المراجعات الفكرية: من التطرف إلى الحوار


فئة :  مقالات

المراجعات الفكرية: من التطرف إلى الحوار

المراجعات الفكرية: من التطرف إلى الحوار

ملخص:

في هذه الورقة سأعمل على تحديد عوامل التطرف الديني لدى المنتسبين للحركات الإسلامية المتطرفة أو المتأثرين بفكرها، من خلال تحليل الظاهرة والاستشهادات التي يرتكز عليها المتطرفون، وكذا من خلال تحليل المعطيات التي توصلت بها خلال أبحاث ميدانية وحوارات قمت بها مع أخصائيين نفسيين واجتماعيين بالسجن المركزي بالقنيطرة – حيث يقضي أغلب السجناء على خلفية الإرهاب في المغرب عقوباتهم السجنية- وأيضا مع سجناء سابقين قاموا بمراجعات فكرية، إلى جانب حوارات مع مخرجين عالجوا ظاهرة الإرهاب في أعمالهم الفنية. كما سنعمل على النظر في مسألة المراجعة الفكرية، وتقويم المجهودات المبذولة في هذا الإطار وتحديد ما يمكن العمل عليه لإنجاحها.

1- عوامل التطرف الديني-الإسلامي

إن التطرف عموما لا ينحصر في الدين الإسلامي فحسب، وإنما يظل تهديدا قابلا لأن يصدر عن أي دين وأي أيديولوجيا كيفما كانت، لكنني في هاته الورقة سأخص بالذكر الجانب الإسلامي فقط، لكونه الأكثر انتشارا في وقتنا الحالي والحاصد لأكبر عدد من الضحايا، حيث تبين إحصائيات قامت بها منظمة The Global Terrorism Database سنة 2018م في تقرير مفصل، أن الجماعات الإرهابية الأربع الأكثر دموية في سنة 2017م هي تباعا: داعش في العراق، بوكو حرام في نيجريا، الشباب في شرق إفريقيا، طالبان في أفغانستان.[1]

وأول ملاحظة يمكن تسجيلها عند حديثنا عن التطرف لدى الحركات الإسلامية الجهادية، هي الخلط بين الديني والسياسي والاجتماعي، حيث تتدخل في الحريات الفردية، كما تتدخل في سياسات الدولة وعلاقاتها الاقتصادية، بل وفي نظام الأبناك نفسه. والمثير في هذا الصدد هو أن هذه الحركات - وأخص منها داعش- تستشهد قبل كل عملية قتل أو ذبح أو حد أو حرق بآيات قرآنية وبأحاديث نبوية. الأمر الذي يضفي شرعية دينية على جرائمها، ويصور الدين الإسلامي، كدين دموي يقتات على الذبح والقتل والسبي.

وقد بينت الحوارات التي أجريتها مع الأخصائيين الاجتماعيين والنفسيين المتتبعين لحالات المعتقلين بتهم الإرهاب، وكذا اللقاءات والحوارات مع الأشخاص الذين قاموا بمراجعة فكرية لمواقفهم وانتقلوا من التطرف الديني إلى التنور والتنوير، أن العامل الديني، - خاصة منه آيات القتال والأحاديث الموازية، والسيرة التي تنقل أخبار الغزوات- قد كان من أهم العوامل المؤدية إلى التطرف، بالإضافة إلى مختلف الأدبيات والكتب التي تنشرها الحركات الإسلامية الجهادية، والتي يظهر من خلال المراجعين أنها كانت تتوفر في الأسواق المغربية بأثمنة زهيدة جدا، أو بالمجان. كما أكدوا جميعا أن التربية الدينية التي تلقوها، سواء في الأسرة أو المساجد أثرت بشكل كبير في توجههم الديني المتطرف، خاصة خطب الجمعة الداعية إلى الجهاد ونشر الإسلام، وإلى نجدة فلسطين ومعاداة أمريكا وإسرائيل، ونصرة الإسلاميين في أفغانستان والعراق، مشحونة بأخبار المجاهدين والضحايا. الأمر الذي كان يثير -حسب المعنيين- تعاطف المصلين، وساهم في إقناع مجموعة منهم بالانضواء في كنف حركات إسلامية جهادية، وعبرها الالتحاق بأراضي المعارك. كما أكدوا جميعا أن الإعلام كان له دور مهم في ذلك أيضا، من خلال نقله لصور القتلى والمصابين الفلسطينيين، وصور الأمهات وهن يشهدن أن لا إله إلا الله، ويستنجدن بإخوانهم المسلمين.

