المتصوفة والعقل


فئة :  أبحاث محكمة

المتصوفة والعقل

المتصوفة والعقل

نصوصٌ فوق العادة[1]

خالد التوزاني

يبدو أن مفهوم التصوف زئبقي، يتلون تبعاً لتنوع التجارب الصوفية واختلاف مشاربها، إلى درجة أن كل متصوف يمكن أن نجد له تعريفاً للتصوف خاصاً به، قد يتفرّد به دون غيره من الصوفية، ما جعل هذا المفهوم يستعصي على الضبط، ويصعب الحسم في تعريف متفق عليه يكون جامعاً مانعاً، ولعل هذه الصعوبة راجعة إلى أنّ «الصوفية عرّفوا التصوّف بعبارات تتسم بالعمومية والغموض وأحياناً التناقض، لإثبات مرجعية سلطتهم العليا داخل الثقافة الإسلامية والمجتمع الإسلامي أيضاً»[2]؛ مثل تعريف الطوسي للتصوّف بوصفه «اسماً مجملاً عاماً مُخبراً عن جميع العلوم والأعمال والخلاق»[3]، أو مثل ما ورد في الرسالة القشيرية من تعريف للتصوف بأنه «ذكرٌ معَ اجتماع، ووجْدٌ مع استماع، وعمل مع اتباع»[4] وهو تعريف يجمع بين المتناقضات. ويرى بعضهم الآخر أن القصد من عمومية تعريف أهل التصوف لطريقتهم وغموضه هو رغبتهم في إخفاء أسرار الطريقة على المناوئين من الفقهاء وغيرهم، وهذا ما ألمح إليه الكلاباذي عندما أورد الاعتراض الكلامي على التصوف قائلاً: «ما بالكم، أيّها المتصوفة، اشتققتم ألفاظاً، أغربتم بها على السامعين، وخرجتم عن اللسان المعتاد؛ هل هذا إلا طلب للتمويه أو ستر لعوار المذهب»[5]. ولا شك أنّ غياب مفهوم موحد للتصوف يمثّل بعض أوجه التباس الظاهرة الصوفية عموماً، لكن في سياق الدراسة العلمية، لا بدّ من إيراد مفهوم للتصوف ينسجم مع طبيعة قضية البحث، ويتعلق الأمر بصلة التصوف بالعقل وبالعلوم، فنختار تعريف ابن عجيبة، حيث يقول: «علم التصوف هو سيد العلوم ورئيسها، ولباب الشريعة وأساسها... الاشتغال به أفضل ما يتقرب به إلى الله تعالى، لكونه سبباً للمعرفة الخاصة، التي هي معرفة العيان»[6]. ولا يستقيم جوابها بالكتابة والقول (...) فعلمها من المستحيلات لأنها ذوقية[7]. والتصوف بتعبير أبي سالم العياشي: «ليس مما يدرك ببضاعة العقول، ولا مما تتسلط عليه الأوهام والأفهام، وإنما يُدرك بكشف إلهي وإشراق حصة من أشعة ذلك النور في قلب العبد، فيدرك نور الله بنوره»[8]. وهكذا يدشن المتصوف عوالم غيبية مبتعدة عن قيود العقل ومتحررة من رقابة الوعي وسلطة القانون الكوني القائم على السببية، ليلج التصوف فضاءات لا تعترف بالمنطق البشري المألوف في فهم الأشياء وتلقي المعرفة.

من الظواهر الكبرى في التصوف، التي قد تصدم الذائقة العلمية وتخرق قوانين المنهج العلمي المتعارف عليه بين الباحثين، تأتي ظاهرة المُشاهدة أو ما يسمى بالمكاشفة أو الكشف، الذي يعد خرقاً للمألوف من أشكال تلقي المعرفة والعلوم، فهو عند المتصوفة «علم زائد على ما عند الفقهاء والمحدثين والعقلانيين عموماً»[9]، لا صلة له بالطرق المألوفة في تلقي المعرفة وتداولها؛ من كسبِ العلمِ بالحفظ والفهم والتلقين والمذاكرة وبذل المجهود، وإنما هو هبة من الله، يمنّ بها على من يشاء من عباده، ومع أنّ هذا العلم يعد مصدراً للحيرة والدهشة، إلا أنّ له سنداً في القرآن الكريم، في قصة نبي الله موسى عليه السلام مع الخضر، حيث يقول تعالى: [فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً][10]، ولذلك، سمى الصوفية علم المكاشفة بـ«العلم اللدني»، لأن مصدره هو الله. وقد ترتَّبَ على هذا الفهم أنْ أصدر بعض الصوفية الكتب والمؤلفات وهو لم يقرأ يوماً ولم يتردّد على مجالس الدرس والتحصيل[11]، وإنما كَتَبَ ما أُمْلِيَ عليه في لحظات الكشف أو المشاهدة، وسيأتي بحث تجليات هذه الظاهرة في ثنايا الدراسة.

إلى جانب الكشف أو العلم اللدني، تحضر ظاهرة أخرى قد تبدو معاكسة للعقل وللعقلانية، ويتعلق الأمر بثنائية الحقائق والرقائق المنتجة للكرامة؛ حيث إن خوض عالم الأسرار والحقائق، قد «أنتج عالماً من السرديات الكرامية التي تعاكس العقل أحياناً، ولكنه دعمها بدلائل قرآنية تؤكد عدم انفلاته من السياج الديني الإسلامي وتراثه، سواء تعلق الأمر بصحة المشي في الهواء أو طي الأرض، أم غيرها من الكرامات الصوفية»[12] المدهشة، التي خرجت عن معتاد الفقه أحياناً، وخرقَتْ مألوف الفكر المنطقي السائد، لتؤسس الكرامة فعل المعجزة، فتبدو الكرامةُ بما هي خرق للعادة «معجزة عصرها» مادام عصر المعجزات قد انتهى بموت الأنبياء والرسل، فالمتصوف لا يلج بعض المقامات إلا إذا كَسَرَ العوائد، وتمكَّنَ من قلب الأشياء إلى أضدادها، وليصبح المألوف وربما المعقول متجاوزاً وغريباً، لبروز قوانين أخرى جديدة لا تعرف الحدود ولا مثالاً سابقاً لها سوى ما ثبت من معجزات الأنبياء.

يكمن الفارق بين المعجزة والكرامة في أن المعجزة لا تكون إلا للأنبياء عليهم السلام، لاقترانها بدعوة النبوة، والكرامة لا تكون إلا للأولياء، وكل كرامة لولي معجزة لنبي، إلا «أن الأنبياء عليهم السلام مأمورون بإظهارها، والولي يجب عليه سترها وإخفاؤها»[13]، فالمعجزة أو الكرامة، تحيل على كلّ ما يعجز المتلقي عن استيعابه، وما يتعذّر عليه تفسيره أو فعله، فـ«المعجز ما يكون خارجاً عن طوق المخلوق»[14]. ولذلك وضع القزويني المعجزة على رأس الأمور الغريبة، مثل: الإسراء والمعراج، وانشقاق القمر، وانفلاق البحر، وانقلاب العصا ثعباناً...»[15]. وهذه الأمور إن بدت خارقة للعادة فإنها إذا ارتبطت بنبي كانت معجزة من أجل إثبات النبوة والتحدي، بينما الخارق لا يقارن به[16]، فإن وقع بعضها للصوفية فهو من باب الكرامة، التي لم تأتِ من عدم، وإنما هي «تقوم على محاكاة نماذج أصلية؛ أي أفعال أو أقوال أو تطلعات أصلية نموذجية قد تؤدي الظروف الطارئة والتراكم الذي أنتجته المحاكاة إلى خلق مسارات جديدة لها، لكن الأصل يظل قائماً وفاعلاً في كل تلك المسارات»[17]. فالكرامة الصوفية، تبعاً لذلك، تتخذ من معجزات الأنبياء والرسل نماذج للمحاكاة والتقليد. ونظراً لطبيعة التجربة الصوفية ومعراج الصوفي في مدارج التلقي، يصبح بإمكانه الأخذ من الأصل وأصل الأصل، حيث سمة التجاوز تفعل فعلها في أدق تفاصيل السلوك الصوفي. ومن هنا يعلن المتصوف عن «منطق جديد» أو «عقل جديد» غير متطابق مع العقل البشري المألوف، وإنما يؤسس قوانينه التي لا تعترف بالحدود أو العوائق والموانع بعيداً عن أنظار العقل الطبيعي.

شكلت قصص الأنبياء والرسل والصحابة[18] مصدر إلهام للصوفية؛ حيث مثلت، بالنسبة إليهم، نماذج من الكمال الإنساني الذي يصلح للاقتداء به واقتفاء أثره، فهي للأنبياء تثبيتاً على الحق وتأكيداً لاصطفائهم وإفحاماً لخصوم الرسالة، أمّا الصوفية فقد سعوا إلى ذكر الله واتخاذ الأسباب المبلغة إلى رضاه عز وجل، ليس طمعاً في حصول الخوارق ونقض قوانين العقل البشري، وإنما تأتي كراماتهم في لحظات الشدة والضيق، كنوع من العون الإلهي والمدد الرباني لبعض الأولياء، فلم تكن الكرامات مطلوبةً، ولا ينبغي أن تُطلب، وإنما الانشغال بالواجب من أمور التصفية والتحلية مقدم على غيره من الهموم الأخرى بحسب الفكر الصوفي.

