في معنى أن تكون حقوقيا هذه الأيام
فئة : مقالات
في معنى أن تكون حقوقيا هذه الأيام
لا شيء يبعث في ظروفنا الراهنة على التفاؤل بإمكانية انفتاح أفق إنساني عالمي، أفق حقوقي يؤمن للإنسانية مساحات واسعة وشاسعة للعيش المشترك بمعزل عن الحروب التي يدمر فيها البشر بعضهم بعضا. فلا شيء يؤشر على تحقيق هاته الطوبى الجميلة، على الأقل في المستقبل القريب.
يعيش عالم اليوم على حافة الهاوية، تتقاذفه أمواج الأصوات المتطرفة الساعية والمتغذية من قاموس العنف لا السلام، ومن منطق القوة لا قوة المنطق، فلم تعد حقوق الإنسان حكما بين الخصوم والمتنازعين، ولم يبق من الغرب الليبرالي المتنور إلا وجهه التاريخي القبيح المترسخ في المخيال الشعبي بمنطقتي الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
في خضم التحولات الجارية؛ يطرح كثيرون الأسئلة حول: الأدوار التي ما زال يمكن للحقوقي أن يلعبها في عالم متحول؟ وعن جدوى أن يترافع الحقوقيون استنادا إلى المنظومة الدولية لحقوق الإنسان التي تتعرض جهارًا لأبشع انتهاك لها من طرف إسرائيل، وبمباركة الدول العظمى، وفي عجز تام لكل الهيئات والآليات الدولية المنوط بها مراقبة تطبيق حقوق الإنسان في العالم؟
في الوثائق الحقوقية الدولية (1) يحمل الحقوقي اسم "المدافع عن حقوق الإنسان"، نسميه نحن في تداولنا "المناضل"، وهو من حيث دلالاته لا يشمل فقط ذلك المعنى الشائع في تمثلاتنا بصفته الناشط الحقوقي المنتمي في أغلب الأحوال إلى منظمة حقوقية يعترف بها القانون، بل قد يكون أيضا صحفيًّا أو ناشطًا حزبيًّا أو حتى مواطنًا عاديا يعيش في منطقة نائية ويترافع من أجل تزويد بلدته بالكهرباء أو الماء أو طريق أو مدرسة...إلخ، فالعبرة إذن بفعل الدفاع عن حق من حقوق الإنسان أو هي جميعها، وليس بالصفة الشكلية لذلك المدافع.
يؤمن الحقوقي بالإنسان قبل الحقوق، وأن تؤمن بالإنسان يعني أن تؤمن بوجوده وكينونته، ثم بعد ذلك تقر له بأن له حقوقًا وامتيازات يستأثر بها بغض النظر عن عقيدته أو دينه أو لونه أو عرقه أو آرائه السياسية، حينها تكون حقوقيًّا حتى لو لم تنشط في منظمة حقوقية أو حزب سياسي.
لا يساير الحقوقي المزاج الاجتماعي العام ولا يلتفت للتابوهات السياسية والاجتماعية، كما أنه لا يجزئ الموضوعة الحقوقية على هواه، فباعتبار أن حقوق الإنسان مترابطة (interdependent) وغير قابلة للتجزئة (inalienable)، فلا يمكن للمدافع عن حقوق الإنسان أن يؤمن بجزء من الحقوق ويكفر بجزء آخر، فحرية التعبير مثلا مرتبطة بالحق في التعليم والحرية الأكاديمية، فإذا لم يكن المرء حرًّا في الإدلاء بمواقفه، فإنه فلا يستطيع أن يكون حرًّا في تعليمه وفي بحثه، والحق في الصحة كذلك مترابط مع الحق في التعليم، والحقوق الثقافية مترابطة مع الحقوق الديمقراطية... إلخ.
هذه العقلانية الحقوقية تحققت بفضل الزخم الفلسفي والنظري الذي تأسس منذ ثورات الإصلاح الديني في أوروبا، ووصولا إلى تأسيس منظمة الأمم المتحدة مباشرة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وتوافق ممثلي دول مختلفة (من الشرق والغرب) على إصدار إعلان عالمي لحقوق الإنسان عام 1948.
