القنوات الدينية ومعابر "الانتحار" الفضائية


فئة :  مقالات

القنوات الدينية ومعابر "الانتحار" الفضائية

القنوات الدينية ومعابر "الانتحار" الفضائية([1])


إن المناخ الذي يسود الوطن العربي يمتاز بالخوف النفسي والاضطراب الاقتصادي والقلق الاجتماعي، وذلك يشكل الأرضية الخصبة للقنوات الدينية للاستثمار فيها، انطلاقاً من استغلال هذا المناخ لجعل المواطن العربي تحت رحمة الخطاب التخويفي، خاصة عندما يرتكز على مشاهد الآخرة وعذاب جهنم، وما ينتظر هذا المواطن الذي يجد نفسه مستسلماً لهذا الخطاب، كونه يتعلق بالنجاة مهما كانت، ويتطلع إلى التخلص من الألم الذي يحاصره يومياً، ويعمل الخطاب الديني الإعلامي عبر الفضائيات على التواصل مع هذه الآلام والتعايش معها، وتقديمها على أنها نتيجة مباشرة لتقصير الحكام والقائمين على الأمر العام من خلال ابتعادهم عن تطبيق الشريعة الإسلامية، وهو نتيجة طبيعية لهذه القراءة. ومن ناحية أخرى، تقدم صوراً ووقائع تاريخية متناقضة تماماً مع الواقع الحالي، ولكنها تسوّق على أنها الحلول السحرية، وأن الواقع سيكون فيه من المتعة واللذة، ما يجعل الإنسان في موقع المستهلك، دون أن يقوم بأدنى جهد ولا يفكر في العمل أو التفكير في مصيره، وكيفية العيش في الحياة والتكيف مع ظروفها، ويسير الخطاب الديني نحو الماضي وليس التاريخ، ناشراً بذلك قيم الخمول والكسل والتراخي، ويدفع المستهلك إلى التطلع إلى العوالم الخيالية البعيدة عن الواقعي والمنطقي.

العملية الإعلامية الحديثة، متشابكة المفاهيم، ومعقدة الآليات، ومركبة الأهداف، ويغلب عليها الكثير من التطور والتغير، وتتجاذبها العديد من المدارس، وتتزاحم فيها النظريات، وهي نتيجة الجمع بين المستوى النظري والتطبيقي، ونتيجتها رسالة إعلامية مختلفة المجالات والأهداف، مما يجعل من السهولة الإقدام على استهلاكها، ولكن في الوقت نفسه نواجه صعوبة استيعابها في الكثير من الأحيان، لأن الأمر يتعلق بالتأثيرات التي تخلفها في واقع الحياة إننا إذ نتحدث عن الإعلام الديني لا نريد أن نتورط كما يفعل البعض بالدعوة إلى إقصاء هذا النوع من الخطاب، ولا يصل الأمر بنا إلى التهليل له، أو القول بأن التركيز عليه ضرورة ملحة، ولكننا نود فقط، أن يتنبه المسؤولون إلى الجانب الأخلاقي والفكري تجاه الأجيال الحاضرة والقادمة، وهذا من خلال لفت النظر إلى خطورته التي عايشناها طيلة السنوات الماضية، وأن التاريخ يجعلنا محترمين، إذا تمكنا من مسايرة الآخرين، ممن نجحوا في استثمار الموروثات الثقافية التي شكلت مجتمعاتهم، وحولوها إلى فرص نجاح، وحققوا بها الكثير من الإنجازات، وحموا بها المصالح العليا لبلدانهم.

ومن المعلوم، أن تناول موضوع الإعلام عموماً، والرسالة الإعلامية على وجه الخصوص، من أدق مجالات البحث العلمي في سياق الإعلام الديني الذي يحمل مفهومه، باعتباره وسيلة نقل مضامين الوحي المعصوم، ووقائع الحياة البشرية المحكومة بتغير قوانين التاريخ.

مؤكدٌ أن العملية الإعلامية مهما كان مجالها، فإنها تقوم على الأركان التالية: أولاً المرسل للرسالة، وثانياً المستقبل لها، وثالثاً الوسيلة التي تحملها، ورابعاً الرسالة المتضمنة، وخامساً الأثر الذي تنتجه هذه الرسالة، وإذ نختار الحديث عن موضوع الإعلام الديني، وبالذات في المرحلة الحالية التي يمر بها الوطن العربي، نعترف مسبقاً أنه موضوع من المفروض أن يكون نتاج مجموعة من الجهود والدراسات الجماعية التي تسعى للاقتراب من تلك الظاهرة الدينية وتفهمها، وبالذات في شقها الإعلامي بواسطة ما هو متاح من التقنيات والأساليب البحثية الحديثة، وذلك بهدف فهم تلك الظاهرة، والسعي إلى تفكيك مضمونها المفاهيمي ورصد تجسيداتها الميدانية، والوقوف عند نتائج تمظهراتها وتعاطيها مع القيم الجديدة، الناتجة عن العملية الإعلامية في الأوساط الدينية.