قد يصبح «خرق العوائد» عادة، وتصبح الكرامة للولي شيئاً مألوفاً، وكُتُب القوم تحفل بالكرامات العجيبة، إلى درجة يمكن اعتبارها منهجاً في الكتابة والتأليف، فكتابٌ لم يذكر كرامة لا يستحق أن يُقرأ، وخاصة كتب المناقب والتراجم. وجاء في حِكم أبي الحسن الحرالي: «الوصف الدائم لأهل الكمال خرق العادة في جري العادة، وجري العادة في خرق العادة»[19]. وقد يوصف الشيخ الصوفي بأنه لا يأتي بالكرامات فحسب وإنما يأتي بـ«عجائب الكرامات»[20]. ومن ثَمَّ، لا غرابة في أن تشكل الكرامات الصوفية حقلاً من حقول العجيب في الثقافة العربية[21]، لما تمتلكه في مجال التعبير اللغوي من رمزية، ولما يزخر به عالمها الحر المطلق الروحاني من معانٍ للسلوكات الخارقة[22] التي لم تبدُ خارقة إلا لأنها خرقت مألوف الفكر والمنطق وكسرت قوانين العقل المادي.

لم يكن نقض العقل عند المتصوفة متمثلاً في الكلام الغريب فقط، وإنما أيضاً له تجليات في السلوك، ومنها ما يقوم به بعض المنتسبين إلى الصوفية من شدخ الرؤوس ونهش اللحوم وشرب الماء الساخن وأكل النار، وغير ذلك من المظاهر التي تصدى لها صوفية آخرون وعَدّوها ضلالاً، فألفوا في كشف انحرافها الكتب والرسائل[23]. وواضح أن المتصوف لا يستهدف، من خلال كسر قوانين العقل، إدهاش المتلقي فحسب، وإنما كسر قوالب تفكيره الجاهزة، لتأهيله عقلياً بعد استمالته نفسياً لولوج عوالم التصوف، فالخطاب الصوفي آسر وفاتن، ويمتلك من وسائل الإقناع ما يفسر انخراط بعض علماء المنطق والفلسفة في سلكه[24].

نصوص فوق العادة: منطق مغاير

ميَّز المتصوفة بين الوحي الخاص بالأنبياء، والإلهام الذي يرتبط بالأولياء، حيث يختلف العلم الناتج عن كل واحد منهما، فبحسب أبو حامد الغزالي (ت 505هـ): «العلم الحاصل عن الوحي يسمى علماً نبوياً، والذي يحصل عن الإلهام يسمى علماً لدنياً، والعلم اللدني هو الذي لا واسطة في حصوله بين النفس وبين الباري (...) فالوحي حلية الأنبياء والإلهام زينة الأولياء»[25], ولأن الإلهام لا يمكن للعقل المنطقي أن يقيسه أو يتتبعه أو حتى أن يبرهن على صدقه، فإن المتصوفة وجدوا فيه سبيلاً لتفسير كثير من كتاباتهم التي وُصفت بنصوص فوق العادة، لما احتوته هذه النصوص من منطق خاص بها، وربما بعضها لم يكن له أي منطق متفق عليه، بل ظلت نصوصاً مغرقة في الغرابة والدهشة ومفارقة كل قانون، ولذلك كان الحقل المعجمي الدال على الإلهام من أغنى الحقول الدلالية في الأدبيات الصوفية، حيث يضم جملة واسعة من الألفاظ والمصطلحات، من قبيل: الفيض والكشف والموهبة والخواطر والواردات، واللوائح واللوامع والطوالع، والأنوار والأسرار والتجليات، والبوادِه والهجوم، وغير ذلك[26]، و«التي تفاجئ العباد والزهاد من مطالعات أنوار عجائب الملكوت»[27]؛ حيث تهجم على المرء فلا يستطيع لها دفعاً. يقول عبد الكريم الجيلي: «فإن مكالمات الحق تعالى لعباده وإخباراته مقبولة بالخاصية لا يمكن لمخلوق دفعها أبداً»[28]؛ إنها فتوحات تقع للسالك في بعض مراحل سيره إلى الله بغير جهد، ويعدّها من نعم الله التي ينبغي إظهارها أحياناً، وسترها أحياناً أخرى، «فالحق -تعالى- يسبغ بعض نعمه على أحبائه ظاهرة وباطنة، بفتح رباني»[29]، وكشف إلهي، فمن واصل الذكر وصبر عليه، «يعطيه الله علماً لدنياً وأسراراً ربانية، ويعطيه الله البداعة في منطقه وفي رأيه»[30]، فلا يعجزه بيان ولا يخفى عليه سر، يقول الجيلي، مؤكداً إمكانات المعرفة الصوفية: «فإن العارف إذا تحقق بحقيقة «كنت سمعه وبصره»، لا يخفى عليه شيء من الموجودات، إذ العين عين خالق البريات»[31]، وهو تصريح بالقدرة الخارقة التي يملكها من ملك مقام الإحسان تحققاً وتحقيقاً، فلا عجب أن ينطق بإلهام الحق ويخرق منطق الخلق.

هكذا، سيشكل الإلهام في الكتابات الصوفية معبراً آمناً عند الصوفية لإبداع نصوص فوق العادة، أو عِلْمُ الخرق مقابل علم الورق، كما قال أبو بكر الشبلي:

تسربلتُ للحرب ثوب الغَرَقْ       وهِمْتُ البِلاَدَ لوجد القَلَـقْ

فـإذا خـاطبـوني بعِلْمِ الـوَرَقْ        بَرزتُ عليهم بعِلْمِ الخَـرَقْ[32]

حيث يقصد بعلم الخرق «العلم اللدني»، الذي يلقيه الله في قلوب بعض أوليائه، في شكل مكاشفة نورانية، أو تعليم إلهي، كما نقل ذلك أبو سالم العياشي في رحلته «ماء الموائد»: «العلم اللدني علم يفهمه أرباب القرب بالتعليم الإلهي، لا بالدلائل العقلية والشواهد النقلية»[33]، حيث لا يمكن ترجمة علوم المكاشفة أو الإلهام إلى جمل ومفاهيم عقلية ومنطقية[34]، «فالألفاظ في رحاب الله... أستار وحُجُب، والكلمة حائل، والعبارة عائق، والاصطلاح عقبة...»[35]. ومن ثَمَّ، العلم اللدني يختلف عن العلم الكسبي الذي يشير إليه بعلم الورق.

نصوص فوق العادة: نماذج

يعلن بعض المتصوفة عن ميلاد كتابة فريدة، هي من وحي إلهام الحق، فلم يكتب إلا المعرفة المنزلة عليه بالإلهام الرباني، وبتعبيره يُصَرِّحُ قائلاً: لا أكتب إلا المعرفة «الواردة على قلبي بإلهام ربي، وهي في الحقيقة درر عوارفه في حق العارفين»[36]، وإن كان مريداً سالكاً قال: «غرضي أن لا أكتب في هذا المجموع إلا ما رأيته بعيني أو سمعته من الشيخ رضي الله عنه بأذني»[37]؛ حيث يترك المتلقي وجهاً لوجه أمام نص مغاير لنصوص بشرية مألوفة، يصرّح فيها بأن ما أثبته قد كان بالعين أو السماع من ثقة لا يزيغ عن الحق، فتكون حيرة المتلقي أشد وأكبر، ولا ينال في النهاية إلا ما أعطاه حاله، لا ما أعطاه النص، فهذا الأخير يظلّ صادماً للعقل، ويقتضي لقبوله «التسليم» والتصديق دون أيّ تشكيك. وهذا أيضاً يتعارض مع العقل، وهذا الأخير يبحث في الأسباب والآثار، ويريد أن يفهم، ولكنّ المتصوف لا يبوح بالأسرار، فتظلّ المعاني والغايات غير مدركة لكلّ القراء، وهنا نلمس «ذكاء» بعض المتصوفة في اللجوء إلى «الإلهام»؛ إذ يصبح محتوى كتاباتهم «مقبولاً» عند القارئ، بل على هذا الأخير أن يقدرها ويحترمها، لأنها لم تصدر من عالم البشر؛ حيث احتمال الخطأ ونوازع النفس وشهوة الشهرة، وإنما حطَّت الكتابة من مكان رفيع؛ حيث المقدس الذي يعرف مصلحة البشر، ولا يريد لهم إلا الخير والهداية. هكذا يؤسس المتصوف لنصوص فوق العادة، تقتضي قراءات وقرارات قد يكون فيها الكثير من المخاطرة بقوانين العقل.