واستنادا على تحليل المعطيات التي توفرت لدي، من خلال إفادات الأخصائيين النفسيين والاجتماعيين، وشهادات المتطرفين سابقا، يمكن تحديد أهم العوامل المتدخلة في التطرف الديني في كل من: القرآن والأحاديث، وتأثير المسجد، والإعلام.

أ- القرآن:

يستدل المتشددون في الدين من فقهاء وقادة دينيين وحركات إسلامية جهادية بمجموعة من الآيات الواردة في القرآن من أجل تبرير أعمالهم الإرهابية، وإضفاء شرعية دينية عليها؛ وذلك من قبيل قوله تعالى: "قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ". (سورة التوبة الآية 29)

ولكي يكرس المتشددون التوجه الجهادي لهذه الآيات، فإنهم يعودون إلى التفاسير التي أجمع على مصداقيتها أهل السنة والجماعة واعتبروها تفاسير معتمدة، من قبيل تفاسير القرطبي والبغوي وابن كثير والسعدي، وغيرهم ممن اعتبروا هاته الآيات دعوة صريحة للمؤمنين في كل زمان ومكان للجهاد، وإعلان الحرب على كل من لم يؤمن بأن لا إله إلا الله وبأن محمدا رسول الله.

هاته الآيات التي فسرت قديما بوجوب القتل والقتال، هي التي جعلت من الجهاد فرضا من فروض الدين، أو ما يسمونه "الفريضة الغائبة". وقد تم فيها التمييز بين فرض كفاية إن كان القتال في دار الحرب، أي دار الكفار، وفرض عين إن كانت في دار السلام، أي دار المسلمين والإسلام، وهي أيضا التي أسست لتبني العنف والعمليات الإرهابية لدى الحركات المتطرفة، على اعتبارها أداء لفرض من فروض الدين. ولعل ما تفنن فيه فقهاء الدين من وصف لحور العين وملذات الجنة والمعاملة الفضلى التي يتعامل بها المجاهدون في سبيل الله، قد شكل حافزا إضافيا على التضحية بالذات من أجل محاربة ما يعتبرونه كفرا وشركا وضلالا. وما زاد في تعقيد هذا الأمر هو اعتبار المفسرين مبجلين ومعصومين من أي خطأ، وضرورة الأخذ بتفاسيرهم كمسلمة، دون إخضاعها للنقد أو لتحكيم العقل أو للسياق العام لدين الإسلام وضوابطه وأحكامه، وهو ما دفع مجموعة من الفقهاء الحداثيين إلى تقديم تفاسير أخرى لهاته الآيات، كما ذهب إلى ذلك محمد شحرور وعدنان إبراهيم وآخرون، حيث يرجع شحرور مصطلح الجهاد إلى معناه العام، وهو بذل الجهد سلميا وليس بالضرورة القتال، مشيرا إلى ضرورة التمييز في الآيات بين الجهاد والقتال، حيث يكون الجهاد هو مجاهدة النفس وبذل الجهد ويكون القتال في سياقات أخرى مختلفة، ويرجع عدنان إبراهيم آيات القتال في القرآن إلى جهاد الدفع، حيث يكون المسلمون مضطرين للدفاع عن أنفسهم أمام عدوان أو هجوم.[2]

هاته الاجتهادات، وإن كان هدفها إنسانيا يطمح إلى تجديد الخطاب الديني وإلى تنقيح التراث الإسلامي من التفاسير التي تمس بصورة الإسلام والمسلمين من جهة، وبأمن المواطنين داخل الدول الإسلامية وخارجها من جهة أخرى، إلا أنها تظل غير كافية، حيث نجد بعضها لا يتناسب مع سياق الآيات، والبعض الآخر يسقط في محاولة التبرير على حساب المعطيات التاريخية.