1- استراتيجية السلوك

يعمل خطاب القنوات الدينية على الاهتمام الكبير بالرسالة الإعلامية التي ينتجها، لأنه يراهن على التعاطي مع المنظومة السلوكية للمستهلكين عبر استراتيجية معدة مسبقاً من طرف الهيئات القائمة على هذه القنوات، وهي السلوكيات التي تكون في الغالب المستهدف الأساس في الرسالة الاعلامية، لأن المراد هو التحكم في إدارة سلوك المواطن وتوجيهه وفق الأهداف الاستراتيجية التي يرسمها الخطاب الديني الإعلامي، وفي مقدمة السلوكيات العلاقة مع الآخر، سواء الآخر القائم في المحيط الذاتي أو ذلك البعيد عبر تحديد المعنى الأساسي الذي تأخذه الصياغة النهائية لهذه العلاقة.

فالرسالة الإعلامية للقنوات الدينية موجهة بالدرجة الأولى، إلى المؤمن لا إلى المواطن، والمؤمن حسب هذا الخطاب المحكوم بمجموعة من القوانين الغيبية التي يتم تأويلها وتقديمها على أنها مسلمات مطلقة، مدعو إلى استهلاكها والتسليم لمنطقها.

يشكل الأسلوب الإخباري الذي يتكئ عليه خطاب القنوات الفضائية الاستراتيجية المهمة في تسويق خطابها، وهو الأسلوب المستمد من التراث السردي الإخباري في الحكايات والقصص القديمة، ويتم ذلك بالمزج المتعسف لأسلوب الأحاديث النبوية والحوادث والوقائع التاريخية، التي تمتلك التشويق والجذب، وتوقع المستهلك في شراكها الماضوي، بالتحديد للراغب في العيش في فضاءات أخرى تخفف عنه الألم اليومي.

إن الظاهرة على مستوى الخطاب، تمتد إلى قراءة الأفكار الكبرى التي تصنع نسق العملية الإعلامية الدينية، انطلاقاً من القاموس اللغوي المستخدم في هذا الخطاب، مروراً بالجهاز المفاهيمي الذي يتعاطى مع هذا القاموس، لأن ذلك تم بفضل الوقوف عند الخلفيات الفكرية التي تؤطر العملية الإعلامية الدينية، سواء كان في مرحلة الإنجاز أو في مرحلة ما بعد الاستهلاك. وقد يغلب هذا الاهتمام على الكثير من الاهتمامات.

إننا، إذ نتناول هذا الموضوع، نعرف ما يعانيه الإعلام الديني، وما يتكبده الصحفيون يومياً، في مسيرة النضال ليس من أجل مشهدية إعلامية تثري الساحة وتنعش المشهد، وتفتح الباب أمام آفاق جديدة، بل هم ينافحون من أجل الخبرية المهنية العادية، إننا نعترف بأننا نؤجل أحلامنا المشروعة، ولكن نأمل أن يتجه أولئك الذين لم تزل فيهم بواعث الإرادة أو الرغبة في إمكانية الانتقال إلى الضفة الأخرى من الواقع.

2- عقيدة الخلاص

إن المناخ الذي يسود الوطن العربي يمتاز بالخوف النفسي والاضطراب الاقتصادي والقلق الاجتماعي، وذلك يشكل الأرضية الخصبة للقنوات الدينية للاستثمار فيه، انطلاقاً من استغلال هذا المناخ، لجعل المواطن العربي تحت رحمة الخطاب التخويفي، خاصة عندما يرتكز على مشاهد الآخرة وعذاب جهنم، وما ينتظر هذا المواطن الذي يجد نفسه مستسلماً لهذا الخطاب، كونه يتعلق بالنجاة مهما كانت، ويتطلع إلى التخلص من الألم الذي يحاصره يومياً، ويعمل الخطاب الديني الإعلامي عبر الفضائيات على التواصل مع هذه الآلام والتعايش معها، وتقديمها على أنها نتيجة مباشرة لتقصير الحكام والقائمين على الأمر العام من خلال ابتعادهم عن تطبيق الشريعة الإسلامية، وهو نتيجة طبيعية لهذه القراءة ومن ناحية أخرى، تقدم صوراً ووقائع تاريخية متناقضة تماماً مع الواقع الحالي، ولكنها تسوّق على أنها الحلول السحرية، وأن الواقع سيكون فيه من المتعة واللذة ما يجعل الإنسان في موقع المستهلك، دون أن يقوم بأدنى جهد ولا يفكر في العمل أو التفكير في مصيره، وكيفية العيش في الحياة والتكيف مع ظروفها، ويسير الخطاب الديني نحو الماضي وليس التاريخ، ناشراً بذلك قيم الخمول والكسل والتراخي، ويدفع المستهلك إلى التطلع إلى العوالم الخيالية البعيدة عن الواقعي والمنطقي.

