تحقيق التوشيج بين متعاليات الغيب والشعائر من جهة، ومقاصد القيم والأخلاق في القرآن الكريم من جهة ثانية. هذا التوشيج هو الذي يستحق الاحتذاء والاقتداء وإعادة الإنتاج في السياق التاريخي المعاصر، لا الأحكام في عينيتها وحرفيتها. ولعل هذا المعنى المفتوح هو الذي ينبغي أن نفهم به تلك الآيات الكريمة التي تدعو إلى الحكم بما أنزل الله (مثل قوله تعالى: "وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ"[المائدة: 44]، "وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ"[المائدة: 45]، "وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ"[المائدة: 47]..)؛ أي الحكم بـ"العدل" المراعي لـ"الرحمة" و"الحق" في آن؛ إذ "العدل" هو المقصد الأعظم الذي تطلبهُ "حدود" تشريعية معينة في لحظة تاريخية معطاة؛ وبهِ يرمي التشريعُ إلى حمايةِ الإنسان وتكريمه بما هو مقصد المقاصدِ. بهذا تتوهج صورة مفهومية رحموتية لـ ("الله")، ما تفتأ تتكامل فيها معالم هذه الصورة في المستويات القرآنية الثلاثة.

يحتاج مثل هذا الأفق التأويلي المفتوح، الذي يقوم على العود الأبدي للمعنى، إلى اشتغال تيولوجي وأخلاقي وتشريعي كبير، مازلنا لم ننخرط فيه بالقوة والإرادة اللازمتين، لكون التعامل الإيديولوجي مع "الدين" يحول دون تفجير قوته التحريرية الكونية التي جاء ليمنحها لـلإنسان باعتباره أثر النفخة الإلهية الأسمى في الكون. فمازالت هذه القوة تتعرض للكبت والاختطاف السياسيين، وذلك من أجل بناء مشروعيات سياسوية أو مذهبية أو طائفية تختطف الدين وتغتال الإنسان لتئد فيه قوة التحرر والإبداع؛ بل تغتال فيه تلك النفخة الإلهية التي تجعل منه مشروعًا إبداعيًّا لا نهائيًّا على طريق معرفة الكون بما فيه نفسه، ومن ثم معرفة الله المطلق معرفةً تورثه المحبة بما هي تجدد دائم في طلب المعرفة لتجديد هذه المحبة وتأبيدها. على أنّ هذا الإنسان، بما هو مشروع إبداعي، هو نتاجُ زواج سعيد بين "العقل" و"القلب"، بين عقلانية منفتحة وروحانية متجددة، أو قل بين فضول معرفي تساؤلي وحس جمالي روحي، وهما عنصران يتضايفان ببهاء في القول القرآني الكريم لتغذية تلك الصورة الرحموتية بملمح باذخ عن ("الله") بما هو إله "عليم" و"جميل"؛ أي مطلق العلم والجمال.

IIII- في جمالية القول الكريم

يشعر تالي القرآن الكريم، سواء بغاية التعبد أو الاكتشاف أو الدراسة، أنّه إزاء نص استثنائي يختلف عن نصوص زمانه؛ أكانت أشعارًا أم خُطبًا أم تعزيمات، أم أخبارًا ومسرودات ومرويات..إلخ. هذا الشعور، الذي ما يفتأ يستولي على تالي القرآن الكريم، تتضافر في تشكيله الألفاظ والتراكيب والإيقاع والتوزيع الجُملي.. قبل المعاني والدلالات والقيم الغيبية الشعائرية والتاريخية التشريعية والأخلاقية القيمية التي تسبح في فلكها وحداته النصية الموسومة بـ"الآيات"، وهو وسم يحيل على دلالتي "العلامة" و"المعجزة" قبل أن يصير دالاًّ على الوحدة النصية الدلالية الصغرى في النص القرآني.

