المسألة الطائفية، تعدد الهويات في الدولة الواحدة: قراءة في كتاب كاظم شبيب


فئة :  قراءات في كتب

المسألة الطائفية، تعدد الهويات في الدولة الواحدة: قراءة في كتاب كاظم شبيب

 المسألة الطائفية، تعدد الهويات في الدولة الواحدة*:

قراءة في كتاب كاظم شبيب


 هذه قراءة في كتاب الباحث كاظم شبيب الموسوم بـ "المسألة الطائفية: تعدّد الهويّات في الدولة الواحدة" الصادر عن دار التنوير ببيروت في طبعته الأولى سنة 2011، هي بشكل أو بآخر حوار غير مباشر مع رجل منهمّ بالطائفية، ويعتبرها قضية إشكالية تستوجب منا اليوم جميعاً البحث عن مقاربات نسقية لها des approches systématique بحيث يتكاتف كل من الثقافي والسياسي والتربوي والاقتصادي والديني...، من أجل إيجاد حل لهذه المعضلة، التي باتت تستثمر اليوم سياسياً في ضرب الوحدة الوطنية وفي إفشال كل بناء ديمقراطي وحداثي في عالمنا العربي والإسلامي، بل إنّ الطائفية تصير ورقة لضرب الاستقلال بالمعنى السياسي وتحقيق الاكتفاء الذاتي داخلياً.

اطلعت على الكتاب الذي شرّفني الأستاذ المقتدر أنس الطريقي بقراءته، وعلى مرّ ثلاثة أشهر قرأته مرّتين، وفي القراءة الثالثة وجدت نفسي أمام باحث مقتدر أحاط بإشكالية الطائفية وأبدع في اقتراح الحلول للخروج منها، وأنا أقرأه اكتشفت شيئاً غريباً وطريفاً، فهو لا يتخمك بعرض الأنساق الفلسفية وبمتونها، ولكنك تجد نفسك ضمنياً أمام أطروحات في الفكر السياسي والأنثروبولوجي والسوسيولجي والسيكولوجي والقانوني...، بحيث يتعذر على القارئ غير المتخصص أن يستوعب عمق الكتاب ويقبض على روحه، لكنّ هذه الفلسفات التي غابت حرفياً نجدها حاضرة بشكل ضمني في المقاربة، وقد سعيت إلى أن تكون دراستي قراءة حوارية مع النص لا قراءة تلخيصية، وفي هذا الحوار غير المباشر مع كتاب كاظم شبيب يولد النص غير المكتوب من عملية التأويل البينذاتية. لذلك أقترح المداخل الآتية للإحاطة بإشكالية الكتاب وبقضاياه التي أعتبرها أسساً للبناء الذي قام عليه الكتاب:

  • الطائفية، أو في أركيولوجية المفهوم
  • طوبوغرافية الطائفية في العالم العربي
  • براديغمات من أجل مجاوزة الطائفية
  • سياسات الاعتراف: بين وعود التنظير ومأزق التفعيل
  • تجذير الديمقراطية وإبداعها
  • الوطنية الدستورية والأنسنة مدخل لعلاج المشكل الطائفي
  • مطلب الحداثة السياسية في أقصى غايتها

1. الطائفية ـ في أركيولوجية المفهوم:

يشير كاظم شبيب إلى أنّ الطائفية من القضايا المسكوت عنها، شأنها في ذلك شأن كلّ القضايا المصيرية في العالم العربي والإسلامي الذي يعاني حسب كاظم شبيب من ندرة في مراكز البحث والاستشراف التي بإمكانها أن تكون قادرة على رصد المتغيرات والتعامل معها، وذلك من أجل تجاوز حالة "الاندهاش والاستغراب" التي تصيب رجال السياسة والفكر والثقافة والمجتمع المدني في كلّ لحظة تقع فيها بعض الطفرات أو التحولات، وهو ما يجعلنا في حاجة إلى إرادات عاقلة من أجل مواجهة هذه المعضلات الجديدة التي نواجهها في المدرسة والدولة والوجدان والحميميات والسياسة.

في هذا السياق يعتبر كاظم شبيب أنّ المشكل الطائفي ينبثق في كلّ لحظة تتأزم فيها العلاقات الدولية، وتتعثر فيها مسارات المفاوضة، فتصير الطائفية أداة للابتزاز والمساومة في استراتيجية الجيوسياسة géopolitique في عالمنا اليوم، وقد أعطى أمثلة على ما وقع وما يقع في كلٍّ من فلسطين ولبنان ومصر ودارفور...، فالصراعات التي تعمّ بين الطوائف، والمخارج التي يتم التفكير فيها تؤدي إلى تصدعات داخلية في الطائفة نفسها، لأنّ اختلاف الرؤى والرهانات السياسية تجعل الطائفة بغض النظر عن مقومات تشكّلها تفقد انسجامها وتماهيها، وهو ما حدث بين أفراد حركة فتح كمثال، وداخل حركة التحرير الفلسطينية بمختلف أجيالها. وقد وظف كاظم شبيب اصطلاحاً استلهمه من العلوم السياسية ومن التحليل الاستراتيجي، وهو مفهوم "عنق الزجاجة" ليشير به إلى "اللا أفق" الذي يؤدي إليه احتدام الصراعات الطائفية، التي توظف كورقة على المستوى الدولي في ابتزاز الدول، أو على المستوى الداخلي في التغطية على الإشكالات الحقيقية للشعوب، وهنا يكون الحشد والتحشيد هو الآلية التي توظف في الدعاية للطائفة وفي تكثير الملتحمين بها والمنافحين عنها، وهذه أخطر مآلات إذكاء الصراع الطائفي والانقسام داخل المجتمع نفسه، إذ بذلك يتم التأسيس للعنف وتعميمه من أجل خلق الشروط المناسبة لإضعاف الدولة وإنهاكها داخلياً وتهشيش (من الهشاشة) روابطها ومكوناتها، وهنا يستحضر كاظم شبيب الصراع السنّي الشيعي الذي لبس لبوساً تاريخياً ومذهبياً في العالم العربي الإسلامي، ويُعاد إحياؤه وترويجه اليوم داخل بيئة ثقافية تتميز بهشاشة التفكير في التاريخ، وسرعة الانتصار له والذود عنه وتصديق كلّ الأساطير المؤسسة له، فيصير هذا ضد الآخر، وذاك يتمنى موت هذا، ويعمل على ذلك بإلغاء اختلافه بالعنف والقانون والسلطة، وكأنّ الدولة صارت أداة لتصفية الحساب بين الطوائف، بحيث ترغب كلّ طائفة في السيطرة عليها من أجل السيطرة على باقي الطوائف وتوظيفها في إقصائها.