إن المتتبع لسلوكيات التيارات المنتجة لخطاب الإعلام الديني في العالم العربي، تعرف بممارسة الفوضى التي تعتمدها للسيطرة على الساحة الإعلامية في القضايا الدينية، وذلك راجع إلى الخلل في الرؤية والسعي إلى مجاراة ما هو سائد في الساحة الإعلامية العالمية، وهو الخلل الذي يشمل المؤسسات الإعلامية الخاصة، وتلك التابعة للدولة، وتنتج عنها صراعات قوية تطبع الساحة الإعلامية الدينية داخلياً، وهو صراع محموم وخطير، وإن لم ينتبه إليه الكثير من المتتبعين.

3- التحولات الكبرى

وباعتبار الإعلام الديني من ناحية المضمون أيديولوجية وهوية، يعتبر استراتيجية سياسية للتيارات الدينية التي يعرفها العالم العربي، عرفت انتعاشها البارز بعد ما سمي بـ"الثورات العربية" أو "الربيع العربي". وإذا الإسلام هو الدين السائد في الوطن العربي، وأحد مكونات الهوية الوطنية، إلا أن المرجعيات الفقهية تنوعت مع ظهور الحركات الدينية الحديثة، وهذا يجد انعكاسه في وسائل الإعلام الدينية، بسبب التغيرات التي مرت بها المنطقة العربية، وظهور الجماعات المسلحة بمرجعية إسقاط السلطة لانحرافها عن الدين، دفعت السلطة إلى نزع الحجة باستعادة الدين من الجماعات المسلحة، وقد قامت السلطة بذلك بتصور نفسها حامية للدين، بينما قدمت خصومها بوصفهم خارجين عنه، فأصبح الصراع بين من يستحوذ على الدين، لتعزيز شرعيته السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

إن الإعلام الديني في أبعاده المختلفة أصبح صناعة تجارية، وبالذات عندما لقي إقبالاً من طرف الشباب، فحدث السباق على إنشاء الإعلام الديني، من صحف وفضائيات وإذاعات ومواقع إلكترونية؛ لأنه يقدم حلولاً آنية للشباب عجزت عنها السلطة والنخبة السياسية، فالدين يملك تهدئة للنفوس، على الأقل يعدهم بآخرة جميلة ومريحة. إن المرجعيات الفكرية والثقافية التي تقوم عليها الظاهرة الإعلامية الرسمية، تتصادم مع المرجعيات الأيديولوجية للسلطة القائمة، وتتورط في تهديم الكثير من الأهداف التي تعمل السلطة على تحقيقها، ويرجع ذلك إلى غياب استراتيجية واضحة للسلطة حول هذا الملف المهم. دون إغفال الظاهرة الإعلامية الدينية إلكترونياً، والتي يتفوق فيها التيار الوهابي والجماعات المسلحة، الذي تمكن من السيطرة على الخطاب الإعلامي للمؤسسة الرسمية. وسيشهد المستقبل الكثير من التطور والسيطرة لهذا الخطاب الذي ينذر بنتائج خطيرة.

4- مركزية الكون الشيعية

إن البعد الشيعي في خطاب القنوات الدينية، يقدم ولاية الفقيه على أنها النموذج السياسي المتعالي والراقي الذي تطمح إليه الشعوب العربية، وهو التسويق الذي يتم في مناخ التطورات الجديدة لملف العلاقات الإيرانية الغربية، حول الملف النووي الإيراني في ظل التوقعات المفاجئة للكثيرين، وتأثيراتها على جغرافية المنطقة.

إلا أن الملفت للانتباه في خطاب القنوات الدينية الشيعية، أنها تحاول أن تعتمد على تجاوز عقبات منغصات الماضي، في الصراع التاريخي بين أهل السنة وفرق الشيعة، إلا ما يخدم الخطاب الإعلامي الجديد، عبر تناول موضوع العدالة الكونية، والصراع بين الحق والباطل، باعتبار الشيعة تملك الحل الأمثل لهذه القضية، وهي في ذلك تتماهى مع مضامين الخطاب المسيحي التقليدي.