هكذا، جاءت بعض الكتابات الصوفية مختلفة عن أنماط التأليف المألوف؛ لأنها -بحسب المتصوف- إلهامات ورؤى تلقاها من الله، وأُمر بإبلاغها للناس، ولذلك من الطبيعي ألا تخضع في ترتيب فصولها وأبوابها لقواعد التأليف المعتادة، فلا يخضع تنسيقها لنظر الكاتب، ولا لعقل المدوّن؛ بل يتبع نظام ترتيبها نسقَ الكلام الإلهي المنزّل، وبذلك، تنجح الكتابات الصوفيّة في اقتحام آفاق جديدة من القراءة والتأويل، فما هي أهمُّ النماذج التي يمكن استحضارها في هذا السياق؟

يأتي ابن عربي على رأس المتصوفة الذين جعلوا من علم الخرق أو الكشف بطريق الإلهام مصدراً لكتاباتهم الذائعة الصيت والمثيرة للجدل، فقد ذكر أنّ معظم كتاباته ليست من تأليفه الشخصي، وإنما هي من الفتوحات الواردة على قلبه بإلهام ربه؛ حيث يفتتح كتابه: (شق الجيب بعلم الغيب) بقوله: «الحمد لله رب العالمين، الذي وفقني للسباحة في بحر اليقين، وقواني على إخراج الدرر من أصداف العبارات، والاستعارات العجيبة، والأوضاع الجديدة، الواردة على قلبي بإلهام ربي، وهي في الحقيقة درر عوارفه في حق العارفين»[38]. وكذلك، كتابه (فصوص الحكم)، الذي يقول إنه تلقاه من يد النبي محمد ﷺ في رؤيا، يحكي تفاصيلها قائلاً: «فإني رأيت رسول الله (...) وبيده ﷺ كتاب، فقال لي: هذا «كتاب فصوص الحكم»، خذه واخرج به إلى الناس ينتفعون به، فقلت: السمع والطاعة لله ولرسوله وأولي الأمر منا كما أمرنا. فحققت الأمنية، وأخلصت النية، وجردت القصد والهمة إلى إبراز هذا الكتاب كما حده لي رسول الله ﷺ من غير زيادة ولا نقصان»[39]. وقد رأى أبو سالم العياشي أن هذا الكتاب «من أغمض كتب الشيخ محيي الدين إشارة وأدقها عبارة، على صغر حجمه، وقد اعتنى الناس بشرحه، فشرحه جماعة كثيرة، مع ذلك حارت أفهامهم في فهم كثير من رموزه، واستخراج خبايا كنوزه»[40]. ولعل ذلك راجع إلى ما في هذا الكتاب من تركيز وتكثيف واستغلاق، حيث يقرّ أبو العلا عفيفي بأنّه حين بدأ بحثه بقراءة كتاب الفصوص، استعصى عليه فهم محتواه استعصاءً تاماً، على الرغم من الشروح الكثيرة التي استعان بها، ولم يَزُل الغموض إلا عندما ترك الفصوص جانباً، وقرأ كتب ابن عربي الأخرى، فلما عاد لقراءة الفصوص انفتح ما كان مستغلقا عليه من لغته[41]، فإن كان هذا، حال القارئ المتخصص، فما بالك بالمتلقي العادي.

نستحضر أيضاً كتاب (مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم) الذي صنفه ابن عربي في ألميرية، وذكر أنه ثمرة من ثمرات اللقاء مع الحق سبحانه في رؤيا تسَلَّمَ فيها الكتاب ليبلغه للناس ناصحاً[42]، وكذلك الشأن في جلّ كتابات ابن عربي، كانت مصدر إلهام، كما يدل عليها عنوانها، على سبيل المثال: (الفتوحات المكية)[43] و(التنزلات الموصلية)، وغيرهما، وكذلك كتاب (عنقاء مُغرب في ختم الأولياء وشمس المغرب)؛ حيث «يلف الغموض لغة هذا الكتاب، ويحيط به إحاطة تامة، بدءاً من العنوان»[44] الغريب، وانتهاء بالمضمون الأغرب. وكذلك الشأن مع رسالته المسماة بـ«ضوء الهالة في ذكر هو والجلالة»، التي طالعها أبو سالم العياشي، ورأى فيها ما بهر عقله مما مُنح ابن عربي «من العلوم اللدنية والمواهب القدسية والكشوفات الغيبية»[45]. فذكر خبرها في رحلته «ماء الموائد»، قائلاً: «وقد رأيت هذه الرسالة وهي في كراسة، مضمنها أن الشيخ رضي الله عنه طاب وقته ليلة من الليالي لورود بعض العارفين لزيارته، فأخذ يذكر بذكر: (هو الله) على كيفية بَيَّنَها في الرسالة، وذلك فيما بين المغرب والعشاء. فاستغرق في الذكر إلى أن حصلت له غيبة مقدار ربع ساعة أو نحو ذلك، فكُشف له في تلك الغيبة من أسرار الملك والملكوت ومعاني الأسماء والصفات، ومنح من العلوم الوهبية ما بهر العقول سماعه. فذكر رضي الله عنه في تلك الرسالة أنواع العلوم التي وهبها في تلك الغيبة والكشوفات التي حصلت والإسراءات الروحانية التي منحها في تلك المدة القليلة. وذلك شيء يَسْتَغْرِب وقوعَه في هذه الأعصار مَنْ لم يؤيده الله بمدد التصديق بأهل ولايته»[46].

وما قيل عن ابن عربي، يقال أيضاً عن صوفية آخرين، فهذا كتاب: (جواهر المعاني وبلوغ الأماني في فيض سيدي أبي العباس التيجاني)[47]، لا يخفى ما في عنوانه من دلالة واضحة على مصدره؛ فهو فيض شيخ الطريقة التيجانية. أما كتاب (الإبريز من كلام سيدي عبد العزيز الدباغ)[48]، «مع كونه أمياً لا يحفظ القرآن العزيز، فضلاً عن أن يسام بتعاطي شيء من العلوم، مع أنه قط لم ُيرَ في مجلسِ علم من صغره إلى كبره»[49]. ومع كل ذلك، وقع له الفتح وجمع في قلبه من المعارف والعلوم ما «لا يحصيها إلا ربه تعالى الذي خصه بها»[50]، فكان ينطق بالحقائق، و«كل من سمعه، يتعجب منه ويقول: ما سمعنا مثل هذه المعارف، ويزيدهم تعجبا كون صاحبها (...) أميا لم يتعاط العلم»[51]، «وقالوا: هذا والله الولي الكامل، والعارف الواصل»[52]، وقد تضمن «الإبريز» وقائع غريبة يصعب على العقل تفسيرها.

أما كتاب (الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل) لعبد الكريم الجيلي، فيقول في مستهله: «بعد أن شرعت في التأليف، وأخذت في البيان والتعريف، خطر في الخاطر أن أترك هذا الأمر الخاطر (...) وشرعت في تشتيته وتمزيقه (...)، فأمرني الحق الآن بإبرازه بين تصريحه وإلغازه، ووعدني بعموم الانتفاع، فقلت طوعاً للأمر المطاع، وابتدأت في تأليفه»[53]؛ حيث أمره الحق تعالى بالكتابة. وكذلك كتاب (الجفر) لصاحبه محمد ماضي أبي العزائم، «قبس من أنوار مشكاته تلقاه قلبه السليم من الأعيار، في حال تجرده من القيود الكونية، وغيبته عن نفسه وحسه، غيبة هي عين الحضور في حضرة السر والنور، فترجم به لسان بيانه، كاشفاً الأستار عن غيوب الأسرار»[54]. أما الشيخ اليوسي فهو «يَعْتَبِرُ أن نبوغه المبكر واستعداده الفطري لامتلاك ناصية العلوم منذ الصغر (...) لا يرجع إلى كثرة مقروءاته ووفرة أخذه وتحصيله، وإنما يرجع ذلك إلى فتح رباني وسر إلهي وهبه الله إياه»[55].

هكذا يؤسس الفتحُ أو الإلهام نمطاً من «التأليف» أو «الإبداع» له خصوصياته التي يتفرد بها عن غيره من النصوص؛ حيث يضع القارئ وجهاً لوجه أمام النص «المنزَّل» والمنزَّه عن كلّ انتقاد أو مقاربة أو تفسير، فليس المتصوف إلا وسيطاً للمعرفة «المقدسة» التي لم تصدر من بشر، وإنما تنزّلت بفتحٍ في رؤيا أو سماع لا يدرك المرء العادي كنهه ووصفه، ولكن يجد فقط أثره متمثلاً في تلك النصوص فوق العادة، التي نهلت من الأصل، فكانت في نقاء مثالي وصفاء نوراني «مقدس» يُصدّق ولا يناقش. وقد كان أبو يزيد البسطامي «يخاطب علماء عصره قائلاً: أخذتم علمكم عن علماء الرسوم ميتاً عن ميت، وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت»[56].