بالنسبة إلى كاظم شبيب في هذا الكتاب، فمفهوم الطائفية عوض أن يكون أداة للتحليل ومفهوماً لمقاربة الواقع فقد صار عند البعض، وبصفة خاصة في المجال السياسي، سبّة، فحين أصمك بالطائفي فإنّني أصمك بالمتحيز لطائفة ولو على حساب القانون ومقتضيات الدولة الحديثة، ومن بين الإشكالات التي يواجهها الباحثون في هذه البلدان حسب كاظم شبيب طغيان ترسانة من المفاهيم في مجال السياسة والثقافة والاقتصاد والأنثروبولوجيا...، وكلها مفاهيم ذات حمولات غربية التأسيس، ممّا يجعل توظيفها لا يخدم المشكلات التي نعانيها، بل إنّه يؤدي إلى إسقاطات تمنعنا أحياناً من الرؤية ومن مقاربة الإشكالات كما نعيشها لا كما يعيشها الآخرون ويتمثلونها، وهذا يؤدي إلى الإخلال بروح الموضوعية التي يجب أن تميز كلّ عمل أكاديمي أو بحثي صرف، لذلك يقترح كاظم شبيب وجود مجامع لغوية تقعّد للمصطلحات والمفاهيم وتحدد مضامينها ومعانيها لكي يكون كلّ حوار حول الطائفية مثمراً، لأنّه في غياب تحديد المفاهيم سيكون كلّ حوار مستحيلاً، واستحالته تنبع من تحصيل المتحاورين لمعانٍ مختلفة وتأويلات متباينة حول المفهوم، لذلك قام كاظم شبيب ببرهان بالخلف في تحديده لمفهوم الطائفية والطائفة، فقد انطلق من تحديد مفهوم الأقلية بكونها عند المتخصصين "مجموعة من الناس تختلف في بعض سماتها عن المجموعة الرئيسية التي تشكل غالبية المجتمع وتعدّ اللغة والمظهر والدين ونمط المعيشة والممارسات الثقافية لهذه المجموعة، من أهم مظاهر الاختلاف". وتهيمن الأغلبية في ظل هذه الأوضاع على السلطة السياسية والاقتصادية، ممّا يمكنها من ممارسة التمييز والاضطهاد ضد الأقليات. ويترتب على هذه الأوضاع معاناة الأقلية اقتصادياً وسياسياً، "بكلمة أخرى الأقلية هي مجوعة من سكان قطر أو إقليم أو دولة ما تخالف الأغلبية في الانتماء العرقي واللغوي أو الديني، دون أن يعني ذلك بالضرورة موقفاً سياسياً وطبقياً متميزاً"[1]، وبالتالي فتحديد الطائفة من حيث العدد لا يسير ومنطق التاريخ، فالأغلبية قد تتحول إلى أقلية والأقليات قد تتحول إلى أغلبيات مع عامل الزمن، وعليه فقد بين كاظم شبيب من خلال نماذج دولية متعددة في روسيا وصربيا والصين وتركيا وإسبانيا، كيف أنّ مطلب الاعتراف اليوم بالأقليات والطوائف صار شائعاً، وهو ما تخافه الدول "الوطنية" في عصر العولمة، وفي عصر ما بعد الدولة-الأمّة Après l'Etat-nation التي صار فيها كلّ شيء عابراً للأوطان، وفي هذا الصدد يشير كاظم شبيب إلى مطلب الدستورية التي تكرّس المساواة والوطنية الكاملة المؤسسة على الاعتراف بالمواطنين بغض النظر عن انتماءاتهم وأعراقهم، بل يجب أن تكون الدولة قائمة على مبدأ الحق والواجب في الاعتراف بالجميع دون أي تمييز، وهنا يكون كاظم شبيب قد عاد مرّة أخرى إلى المرجعية الكونية لحقوق الإنسان والفلسفات المؤطرة لها منذ عصر الأنوار. وقد يعتبر القارئ لكتاب كاظم شبيب أنّ هناك نوعاً من التناقض في الرؤية، بل بالعكس هناك انسجام في هذه الرؤية، إذ يعبّر الباحث في كتابه عن نقد مزدوج مارسه على الذات، أي على التقبل السلبي والأعمى للمفاهيم واستيرادها، ومارسه أيضاً ضد العولمة وضد كلّ أشكال الابتلاع والتهجين التي تمارسها على باقي الثقافات. وقد ساهمت وسائل الإعلام حسب شبيب في إحداث تحولات جذرية في مفهوم الطائفة، فبفضل هذه الوسائل أصبحنا أمام تشبيك محلي-عالمي بين مجموعة من الأقليات والطوائف التي تتقاسم الأهداف والقناعات نفسها، وبالتالي وسّع ذلك من هامش حريات هذه الطوائف في البلدان الاستبدادية وأمّن لها الحماية، لأنّه لم يعد ممكناً أن تقوم بعملية إبادة للأقليات اليوم دون أن يعرف بذلك أحد، بل إنّ هذه الوسائل صارت آليات ضغط دولي وشعبي تعطي للرأي العام الوطني والعالمي قوة وسلطة بالمعنى السياسي للتأثير في السياسات التي يمكنها أن تؤدي إلى استئصال أو تهميش أو إقصاء هذه الأقليات، وهو ما حصنته المواثيق الدولية وضمنته على الأقل في ما هو مكتوب من نصوص واتفاقيات، وهذا لا يعني أنّ البعد الإيديولوجي غير حاضر، بل إنّ هذا الدعم قد يتحول إلى آلية ضغط من أجل تقديم تنازلات معينة، أو فرض إملاءات خارجية أخرى: "فالسنّي الهندي يشعر بأقليته أمام أكثرية هندوسية، فيلجأ إلى الاستنصار بالعولمة ليعيش حضوراً معنوياً لطائفته المحلية عبر تواصله وعلاقاته بامتداده في كلّ الدنيا. هي امتدادات مفتوحة ومتاحة لجميع الطوائف والهويّات، لا حدود لها، ولا احتكار ممكناً لمميزاتها، لأنّ جميع الطوائف أمست معولمة. هذه الحالة بقدر ما فيها من إيجابيات، فيها أيضاً وجه آخر من الخطورة، ويتمثل في وجود الفرصة ذاتها لخلق "صراعات طائفية معولمة". فباتت أيّة مشكلة بين طائفتين قابلة للتمدد جغرافياً وعالمياً أيضاً، فلا تبقى ضمن حدود الطائفتين جغرافياً واجتماعياً وسياسياً"[2].

يوجّه كاظم شبيب في هذا الصدد نقداً لاذعاً للكتابات التي لم تستطع أن تضع مسافة وتمييزاً واضحاً بين مفهوم الطائفة والطائفية. ويبو لي أنّ التمييز بين المفهومين يقوم على أساس أنّ مفهوم الجماعة الإثنية يتأسس على محددات مشتركة وروابط موحدة، بينما الطائفية نزعة وميل نحو خلق جماعات إثنية على أسس لغوية أو دينية أو عرقية أو ثقافية، ففي الحالة الأولى أيّ الطائفة، أعتبر من خلال قراءتي للكتاب، وبناء على التراث الأنثروبولوجي في هذا السياق (ليفي ستراوس/ مالينوفسكي/ ميرتون/ ماوس..) أنّ وجودها معطى طبيعي، فكلّ المجتمعات توجد في قلبها وتخترقها جماعات صغرى توحد بينها مجموعة من القواسم المشتركة التي تجعلها مميزة على المستوى الميكروسوسيولوجي عن باقي الجماعات الكبرى المكونة للنسق المجتمعي في مستواه الماكروسوسيولوجي، ولكي نفهم الفكرة العميقة التي يقصدها كاظم شبيب، لنعط مثالاً بالمغرب: هناك مكونات عرقية وإثنية ولغوية ودينية من داخل الجماعة الكبرى، أي الوطن بكامله، لكن داخل هذا الوطن توجد مناطق وأماكن أي إثنيات بالمعنى اللغوي وليس السياسي، لديها خصائصها الثقافية والعرقية واللغوية وطقوسها الثقافية المميزة لها، أمّا الطائفية فهي نزعة كما قلت وميل إلى تقسيم المجتمع، وتطغى هذه النزعة حينما يكون رجل السياسة غير وطني أو تكون الدولة هشة وفاسدة فيسهل اختراقها وضرب وحدتها وتماسكها الداخلي، وذلك بتقسيمها إلى طوائف تتناحر فيما بينها على السلطة وعلى السيادة والتسلط على باقي الطوائف، وهنا نسمع خطابات تمجّد الطائفة وتعتبرها هي الأصل الأول والسباقة في جميع المجالات على باقي الطوائف.

استطاع كاظم شبيب الحفر في مختلف الدلالات اللغوية والمعجمية للفظ الطائفية. وإذا أردنا أن نحدده وفق فهمنا المعاصر يمكن القول إنّ الطائفة هي جماعة بشرية منغلقة على ذاتها لديها معتقداتها، طقوسها وقيمها وثقافتها وعاداتها وتعاليمها، بعبارة إميل دوركايم لديها رابطها الاجتماعي الخاص الذي يوحدها ويضفي على عناصرها الانسجام ويضمن لهم الاندماج والانصهار، وفي القرآن نجد الطائفة قد حددت على أسس ومقومات دينية، فالمسلمون في مقابل المسيحيين واليهود، وهكذا دواليك.