ولا تغفل القنوات الدينية الشيعية الاشتباك مع التيارات السنية، وبالذات الوهابية منها التي تجعلها في خطابها النموذج الفاشل للإسلام، وهو النموذج الذي يتخبط في التناقضات الفكرية والمذهبية التاريخية، التي لا تصمد أمام ما يقدمه الخطاب الشيعي من حجج وأدلة، وبذلك يجعل الخطاب الشيعي المرجعية الدينية الإيرانية، هي مركز العالم؛ تتحكم في مصدرية الحق المطلق، ليس في الفضاء الديني الإسلامي فحسب، بل في العالم كله، وكل من يخالفها أو يختلف معها فهو خارج إطار الحياة، ويحرم من كل الحقوق الطبيعية للانخراط في الدنيا.

في ظل التدفق الرهيب لخطاب القنوات الدينية الخاصة، تتراجع مكانة القنوات الحكومية من حيث العدد ومن حيث الكثافة؛ فهي قنوات تنتج يومياً من المواد الإعلامية، ما يجعل المستهلكين يزيدون نفوراً منها، خاصة تلك المواد الدينية التي تبتعد عن المعايير الإعلامية التقنية والفنية، وتسارع إلى تبرير الواقع، وتسعى إلى صناعة مسافة كبيرة بينها وبين المواطن العادي، لأن النخب القائمة على هذه القنوات تفتقد إلى روح المبادرة، وتتجاهل الرصيد التراثي الديني للمجتمع، وتجد نفسها محرومة من إمكانية الاستفادة من المؤسسات الدينية التقليدية.

5- التخبط الرسمي

إن صناعة الإعلام الديني في الوقت الحاضر، ليست بتلك المهمة السهلة التي يمكن أن تقوم بها أية نخب مهما كانت مستوياتها، وبالذات عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع المخيال الاجتماعي، والنسق النفسي للمجتمع، في ظل التحولات العميقة التي يشهدها الوطن العربي، مما يجعل الإعلام الديني الرسمي، يغرق في أزمة عنيفة ومعقدة نظراً لغياب استراتيجية واضحة لهذا الموضوع من طرف النخب الحاكمة، إضافة إلى ذلك التردد وعدم القدرة على اتخاذ القرار المناسب، وضيق مساحة المبادرة للقائمين على إدارة القنوات الدينية الرسمية، التي تبقى محرومة من القدرات الإبداعية للأجيال الجديدة، وتزيدها الأيام غرقاً في البيروقراطية التقليدية.

تساهم النخب الرسمية في توسيع سيطرة نفوذ خطاب القنوات الدينية، من خلال تكلسها وجمودها وعجزها عن إنتاج خطاب إعلامي مواز، يكافئ تدفق خطاب القنوات الدينية، بل تبدي الكثير من التجاهل وعدم الاهتمام، من خلال أسلوب الهروب والتهرب من مواجهة حقيقية لهذا الخطاب، بالرغم من الإمكانيات المعرفية، ونتائج تراكم تجربة الممارسة الدينية للمؤسسات التقليدية، تمنح الكثير من الفرص لمواجهة حقيقية لمنتوج القنوات الدينية الخاصة، وبالذات تلك النتائج التي تختزنها المنظومة القيمية الاجتماعية في أبعادها التاريخية، المتمثلة في التسامح وفضائل العيش المشترك، وفعالية النسق الاجتماعي والنفسي للمجتمع.

6- رأس المال الديني

يعد التوالد الكثيف للقنوات الدينية، من المميزات العامة للمشهد الإعلامي الجديد الذي يرتكز على التعددية والابتعاد عن الطابع الحكومي، ويتوج حركة صناعة الإعلام بالتدخل المباشر لرؤوس الأموال الذي ترغب في تحقيق معدلات كبرى للأرباح، وعند الابتعاد عن سلوكيات الاتهام للجهات الممولة لهذه القنوات في العالم العربي، نلاحظ أن الكثير من رؤوس الأموال غير المنتمية للتيارات الدينية، أصبحت تستثمر في القنوات الدينية، لأن مردودها من الإشهار كبير، بتفضيل المعلنين من أصحاب السلع الاستهلاكية الذين يفضلون تسويقها عبر القنوات الدينية، على أساس أن هذه القنوات لها جمهور عريض، يتجاوز الحدود، وأن إمكانية تصديقها من طرف المستهلكين متوفرة بدرجة عالية.