يعيش متلقي هذا النوع من النصوص لحظات حيرة وذهول، وخاصة عندما يؤكد المتصوف ضرورة السّتر، وفي الآن نفسه نجده يبوح ببعض الإشارات، وكأنه بهذا المنهج يركز على الكيف لا الكم في انتقاء مريديه ورجاله، فيشترط فيهم -بشكل ضمني- القدرة على تذوق المعنى من خلال الإشارة لا العبارة، ومن خلال الفهم دون دليل، أو التصديق لما يفارق العقل، أهي دعوة للخروج عن المنطق، أم هي تأسيس لمنطق مغاير؟

يبرز «الذوق» باعتباره المنجي من الحيرة أو المنقذ من التناقض، ولم يكن الذوق سوى القلب والفطنة بتعبير ابن عربي: «فمن كان له قلب وفطنة شغله طلب الحكمة عن البطنة، ووقف على ما رمزناه، وفك المعمى الذي لغزناه»[57]، فالمعاني الصوفية نفيسة لا ينالها إلا صاحب مجاهدة وطول صبر ودهاء، ولهذا وجب حفظ الأسرار كما يقول الغزالي: «وجب حفظ الأسرار على وجه الإسرار من الأشرار»[58]، ولذلك يُمنع البوحُ ويُكتفى بالإشارة، فالسر الإلهي لن يكون سراً إذا شاع وانتشر، كما يقول ابن عربي: «ولولا إفشاء السر الإلهي، لشافهنا به الوارد والصادر، وجعلناه قوت المقيم وزاد المسافر»[59]، ولذلك وجب تحقيق التوزان الذهبي، كما قيل:

فَمَنْ مَنَحَ الجُهَّالَ عِلْماً أَضَاعَه      وَمَنْ مَنَعَ المُسْتَوْجِبيِنَ فَقَدْ ظَلَم[60]

لم تكن جدلية البوح والكتم في إبداع وتلقي نصوص فوق العادة سوى ممارسة خلاقة لنوع من التشويق لمنازل أهل التحقيق، ففي هذا المعنى يقول ابن الدباغ (ت 696هـ): «فذكرت طرفاً من ذلك على معنى الإيماء والتلويح، دون الإطناب في الكشف عنه والتصريح، وإنما قصدت بما إليه التشويق، لمنازل أهل التحقيق، ورأيت أن كتم هذا القدر عن أربابه ظلم، كما أن بذله لغير أهله حرام وإثم»[61]؛ حيث يفصح كلام هذا المتصوف عن تلك الجدلية التي لا تكاد تخلو منها كتابة صوفية، تدعو المتلقي -بشكل ضمني- لارتياد منازل أهل العرفان، وبلوغ مقامات التمكين في التدين. وهنا تظهر جمالية الدعوة إلى الله بخرق المألوف في الدعوة؛ إذ بدل أن ينصب الكلام إتقان العبادات الظاهرة، نجد الكتابة الصوفية تنحو منحى مخالفاً؛ بالذهاب إلى العمق والجوهر والدفين، وفي الآن ذاته تخرق المألوف في وسيلة الدعوة؛ حيث بدل الوضوح، تلجأ إلى الكتم والبوح؛ بالإشارة الخفية وبالمقدار اليسير من العبارة، تلك العبارة التي لا تفصح إلا بقدر ما تفجع وتصدم، لتستفز عقل المتلقي، فيعيد بناء عقله وفق معايير مغايرة توسع مداركه وتعمق تجربته، ليكون مؤهلاً لولوج مقام الصفوة.

إن نمط النصوص الصوفية فوق العادة قد تجعل القارئ لا يبرح الباب، وإنما يطلب المزيد من النصوص؛ في البداية ليفهم، ولكنه سرعان ما يقع في سُكْرٍ دائم -لا يصحو منه بلغة الصوفية- إلا ليقرأ كتابة جديدة، يعرف مسبقاً أنها لا تشبه الكتابة الأولى ولا الثانية...، ولا يرتوي المتلقي أبداً، كما قيل:

شَرِبْتُ الحُبَّ كَأْساً بَعْدَ كأسٍ        فَما نَفذ الشَّرَابُ ومَا رَوِيتُ[62]

إن بعض النصوص أشبه بمصائد نقع في شباكها، فنُقاد إلى التجربة ولو عبر القراءة، التماساً لوصل بلا انصرام أو سكر على الدوام، حيث نُصلب في النص تمهيداً لولوج التجربة، ذلك الولوج الذي يقتضي إبعاد قوانين العقل، وهذه مخاطرة قد لا تتاح لأي متلقٍّ.

هناك تواصل في توليد المعاني، وتجاوز الموجود إلى الجديد والمغاير، إلى الحد الذي يجعل اللغة الصوفية مفتوحة أمام عوالم الإبداع المستمر واللامحدود، ومن ذلك مثلاً قولهم: «شجرة المعرفة تُسقى بماء الفكرة، وشجرة الغفلة تُسقى بماء الجهل، وشجرة التوبة تُسقى بماء الندامة، وشجرة المحبة تُسقى بماء الاتفاق والموافقة»[63]؛ حيث يمكن أن تتناسل الفروع وتتوالد الأحداث والأفكار، إلى ما لا يتناهى، ومن ذلك أيضاً: «الشكر على الشكر أتمّ من الشكر، وذلك بأن ترى شكرك بتوفيقه، ويكون ذلك التوفيق من أجل النعم عليك، فتشكره على الشكر... ثم تشكره على شكر الشكر، إلى ما لا يتناهى»[64]. وعلى منوال ذلك، هناك الإخلاص على الإخلاص، كما في قولهم: «متى شهدوا في إخلاصهم الخلاص، احتاج إخلاصهم إلى إخلاص»[65]. وهكذا، يصبح خرق السائد في المعاني والمباني سمة في النصوص الصوفية فوق العادة، لتأمين الانتقال من مقام إلى ما هو أعمق منه، وهو «خواص الخواص»، كما ورد في (الرسالة القشيرية): «العبادة للعوام من المؤمنين، والعبودية للخواص، والعبودة لخاص الخاص»[66]. وكما يؤكدّ ابن الدباغ (ت 696هـ) قائلاً: «وإذا تقرّر ما قلناه فيجب على كلّ ذي لب المبادرة إلى حصول هذا الأمر الجليل، وورود هذا المورد السلسبيل، الذي لم يصل إليه من الناس إلا القليل، بل أقل من القليل»[67]. إنه خاص لخاص، كما قال الجنيد (ت 297هـ): «عِلْمُنَا هذا إنما هو خاص لخاص»[68]، وبهذا يعلن المتصوفة بشكل صريح عن انتماء نصوصهم إلى عوالم غير مألوفة ولا تقاس بمعايير المنطق السائد.

نصوص فوق العادة: التأويل الصوفي للنحو العربي

يُعدُّ التأويل الصوفي للنحو العربي مظهراً من مظاهر تفاعل الصوفية مع اللغة، وتوظيف هذه الأخيرة توظيفاً غير مألوف، ويُعْرَفُ التأويل الصوفي للنحو العربي -عند القوم- بنحو القلوب أو «محو القلوب»؛ لأنه يمحو من القلب كلَّ ما سوى الله، ويستهدف علاج القلب من الأمراض المعنوية، كحبِّ الدنيا وخوف الخلق وهمّ الرزق وغير ذلك.

من أهمّ الكتب التي يمكن أن تندرج ضمن فعاليّة التأويل الصوفي للنحو العربي، نجد كتاب: «نحو القلوب الكبير» للإمام عبد الكريم القشيري[69]؛ حيث انتقى من كل القواعد النحوية المألوفة ما يكفي لسلامة «اللسان» من اللحن، ثم صاغ لأجل أهل «القلب» -ما يناظر ذلك تماماً- شيئاً نافعاً في العلوم الصوفية من الناحيتين النظرية والعلمية[70]، وبذلك يتحوّل النحو إلى واحةٍ وارفةٍ ذات مياه وظلال، ينتعش فيها القلب والروح، ويزدهر الجمال والجلال، ومن النماذج التي يحفل بها هذا الكتاب، نستحضر النص الآتي: «وجوه الإعراب أربعة: الرفع والنصب والخفض والجزم. وللقلوب هذه الأقسام، فرفع القلوب قد يكون بأن ترفع قلبك عن الدنيا، وهو نعتُ الزهاد. وقد يكون بأن ترفع قلبك عن اتباع الشهوات والمنى وهو نعت العباد (...) وأمّا نصب القلوب فيكون بانتصاب البدن على بساط الوفاق (...) وأمّا خفض القلوب فيكون باستشعار الخجل، واستدامة الوجل، ولزوم الذل، وإيثار الخمول (...) وأمّا جزم القلوب، فالجزم القطع، ويكون بحذف العلائق»[71]. ويدل تأويل الإمام القشيري لمفاهيم النحو العربي على استبطان عميق لأحوال القلوب ومقامات السلوك الصوفي ساعداه في إنجاز مهمّته على أحسن وجه، محافظاً على تكامل النحوين: نحو اللسان بوصفه ظاهراً، ونحو القلوب بوصفه باطناً، ومرجعيّته في ذلك كلّه حرصُه الشديد على التوفيق بين الشريعة والحقيقة، وتأكيد عمق الصلة بينهما، وأنّه لا يمكن أن تقوم إحداهما دون الأخرى.