2. طوبوغرافية الطائفية في العالم العربي:

استناداً إلى تصور كاظم شبيب الذي حددناه في أركيولوجية المفهوم الذي ميز فيه بين الطائفة والطائفية، فقد عرض لمجموعة من الإحصاءات في العالم العربي والشرق الأوسط تبين أنّ هناك طوائف، لكن الأهم والأخطر في الوقت نفسه بالنسبة إلى كاظم شبيب هو الرهان السياسي على توظيف هذه الطوائف، وذلك واضح من خلال أسئلته: "ما أسباب وجذور الفتن الطائفية؟ ومتى تظهر الفتن الطائفية؟ ومن يحرك مياهها الراكدة؟ ولمصلحة من تنفجر وتستمر الحروب الطائفية؟"[3] وللإجابة عن هذه الأسئلة سيعتمد الباحث المنهج التاريخي المقارن ليبين أنّ المسألة الطائفية في دول العالم الثالث لديها خصوصيات تجعلها مختلفة عن الطائفية في دول أخرى، وقد ربط ذلك بعوامل يمكن تحديدها كما يلي:

أـ غياب الوعي التاريخاني: رصده كاظم شبيب من خلال عدم القدرة على إبداع إجابات تستجيب لروح العصر، بل إنّ قضايا جديدة مطروحة على المستوى السياسي والاقتصادي والثقافي والعقدي تحاول الطوائف أن تجيب عنها بمقاربات الماضي السحيق الذي ولى دون استحضار للبعد الزمني والتاريخي وللسياق والمتغيرات الجديدة، مع التمركز على هذه الصراعات التي وقعت في الماضي ومحاولة الإبقاء عليها في الحاضر، بل أكثر من ذلك إذكاؤها وتحويلها إلى ثوابت في الوجود، ممّا يعيق كلّ إمكانية للتعايش المشترك، وذلك واضح من خلال تجربة السنّة والشيعة، وهي تجربة تاريخية مازالت مستمرة، بل تزداد حدة وانقساماً وتوظيفاً.

ب ـ غياب ثقافة الاعتراف: وتتمثل في غياب الإيمان بالاختلاف ومحاولة الاستحواذ على الدولة لتصير أداة في يد طائفة تنظر لذاتها باعتبارها متميزة وسامية وتستحق أن تسود على باقي الطوائف، بل في حالات تعتبر باقي الطوائف موجودة لخدمة أجنداتها ونوازعها وتلبية طلباتها.

ت ـ غياب الغيرية: إذا كانت الغيرية هي إدراك الذات عبر وسيط الغير، بحيث يصير الغير المختلف ضرورياً، بل بوابة نحو فهم الذات وتعزيزها، فإنّ الغيرية تغيب في الدول التي يتضخم فيها الصراع الطائفي، لأنّ الطائفي يعتبر الغير عائقاً بل خصماً وعدواً، وبالتالي يجب إقصاؤه وإخضاعه، ومن هنا تتنامى مشاعر الحقد والكراهية ضد المختلف.

ث ـ غياب الشعور الوطني: إذا كان الشعور بالانتماء إلى وطن أكبر يتعالى على الانتماءات الإثنية والطائفية الضيقة أو ما نسميه في هذه الدراسة بالميكروطني من داخل الماكرووطني، فالطائفي في ارتباطاته السياسية وحفاظاً على مصالحه الضيقة ورهاناته يفضل خطاب التقسيم على خطاب الوحدة الوطنية، ويفضل خطاب المصلحة الطائفية على حساب المصلحة الوطنية، وهو ما يؤدي إلى صراعات وتطاحنات على المستوى السياسي تكون تسوياتها على حساب المصالح العامة للمواطنين، وهنا يمكنني استحضار المفكر الراحل محمد عابد الجابري حينما تحدث عن الغنيمة، فالطائفي لم يخرج من القبيلة نهائياً، بل ما زال يفكر من داخل منطق القبيلة وبمنطق السلب والنهب والإغارة والاستحواذ والغنيمة.

ج ـ تفجير المفهوم الكلاسيكي للدولة الوطنية (الدولة الأمّة État-nation): بعد انهيار جدار برلين وانتصار المشروع الواحد والبديل الواحد الليبرالي في العالم الذي حمل في طياته مباشرة بعد الحرب اعترافاً وآمالاً لكل الهويّات والطوائف، بل قدّم وعوداً بالدعم لها، فإنّ ذلك سوف يستثمر لاحقاً سياسياً من أجل تقسيم الدول وخدمة النظام العالمي الجديد، ومن أجل تجاوز الاستعمار بالشكل الكلاسيكي فإنّ رفع شعار دعم الأقليات وإلزام الدولة بترسانة قانونية لخدمة هذه الأهداف وذلك بحملها على الاعتراف بهذه الأقليات والطوائف سيكون ورقة لإضعاف الدولة الوطنية من الداخل، ومن هنا لم يعد لرابط العرقية أو الدين من ضرورة سوى أدلجته من أجل تبرير مصالح سياسية، وهو ما لا تدركه الحشود التي تذود عن طائفة معينة بالعنف نظراً للمستوى التعليمي وضعف المجتمع المدني وغياب التأطير والتفكير النقدي.

ح ـ غياب العدالة وسوء التوزيع: من بين ما يؤدي إلى تضخيم خطاب الطوائف ويؤدي إلى الطائفية ويذكيها غياب العدالة في توزيع خيرات وناتج الدولة على جميع الفئات الاجتماعية الهشّة، فغياب العدالة يؤدي إلى الإحساس بالظلم وبتجربة الاحتقار والذل، بما هي تجربة تحرم الفئات الاجتماعية والأفراد من بزوغ ذواتهم، وهو ما يؤدي إلى ظهور أشكال من المقاومة للنسق السياسي غير العادل، وهنا بيّن كاظم شبيب أنّ خطاب الهويّة يقدّم نفسه أمام هذه الفئات باعتباره حلاً لمعضلاتهم ومشاكلهم، ويسهل على هذه الطوائف التكتل حول خطاب الهويّة، ممّا يؤدي إلى ظهور كيانات مغلقة ومنغلقة على ذاتها.

خ ـ غياب القراءة التأويلية للنصوص المقدّسة للطائفة: من بين الإشكالات التي تستثمر في إذكاء الصراع الطائفي وتضخيم النزعة الطائفية السلبية حسب كاظم شبيب نجد القراءات النصية للنصوص المقدّسة لطائفة ما، سواء كانت يهودية أو مسيحية أو إسلامية، أو من داخل كلّ الأديان: أرثوذوكسية أو بروتستانتية أو كاثوليكية أو شيعيّة أو سنيّة، فالإشكال الذي يظلّ مطروحاً هو كون القراءة النصية تقتل التاريخ وتحجّر النص وتقتل الإبداع وتتنافى مع منطق التاريخ المتغير والمتجدد، فيظلّ الناس حبيسي تأويلات ماضوية يؤدي بهم إسقاطها على عصر جديد ومرحلة جديدة إلى قتل الحاضر، والحفاظ على هذه الصراعات والانقسامات التاريخية، وهو ما لا يمكن تجاوزه إلا بتحرير النصوص المقدّسة من القراءة النصية والواحدة، وقد أكّد كاظم شبيب ذلك بقوله: "ومن الأمثلة الساطعة على هذه الحقيقة أنّ المسيحية - وهي دين محبة وعطاء- لم تسلم من وقوع التقاتل بين بنيها في أوروبا. وكم حاول كلّ فريق من فرق الصراع أن يبيد الفريق الآخر، ومع العلم أنّ كلّ مسيحي مؤمن من هذا الفريق أو ذاك، عندما نأخذه كفرد مستقل نجد أنّه يطيع كلّ المبادئ الأخلاقية السامية التي توجب عليه محبة الآخرين، ويجزع من إيذاء بعوضة. والخطر من انحراف التدين مختلف أثره، بين انحراف تدين الأفراد، رغم خطورته، لا يبلغ عشر خطر انحراف تدين رجل الدين، الذي بانحرافه قد ينحرف مجتمع كامل، أو أمّة كاملة".