إن النص القرآني يدعونا إلى الاعتراف بوجود آيات تحث على القتال والقتل، معززة بشهادات من تاريخ المعارك التي خاضها الرسول وصحابته، وإن تعاملنا مع هاته الآيات يكون متعسفا إن سقطنا بها في التأويلات التي تخرج بها عن حدودها اللغوية، مبنى ومعنى، كما يكون قاصرا إن نحن جردناها عن حيثيات واقعها المكاني والزماني.

ومن أجل تجاوز هذا المشكل أتجه نحو اقتراح منهجية جديدة في التعامل مع النصوص الدينية، أعتبرها خطوة أولى في تقديم تفاسير معاصرة، وهي تقوم أساسا على ملاحظة تنوع الآيات واختلافها، من منظور وظيفتها والمراد بها. فالله تعالى، لم ينزل آياته عبثا، بل أنزلها لأسباب معينة، تختلف الغاية منها حسب السياق وطبيعة الخطاب الديني، وحسب دورها الاجتماعي والعقدي. فالقرآن شامل من حيث تطرقه لكافة جوانب حياة الإنسان المسلم، ومن حيث تأطيره لها، وهو صالح لكل زمان ومكان، من حيث أهمية ما أتى به للمسلم في كل العصور وحيثما كان، لكن التطبيق يحتاج إلى إدراك الغايات، فليس كل ما في القرآن نواه وأوامر، بل فيه من المعاني والمقاصد ما هو أعمق من ذلك.

وهذا التصور من شأنه أن يضعنا أمام آياتٍ مطلقة الصلاحية، في كل زمان ومكان، وهي الآياتً التي تحدد الفرائضَ وأمورَ العقيدة، وآياتٍ تقتضي التسليم والتصديق، كتلك التي تتحدث عن الحياة الأخرى وما يجري فيها، وآياتٍ تنصب على حالات معينة، في ظروف وشروط خاصة، وهي تستدعي - بحكم تغير الظروف وتبدلِ الشروط - إعادةَ قراءتها، في ضوء مستجدات واقع الإنسان المسلم، قراءةً تمكنه من مواكبة عصره والانخراطِ فيه، ثقافيا وعلميا، محليا ودوليا، بدون عوائق، وبعيدا عن إحالة الحاضر على الماضي.

ومن هذا المنطلق، فإني وإن كنت أتفق مع معظم المجددين في الخطاب الديني، على ضرورة مراجعة التراث الإسلامي بما هو تراث، وتفادي الغلو في الدين، ووجوب تجنب أي تفسير بعيد عن السياق الأخلاقي الذي يهدف إلى الارتقاء بالبشرية وبالقيم الإنسانية، وتعزيزِ التسامح والتعايش بين الأديان والثقافات والأمم، والأفراد، فإني أشدد على ضرورة الاعتراف بالحقائق التاريخية التي عرفها المسلمون خلال وبعد فترة نبي الإسلام، وإرجاعها إلى سياقها التاريخي وظروف الحياة القبلية التي كان يعيشها المسلمون آنذاك. أما اليوم، ونحن في عصر الدولة والمؤسسات والعلاقات الدولية ومواثيق حقوق الإنسان، فإن من واجب المسلم العاقل التكيفُ مع المتغيرات، وقراءةُ الدين على النحو الذي يكون فيه قابلا لاستيعاب مبدأ التطورِ والتجاوبِ مع الحاضر واستشراف المستقبل. وهذا هو مصداق القول: "إن القرآن صالح لكل زمان ومكان"، حيث الصلاحية تعني التوافق مع مختلف العصور والمجتمعات، وتتنافى مع تشبث المسلم بوقائع القرون الهجرية الأولى والتمسك بالإحالة عليها.