في أيامنا هاته، يواجه الحقوقيون في مختلف دول العالم ضغوطًا رهيبة من دولهم ومجتمعاتهم على حد سواء، فأما من جهة دولهم، فتتعلق باتجاه الدولة - مسنودة بالتحولات الدولية نحو التوتر وإحياء الحروب المجمدة منذ سنوات- إلى انتهاك حتى الحد الأدنى من المنظومة الدولية لحقوق الإنسان، وكذا الزحف على العديد من المكتسبات الحقوقية في جوانب اجتماعية تهم دعم الفئات الضعيفة والهشة؛ ففرنسا مثلا التي كانت تعدّ مثالا في منظومة الحقوق الاجتماعية، شهدت في سنواتها الأخيرة العديد من التراجعات في ملفات مثل الدعم الاجتماعي والتقاعد والتشغيل وقس على ذلك في دول أخرى. لقد همشت الدولة الراهنة ملف حقوق الإنسان في مقابل تخصيص النصيب الأكبر من اهتمامها لتمويل مشاريع التسلح العسكري، هذا التحول أثر سلبًا على مواقع الحقوقيين وأضاق عليهم الأرض بما رحبت، وزاد من حاجتهم إلى بدل المزيد من الجهود في تعبئة الموارد البشرية والمالية اللازمة للترافع والتدافع الحقوقيين، كما فرضت عليهم التطورات الحالية في منطقة الشرق الأوسط مثلا تغيير أجنداتهم وأولوياتهم نحو ملفات بعينها من قبيل مواجهة جرائم إسرائيل وسياساتها التوسعية. أما من جهة الضغط المجتمعي الذي يواجهه الحقوقيون، فيتمثل في "الفورة المطلبية" المتنامية في ظل التراجعات المذكورة، وهو الأمر الذي يضعف قدرتهم على استيعاب الكم الهائل من المطالب من حيث معالجتها وتصفيتها، ومن ثم تحويلها إلى "مشاكل سياسية" يراد الاعتراف بها في إطار رسمي (في شكل قوانين، سياسات، قرارات، برامج...).
هناك مؤشران قويان يمكن الاستدلال بهما على التحديات الي يواجهها الحقوقيون في هاته الأيام؛ التحدي الأول يتعلق بمشكلة الوجود القانوني للعديد من المنظمات الحقوقيين التي يمثلها الحقوقيون، وهي مشكلة تعرف حدتها في العديد من دول العالم سبق أن أبرزها في أكثر من مرة المقرر الأممي المعني بحرية التجمع السلمي وتكوين الجمعيات، حيث تلجأ العديد من الدول إلى إعاقة حق المنظمات في التسجيل القانوني الذي يمنحها الشرعية للترافع عن قضايا حقوق الإنسان، وغالبا ما تكون مبررات المنع المذكور متمثلة في مواقف تلك المنظمات المناهضة للسياسات والقرارات الحكومية.
أما التحدي الثاني، فيتمظهر في سياسة "التفاوض الصامت" الذي تنهجه العديد من الدول في ملف حقوق الإنسان من أجل تقليص حجم الأخيرة والحد من طابعها الدولي، ولتصير بذلك شأنا داخليًّا للدول لا دخل للمجتمع الدولي فيه، فعلى سبيل المثال، لم تعد إدارة الرئيس الأمريكي ترامب تعير أي اهتمام لقضايا حقوق الإنسان في تدبير علاقاتها الخارجية، ولم تعد ملفات مثل الحريات الفردية أو حماية الأقليات (2) ذات أهمية كبيرة حتى في الشأن الداخلي الأمريكي، فهو إذن تحول خطير في سياسة القوى العظمى يستبطن ما أسميناه تفاوضًا صامتًا في العلاقات بين الدول من أجل تهميش قضايا حقوق الإنسان في مقابل طغيان النزعة البرغماتية المغالية، ومن المؤكد أن هذا التهميش ينسحب أثره بالضرورة على المدافعين عن حقوق الإنسان الذين سيعدو وجودهم دون سند ولا نصير...!
قد تكون هاته بعض العناصر والظروف التي تحدد معنى الحقوقي أو المدافع عن حقوق الإنسان، وهو لا يزال يكافح من أجل تطبيق عادل وشامل لمنظومة حقوق الإنسان، بوصفها خير ما أنتجت البشرية، رغم عوارها المرتبطة بالممارسة السياسية للدول، وهي العوار التي تجسد المقولة الشهيرة "ما أفسدته الأعوام والدهور، لا تصلحه الأيام والشهور"، وتعني في هذا السياق أن ممارسات قرون الظلام لا زالت رواسبها مترسخة في السلوك البشري، وزوالها رهين بتجذر القيم الحقوقية عبر الزمن.
المراجع:
(1). الإعلان المتعلق بالمدافعين عن حقوق الإنسان، أقرته الأمم المتحدة في 10 ديسمبر/كانون الأول 1998
(2). فيولا فهمي، 100 يوم من حكم ترامب.. حقوق الأقليات في مهب رياح "الانتهاكات"، منشور بتاريخ 27 أبريل 2025 على موقع جسور بوست، ينظر الرابط الإلكتروني:
https://jusoorpost.com/ar/posts/58346/100-yom-mn-hkm-tramb-h