كذلك، نجد كتاب «شرح ابن عجيبة على المقدمة الآجرومية»، المسمى بـ: (الفتوحات القدوسية في شرح المقدمة الأجرومية)[72]، ويُعَلِّقُ عبد القادر بن أحمد الكوهن على هذا الكتاب قائلاً: «وجدتُه قد جَمع فيه بين شرح العبارة الراجعة إلى القواعد النحوية التي بها صلاح اللسان، وشرح الإشارة الراجعة إلى المسائل التصوفية التي بها صلاح الجنان، على وجه بديع غريب، يستحسنه كلُّ مَنْ له في التصوف أدنى نصيب»[73]. ومن الأمثلة التي يمكن ذكرها في هذا السياق أنّ أقسام الكلام في نحو اللسان، وهي الاسم والفعل والحرف، لها في نحو الجِنان معانٍ أخرى؛ فالاسم المفرد هو الله، فيلزم ذكره «والانقطاع إليه انقطاعاً كلياً ليلاً ونهاراً، لأنه سلطان الأسماء»[74]. أما الفعل فيراد به «مجاهدة النفس في خرق عوائدها (...) فيخرق كثرة الكلام بالصمت، وكثرة النوم بالسهر، وكثرة الأكل بالجوع، وأهم العوائد الشاقة على النفس حب الرياسة والجاه والمال، فيخرقها بالذل والفقر والنزول بها إلى أرض الخمول»[75]. أما الحرف فالمقصود به «الهمة والقريحة، وطلب الوصول إلى الله تعالى، فهذا الحرف لا بد منه في البداية، فإذا وصل إلى الله حذفه»[76]؛ حيث قابل القوم قواعد النحو العربي بما عندهم من معرفة صوفية، وتتبعوا تفاصيل النحو الدقيقة بما عندهم من إشارات وفهوم غريبة، إلى درجة تجعل القارئ في حيرة من أمره أمام سيل المعارف الصوفية الذي ينهمر من بين قواعد اللغة المألوفة سلساً عذباً آسراً عقل المتلقي، ثمّ وجدانه عبر المعاني الجديدة التي شُحِنت بها لغة اللسان، فتحولت إلى لغة الجنان، حيث يظهر إبداع الفكر الصوفي في أبلغ صوره وأجمل مشاهده.

ويأتي أيضاً كتاب (الكهف والرقيم في شرح بسم الله الرحمن الرحيم)[77] لعبد الكريم الجيلي، ليحاول تأويل بعض مكونات اللغة، وخاصة الحروف مثل حرفي الباء والألف؛ حيث ذهب إلى اعتبار «النقطة» أصلاً للحروف العربية، وأنّها إشارة إلى ذات الله. وفي هذا المعنى يقول: «النقطة إشارة إلى ذات الله تعالى الغائب خلف سرادق كنزيته في ظهوره لخلقه»[78]، وكلّ حرف مركب من النقطة، مثلاً «النقطتان إذا تركبتا صارتا ألفاً»[79]، وكما أن الألف ألّف بين الحروف، «إذ الباء ألف مبسوطة، والجيم ألف معوج الطرفين، (...) وعلى هذا قياس الباقي»[80]. كذلك الحق سبحانه وتعالى ألّف بين قلوب عباده، وفي هذا المعنى قال عز من قائل: [لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ][81]. وقد تضمّن هذا الكتاب أيضاً حواراً «عجيباً» دار بين النقطة والباء التي «هي النفس»[82]، حيث تُنقل المعرفة الصوفية على لسان الحروف، ومما جاء في الحوار، قول الباء للنقطة: «كلما جلت في ملكوت معناي وجدتك نفسي، فإذا طلبت من نفسي مالك من الحل والعقد في الحروف والسيران في كل حرف بكمالك لا أجد شيئاً فتنكسر زجاجة همتي، وأرجع حسيراً. فقالت النقطة: نعم ترجع لأنّك طلبت من نفسك ونفسك عندك غير نفسي فلا تجد منها مالي، فلو طلبت منها أنا الذي هو أنت من نفسي التي هي نفسك دخلت الدار من بابها، فحينئذٍ ما طلبت ما للنقطة إلا من النقطة، بل ولا طلبت إلا النقطة»[83]. وهكذا، تُعدّ النقطة «هي المبتدأ المنتهى والمركز داخل عالم الأعداد والحروف والأشكال، بها افتتح الله كتابه (...) تصبح كل الشعائر الدينية في غيابها، غير ممكنة»[84]. وبذلك يمكن تبين بعض مظاهر الإبداع الصوفي في تأويل الحروف واستثمار رمزيتها[85] في نقل المعرفة الصوفية.

لم يقف إبداع القوم على التأويل الصوفي للنحو العربي، ولا التفاعل المبدع مع مكونات اللغة مثل الحروف، وإنما سعوا إلى توظيف هذه الأخيرة عتباتٍ لبعض كتبهم ورسائلهم، مثل: كتاب (الميم والواو والنون) لابن عربي[86]. كما نظروا أيضاً إلى الأشكال الهندسية نظرة غريبة، وبالأخص تأويلهم للدائرة؛ فإذا كانت النقطة أصلاً لكلّ المنطوقات اللغوية القدسية، فإنّ الدائرة أصل لكلّ الأشكال الهندسية الأخرى[87]، ولذلك «تستوجب الحضرة حضور دائرة منسوجة ومخطوطة بأجساد الحاضرين أو المتفرجين»[88].

إذا كان إبداع الصوفية قد خلق نوعاً من التماهي بين قواعد اللغة وما في التصوف من معارف، فإنّه نجح في إدخال المتلقي ضمن دائرة التساؤل عن المعرفة بشكل عام، فينظر للقواعد العربية المألوفة نظرة تأمل واستنطاق، وبحث عن الأصل وسؤال عن المصير، ويغدو التساؤل عن أيّهما أسبق: المعرفة الصوفية أم قواعد اللغة؟ باباً لولوج التصوف.

نصوص فوق العادة: الشطح اللغوي

يفعل الشطح الصوفي بصاحبه ما لا يفعله السُّكر أو الجنون أو حتى الهذيان والهلوسة[89]، إنّه حركة أسرار الواجدين إذا قوي وجدهم[90]، فنطقوا بعبارات تخرق قوانين العقل، وتصيب السامع بالذهول والصدمة، كما حصل مع الرجل الذي أضلّ راحلته في الصحراء وعليها طعامه وشرابه ومتاعه، وعندما وجدها أصابه حال سرور فأخطأ من شدة فرحه فقال: «اللهم أنت عبدي وأنا ربك»[91]. فهذا قد فرح براحلته، فكيف بالذي يفرح بالله، وهذه العبارة وغيرها، مما يصدر عن الذي خرجت عنه بغير صحو، ويؤاخذ بها كلّ من رددها أو أيدها عقلاً، ممّن لم يكن في مثل ذلك الحال، وقد قيل:

تَبَـدَّى لَنَـا في كُـلِّ شَـيءٍ حبيبُنــا   فتِهْنا كَمَا تاه الكَليمُ بِه عُجْبا[92]

حيث يتجاوز الحيرة إلى ما هو أكثر منها، فـ«العارفون بعد العروج إلى سماء الحقيقة، اتفقوا على أنهم لم يروا في الوجود إلا الواحد الحق (...) فصاروا كالمبهوتين فيه، ولم يبقَ فيهم متّسعٌ لا لذكر غير الله، ولا لذكر أنفسهم أيضاً، فلم يكن عندهم غير الله تعالى فسكروا سُكراً رُفِعَ دونه سلطان عقولهم، فقال أحدهم: أنا الحق، وقال الآخر: سبحاني ما أعظم شاني، وقال آخر: ما في الجبة إلا الله. وكلام العشاق في حال السكر يطوى ولا يحكى»[93]. وذلك مثل قول العاشق في حال فرط عشقه:

أَنَـا مَـنْ أَهْـوَى وَمَـنْ أَهْـوَى أَنَـا   نَحْـنُ رُوحَــانِ حَلَلْنَـا بَدَنــا[94]

وقول الآخر الذي فني عن نفسه، و«كان الله عوضاً عنه له فيه (...) وحينئذ أنشد لسان حاله بغريب عجيب مقاله:

فَكُنْتُ أَنَا هِي وَهِي كَانَتْ أنَا ومَا   لهَا في وُجُود مُفرد مَـنْ يُنازِع

بَقِيـتُ بهـا فيهَــا ولا تَــاء بينَنَــا    وحَالي بها مَاضٍ كَذَا ومُضَارع[95]

قد يشكلان روحاً واحداً يتنقل بين جسمين، كما أشار القائل:

وَمَـــا ذاك إلَّا أننــــا رُوحٌ واحِــدٌ  تَدَاولنا جسمان وهو عَجِيب[96]

حيث يصعب تفسير تلك العبارات، أو حملها على الظاهر، حيث «إن العشاق لا يؤاخذون بأقوالهم»[97]، وهي عند الصوفي حقائق باح بها في لحظات الوصل، تمثّل في نظره أسراراً إلهية وفيوضات ربانية، لا يمكن أن نفهمها إلا على ضوء التمييز بين نوعين من اللغة؛ لغة ما قبل الوصول، ولغة الوصول، وهما يقابلان السالك والصوفي، ولكلّ واحدٍ منهما نمطٌ من أنماط توظيف اللغة؛ «فالسالك مازال على الطريق يتعب ويجتهد ويعرق عبر المسالك المضنية، وما زال يحدوه الشوق إلى مقام الشهود والحضور»[98]، فتكون كتابته كلها شوق وخوف ورجاء، أما الصوفي «فهو الذي يكون قد قطع هذه المرحلة، ودخل في مرحلة أخرى»[99]؛ تتميز بالكشف والفيض النوراني والمواجيد والشطح، حيث «يعيش أحوال الفتنة والدهشة»[100]، وهو في مقام السكر، غاب فيه وبه عن الوجود الفاني، واستغرق في العلوي والمقدس، فلا تسعفه اللغة، وتخرج الكلمات منه مناقضة للعقل، ولسان حاله يقول:

أَنَـــا ذَلِـكَ الفَــــرْدُ الـذي   فيــــه الكَمَــــالُ الأَعْجَــــبُ

أنــا قُطْــبُ ذلـك الرَّحَــى  وأنـــا العُـــلاَ المُسْــــتَـوعِـب

وأنـــا العَجِيـــبُ ومـن بِه مِمَّــــا حَـــوى ذَا المُعْجِــب[101]

بذلك، يصبح الصوفي في حد ذاته «كائناً عجيباً»، في حاجة إلى لغة «عجيبة» تواكب خصوصية هذه التجربة الفريدة؛ حيث لا حدود لإمكانات الجمال واللذة فيها، على الرغم من غموضها.