ب- الأحاديث:

مثلما اعتمد المتطرفون الجهاديون على فهمهم الخاطئ للآيات التي تحث على الجهاد في تبرير إرهابهم، اتجهوا أيضا إلى الاعتماد على الأحاديث النبوية، حيث خصص البخاري في صحيحه كتابا كاملا عن الجهاد وآخر عن الجزية والحدود واستتابة المرتدين والكفار وقتالهم. واقتبس من "صحيح البخاري" هذا المثال:

"2803- حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: «والذي نفسي بيده، ولا يُكْلمُ أحد في سبيل الله- والله أعلم بمن يُكْلم في سبيله- إلا جاء يوم القيامة واللونُ لونُ الدمِ، والرّيحُ ريحُ المِسكِ.»."[3]

هاته الصورة التي رسمها هذا الحديث –وأحاديث مماثلة-، تقدم نبي الإسلام على شكل إنسان يتعطش للدماء، ويتلذذ برائحتها، ويرخص حياة المسلم. الأمر الذي يضع المسلم بين خيارين لا ثالث لهما، إما القبول بمثل هاته الأحاديث التي تسيء للنبي وللإسلام، وتتعارض مع الحس السليم ومع القيم الإنسانية والأخلاقية، أو إعادة النظر في هاته الأحاديث، اعتمادا على منهج جديد في التعامل معها يتم فيه تجاوز "علم الرجال" الذي يقوم على ثقة الرواة بالدرجة الأولى واتصال السند، وتبني منهج جديد يقوم على اعتبار المتن أكثر من السند، ويعملُ العقل، فيعرض الأحاديثَ على المنطقِ والعلمِ والنصوصِ القرآنية قبل الأخذ بها.

ويجذر التذكير بأن الحركات الجهادية تجد المجال الملائم للترويج لفهمها للآيات والأحاديث داخل المساجد، وخاصة المساجد الديرية التي لم تكن تخضع للمراقبة، وكذا في الإعلام، خاصة منه الإعلام الحديث، الذي يهم وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية.

2- من التطرف إلى المراجعة:

هاته العوامل التي أشرت إليها هي العوامل التي أعتبرها مشتركة بين مختلف المتطرفين دينيا، وتظل عواملهم الذاتية من قبيل النشأة الأسرية والتربية، والوضع الاقتصادي والاجتماعي، والمستوى الثقافي، عوامل يتباين فيها أفراد الحركات الجهادية، حيث تتحكم في طريقة قراءتهم للدين وبناء قناعتهم الدينية.

فعلى سبيل المثال، قد تؤدي التربية في أسرة متشددة إلى اتباع الأفراد للفكر السائد في محيطها، بينما قد يؤدي النشوء في أسرة منفتحة إلى ردود فعل مخالفة، يلجأ فيها المتشددون إلى الحركات المتطرفة من أجل إشباع إحساسهم بالانتماء، كما تختلف طرق تحليلهم للآيات ودرجات استيعابها حسب المستوى الثقافي؛ فمنهم من يتبع الآيات على أساس أنها أوامر من عند الله باعتماده على التحليل المباشر للنصوص الدينية، ومنهم من يقتنع بها من خلال وضع الثقة المطلقة في شيخه أو أميره، حيث تغلب عقيدة الولاء على إعمال الفكر النقدي.

وهذا ما أكده حواري مع الأخصائيين النفسيين والاجتماعيين بالسجن المركزي بالقنيطرة، الذين أجمعوا على كون المسجونين بتهم الإرهاب، تتفاوت خلفياتهم الثقافية، حيث تتراوح بين الأمية وبين الحاملين لشهادات جامعية عليا، مثل الدكاترة والمهندسين، كما أن وضعياتهم الاقتصادية تتمايز أيضا، حيث نجد من بينهم، من ينحدرون من أوساط هشة تعاني من التهميش، ومن ينحدرون من أوساط مترفة، وساهموا في تمويل الحركة التي ينتمون إليها من مالهم الخاص.