د ـ غياب الشرط الحداثي: إذا كانت الحداثة وعياً بالزمن، ووعي الإنسان بذاتيته باعتباره فاعلاً في التاريخ، فالطائفية مضادة لقيم الحداثة بشكل مطلق، صحيح قد تستفيد من شروط التحديث التقني لكنّها لا تستفيد من الحداثة، خاصة على مستوى قيمها التي تؤدي إلى بروز الفرد كفاعل في التاريخ، فالطائفية تعطّل الدخول للحداثة، فهي تنتصر للقيم الجمعانية كما يسميها السوسيولوجي مشيل مافيزولي (أي قيم الحشد والقبيلة)،[4] وهي قيم توحد وتذوّب الفرد في وحدة عضوية آلية بالمعنى الدوركايمي، وهو ما يجعل الطائفة مهيّأة للعنف من أجل حماية الذات، ولو كان شرط الحداثة والوعي بها متحصّلاً لحلّ القانون محل العنف، لأنّ الحداثة تتعارض مع منطق الطائفة، مع العلم أنّها اعتراف بالطائفة، لكن بحقوقها الدستورية والأخلاقية والسياسية وعقلنة لها.

ذ ـ غياب الوعي الجيوبوليتيكي: نقصد به غياب الوعي لدى الدول النامية ودول العالم العربي بأهمية الورقة الطائفية حسب كاظم شبيب، وأهميتها في إدارة الصراعات الدولية والإقليمية، فمنذ أطروحة صامويل هونتنغتون[5] يمكننا أن نلمس أنّ الورقة الطائفية أضحت وسيلة للضغط على الدول الوطنية، وهو ما يقتضي سياسة للاعتراف، وهو ما دافع عنه الفيلسوف الكندي تشارلز تايلور، فسياسات الاعتراف - سنعيد التفصيل فيها في نقطة لاحقة - برامج شمولية تهدف إلى جعل ثقافة الاعتراف بالآخر وباختلافه جزءاً من إدراكات المواطنين ومن تصوراتهم ومعارفهم اليومية للعالم الذي يقتسمونه بشرط أن يديروا شؤونهم على أساس تعاقدات سياسية حرّة ينظمها القانون.

ر ـ غياب إعلام بديل: يشير اصطلاح الإعلام البديل إلى إعلام يخدم الديمقراطية والعدالة والثقافة ومحاربة كلّ أشكال التمييز على المستوى النظري، وهو إعلام نحتاجه اليوم، لكنّ الإعلام الطائفي هو إعلام تحريضي يقوم على حشد المنتصرين لهذه الطائفة أو تلك، وهو إعلام يقوم بوظيفة حربية بحيث يشتغل بتصوير هذه الطائفة بأنّها أصل كلّ المشاكل التي يعانيها بلد ما، أو بتصوير طائفة أخرى باعتبارها المالكة للحل، وقد أشار الباحث كاظم شبيب لذلك حينما قال: "قد تبدأ الفتن من خبر أو تعليق إعلامي صغير، فيدخل الفضاء الإعلامي في دائرة الاستفزاز والاستفزاز المضاد، ممّا قد يجعل الأجواء متوترة وقابلة للاستغلال من أيّة أطراف لا تريد الخير للعالمين العربي والإسلامي"[6].

3. براديغمات من أجل مجاوزة الطائفية:

لسنا هنا من أجل التفصيل في المفاهيم، لكن لا بدّ من التذكير بها، يحيل مفهوم البراديغم على النموذج/ البديل الإرشادي/ النموذج الموجه باختلاف الترجمات، ويعني البراديغم حسب توماس كون نموذجاً نظرياً تكون لديه القدرة على تقديم تفسير علمي بديل يعوض فشل النظريات السائدة في تقديم جواب عن الأزمات العلمية والسياسية والاقتصادية والثقافية المطروحة، وما يميز البراديغم أنّه شمولي وعام، بحيث تكون لديه القدرة الذاتية على تقديم الأسس النظرية البديلة في جميع مناحي الحياة (العلمية والسياسة ...) كما وقع مع البراديغم الكوبرنيكي حينما عوض البراديغم الأرسطي السائد مثلاً.

بالنسبة إلى كاظم شبيب فالمخرج أو النموذج الإرشادي الذي يمكن أن يخرجنا من مآزق الطائفية هو إعادة بناء الذات، لكن من خلال قراءتي للكتاب أعتقد أننا في حاجة إلى اكتشاف الذات أولاً قبل الشروع في بنائها، لأنّ مفهوم الذات بالمعنى الفلسفي والسياسي كما تبلور مع فكر الحداثة هو عودة للإنسان واكتشاف له وإيمان بقدراته الفكرية والعقلية وتخليصه من سلطويات السماء والأرض ومركزيته في الكون، لذلك نجد في العالم العربي من بين المشكلات التي تؤدي إلى السقوط في الطائفية غياب الذاتية، ولو قمنا بتحليل سوسيولوجي فسوف نجد الفرد يتخلص من كلّ مسؤولياته ويهرب ويميل إلى الانغماس في الطائفية بشكل يعززه السياق الاجتماعي، وذلك ما نرصده من خلال قول الفرد الدائم: "أنا وأعوذ بالله من قولة أنا"، أو قوله: "تأخرنا، ظلمنا، كتب علينا..."، فتضخيم خطاب "النحن" في اللاشعور الفردي والحياة اليومية دليل على انسحاق الذات وذوبانها في الجماعة، ممّا يسهل عليها الانخراط الأعمى في حشود الطائفية دون أدنى تفكير أو نقد، لذلك يطالبنا الباحث الجاد كاظم شبيب بإعادة بناء الذات واكتشافها، أي اكتشاف مقدراتها النقدية والمعرفية والإبداعية وتحريرها من جميع أشكال الوصاية التي قد يمارسها الديني أو السياسي أو الطائفي...، والذات حسب كاظم شبيب لا تبنى كما تبنى الأسوار بالإسمنت، بل تبنى بالأفكار والقيم المنفتحة على الكوني، تلك القيم التي يمكنها أن تدخلنا التاريخ باعتبارنا فاعلين فيه لا مجرد منفعلين، لكن هناك عوائق تواجه هذا البناء سأجملها في سببين:

أ- الخوف على الذات: ويتجلى في غموض المستقبل والمصير في العالم العربي والإسلامي، فكلّ القنوات والتحليلات والتقارير تشير إلى أنّ الوضع في المنطقة قابل للانفجار في أيّة لحظة، ممّا يجعل الفرد هشّاً أمام هذه المخاطر التي تديرها وتتحكم فيها جيوبليتيكا دولية واستبداد محلي، والتي تسيد هذه الخطابات من أجل خلق كلّ الشروط المواتية لحماية مصالحها، فيصير الفرد مخيراً بين خيارين: الإرهاب أو الأمن والاستبداد.