من خلال تأمل عدد من النصوص المحسوبة ضمن الشطح اللغوي، وهي نصوص فوق العادة بامتياز، يمكن ملاحظة أنّ الكثير منها قد نتج على التأليف بين الثنائيات الضدية ودمج المتقابلات التي لا تجتمع في العادة، كأن تجتمع «الذات» مع «الآخر»، أو «أنا» مع «هي»، وما سوى ذلك من الألفاظ التي تصدم الفهم المألوف؛ فقد عمل بعض المتصوفة على «تأليف المتنافر ومُواءمة البعيد للبعيد حتى تظهر علاقة جديدة تكون مصدر التعجيب»[102]، بل شكّل هذا التأليف الغريب مكوناً من مكونات الشطح اللغوي، ومن ذلك قول عبد الكريم الجيلي مخاطباً الحق تبارك وتعالى:

أَنْتَ الضِّيَـاءُ وضِدُّه بل إِنَّمَا         أَنْتَ الظَّــلاَمُ لِعَـارِف حَـيران[103]

حيث جمع بين الضياء وضده الظلام في بناء واحد ونعت مشترك، ليتلذذ بالشيء وضده، ومن ذلك أيضاً ما ورد في الرسالة القشيرية:

وِدَادُكُــمْ هَجْـرٌ، وَحُبُّكُــم قلـى       وقُرْبُكُـمْ بُعْــدٌ، وَسِـلْمُكُـمْ حَـرْبٌ[104]

من المعروف أن الهجر غير الوداد، والحب يتنافى مع الجفاء، والقرب لا يجتمع مع البعد، وليس السِّلم مثل الحرب، لكن السياق الصوفي استطاع الجمع بين كل تلك الأضداد، بل شكّل منها قطعة فنية تزخر بمظاهر الغرابة، والأنس والتعايش بين الأباعد، فكما أن المتصوف يعيش حالة القرب من خالقه، وهو يغادر بشريته؛ لأن «النعمة العظمى: الخروج من النفس»[105]، فينفي وجوده المادي ويتجاوزه إلى ما هو روحي ومعنوي؛ حيث إن النفس «إذا خالفت هواها صار داؤها دواءها»[106]، وصارت الحياة مع الموت، كما قيل:

وتَحْيَ مُحِبّاً أنْتَ في الحُبِّ حَتْفَه    وَذَا عَجَبٌ كَوْنُ الحَياة مَعَ الحَتْفِ[107]

كما يصبح الصمت في موضع الكلام، والكلام في مكان الصمت، في تبادل عجيب للأدوار: «إذا أعجبك الكلام فاصمت، وإذا أعجبك الصمت فتكلم»[108]، يقول ابن عربي، مؤلفاً ما لا يأتلف من الأضداد، فلا يُخفي عجبه:

وَمِـنْ عَجَـبٍ أَنّـِي أحِــنُّ إِلَيهِــم     وأَسْــأَلُ شَوْقـاً عَنْهُـم وَهُــمْ مَعِي

فَتبكيهم عَيْنِي وَهُمْ فِي سَوَادِهَــا    وَتَشْتَاقُهُمْ نَفْسِي وَهُمْ بَيْنَ أَضْلُعِي[109]

ولأن المتصوف قد يجمع في سلوكه بين الأضداد، فيخلي نفسه من الرذائل ويحليها بالفضائل، كذلك كتابته المعبرة عن التجربة، يجتمع فيها كلّ ما كان متضاداً، متفرقاً عند غيره، خارقاً بذلك القاعدة التي تقول: قوتان من نفس النوع لا تلتقيان، حيث لا بد أن تكون الغلبة لواحدة منهما، لكن في سياق التعبير عن التجربة الصوفية، لا غالب ولا مغلوب، هناك إنسان يتلذذ بالمعاناة، «فمن عرف المعاني عرف ما أعاني»[110]، ويصف حاله قائلاً:

بَكَتْ عَيْنِي غداةَ البينِ دَمْعـاً        وَأُخْرَى بِالبُكَا بَخِلَتْ عَلَيْنَا

فَعَـاقَبْتُ التِي بَخلتْ بِدَمْــعٍ                   بِأَنْ غَمَّضْتُهَا يَوْمَ التَقَيـنَـا[111]

 حيث يتلذذ بتلفظ «البكاء» ومشتقاته، مثل الدمع، بل يحرم عينه رؤية محبوبه، إمعاناً في التلذذ بالحزن والشوق الذي يحرق الأحشاء، ويقطع الأكباد، ومع ذلك الألم، فالصوفي يستمتع بالإيقاع الحزين، الذي يخلفه نطق تلك الكلمات (بكت عيني - دمعاً - بخلت - عاقبت - غمضتها) ليحقق لوعة النفس ومشاركة الحواس في شوقه، وسكون الروح، تحت الإيقاع الحزين، فلا يسمع ولا يرى غير محبوبه، وإن كان في حانوته أو سوقه لا يشعر بمن حوله، وهو في لحظات سكره وأنسه... وفي تلك اللحظة أو الحال، يستوي الحلم واليقظة، ويتداخل الواقع مع الخيال والعقل واللا معقول، والمنطق واللا منطق... حيث تتحد الأضداد، وتتقارب الموجودات، لتشكل ذاتاً واحدة، تكون لغة الكتابة جسدها، ويكون المتصوف مسرحاً لذلك التحوّل الكوني، ولهذه الظاهرة النفسية، التي لم يكن من سبيل لوصفها، غير ائتلاف الاختلاف، وقُرب البُعد، في خرق سافر لكلّ قوانين العقل المتعارف عليها.

نصوص فوق العادة: المعنى الغامض

ولعل من أعجب النصوص الصوفية فوق العادة، التي لا تكتفي بإدهاش العقل ونقض المنطق، وإنّما تجعل المعنى بعيداً عن متناول الفهم، مهما بذل القارئ من جهد، ما يمكن استحضاره -على سبيل التمثيل لا الحصر- فيما كتبه عبد الكريم الجيلي، وهو يشحن النص الآتي بالرمزية إلى حدّ الاستغلاق، فيقول: «سمعت وأنا في القبة الزرقاء بعالم يخبر عن وصف عنقاء، فرغبت إليه، وتمثلت بين يديه، ثمّ قلت له: صرح لي خبرك وصحح أثرك، فقال: إنه المعجب الحقيقي والطائر الحمليق الذي له ستمائة جناح وألف شوالة صحاح، الحرام لديه مباح، واسمه السفاح ابن السفاح، مكتوب على أجنحته أسماء مستحسنة، صورة الباء في رأسه، والألف في صدره، والجيم في جبينه، والحاء في نحره، وباقي الحروف بين عينيه صفوف، وعلامته في يده الخاتم، وفي مخلبه الأمر الحاتم، وله نقطة فيها غلظة، وله مطرف فوق الرفرف»[112]. ولا يخفى ما في هذا النص من الغموض، بكلّ مظاهره، الذي قد لا يفكّ شفرته إلا مبدع النص، وقد كان كذلك، حيث قال الجيلي بعد بيان معاناته في كشف مستور المعاني: «فعلمت أني هو الذي كان يعني، فحينئذٍ ظهرت النقطة، وانتفت الغلظة، فأبرزت العلامات بإحياء من قد مات»[113]. ولا شك أن المعاني ستظل بعيدة عن متناول المتلقي وهو يطالع النص الصوفي المغرق في الغموض، ذلك النص الذي نجح في عزف «سمفونية» الرعب والخوف؛ بدأت بوتيرة بطيئة وتحت ضياء أزرق خافت، مساعد على الاسترخاء والتأمل، تصاحبه نغمات هادئة فيها حنين واقتراب وبوح (سمعت - في القبة الزرقاء - فرغبت إليه - بين يديه - فقلت)، ثمّ يرتفع الإيقاع قليلاً (صرح - صحح)، فتتسارع الأنفاس (صحاح - مباح - السفاح)، ثمّ تتدخل آلة أخرى في العزف وهي آلة الحروف، حرفاً حرفاً (الباء - الألف - الجيم - الحاء) قبل أن تهوي الحروف جميعاً فتُحدث صوتاً مفزعاً (الحروف - صفوف) فيستولي الرعب على المستمع (يده- مخلبه - غلظة)، ويثبت مكانه واجماً لا يتحرك (نقطة - مطرف - رفرف)، فلا يصحو من هول ما سمع، إلا ليقع في حيرة معنى ما جهل.