التباين نفسه نجده على مستوى الفئة العمرية وبنية الشخصية، فالمعتقلون بتهم الإرهاب الموجودون بالسجن المركزي بلغ عددهم حتى حدود شهر شتنبر 2018م ما يقارب 100 معتقل، تتراوح أعمارهم بين 13 سنة و70 سنة، ومنهم 15 فقط، تتابع حالاتهم من طرف أطباء وأخصائيين نفسيين. وفي هذا الإطار، سجلت الأخصائية النفسية أن هناك اختلافا كبيرا في بنية شخصيتهم، فمنهم من له شخصية قوية، ومنهم الخجول، ومنهم من يعاني من اضطرابات نفسية أو عقلية، تتراوح بين القلق والاكتئاب، وتصل في بعض الحالات إلى السكيزوفرينيا.

إلا أن ما يجمع بين كل هؤلاء المعتقلين، حسب الأخصائيين الاجتماعيين والنفسيين، هو رغبتهم في تغيير المجتمع والنظام السياسي القائم، إما انطلاقا من خلفية دينية، باعتباره نظاما فاسدا وأن الحكام طواغيت لا يحكمون بحكم الله، أو من خلفية نفسية - اجتماعية، كرد فعل على الظلم الذي لحق بهم، من فقر وتهميش، أو من خلفية سياسية محضة.

وفي هذا المنحى، ومن خلال احتكاكه اليومي مع المعتقلين الجهاديين، يجيب أخصائي اجتماعي من السجن المركزي بالقنيطرة في حواري معه بأن محاربة ظاهرة التطرف الديني تقتضي "النظر إلى الأسباب ومعالجتها، كالأسباب الاقتصادية والاجتماعية، ويجب كذلك ضمان الصحة النفسية والتتبع النفسي وإحقاق الديمقراطية، كما يجب أيضا دمقرطة الحقل الديني".

ويكشف تحليل الحالات الفردية للمتطرفين أنه إذا كانت عناصر الاتجاه نحو التطرف تكاد تكون مشتركة بينهم، فإن دواعي المراجعة الفكرية، في اتجاه الاعتدال الديني والتنور، وقبول الاختلاف وتغليب روح المواطنة، غالبا ما تتخذ مسارا شخصيا، يخوضه كل فرد بطريقته الخاصة، وحسب مستواه الفكري والثقافي. لكني لاحظت على العموم، من خلال الاطلاع على تجارب مختلفة لأفراد تتفاوت أعمارهم ومستوياتهم الثقافية، أن جل التحولات الفكرية، حصلت بعد إخضاع الفكر المتطرف للشك المنهجي، عبر الاطلاع على اتجاهات فكرية مختلفة، إما عن طريق حوارات ومناظرات، أو من خلال قراءات في كتب فكرية وعلمية ودينية متنوعة المشارب، - وهي في أغلبها كتب كفرتها الحركات الجهادية-، أو من خلال إخضاع النصوص للنقد والتحليل ومقارنتها مع المعطيات التاريخية والعلمية. ورغم تفاوت مستويات التحليل والإدراك بين أميين اكتفوا بملاحظة تباين آراء المشايخة أنفسهم واختلاف مواقف التيارات الدينية، وبين من لهم تكوين أكاديمي مكنهم من جرد تناقضات بعض النصوص الدينية مع العقل والعلم، وبين آخرين، غلبوا الوازع العاطفي، فاستيقظت ضمائرهم فجأة لتنبههم إلى الجانب اللا-أخلاقي واللا-إنساني في مجموعة من الممارسات المتشددة، من قبيل الحدود والتكفير وقتال المختلف أو قتله، بينما كانت معايشة الأوضاع سبيل آخرين للتنور، بعد وقوفهم على ما لدى الحركات الإسلامية من تناقض بين خطابها وممارساتها، خاصة بعد الالتحاق بهاته الحركات ومعاينة الجرائم التي ترتكبها.

ونظرا لعدم تمكني من التواصل مع هؤلاء الأفراد، لكون أغلبهم يدلون بتصريحاتهم في مواقع ومجموعات سرية، فقد اكتفيت بالتواصل مباشرة مع نموذجين بارزين هما: "عبد الوهاب رفيقي" المعروف بأبي حفص، و"عادل الحسيني".