ب ـ التدخل الأجنبي: يلعب التدخل الأجنبي للولايات المتحدة الأمريكية مثلاً في العراق ولبنان، وفي العديد من الدول من طرف دول أجنبية دوراً حاسماً، وخاصة تحالفه مع الأنظمة الاستبدادية في هذه البلدان من أجل منعها من إعادة بناء مقدراتها الاقتصادية والسياسية، ومن أجل خلق استقلال ذاتي تعيد على أساسه الدولة توزيع ثرواتها وإنصاف طوائفها، بل إنّ التحالف مع الأنظمة المستبدة يكون لطائفة على حساب طوائف أخرى، ممّا يجعل وضع الدولة هشّاً دائماً ووضع الأجنبي مؤثراً، وهنا يكون الخطاب الطائفي ملاذاً لباقي الذوات. وفي هذا السياق يقترح كاظم شبيب حلاً أخلاقياً في ظاهره، سياسياً في عمقه، يمكنني أن أجمله في الآتي:

أ ـ المصالحة الوطنية: أي تغليب المصلحة العامة للوطن على حساب المصالح الطائفية الضيقة، وذلك باستغلال كلّ المناسبات الثقافية والمشتركة من أجل تعزيز أواصر هذه المصالحة والتقريب بين كلّ المختلفين داخل الوطن نفسه. فالمناسبات الثقافية حسب كاظم شبيب كلها لحظات يمكن للسياسي -الذي يحمل همّاً عمومياً وجماعياً للوطن- أن يعمل فيها على إبداع آليات التقارب والحد من التجييش الطائفي.

ب ـ ما أسمّيه التهجين العرقي: وأقصد به ما اقترحه أنثروبولوجياً كاظم شبيب من حلول للتقريب بين الطوائف المتنافرة مثل المصاهرة...، وهي آلية قبلية قديمة لتذويب الاختلاف ووضع حد للعنف وتقوية الذات ضدّ الأجنبي وضدّ الخصوم، وقد كانت آلية ناجحة، ونجد ذلك في دراسات ليفي ستراوس ومارسيل موس وهنري مورغان وإدوارد برنت تايلور.

ت ـ المقاربة الأخلاقية: يقترح كاظم شبيب المدخل الأخلاقي من أجل معالجة الطائفية، وهنا يستدعي الفلسفة الأخلاقية والعملية، ما يلاحظ على مقاربة كاظم شبيب أنّه لم يتحيز لفلسفة أخلاقية عقلانية أو براغماتية أو دينية لكنه في العمق معاصر النزعة، وما يهمّ في هذا الكتاب وفي مقاربته هو أن يكون التأسيس الأخلاقي محكوماً بالغائية؛ أي يهدف إلى ضرب الطائفية وتعزيز التعايش بين المختلفين ونبذ العنف، وهذه جرأة خاصة لدى كاظم شبيب، حيث نلمسها في تعامله مع النص الديني الذي نظر إليه من زاوية أخلاقية واعتبرها الغاية الأولى والمقصد الأسمى، وهنا يكون كاظم شبيب بشكل مباشر مناقضاً للقراءات النصية والأصولية (الشرع) التي لا تعظم من شأن البعد الأخلاقي الكوني/الإنسي، بل إنّها أحياناً تعظم من شأن الجهاد/ والحدود/ والرقابة، وهو ما يؤدي إلى العنف، أو يساهم في تبريره وتأسيسه والتحريض عليه.

ث ـ التربية العلائقية/ الفكر المركب: لم يفت كاظم شبيب أن يعرّج على التربية العلائقية، وهي نموذج في التربية نلمس أسسه عند الفيلسوف الفرنسي إدغار موران في كتابيه "الفكر والمستقبل: مدخل إلى الفكر المركب" و"تربية المستقبل"، وهي تصورات في التربية ننظر إليها باعتبارها تربية على الوجود العلائقي أي العيش بالمعيّة VIVRE AVEC مع الآخر المختلف، بمعنى التربية التي تجعلنا بقدر ما نتمركز حول ذواتنا، بقدر ما يكون ويتم هذا التمركز عبر وسيط الآخر من الطائفة المختلفة، وليست التربية النمطية التي تنمط الطفل وتربط شخصيته بالكراهية للآخر، وتنمي هذا الشعور بالكراهية لديه ليتحول في المستقبل إلى ممارسات تتجلى في الشارع وفي الساحة العمومية وفي الحافلة، وفي المدرسة والجامعة وفي كل مكان، وقد تتحول إلى عنف، وهو ما عبّر عنه كاظم شبيب: "لذا يصبح أمام الفرد والمجتمع خياران، لا سيّما في البلدان المصبوغة بالتنوع الطائفي والمذهبي والديني والإثني والقومي والعرقي، إمّا التنافر أو التآلف؛ التنافر بمعنى فقدان أطياف المجتمع القدرة على التعايش المشترك والاحترام المتبادل، وبالتالي تصبح هذه المجتمعات والبلدان مهيّأة دائماً للصراع والتحارب، والتآلف بمعنى القبول المتبادل بين أطياف المجتمع للمساواة الاجتماعية القانونية والمواطنة، وبالتالي حصول الحد الأدنى من عيش مشترك واستقرار مستمر"[7].

ج ـ الدولة المدنية: يقترح كاظم شبيب الدولة المدنية كبديل للدولة الطائفية التي تقوم على العصبية بالمعنى الخلدوني، فالدولة المدنية هي دولة مواطنين ودولة قانون، وليست دولة إثنيات وأقليات وأشخاص وأنساب وأحساب، بل هي دولة يسود فيها القانون وتعترف بالأقليات لكن في إطار القانون الذي يتساوى أمامه الجميع، ويضمن كرامة الجميع، ويصون حقوق الجميع، لذلك تستبدل الطائفية بالمجتمع المدني الذي يكون مجالاً للتعبير عن مختلف الآراء بناء على العقل والحجاج والحرية في التعبير، وقد أعطى كاظم شبيب مثالاً بالعراق وبممارسات حزب البعث، التي كانت تنكيلية بالمعارضين والمخالفين، فمحاولة بعثنة (أي جعلها تابعة لحزب البعث) المجتمع والمنطقة كانت لها أضرار على العراق، ومن بين ما يعيق تجربة انبثاق دولة مدنية حقيقية:

ـ الثقافة السياسية السائدة: كانت على الدوام عائقاً تاريخياً أمام انبثاق الدولة المدنية، لأنّ شرط الدولة المدنية هو الحرية، بينما شرط الطائفية هو الحتمية والذوبان في الحشد والتاريخ، شرط الدولة المدنية مواطن فاعل، وشرط الطائفة هو كائن حي منفعل وخاضع، شرط الدولة المدنية هو المسؤولية، وشرط الطائفة هو الوصاية، وهو ما ينعكس سلباً على الممارسة السياسية، فمن يطالب بالديمقراطية يلجأ إلى وسائل غير ديمقراطية في التعامل مع خصومه السياسيين.

ـ ثنائية الشيخ والمريد/عوض العلاقات التعاقدية: من بين عوائق انبثاق الدولة المدنية في الدول الطائفية هيمنة ثنائية الشيخ والمريد، وهي خطاطة "أطروحة" في الفكر السياسي وضعها الأنثروبولوجي المغربي عبد الله حمودي في دراساته لأنساق السلطة السياسية في العالم العربي، وقد استمدّ هذا التوصيف من النموذج العلائقي السائد داخل الزوايا الصوفية، بحيث يكون هناك شيخ وهناك مريدون يسلمون له بكلّ ما يقوله بدون أيّة محاججة أو نقاش، وهو ما يتعارض مع أسس الدولة المدنية. والطائفة في العمق كما بيناه سابقاً مع كاظم شبيب هي جماعة منغلقة على ذاتها وتقوم على التشابه والخضوع لزعيم دون مناقشة آرائه، لأنّ الأفراد يرون فيه ملهماً وبطلاً، وهو ما يذكّرنا بسلطة الأمس الأزلي، أي التقاليد الماضية التي تعتبر إحدى أسس الكاريزما عند ماكس فيبر، وهي قيم تقليدانية تتعارض مع شروط قيام دولة مدنية وحداثية.