يبدو أن عمل اللغة في الفكر والموجودات خطير، «إن اللغة (...) هي التي تخلق العقل، أو على الأقل تؤثّر في التفكير تأثيراً عميقاً وتسدّده، وتوجّهه توجيهاً خاصاً»[114]. ومعنى ذلك أن للنصوص الصوفية فوق العادة -باعتبارها نسيجاً مكوناً من اللغة والفكر حاملاً لسمات التجربة الروحية الفريدة والغامضة- آثاراً نفسية واجتماعية «تتعدى حدود التلقي الأدبي بكل مقوماته، وتسري في مسارب الفعل الاجتماعي، لكن يظلّ للغة النص الأدبي دور في هذه العلاقة يختلف تماماً عن دور لغة النص العلمي أو الفلسفي أو الحديث اليومي»[115]. ولقد وعى المتصوفة هذه الخطورة فقالوا: «الكلمة العناية الخارقة للعادة»[116]، ولذلك وجهوا اهتمامهم «بالمتقبل؛ لأن المهمة تتعدى التأثير الجمالي البحت، إلى محاولة التأثير في البنية العقلية والفكرية، فالصوفي يعد نفسه صاحب رسالة»[117]، يوجهه إيمانه بالمسؤولية، ويحثه دافع التبليغ على نشر الخير ونفع الغير، ولذلك، المتصوف «كالسحاب يُظِلّ كلّ شيء، وكالقطر يسقي كلّ شيء (...) ويصفو به كل شيء»[118]، ولذلك لم يكن غريباً أن يبدع نصوصاً فوق العادة، وينسج بذلك فكراً مغايراً ونمطاً من «التفكير» له سماته وخصوصياته.

للاطلاع على البحث كاملا المرجو الضغط هنا

_______________________________________________________________

[1]- مجلة تأويليات العدد 3

[2]- عبد المجيد الصغير، إشكالية إصلاح الفكر الصوفي في القرنين 18 و19: أحمد ابن عجيبة، ومحمد الحراق، دار الآفاق الجديدة، الدار البيضاء، ط2، 1994، ص15

[3]- الطوسي السراج، اللمع في التصوف، تح. وتق عبد الحليم محمود وطه عبد الباقي سرور، دار الكتب الحديثة، مصر، مكتبة المثنى، بغداد، د.ط، 1380/1960، ص4

[4]- أبو القاسم القشيري، الرسالة القشيرية، تح عبد الحليم محمود، مطابع مؤسسة دار الشعب، القاهرة، د.ط، 1989، ص127

[5]- محمد الكلاباذي، التعرف لمذهب أهل التصوّف، دار الكتب العلمية، بيروت، (د.ط)، 1980، ص88

[6]- ابن عجيبة، معراج التشوف إلى حقائق التصوف، جم. وتق العمراني الخالدي عبد السلام، دار الرشاد الحديثة، ط1، 1999، ص68

[7]- أبو حامد الغزالي، أيها الولد المحب، تح. وتع عبد الله أحمد أبو زينة، دار الشروق، القاهرة، ط1، 1975، ص ص 48-49

[8]- أبو سالم العياشي، الرحلة العياشية «ماء الموائد»، تقديم وتحقيق خالد سقاط، أطروحة دكتوراه مرقونة بخزانة الآداب والعلوم الإنسانية-ظهر المهراز- فاس، (1998-1999)، ج1، ص203

[9]- الغرميني، عبد السلام، الصوفي والآخر: دراسات نقدية في الفكر الإسلامي المقارن، نشر المدارس، الدار البيضاء، ط1، 2000، ص109

[10]- الكهف: 18/65

[11]- على سبيل المثال، يمكن استحضار كتاب: أحمد بن المبارك السجلماسي المالكي، الإبريز من كلام سيدي عبد العزيز الدباغ، دار الكتب العلمية، بيروت، ط3، 2002

[12]- إبراهيم القادري بوتشيش، «ثقافة الوسطية في التصوف السني بالمغرب»، ضمن كتاب: التصوف السني في تاريخ المغرب: نسق نموذجي للوسطية والاعتدال، تأليف جماعي، منشورات الزمن، سلسلة شرفات، ع 27، 2010، ص70

[13]- الرسالة القشيرية، مصدر سابق، ص563

[14]- الكفوي، الكليات (معجم في المصطلحات والفروق اللغوية) لأبي البقاء الكفوي، تح عدنان درويش، محمد المصري، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2، 1998، مادة: عجز، ص149

[15]- زكريا القزويني، عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، ط1، 2000، ص15

[16]- جميل صليبا، المعجم الفلسفي، دار الكتاب اللبناني- مكتبة المدرسة، بيروت، ط1، 1983، ج2، ص513

[17]- الميلودي شغموم، المتخيل والقدسي في التصوف الإسلامي: الحكاية والبركة، منشورات المجلس البلدي بمدينة مكناس، ط1، 1991، ص269

[18]- ينظر كرامات بعض الصحابة والتابعين ضمن: ابن تيمية، مجموع فتاوى ابن تيمية، كتاب التصوف، جمع وترتيب عبد الرحمن محمد بن قاسم، مكتبة المعارف، الرباط، مج11، ص274

[19]- حكم أبي الحسن الحرالي، نصوص غير منشورة من أدب التصوف، تق. وتح جورج كتورة، الباحث، ع 3 (1978)، ص114

[20]- مثال ذلك، حديث التادلي في كتابه التشوف، عن الشيخ أبي محمد صالح بن ينصارن (ت 631هـ) قائلاً: «وأخبرني عنه تلاميذه بعجائب الكرامات»، ينظر: التشوف إلى رجال التصوف وأخبار أبي العباس السبتي، ابن الزيات، أبو يعقوب يوسف بن يحيى التادلي، تح أحمد التوفيق، منشورات كلية الآداب، الرباط، ط1، 1984، ص41

[21]- ينظر: عبد الإله لغزاوي، «الخطاب الفانطاستيكي في الكرامة الصوفية: نموذج صلحاء الزاوية الوزانية»، الغـد، ع2، س1، صيف 1996

[22]- عبد الفتاح الشاذلي، تجليات العجيب في المسرح المغربي. نماذج من العجيب السحري، أطروحة للدكتوراه مرقونة بخزانة كلية الآداب-ظهر المهراز-فاس، 2005-2006، ص136

[23]- من أمثلة الكتب في هذا السياق: عدة المريد الصادق لأحمد زروق. وأيضاً: ذمُّ ما عليه مُدّعو التصوف لابن قدامة المقدسي. ينظر نماذج أخرى، ضمن: عبد المجيد الصغير، إشكالية إصلاح الفكر الصوفي في القرنين 18 و19: أحمد ابن عجيبة، ومحمد الحراق.

[24]- على سبيل المثال نستحضر طه عبد الرحمن.

[25]- أبو حامد الغزالي، الرسالة اللدنية، مجموعة رسائل الإمام الغزالي، تح إبراهيم أمين محمد، المكتبة التوفيقية، القاهرة، (د.ت)، (د.ط)، ص ص 249-250

[26]- لتعرف الدلالات الفرعية لكل لفظ على حدة، يُنظر كتب اصطلاحات القوم، مثلاً: الرسالة القشيرية، واللمع للطوسي، ومعراج التشوف إلى حقائق التصوف لابن عجيبة.

[27]- يوسف زيدان، شرح مشكلات الفتوحات المكية لابن عربي، الجيلي، دار الأمين للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 1999، ص78

[28]- عبد الكريم الجيلي، الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل، تحقيق أبو عبد الرحمن صلاح بن محمد بن عويضة، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1997، ص12

[29]- حسن الشرقاوي، معجم ألفاظ الصوفية، مؤسسة مختار للنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 1987، ص229

[30]- ماء العينين، مصطفى بن محمد فاضل، نعت البدايات وتوصيف النهايات، دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت، (د.ط)، (د.ت)، ص175

[31]- عبد الكريم الجيلي، الإنسان الكامل، مصدر سابق، ص17

[32]- يوسف زيدان، عبد الكريم الجيلي: فيلسوف الصوفية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مصر، ط1، 1988، ص21

[33]- أبو سالم العياشي، الرحلة العياشية، «ماء الموائد»، ج 2، ص327

[34]- ناجي حسين جودة، المعرفة الصوفية: دراسة فلسفية في مشكلات المعرفة، دار الجيل، بيروت، ط1، 1992، ص169

[35]- مصطفى محمود، الروح والجسد، الأعمال الكاملة، دار العودة، بيروت، 1982، ص8

[36]- ابن عربي، «شق الجيب بعلم الغيب»، ضمن: رسائل ابن عربي، تقديم وتحقيق سعيد عبد الفتاح، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، (د.ط)، 2001، ص285

[37]- أحمد بن المبارك السجلماسي المالكي، الإبريز من كلام سيدي عبد العزيز الدباغ، ص33

[38]- ابن عربي، «شق الجيب بعلم الغيب»، ضمن: رسائل ابن عربي، ص285

[39]- ابن عربي، فصوص الحكم، تحقيق أبو العلاء عفيفي، دار الكتاب العربي، مصر، ط2، 1980، ص47

[40]- ماء الموائد، مصدر سابق، ج2، ص537

[41]- أبو العلاء عفيفي، من تقديمه لكتاب: فصوص الحكم لابن عربي، مصدر سابق، ص21

[42]- نصر حامد أبو زيد، هكذا تكلم ابن عربي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ط1، 2002، ص131

[43]- نسج عبد القادر بن قضيب البان على منوال «الفتوحات المكية» لابن عربي، كتاباً سماه: «الفتوحات المدنية». ينظر: يوسف زيدان، شرح مشكلات الفتوحات المكية لابن عربي، الجيلي، مرجع سابق، ص20

[44]- نصر حامد أبو زيد، هكذا تكلم ابن عربي، مرجع سابق، ص133

[45]- ماء الموائد، مصدر سابق، ج2، ص482

[46]- ماء الموائد، مصدر سابق، ج2، ص ص482-483

[47]- علي حرازم بن العربي برادة، جواهر المعاني وبلوغ الأماني في فيض سيدي أبي العباس أحمد التجاني، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، مصر، (د.ط)، 1963

[48]- الإبريز من كلام سيدي عبد العزيز الدباغ، مصدر سابق.