"أبو حفص"، في الحوار الذي أجريت معه بتاريخ 20 شتنبر 2018م، وجهت إليه من بين أسئلتي السؤال الآتي: "توجد مجموعة من الأبحاث، بما في ذلك التي استنتجها المشتغلون في السجون، تعزو التطرف إلى أسباب اقتصادية، اجتماعية، ونفسية، وأصبحنا نتحدث عن عوامل إعلامية، وأضيف من جانبي العامل الديني كعامل رئيس في التطرف. في تجربتكم الشخصية، ما هي العوامل التي أثرت في تشكيل موقفكم السابق؟ وبالمقابل ما هي العوامل التي أدت إلى المراجعة؟"

فأجاب عن السؤال قائلا:

"في واقع الأمر، لقد كان الأمر مزيجا من كل ما ذكرت، فمن جهة، كان للأسرة وللبيئة التي نشأت فيها دور مهم في تحديد ميولاتي الدينية، لاسيما أن الأغلبية كانت متعاطفة مع الفكر السلفي في أفغانستان. ثم هناك الجانب الذي تتحمل فيه الدولة نفسها المسؤولية، حيث دفع مشكل اليسار أجهزة الدولة إلى تشجيع السلفية التي تم استيرادها من إيران، فأصبحت المساجد الكبرى الرسمية تنشر الفكر السلفي، وتم فتح الباب للسعودية لنشر كتب الوهابية بالمجان، حيث أقدر عدد النسخ بالملايين. هذا وقد تم تعيين وهابيين بالجامعات، وتم بالمقابل إغلاق شعب الفلسفة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، تم تشجيع عموم الناس على الذهاب إلى أفغانستان، حيث كان باب القنصليات مفتوحا في وجه العامة، وأصبحت دور القرآن عبارة عن مؤسسات سلفية.

أما فيما يخص المراجعة، فلم تكن دفعة واحدة، بل إنها نتيجة عشر سنوات من الاجتهاد والتفكير والبحث داخل وخارج الزنزانة، خاصة، وأنني قمت بتنقية محيطي وقللت من علاقاتي واعتكفت للبحث والتأمل".

وأضاف لاحقا: "إن ما يحفز عملية "التراجع" عن الفكر المتطرف هو الانعزال عن الجماعة والحركة والابتعاد عمن يشحنون بالأفكار. وبالنسبة لمجموعة من المعتقلين، فهم بعيدون عن الفكر المتطرف لكنهم متشبثون بالجماعة كتكتل، أي ذلك التواجد ضمن مجموعة، رغم الاختلاف الفكري."

الاستنتاج المهم الذي نخلص إليه من حديث "أبي حفص" هو أن مجموعة من المعتقلين بتهم الإرهاب لا يعتبر تطرفهم ناجما عن قناعة دينية معينة أو فكرية، وإنما يعود إلى رغبتهم في الانتماء وتكتلهم داخل الجماعة. وبالتالي، فإن إمكانية انعزالهم عن الجماعة، وبالأحرى، الحيلولة دون سقوطهم في شباكها، من شأنها أن تحد من استفحال ظاهرة الإرهاب وإلى انتشار عملية المراجعة.

وإذا كانت شهادة "أبو حفص" تبين أن النشأة الأسرية والشروط السياسية وخطب الجمعة في المساجد، تعتبر من العوامل الرئيسة في توجهه نحو التطرف، فإن "عادل الحسيني" يرى أنه لم يكن لأسرته دور مهم في ميوله الديني، بقدر ما كان العامل الرئيس هو خطب المساجد وخطابات الإعلام، حيث أدلى في الحوار الذي أجريته معه بشهادة حدثنا فيها عن رحلته من التطرف الديني إلى التنور قائلا:

"أقوى عامل في استقطابي للتدين المتطرف كان سيادة الخطاب المتطرف في المجتمع والإعلام الرسمي وغيره، بينما كانت العوامل الأخرى تشكل تبريرا بعد الوقوع في الاعتقال. في مسار المراجعة كان ولازال العامل الأقوى هو كشف الكم الهائل من التناقضات في الخطاب والمضمون الديني السائد، وبعد هذه المرحلة لجأت لتحليل ونقد كل معارفي ومعتقداتي الدينية على أساس عقلاني".