هذه العوائق رغم جميع المراجعات التي قام بها العديد من الأنظمة الطائفية، ومنها حزب الله، بحيث تخلى عن تطبيق الأحكام الإسلامية، وكذلك التخلص من يوتوبيات دولة الخلافة، بل استطاع الاندماج داخل الحياة السياسية اللبنانية والصراع من داخلها انطلاقاً من الآليات التي تتيحها الديمقراطية نفسها كالانتخاب والمعارضة والتعبير عن الرأي، لكنّ تزايد القدرة العسكرية للحزب ولمناصريه في الداخل والخارج، وخاصة بعد أن استطاع أن يعبر للرأي العام العربي عن آماله بالوقوف في وجه الكيان الصهيوني في حرب تموز وفي مواقف عديدة، فإنّ السؤال العميق والخطير والمصيري الذي طرحه كاظم شبيب مهم ويجب الانتباه إليه حينما قال: "وكما هناك مفترقات وملتقيات بين تجارب الأحزاب العربية وحزب الله في لبنان، إلا أنّ السؤال الذي يجب الإجابة عنه من قبل كلّ اللبنانيين، وبعد وصول الحزب للقوة العسكرية والسياسية التي بات عليها اليوم هو: من سيكون تابعاً للآخر؟ حزب الله للدولة أم الدولة لحزب الله؟ بل هل يمكن للّبنانيين أن يتمنوا نجاح الديمقراطية اللبنانية ليكون حزب الله واحداً من مكونات الساحة اللبنانية قد يحكم وقد يحكم، بمعنى التشارك بين الأحزاب اللبنانية في رسم الحياة الديمقراطية المتحضرة؟"[8].

4. سياسات الاعتراف: بين وعود التنظير ومأزق التفعيل

يلتقي كاظم شبيب في مقاربته مع العديد من الفلاسفة الجدد الذين طوّروا عدة مفاهيمية وتصورات أعادت النظر في الهامشي والمنسي في الحداثة، ومن بينها مسألة التعددية الثقافية والإثنيات أو ما سمّاه كاظم شبيب الطائفية، فهذه القضية حينما عالجها الفيلسوف الكندي تشالز تايلور انطلاقاً من براديغم الاعتراف أو ما سمّاه سياسة الاعتراف The Politcs of Recognition وهو براديغم تكون غايته إعادة الاعتبار لذوات الأقليات، وهو اعتراف شامل وعام يتأسس على المساواة والعدل بين جميع المختلفين ويضمن اعترافاً بذواتهم، في هذا السياق تساءل كاظم شبيب: "هل توجد في عالمينا العربي والإسلامي مساع جادة لمعالجة الطائفية السلبية بجميع صورها الاجتماعية والسياسية؟ وهل هناك محاولات حقيقية لاجتثاث الممارسات السلبية للطائفية؟ وهل من سبيل ليتناسى ضحايا السياسات الطائفية آلامهم ومعاناتهم؟ وهل التناسي أمر ضروري لمعالجة المشاكل الطائفية؟[9]" هنا يتضح أنّ كاظم شبيب على وعي بأنّ إشكالية الطائفية لا يمكن حلها انطلاقاً من المقاومة والالتزام الثقافي من طرف المشتغلين بالجبهة الثقافية أو المجتمع المدني، بل تحتاج إلى إرادة سياسية وإلى سياسات عمومية يوجهها وعي بالإشكالات التي تطرحها الطائفية واستمرارها، وتكون هذه الدول لديها سياسات دقيقة من أجل دمجها وليس صهرها، أي دمجها على أسس قانونية وحقوقية تعترف لكلّ أقلية أو طائفة من داخل الوحدة الوطنية بحقوقها في الوجود، ولذلك يشير كاظم شبيب إلى أنّ الذين يفكرون في الطائفية غالباً ما يسقطون في: القراءات الحالمة والإسقاطية التي تحاول أن تنظر إلى الطائفية انطلاقاً من بنية مفاهيمية وعدة نظرية صيغت في شروط حضارية مختلفة نفسياً واجتماعياً وسياسياً على الظروف والسياقات التي تطورت فيها الطائفية في العالم العربي والإسلامي. ولذلك يجب أن يتمّ إيلاء الأهمية للبعد النفسي، أي للّاشعور الفردي والجماعي بلغة غوستاف لوبون من أجل تشخيص الرواسب والآثار والصور الذهنية والتمثلات الجماعية التي يحملها المضطهدون داخل مجتمع توظف فيه الدولة من طرف طائفة لقمع باقي الطوائف.

وعليه فإنّ كاظم شبيب يعتبر أنّ المصالحة الوطنية الحقيقية هي المدخل من أجل تضميد الجراح/ جراحات الذاكرة، وذلك حينما يتمّ تعميم الوعي بأهميّة المستقبل الذي توفره الوحدة الوطنية على التطاحن الطائفي الذي يهدّد مستقبل جميع الطوائف، ويضمن للأقليات فقط الاسترزاق من هذا الخطاب الطائفي المعولم والمضخّم إعلامياً وسياسياً، لأنّه يخدم في العمق رهانات جيواسترتيجية وسياسية للراغبين في تقسيم المنطقة العربية الإسلامية من أجل خدمة أجندات خاصة، وهنا يحذر كاظم شبيب من استنساخ الحلول والوصفات الجاهزة، بل على كلّ بلد أن يبدع نموذجه الخاص في تجاوز الانقسام الطائفي وذلك من أجل المستقبل وتقوية الذات.

ومن أجل إعطائنا نموذجاً يعكس عقم هذين النموذجين يعطينا مثالاً بالتجربتين: القبرصية واللبنانية، وهما تجربتان تحضر فيهما الطائفية، لكنّهما مختلفتان من حيث مآل الصراع الطائفي بهما، ففي قبرص انتهت بالتقسيم بين الأقلية التركية المسلمة والأقلية اليونانية المسيحية، أمّا التجربة اللبنانية فقد قامت على التوافق والإجماع الهش الذي يظلّ رهيناً ومرتهناً للمصالح الخاصة للطوائف، فلا هو بالاندماج الوطني القائم على أسس دستورية ولا هو بنظام الحكم الذاتي، بل نظام تكون فيه الدولة في خدمة الطوائف وآلة طيعة في الصراع بينهم، وقد يتمّ تغليب المصالح الطائفية على المصالح الوطنية والعامة، وهو ما يسهل على الأجنبي التدخل من أجل تعميق الشرخ بين أبناء الوطن الواحد. وهكذا يكون الواقع المتقدم الذي بلغه الوضع الطائفي، ومستوى التعايش بين الطوائف، نسبياً على الأقل في لبنان، في حاجة إلى دعم وتطوير لينتقل من مستوى التوازن الذي تفرضه ممكنات الدستور والقانون لكلّ طائفة إلى مستوى القطيعة الطائفية، والقطيعة هنا منهجية وأخلاقية، بحيث يجب أن تقوم على التزام كلّ طائفة بالتخلي عن الهوس الهووي كما يسميه الباحث فتحي المسكيني، أي أن تظلّ الطائفة منغلقة على ذاتها بشكل نرجسي ولا تفكر إلا في ذاتها، بل يجب أن تقطع مع الذات النرجسية لتنظر إلى نفسها من خلال الوحدة الوطنية، وهنا يكون النموذج الهندي مغرياً بالنسبة إلى كاظم شبيب، لأنّه رغم تعدد الطوائف فيه فقد أتاح ذلك إمكانية قيام نظام دستوري يضمن المساواة للجميع على أساس مبدأ الكفاءة والاستحقاق.