يجد الخطاب الإعلامي للقنوات الفضائية نفسه منسجماً مع طبيعة الفرص التكنولوجية الجديدة، التي تتيح له الوصول إلى المستهلكين من خلال منطق العلوية، التي تمتطيها رسالته التي يصر على أنها سماوية، ومن خلال الفضاء الذي يكثف القدسية فيها، ويجعلها مهيمنة على الكياني الوجودي للمستهلك، ويحرمه من إمكانية النقد أو المراجعة، وهناك تطابق كبير في المخيال التداولي العام، بين الرسالة الإعلامية والتدفق الإعلامي للقنوات الدينية، وبين المسار التاريخي لمفهوم الوحي والتوجيهات الغيبية، التي تسهل كثيراً عمليات الاستهلاك اليومي لمنتوجات هذه القنوات.

الطبيعة الأساسية، والخاصية المميزة لخطاب القنوات الدينية، تبرز في الإصرار المتواصل على اعتماد الصوابية المطلقة، والامتلاك الكلي للحقيقة والإقصاء المطلق لكل الآراء ووجهات النظر المختلفة الأخرى، ليس في المنظور العام، وإنما في الإطار الذاتي للمنظومة الدينية نفسها، وحتى في الاتجاه والمذهب الواحد، فكل رأي أو وجهة نظر مخالفة، تندرج في سياق الباطل الشنيع، الذي يجب تجنبه والابتعاد عنه وازدراؤه، والمسارعة إلى محاربته وإزالته وصاحبه من الوجود، وهو الأسلوب الذي يكرس الأحادية والتعصب الشديد للموقف والتزمت في اعتناقه، والتطرف في ممارسته من خلال المزج التعسفي بين الرأي ووجهة النظر، وبين المصدر المنتج له، وتأتي بعد ذلك جهود إزالة عمليات التأويل وإلصاق المصدر مع منتوجاته ومنحوتاته الفكرية والثقافية والاجتماعية. وإن هذا الاسلوب معتمد من طرف الخطاب الديني بصفة عامة، إلا أن نتائجه المثمرة تبدو لأصحابه أكثر أهمية في المجال الإعلامي وخاصة في أبعاده السلوكية.

7- آفاق المستقبل

لقد تراجعت حركة النقد العقلاني في الوطن العربي، بشكل كبير، وأصبح تعاطي النخب مع التيارات الدينية، صدامياً، وذلك ما يشكل الفرصة التاريخية لهذه التيارات، لكي تحقق المزيد من الانتصارات، لأن المجال الصدامي هو مناخها الأفضل الذي تحبذه وتنجز فيها انتصاراتها، مستعينة بالمخيال الشعبي العام، ومخزونات تصوراته عن مفاهيم الدين والتدين، وقد برز ذلك في المجال الإعلامي بصفة أكبر، عندما جعلت التيارات الدينية كل ثقلها في الرهانات الإعلامية، ودخلت إلى المجال الخاص للمواطن، جاعلة من خطابها المقابل الندي والمتعالي لخطاب بقية النخب الأخرى، مستعينة بالتبشير الأخروي كمنفذ نهائي لهذا المواطن، الذي تخلت عنه بقية النخب ونزعته من اهتماماتها، وفقدت القدرة على التواصل معه.

سيكون من التحديات الأساسية أمام النخب في المرحلة القادمة، الاشتباك مع الخطاب الديني في الساحة الإعلامية الفضائية، والتي تتطلب الكثير من الوعي بالبنيات المؤسسة لهذا الخطاب الإعلامي، والعمل على التقليل من أخطاره التدميرية على البنية الاجتماعية، التي تهدد بنسف نسق العيش المشترك، ونشر الصراعات الصفرية التي تسعى إلى تجسيد المرجعية الواحدة الرافضة لكل إمكانية التعددية الطبيعية والاختلاف المنطقي في بنية الخلق.

المساحة الفضائية التي ينطلق منها الخطاب الديني في العصر الحديث، تبتعد في مخيال صناعة عن المفاهيم المنبرية التقليدية المتعالية، التي تسعى إلى ممارسة السلوكيات الدعوية، ونشر الهداية للبشرية، التي تقع، حسبها، في أجواء الضلالة، وهو الأمر الذي يتطلب جهوداً وتضحيات تاريخية من رواد هذا الخطاب، في انتظار تحقيق أهدافه الكونية، وما لم يتم الانتباه إلى هذه الأبعاد الكبرى في مرتكزات الخطاب الديني إعلامياً، يكون من الصعوبة الكبرى إمكانية تصور انفراج في مستقبل المنطقة العربية.


[1]- نشر هذا المقال في مجلة ذوات الصادرة عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، عدد 13