إنّ الشعور باستثنائية النص القرآني هو التقاط ذوقي مستبطِن لجماليته، التقاط يتقدم في صورة "دهشة" هي أولى العلامات على جمالية النص الاستثنائية. على أنّ "الدهشة" هنا ليست سوى تلك الحيرة التي تختطف القارئ أو المتلقي حين يُلْفِي نفسه إزاء بهاء غير متوقع؛ حيرة منبعها فجأة اكتشاف بهاء لا مفكر فيه، بهاء قادم من ضفة مجهولة، يشرق من مغرب اللغة، بهاء يستمد ألقه من إرباكه لقدرة التوصيف والتصنيف لدى المتلقي، إنّه "قول كريم" في مبناه ومعناه، في مصدره ومقصده.

ربما لم نهتد بعد إلى اجتراح أدوات نقدية ومفاهيم قرائية ومناهج تحليلية كافية لإضاءة "كرم" هذا القول وخصوصيته الجمالية الروحية الاستثنائية؛ ذلك أنّ جل الأدوات والمفاهيم والمناهج التي توسل بها المتوسلون في قراءة اللغة الدينية القرآنية، كانت مستعارَة ومستقاة من جهاز قرائي تشكل في حضن نصوص غير دينية، قديمة وحديثة. وعلى الرغم من المحاولات العديدة "للمواءمة" بين ذاك الجهاز القرائي واللغة الدينية القرآنية، محاولات لم تخل من إبداع، فقد ظلت هذه اللغة متأبية عن كشف أسرارها المخصوصة التي منها ينبع كيمياء الخشوع والسفر القلبي نحو عوالم المعنى الغيبي الإيماني، ذاك المعنى الذي لا يقوله حرف ولا يحتويه وصف. من هنا تظل جمالية النص القرآني ضوءًا هاربًا، يقتضي منا المداومة على الانغراس في اللغة القرآنية والتطوير الدائم لمفاتيح الاقتراب منها ومفاهيمه وأدواته بشكل نصغي فيه إلى صمتها وصوتها؛ ونجتهد للنظر فيها بعينيها، والتأمل المتجدد في أبعادها ومناحيها، علنا نرصد بعضًا من أسرار بهائها الاستثنائي المخصوص.

نعم، لقد تنوعت محاولات التقاط بعض "أسرار" هذا البهاء في علوم القرآن، كما هو الشأن مثلاً في مبحث "الإعجاز القرآني"، والذي تعددت مبادئه في البلاغة والإخبار بالمغيبات، وتحدي فصحاء "الإنس" و"الجن" وبلغائهم.. إلخ، ثم توسعت تلك المحاولات في أزمنة لاحقة لتشمل "الإعجاز العلمي" في الآيات الكونية القرآنية تعيينًا ؛ و"الإعجاز العددي" الذي تولت اكتشافَه رؤيةٌ تحليلية رياضية متخصصة؛ ليأتي الحديث عن "إعجاز وجداني" يلغي كل المظاهر السالفة ويعتبرها إما "ظرفية" أو "تمحلية"، معتبرًا "الإعجاز القرآني" وجدانيًّا تلتقط خلاله الروحُ "نغمةَ الألوهية" في الآياتِ حين تتواصل مع طبيعة الوحي باعتبارها صلةً بالله كامنةً في فطرة الإنسان كمون النار في الحجر. فيما تغادر مقارباتٌ أخر منظور "الإعجاز" لتحاول النظر في اللغة الدينية القرآنية بمنظور لساني وسميائي وآخر أنتروبولوجي يحتفي بـمفاهيم مثل "المتخيل" و"الميث" و"العجائبي"... إلخ؛ وذلك في محاولة لالتقاط خصوصية هذه اللغة خارج الوقوع في "دهشتها"، بل في محاولة لكشف مسار هذا "الإدهاش" نفسه وفضح إوالياته.