5. تجذير الديمقراطية وإبداعها:

يؤكد كاظم شبيب على أنّ الديمقراطية هي أرقى أشكال التنظيم التي أبدعها الإنسان تاريخياً من أجل تدبير الاختلاف وتنظيم العيش المشترك بين جميع المختلفين في اللون والاعتقاد والرأي والعرق والدين...، ورغم تعدد الديمقراطيات وتعدد صيغ تنزيلها وأشكالها فهناك روح ثاوية في النظام الديمقراطي، هذه الروح هي ما يجب استلهامه من أجل مواجهة الطائفية الشاذة، وما يلفت النظر في مقاربة الباحث كاظم شبيب هو كونه لم ينظر إلى الديمقراطية من الزاوية الكلاسيكية كما تكرّس فهمها حرفياً في الفكر الليبرالي الكلاسيكي، بل إنّه ينظر إليها على ضوء التحديدات المفاهيمية التي أعادت النظر في المفهوم مع المعاصرين مثل رانسيير/ نانسي فريزير/ شانتال موف/ يورغن هابرماس، وهي ديمقراطية تتيح الحق ليس لسيادة رأي الأغلبية والحشد - وهنا تتحول الديمقراطية إلى ديكتاتورية- بل الديمقراطية الحقيقية وهي ديمقراطية النقاش والتداول، فهي ديمقراطية تشاوريةdémocratie délibérative كما سمّاها يورغن هابرماس في كتابه "الحق والديمقراطية"، ديمقراطية لا يسود ولا يسيّد فيها الحشد آراءه، بل هي ديمقراطية للحكم استناداً إلى الأغلبية، مع الأخذ بعين الاعتبار مساهمات الأقلية، لأنّ الديمقراطية الحديثة لا تنظر إلى الأغلبية على أنّها دائماً صائبة مادام موضوع الحقيقة في الديمقراطية الجديدة موضوعاً للتنازع، فقد يتعرض الحشد للتضليل، وبالتالي فإنّ للأقلية رأيها ويجب ضمانه وتحصينه دستورياً وثقافياً وأخلاقياً، وهو ما تضمنه الديمقراطية، لكنّ هذا الاستيراد للديمقراطية يجب أن يصاحبه نفس إبداعي، بحيث يتدخل المجتمع بأطره وكفاءاته ومجتمعه المدني ونخبه في إعطاء طابع خاص للديمقراطية، لكي تكون قادرة على تحقيق النتائج المرجوة، بعبارة أخرى ما يقصده كاظم شبيب هو أنّ نقل النظام الديمقراطي يحتاج إلى عملية ترميم لكي يكون ناجعاً في البلد الذي تمّ تطبيقه فيه، لأنّ الديمقراطية إن نجحت في بلد معين فهذا لا يضمن نجاحها في بلد آخر، ما يجب على القارئ فهمه أنّ هذا القول لا يجعل كاظم شبيب من المناصرين لديمقراطية التقطير (التقطير نظام للسقي يعتمد على السقي بجرعات)، أي الديمقراطية التي تمنح على مهل من طرف المستبدين، بل هو مع الديمقراطية الحقيقية -حسب ما طرحه في الكتاب- لكنّه يؤكد على أنّ نقل المفاهيم واستيراد الأنظمة لا يمكن أن يكون ناجعاً ومفيداً إذا لم يتم التدخل من أجل توجيهه وترميمه ليؤدي الأهداف والغايات المنشودة، وهنا ألمس شخصياً في كاظم شبيب قارئاً ومحللاً لا يعيد اجترار المفاهيم، بل يتعامل معها بحس نقدي وحذر إبستمولوجي في التناول، وخاصة وهو يقارب موضوعاً زئبقياً، وهو موضوع الطائفية، وهنا تكون الديمقراطية ناجحة، وذلك ما أكد عليه بقوله: "فمعالجة الطائفية بالديمقراطية وسيلة ناجعة، لأنّها تقوم على نظام ديمقراطي هو الصيغة التي تحمي أوسع تنوع ممكن وتعترف به...، ولأنّ الديمقراطية لا تعترف بالمشاركة ولا بالتراضي العام، بل باحترام الحريات والتنوع...، ولأنّ الثقافة الديمقراطية تسعى إلى حماية التنوع، فهذه الديمقراطية هي التي أحدثت الانقلاب الجميل في جنوب أفريقيا في العقد الأخير من القرن العشرين، فهي التي مكنت لوكليرك ومانديلا من النجاح في تجاوز حقبة التمييز العنصري بالاعتراف بالتنوع في تلك البلاد التي يعيش فيها سود وأفارقة ومستفرقون بريطانيون وهنود وغيرهم"[10]. وهذا واضح في ردّه على ما كتبه الأستاذ محمد جابر الأنصاري حول ترسيخ الديمقراطية في بريطانيا ورفض كاظم شبيب لهذا الانتظار لأنّه سيؤدي إلى تجذير الاستبداد وإلى ضياع المصالح وتعميم الفساد والانقسام.

ومن العوائق التي حالت تاريخياً ومازالت تحول دون القبول بالنظام الديمقراطي ليس على المستوى الرسمي كشعارات، ولكن على المستوى الاجتماعي بحيث تصير الديمقراطية موضوعاً للتمثل وقاعدة موجهة للسلوك الفردي والجماعي والسياسي، نجد كاظم شبيب يؤكد على الربط السببي للديمقراطية بالعلمانية، وخاصة العلمانية الفرنسية التي يكون موقفها راديكالياً من الدين، لذلك دفاعاً عن المعتقد يوظف السياسي والطائفي والمستبد ذلك في تحريض الناس ضدّ الديمقراطية، مع العلم أنّ الديمقراطية هي المدخل الممكن الآن لتجاوز الاحتراب الطائفي، وفي هذا السياق وضح كاظم شبيب أنّه لا يعني القبول بالديمقراطية قبولاً بالعلمانية! ويضيف شارحاً: فالقبول بالديمقراطية لا يعني رفضاً للأديان واقتلاعاً لها من حياة الناس الخاصة، لذلك أعتبر أنّه في العلمانية ممكنات تسمح بمعالجة الإشكالية الطائفية، وهناك حمولات سلبية عنها وفيها، لذلك شبهها بالعولمة، فليس كلّ ما تأتي به العولمة سلبياً، كما ليس كلّ ما تتضمنه العلمانية سلبياً، وهنا يرفض كاظم شبيب الحديث عن العلمانية بصيغة المفرد، بل هناك علمانيات تطورت في سياقات تاريخية مختلفة، وبالتالي فالعلمانية الفرنسية تختلف عن الإنجليزية وعن الإسكندينافية، وهكذا دواليك، وفي معالجة الإشكالية الطائفية يمكننا الاستنارة بمفهوم العلمانية خاصة في معناه الذي يدل على أنّه لا يمكن إقامة أيّ تنظيم سياسي أو تحقيق أيّ تعايش بين المختلفين على أسس دينية، بل إنّ القاعدة المنظمة تستلهم ممّا هو إنساني، وبالتالي فالمقدّس يجب إخراجه من الحياة العامة أي الحياة السياسية لكي يحافظ على قداسته ونقائه وطهرانيّته، وأن يظلّ في مجال الحياة الخاصة للأفراد في العلاقة بمعبودهم، لأنّ إقحام الدين في السياسة، وجعله أداة للتحريض، قد يؤدي إلى إنتاج العنف والاقتتال، ولدينا في التاريخ العربي الإسلامي منذ ظهور الصراع بين الخلفاء ما يؤكد ذلك، لذا فالعلمانية من منظور كاظم شبيب حينما يقترحها كوسيط لحل إشكالية الطائفية، فهو لا يتبناها بالمعنى المبتذل والمشاع لدى العوام أي "فصل الدين عن المجتمع"، وفي هذا يقول: "والقول بفصل الدين عن الدولة لا يعني فصل الدين عن المجتمع والشعب، ولعل المفهوم الأول ضمانة لممارسة الثاني"،[11] وقد أعطى مثالاً دقيقاً بالتجربة الدانماركية لتبرير دعواه.