[49]- المصدر نفسه، ص22

[50]- المصدر نفسه، ص7

[51]- المصدر نفسه، ص6

[52]- المصدر نفسه، ص7

[53]- عبد الكريم الجيلي، الإنسان الكامل، مصدر سابق، ص8

[54]- محمد ماضي أبو العزائم، الجفر، القاهرة، دار الكتاب الصوفي- دار المدينة المنورة للطبع والنشر، ط3، 1990، ص4

[55]- بوشتى السكيوي، «ملامح التجربة الصوفية عند أبي علي الحسن اليوسي»، ضمن: ندوة التجربة الصوفية بين الفن والفلسفة، أعمال الندوة التي نظمها مركز الدراسات الإنسانية والمستقبليات، 9-10 نيسان/أبريل 2000، جامعة عين شمس، القاهرة، 2001، ص287

[56]- علي حرازم بن العربي برادة، جواهر المعاني، مرجع سابق، ج 3، ص56

[57]- رسائل ابن عربي، مصدر سابق، ص340

[58]- أبو حامد الغزالي، مشكاة الأنوار ومصفاة الأسرار، ش. ود. وتح: عبد العزيز عز الدين السيروان، عالم الكتب، بيروت، ط1، 1986، ص117

[59]- رسائل ابن عربي، مصدر سابق، ص340

[60]- ورد البيت منسوباً إلى الإمام الشافعي، وذلك من قبل ناشر كتاب: جواهر التصوف، ليحيى بن معاذ الرازي (ت 258هـ)، جم. وش. وتع سعيد هارون عاشور، مكتبة الآداب، القاهرة، ط1، 2002، ص44

سَأكْتُمُ عِلْمِي عَنْ ذَوي الجَهْل طَاقَتِي وَلاَ أَنْثُرُ الدُّرَّ النَّفِيـسَ عَلَى الغَنَمِ

فَمَـنْ مَنَـحَ الجُهَّــالَ عِلْمـاً أَضـَاعَـــهُ وَمَنْ مَنَعَ المُسْتَوْجبِينَ فَقَدْ ظَلَـمَ

[61]- ابن الدباغ، مشارق أنوار القلوب ومفاتح أسرار الغيوب، تح: هـ. ريتير، دار صادر، بيروت، (د.ط)، (د.ت)، ص3.

[62]- الرسالة القشيرية، مصدر سابق، ص155. وكذلك، ص526

[63]- المصدر نفسه، ص95. والكلام لأبي العباس أحمد بن محمد بن مسروق (ت 298هـ أو 299).

[64]- المصدر نفسه، ص312

[65]- المصدر نفسه، ص361

[66]- المصدر نفسه، ص344

[67]- ابن الدباغ، مشارق أنوار القلوب ومفاتح أسرار الغيوب، مصدر سابق، ص4

[68]- ماء الموائد، ج3، ص625

[69]- عبد الكريم القشيري، نحو القلوب الكبير، تح. وش. ود: إبراهيم بسيوني، وأحمد علم الدين الجندي، عالم الفكر، القاهرة، ط1، 1994. وله أيضا كتاب: نحو القلوب الصغير.

[70]- عبد الكريم القشيري، نحو القلوب الكبير، من مقدمة تحقيقه، ص16

[71]- المصدر نفسه، ص41-43

[72]- ابن عجيبة، أبو العباس أحمد بن محمد (ت 1224هـ)، الفتوحات القدوسية في شرح المقدمة الأجرومية، تح عبد السلام العمراني الخالدي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 2007

[73]- خلاصة شرح ابن عجيبة على متن الآجرومية في التصوف (المسمّى: منية الفقير المتجرد وسيرة المريد المتفرد) للشيخ عبد القادر بن أحمد بن أبي جيدة الكوهن الفاسي (ت 1253هـ)، مكتبة النجاح، طرابلس، ليبيا، سنة 1319هـ، ص3

[74]- المصدر نفسه، ص15

[75]- المصدر نفسه، ص16

[76]- خلاصة شرح ابن عجيبة على متن الآجرومية في التصوف، مصدر سابق، ص16

[77]- عبد الكريم بن إبراهيم الجيلي (ت 832هـ)، الكهف والرقيم في شرح بسم الله الرحمن الرحيم، اعتنى به عاصم إبراهيم الكيالي، مكتبة القاهرة، مصر، ط1، 1998.

[78]- المصدر نفسه، ص13

[79]- المصدر نفسه، ص14

[80]- المصدر نفسه، ص19. وكذلك للمؤلف نفسه كتاب: الإنسان الكامل، مصدر سابق، ص40

[81]- الأنفال: 8/63

[82]- عبد الكريم الجيلي، الكهف والرقيم، مصدر سابق، ص18

[83]- المصدر نفسه، ص17

[84]- نور الدين الزاهي، المقدس الإسلامي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ط1، 2005، ص39

[85]- ينظر أمثلة من رمزية الحروف، ضمن: عبد الوهاب الفيلالي، الأدب الصوفي في المغرب إبان القرنين الثامن عشر والتاسع عشر للميلاد: ظواهر وقضايا، مرجع سابق، ص375

[86]- تح: عبد الرحيم مارديني، دار آية ببيروت، ودار المحبة بدمشق، ط1، 2002/2003. ولابن عربي أيضا: رسالة الباء، تح. وتق: سعيد عبد الفتاح، ضمن كتاب: مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1426هـ/2005م

[87]- نور الدين الزاهي، المقدس الإسلامي، مرجع سابق، ص54

[88]- المرجع والصفحة نفسهما.

[89]- حول ظاهرة الشطح وتاريخ الشطحيات، ينظر: عبد الرحمن بدوي، شطحات الصوفية، وكالة المطبوعات، بيروت-الكويت، ط3، 1978، ص7-47

[90]- ينظر: اللمع للطوسي، مصدر سابق، ص453. ويمكن الاطلاع على نماذج من الشطح الصوفي، في كتاب: أبو يزيد البسطامي: المجموعة الصوفية الكاملة ويليها كتاب تأويل الشطح، تح. وتق: قاسم محمد عباس، دار المدى للثقافة والنشر، سوريا، ط1، 2004، ص45-55

[91]- أخرجه البخاري (11/ 91-92) ومسلم (2748) عن أنس بن مالك.

[92]- ابن الدباغ، كتاب مشارق أنوار القلوب ومفاتح أسرار الغيوب، مصدر سابق، ص13

[93]- أبو حامد الغزالي، مشكاة الأنوار ومصفاة الأسرار، مصدر سابق، ص ص 139-140

[94]- كامل مصطفى الشيبي، شرح ديوان الحلاج، ص279

[95]- عبد الكريم الجيلي، الإنسان الكامل، مصدر سابق، ص66

[96]- المصدر نفسه، ص65

[97]- الرسالة القشيرية، مصدر سابق، ص530

[98]- أحمد الطريسي، «التجربة الشعرية بين الشعر الصوفي والشعر السلوكي»، مجلة عوارف، ع2، 2007، ص32

[99]- المرجع نفسه والصفحة نفسها.

[100]- المرجع نفسه، ص33

[101]- عبد الكريم الجيلي، الإنسان الكامل، مصدر سابق، ص46

[102]- شكري المبخوت، جمالية الألفة (النص ومتقبله في التراث النقدي)، منشورات بيت الحكمة، قرطاج، تونس، ط1، 1993، ص141

[103]- عبد الكريم الجيلي، الإنسان الكامل، مصدر سابق، ص17

[104]- الرسالة القشيرية، مصدر سابق، ص167

[105]- المصدر نفسه، ص275

[106]- المصدر نفسه.

[107]- المصدر نفسه، ص306

[108]- المصدر نفسه، ص228

[109]- ابن عربي الحاتمي (ت 638هـ)، كتاب الحُجُب، تحقيق عاصم إبراهيم الكيالي، دار الكتب العلمية، بيروت، (د.ت)، ص99

[110]- ابن عربي، شجرة الكون، تحقيق رياض العبد الله، دار القلم، بيروت، ط2، 1985، ص91

[111]- الرسالة القشيرية، مصدر سابق، ص527

[112]- عبد الكريم الجيلي، الإنسان الكامل، مصدر سابق، ص18

[113]- المصدر نفسه، ص19

[114]- ساطع الحصري، ما هي القومية، دار العلم للملايين، بيروت، (د.ت)، ص56

[115]- مصطفى سويف، دراسات نفسية في الإبداع والتلقي، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، (د.ط)، 2000، ص184

[116]- حكم أبي الحسن الحرالي، نصوص غير منشورة من أدب التصوف، مصدر سابق، ص117

[117]- محمد مبارك، استقبال النص عند العرب، المؤسسة العربية، بيروت، 1999، ص199

[118]- الرسالة القشيرية، مصدر سابق، ص ص466-467