وتتقاطع وجهتا نظر كل من "أبو حفص" و"عادل الحسيني" في بؤرة واحدة، هي ضرورة إصلاح الحقل الديني بالموازاة مع إصلاح الظروف الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين، وقاية لهم من السقوط في التطرف الديني.

يقول "أبو حفص" في الحوار:

"العوامل الاجتماعية والاقتصادية فعلا موجودة، لكن ما يوحدهم (المتطرفون) جميعا هو العامل الديني، وهو ما يجب إصلاحه."

ويذهب "عادل الحسيني" في الاتجاه نفسه، إذ يقول في حواري معه:

"من واجب الحكومات والنخب تغليب نشر وتبني التأويلات العقلانية للنصوص، في أفق جعل النقاش الديني منفصلا عن السياسة تماما."

ويضيف قائلا: "أولا الحرص على عقلنة وأنسنة الحقل الديني؛ أي الاتفاق على أن خطب الجمعة وكراسي الوعظ يجب أن تسخر لخدمة السلم والتعايش. ثانيا: الخروج بالتعليم والإعلام من دائرة تعزيز الهوية التابعة للأيديولوجيات الشمولية المتشددة إلى دائرة تعزيز الهوية المحلية."

وبموازاة ضرورة إصلاح الوضع الاجتماعي وتأهيل الحقل الديني وإعادة قراءة التراث الإسلامي قراءة جديدة، حاولت مقاربة موضوع الإرهاب من الجانب الثقافي والفني، من خلال حواري مع المبدع المغربي، المخرج "هشام العسري" حول أهمية التربية الفنية في الوقاية من التطرف الديني حيث أفاد: "قبل الحديث عن "تربية فنية" يجب أن نتحدث أولا عن "تربية"، يجب أن نوفر العيش الكريم من خلال ضمان التكافؤ الاجتماعي ونبذ الفروقات الطبقية ومحاربة الفساد، إذ لا يمكن أن نتوقع نماء مجتمع صالح ومواطن حامل لقيم أخلاقية في ظل انتفاء الشروط الأساسية للعيش الكريم، حيث تحترم إنسانية الإنسان. "ثم أضاف توصيات تهم مشكل الإرهاب والتطرف الديني، إذ يقول إن من الضروري: "التركيز على المواطنين وخلق أفراد متحمسين للفن وللعلم. ولعل أهم ما يبدو لي هو فتح دور الشباب المتواجدة والمغلقة منذ مدة، وتفعيل المتواجدة، والتي تدعي أنها تقوم بأنشطة دون أن يكون ذلك حقيقيا على أرض الواقع. يجب أن نوفر للشباب متنفسات ثقافية وفنية تحفزهم على الإبداع والبحث والمعرفة من خلال أنشطة توقيع الكتب والمسرحيات والرسم والرقص إلخ..."

من خلال شهادات كل من "أبي حفص" و"عادل الحسيني"، ومن خلال الحوارات مع الأخصائيين الاجتماعيين والنفسيين، ومع المخرج "هشام العسري" الذي اشتغل على موضوع الإرهاب في سلسلته No Vaseline Fatwa، يتبين أن العناصر المشتركة بين التجارب الجهادية أكثر بكثير من العوامل الذاتية المحيطة بها، كما يتضح أن الخطوط الأولى للمراجعة الفكرية متقاربة، وتجمع بين من راجعوا فكرهم المتطرف أكثر مما تفرقهم، بل إن التوصيات والتوجيهات المنبثقة عن تجاربهم الشخصية تكاد تكون متطابقة. إلا أن الملاحظ هو أن هذه التوجيهات والتوصيات لاتزال تنتظر التجاوب الفعلي من طرف أجهزة الدولة، حيث ما فتئت تسير على خطى مقاربتها الأمنية في مكافحة الإرهاب، بعيدا عما يقتضيه التدبير الواقعي من تغيير جذري في التوجهات السياسية والإيديولوجية وتحسن في الشروط الاقتصادية والاجتماعية.