ومع هذا وذاك، نؤكد أنّ "الإعجاز" لا يتعلق في سياقنا بتحد لقدرة "الإنس" و"الجن" أن يأتوا بمثل هذا القرآن، ولا بـ "صرفهم" عن ذلك من قبل الرحمن، مثلما لا يتعلق الحديث عن دهشة اللغة القرآنية من خارجها؛ لأنّ ذلك يبدد أمل التقاط أسرارها. بل يتعلق الأمر باشتغال محايث مخصوص من أجل فهم أسرار اللغة الدينية الشعائرية وما تمتلك من كفاءة استثنائية لتكون برزخًا بين ما ينقال وما لا ينقال؛ بين المرئي واللامرئي، بين النسبي والمطلق؛ بين المحدود واللا محدود، بين الممكن والمستحيل، بين البشري والإلهي، بين التاريخي والمتعالي. هذه البرزخية هي التي ترفد، في نظرنا، لغة الوحي بجمالية استثنائية تؤهلها لتغذي في المؤمنِ إدراكاً تصوريًّا ووجدانيًّا متفردًا عن ("الله")؛ وتمكنها من تحقيق تواشج عضوي بين "المستوى الغيبي الشعائري"، و"المستوى التاريخي التشريعي"، و"المستوى القيمي الأخلاقي"؛ بحيث لا تتجاور هذه المستويات في اللغة القرآنية بل تتحاور، ولا تتحاذى بل تتصاهر، ولا تتضام بل تتفاعل، وذلك في تذاوب كيميائي تلتقطه الروح عند دهشتها إزاء هذه اللغة. وهذا واحد من علامات جماليتها الاستثنائية التي تحتاج، كما سلف، إلى عمل استكشافي دائم، سواء من خلال الاستبطان الإيماني الروحي أو من خلال التحليل المعرفي العقلاني؛ وذلك من أجل استشفافِ "كرم" القول القرآني الذي ليس سوى عود أبدي للمعنى؛ عَوْد يعانقُ الغرابةَ والمغايرَةَ، ويقطنُ فيه الاختلافُ التكرارَ؛ إذ بهذه الملامح فقط يضمنُ هذا العودُ أبديةَ النصِّ وخلودَه، أي يضمنُ لهُ، بشكل لا نهائي، تناسل "عجائبه" وتعدد "أوجهه"، مما يعني امتدادَ تعاليه في مجرى التاريخ.


[1]- يقول تعالى مثلا: "أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ، إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا" (سورة الإسراء 78).

[2]- يقول النبي صلى الله عليه وسلم مثلا: "مَن قرأ حرفًا من القرآن فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: ألم حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف". (أخرجه الإمام الترمذي في "سننه" في كتاب [فضائل القرآن] باب: ما جاء فيمَن قرأ حرفًا من القرآن ما له من الأجر، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه، رقم [2835]).

[3]- لعل هذا التوضيح يفسر كتابتنا للفظ "المفهوم" بين مزدوجتين حين نعني به الله، مثلما نضاعف الأمر مع اسم الذات نفسه فنجعله بين مزدوجتين وسط قوسين: ("الله"). إنّه تأكيد على أنّنا نقف على أرضية مفاهيمية نسبية وإدراكية بشرية في التعاطي مع مصطلحات مبللة بالتقديس، ولها شحناتها الروحية وإيحاءاتها المتعالية ومفاعيلها الإيمانية القوية التي يجب احترامها أثناء كل مقاربة موضوعية، ولو كانت تنطلق من مكان مغاير للقراءة.

[4]- راجع مقالنا "رهان القراءة بين الأحادية والتعدد"، نشر على موقع "مؤمنون بلا حدود" بتاريخ 28-11-2014: http://www.mominoun.com/articles

[5]- منها قوله تعالى: "يسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا، قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي، لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ.."(الأعراف، الآية 187)؛ "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنفَالِ، قُلِ الْأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ، وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ.."(الأنفال، الآية 01)؛ "وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ، قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا.." (الإسراء، الآية 85)؛ "وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً.." (الكهف، الآية 83)"؛ "وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا.." (طه، الآية 105)...إلخ