6. الوطنية الدستورية والأنسنة مدخل لعلاج المشكل الطائفي:

ما هو شكل الدولة التي يمكنها أن تؤدي غايتها ووظائفها في حماية الجميع دون أن تصير أداة في يد طائفة أو فئة لقمع باقي الطوائف؟ لقد سبق لاسبينوزا في رسالته في التسامح، وهي عبارة عن بيان فلسفي وسياسي ضد الصراع الطائفي آنذاك ومازالت للرسالة راهنيتها، سبق أن بيّن بعمق أنّ الدولة ليست وظيفتها فقط مختزلة في الأمن والاستقرار، بل وظيفتها الأسمى هي تحرير الموجودات العاقلة من الخوف وحماية حقهم في التفكير وفي الاعتقاد، وهي القضايا نفسها التي يعيد كاظم شبيب طرحها في سياقنا العربي الإسلامي، ولتجاوز هذا المأزق يطرح كاظم شبيب الوطنية الدستورية التي لا تعترف إلا باحترام القانون المتعاقد عليه، فالجميع متساوون أمام القانون، ولكنّ شرط الوطنية الدستورية هو أن تكون للدولة هيبتها بحيث لا يتجرأ أي حزب أو طائفة على حساب طائفة أخرى، فالوطنية الدستورية تقوم على أساس ربط المسؤولية بالمحاسبة والحق بالواجب، وهنا: "يمسي موقف الدولة التنفيذي والرقابي هو الحياد المنصف والموضوعي لتطبيق هذه القاعدة. فـ "دولة المواطنة الحقيقية هي التي تقوم على حياد الدولة تجاه انتماء المواطنين وهوياتهم الثقافية، الحياد المنصف بمعنى أنّه لا أحد فوق القانون، فالفرص متاحة للجميع، والإعلام متاح للجميع، والتعليم والصحة والخدمات والتوظيف متاحة للجميع دون تفرقة بين المواطنين. والحياد الموضوعي بمعنى اتخاذ العدالة مجراها بين المواطنين بموضوعية بشكل يعطي للمظلوم حقه ويرد له اعتباره بلا إفراط أو تفريط، ويعاقب الظالم أو المعتدي أو المجرم بما يستحقه، بلا استبداد أو تعسف. حيادية منصفة وموضوعية لا يستشعر معها أي مواطن بأنّه مظلوم أو مغبون أو مسلوب أو مغشوش. حيادية منصفة وموضوعية لا تستشعر فيها أي طائفة أو جماعة بأنّها مستبعدة أو مهمشة أو مجروحة في كرامتها ومعتقدها ورموزها"[12]، فالوطنية الدستورية باعتبارها حلاً لمعضلة الطائفية تقوم على دستور لا يترك مفتوحاً ليقبل التأويلات المتعددة والتأويلات المضادة لها، بل يكون مؤسساً على نصوص واضحة لا تقبل التأويل من طرف طائفة ضد أخرى، ولا من طرف مسؤول ضد مواطن، بل إنّها تقوم على الوحدة والانسجام، وإن اقتضى الأمر تأويلاً فيجب أن يكون لصالح الديمقراطية والتعددية والاختلاف والحرية.

7. مطلب الحداثة السياسية في أقصى غايتها:

لم يتوقف كاظم شبيب عند مطلب الديمقراطية، بل ربطها بمشروع للأنسنة L'humanisation تكون غايته جعل الإنسان مركزاً للدولة وغاية لها، فلا شيء يعلو على حقوق الإنسان، بغض النظر عن طائفته أو انتمائه أو عرقه، وهنا تكون دعوة كاظم شبيب دعوة من أجل التنوير ومن أجل العودة إلى خطاب النهضة والتنوير خاصة مع الإنسيين الذين أعلوا من قيمة الإنسان وتمجيد قدراته العقلية، فالناس جميعاً متساوون من هذا المنظور، وهو في العمق مشروع الحداثة السياسية والفلسفية والثقافية، فأقصى ما تصبو الحداثة إلى بنائه أو خدمته هو الإنسان، لذلك يطالب كاظم شبيب بدولة الإنسان، فمادامت الأوطان والأقاليم قائمة على التنوع فيجب ألّا يكون الهدف هو تعميق وتجذير هذه الاختلافات ولا إلغاؤها، بل يجب أن يكون الهدف هو الإنسان بغض النظر عن طائفته، "فدولة الإنسان هي دولة تعددية؛ تعددية لا تسمح لطرف من مكونات البلاد سواء كان هذا الطرف طائفة دينية، أو حزباً سياسياً، أو قبيلة وعشيرة، أو أقلية أو أكثرية، لا تسمح التعددية لأحدهم بالهيمنة على البلاد والعباد، لا هيمنة دائمة ولا هيمنة مؤقتة. وقد اقترنت التعددية مع رغبة انتشار النفوذ بشكل واسع بين المنظمات والأديان والاقتصاد والمهنيين والتربويين والثقافة وتقسيم الحكومة إلى وحدات غير مركزية لا يكون المجتمع مهيمناً عليه لا من قبل الحكومة ولا من قبل طبقة معينة.

فاحتضان الدولة للهويّات المتعددة من سمات "دولة الإنسان" المطلوبة لمعالجة الطائفية، وهو احتضان حقيقي واستراتيجي ودائم، لا احتضان مؤقت لامتصاص واحتواء أحداث وتوترات آنيّة، كما يحدث في السودان مع أهل دارفور، وفي مصر تجاه الأقباط وفي البحرين تجاه الشيعة."[13]، فدولة الإنسان هي دولة جامعة وموحدة وراعية للاختلاف وضابطة لاستمرار القواعد القانونية، منفتحة فلا يمكن للغير أن يطالبها بالتحريض الوجداني ضد طائفة أو حزب، بل إنّ كلّ تغيير عميق في جوهرها يكون أساسه الحوار الوطني، والمشاركة الجماعية لكلّ المختلفين في صياغة وتغيير القواعد التي سيدبر انطلاقاً منها الشأن العام، الذي يصير شأناً مشتركاً ويهمّ مصير كلّ مكونات الدولة وطوائفها التي تبدأ في التخلي التدريجي عن العصبية لصالح الدستورية، وعن العرف لصالح القانون، وعن العادة لصالح القاعدة القانونية، وعن الوجدان لصالح العقل، وعن التمركز الذاتي لصالح الغيرية.


* نشرت هذه المادة في: "الطائفية"، إشراف وتنسيق بسام الجمل وأنس الطريقي، سلسلة ملفات بحثية، قسم الدراسات الدينية، منشورات مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث.

[1]ـ كاظم شبيب، "المسألة الطائفية: تعدد الهويّات في الدولة الواحدة"، دار التنوير، بيروت، الطبعة الأولى 2011، ص 41

[2]ـ المرجع نفسه، ص ص 47-48

[3]ـ المرجع نفسه، ص 84

[4]ـ نقترح على القارئ العودة في هذه النقطة إلى كتاب ميشيل مافيزولي: تأمل العالم-الصورة والأسلوب في الحياة الاجتماعية - ترجمة فريد الزاهي، المشروع القومي للترجمة 2005. في هذا الكتاب يعيد مافيزولي استئناف تحليلاته التي بدأها في كتابه "عودة القبيلة"، وفيه يؤكد من جديد أنّ عصرنا هو عصر يعيد تمجيد القبلية والنزعات الطائفية ويحتفل باليومي والعابر، لذلك يقترح مافيزولي سوسيولوجيا مداعبة وعقلاً حساساً يواكب الظواهر ويتحرك بسرعتها، وهو ما لا يستطيع العقل التأملي أن يقوم به، لأنّه عقل منطقي وبطيء. ولتجاوز ذلك يجب أن تتداخل الاختصاصات في المقاربات المعتمدة.

[5]- نقصد كتابه "صدام الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي"، وهو كتاب استراتيجي يوجه السياسات الخارجية اليوم للولايات المتحدة الأمريكية، ويمكن فهم العديد من تدخلاتها في هذا السياق، لذلك هو كتاب جدير بالقراءة، وكذلك كتاب فرانسيس فوكوياما حول نهاية التاريخ.

[6]ـ كاظم شبيب، "المسألة الطائفية: تعدد الهوياّت في الدولة الواحدة"، دار التنوير، بيروت، الطبعة الأولى 2011، ص 96

[7]ـ المرجع نفسه، ص 136

[8]ـ المرجع نفسه، ص 187

[9]ـ المرجع نفسه، ص 245

[10]ـ المرجع نفسه، ص 309

[11]ـ المرجع نفسه، ص 326

[12]ـ المرجع نفسه، ص 336

[13]ـ المرجع نفسه، ص 362