ولعل أكبر دليل على فشل المقاربة الأمنية وسياسة الآذان الصماء اتجاه تنديدات ونداءات المثقفين، هو عدد التصريحات الرسمية بتفكيك الخلايا الإرهابية، وتواترها، وآخرها تفكيك خلية إرهابية موالية لتنظيم داعش في شهر يونيو 2019م بكل من الراشيدية وتنغير[4].

خلاصة:

إن تفكيك خلية، يعني تواجد خلايا أخرى لم تفكك بعد، ويعني أيضا، تشكيل خلايا جديدة وتوالدها. إن ما نريده ليس هو تفكيك الخلايا فحسب، وإنما محاربة الفكر المتطرف نفسه. فمحاربة ظاهرة معينة تقتضي هدم البنية التي تتشكل داخلها، ولا يمكن أن نصل إلى هذه النتيجة إلا بإرادة سياسية حقيقية، تقوم على تغييرات أساسية جذرية، على المستوى السياسي والاجتماعي وعلى المستوى الثقافي والتربوي.

 

بيبليوغرافيا

  • القرآن الكريم
  • تفكيك خلية إرهابية موالية لداعش تنشط بين الرشيدية وتنغير، موقع قناة الأخبار 24، بتاريخ 03 يونيو 2019م.

http://alakhbar24.net/تفكيك-خلية-إرهابية-موالية-لداعش-تنشط-ب

  • صحيح البخاري، الجزء الثاني، كتاب الجهاد والسير، باب من يجرح في سبيل الله، تحقيق: د. محمد تامر، دار الآفاق العربية، الطبعة الأولى، 2004م
  • Institute for Economics & Peace. Global Terrorism Index 2018: Measuring the impact of terrorism, Sydney, November 2018

شريط فيديو

  • عدنان إبراهيم: آيات الجهاد في الإسلام

https://www.youtube.com/watch?v=wN0CXdZL6aY

  • حوا ر لمحمد شحرور، على قناة "أبو ظبي"، برنامج "لعلهم يعقلون"، أنزل بتاريخ 19 يوليوز 2018م.

https://www.youtube.com/watch?v=v2pKcnrEnm0

  • محمد شحرور على قناة "روتانا خليجية"، برنامج "النبأ العظيم"، أنزل بتاريخ: 21 يونيو 2017م.

https://www.youtube.com/watch?v=Nf-r_m11TGY

[1] Institute for Economics & Peace. Global Terrorism Index 2018: Measuring the impact of terrorism, Sydney, November 2018

Available from: http://visionofhumanity.org/reports (accessed Date Month Year), p: 16

[2] انظر:

شريط فيديو لعدنان إبراهيم: آيات الجهاد في الإسلام

https://www.youtube.com/watch?v=wN0CXdZL6aY

وأيضا:

حوار لمحمد شحرور على قناة "روتانا خليجية"، برنامج "النبأ العظيم"، أنزل بتاريخ: 21 يونيو 2017م

https://www.youtube.com/watch?v=Nf-r_m11TGY

وأيضا:

حوا ر لمحمد شحرور، على قناة "أبو ظبي"، برنامج "لعلهم يعقلون"، أنزل بتاريخ 19 يوليوز 2018م.

https://www.youtube.com/watch?v=v2pKcnrEnm0

[3] صحيح البخاري، الجزء الثاني، كتاب الجهاد والسير، باب من يجرح في سبيل الله، تحقيق: محمد تامر، دار الآفاق العربية، الطبعة الأولى، 2004م، حديث رقم 2803، ص: 644

[4] انظر مقال: "تفكيك خلية إرهابية موالية لداعش تنشط بين الرشيدية وتنغير"، موقع قناة الأخبار 24، بتاريخ 03 يونيو 2019م:

http://alakhbar24.net/تفكيك-خلية-إرهابية-موالية-لداعش-تنشط-ب