كارل ماركس ونقد الدولة الرأسمالية


فئة :  مقالات

كارل ماركس ونقد الدولة الرأسمالية

كارل ماركس ونقد الدولة الرأسمالية

محمد لمعمر

"إن طاحونة اليد تعطيك مجتمعا ومعه اللورد الاقطاعي، بينما تعطيك طاحونة البخار مجتمعا ومعه الرأسمالي الصناعي". كارل ماركس

حاجتنا إلى فلسفة كارل ماركس

يجب الاعتراف بأن الحداثة السياسية والحقوقية، جلبت للإنسان المعاصر حقوقه السياسية والمدنية، ورسخت بالقوة والفعل، لوائح الدفاع عن حق الإنسان في الوجود والحرية والامتلاك، لكن، منطق الرأسمالية الجشع عوض أن يساير هذا المكتسب الإنسان ي، أساء إلى تلك الحقوق، حيث تم اغتيال كرامة الإنسان العامل، وصار أداة مسخرة لتحقيق الربح السريع، وجني الثروة لصالح فئة معينة، خاصة في دول العالم المتخلف، حيث لا زالت العبودية السياسية والاقتصادية والاجتماعية حاضرة بقوة، وعلى حساب الكرامة الإنسان ية، والعيش الكريم. هنا تظهر الحاجة إلى فكر ماركس السياسي والاقتصادي، حيث الارتباط بالواقع، والتطلع إلى تحقيق غايات الأفراد والمجتمعات عبر النضال المستميت؛ فالماركسية أمدت الإنسان بأدوات التحليل المادي، لفهم براديغم الممارسة السياسية، وتفكيك منطق السلطة، والوقائع السياسية والاجتماعية.

بعض التحليلات الأيديولوجية المتسرعة، ترى أن ماركس بنقده للدولة الرأسمالية قد بث الروح في الإنسانية الحالمة والمتطلعة إلى السعادة؛ وذلك بجعلها تعيش الأحلام فقط، تلك قراءة تجزيئية تبسيطية واختزالية لفلسفة ماركس السياسية والاجتماعية والاقتصادية؛ لأن الرؤية العميقة لمنتوج ماركس، تكشف عن عمق التفسير العلمي الرصين، حيث فهم حركة التاريخ وتطور الأنظمة وتقدم المجتمعات، وإعادة الاعتبار للنضال ومقاومة ظلم الرأسمالية المتوحشة.

روح ماركس، تجلت في نداءات التحرر التي اجتاحت قارات الأرض، حيث رفعت المجتمعات الإنسانية شعارات كثيرة، كالحرية والتحرر، والعدالة الاجتماعية والخبز واللقاح ضد كورونا للجميع، داعية لهدم وتقويض أسس الاستلاب، وتحقيق الحق الإنساني في العيش الكريم العادل، ومقاومة الأصنام الرأسمالية الجديدة، انطلاقا من الإنسان ذاته، وليس التوسل بنبوءات لاهوتية. النضال والثورة الفكرية والتنوير العقلي والصراع ضد الديكتاتوريات لتغيير العالم المعيش، قد تبدو هذه العناصر ميتافيزيقية وخيالية، ولكنها لا زالت حاضرة في وقتنا الراهن، وثورات الربيع العربي خير مثال على ذلك، حيث خرجت شعوب إلى الشارع مطالبة بالتغيير، فسقطت أنظمة، وماتت أصنام، وتشكلت دساتير جديدة جعلت للشعوب مكانة معتبرة رمزيا، وأن صمت الشعوب لا يعني الانقطاع عن الكلام، ولكنه تجميع لعناصر القوة من أجل انطلاقة جديدة.

فالثورات التي حدثت في العالم المعاصر، موشومة بأطياف ماركس، وروحه الفكرية التي لا زالت محلقة فوق المعامل والمصانع والشركات المتحكمة في رأس المال، والمستغلة للطبقة العاملة، النضال الأممي المفعم بالأمل الإنساني، والمجسد لرغبة الشعوب في الانعتاق من الظلم. إنه نموذج مميز للحداثة الماركسية في ثوبها الإنساني، حيث خلخلة الواقع المادي، وفضح المؤسسات الدينية، وهزها من جذورها، في أفق فهمها وإدراك أوهامها. عبر عملية الوعي بالجدلية المادية، حيث يصبح العمل الفلسفي ممكنا، عبر آليتي الفهم والتغيير. إنها الهزة السياسية التي أحدثها ماركس داخل الوعي النضالي.

استهلال واستشكالات:

تسعى الماركسية بشكل عام، إلى فهم العالم في أفق تغييره، تبعا لمنطق المادية الجدلية، وفي ذلك خدمة للإنسانية، وتغيير للحياة السياسية والاجتماعية، رؤية ماركسية موشومة بالتقدم والتغيير وفق صيرورة جدلية وسيرورة تفاعلية، وتفسير كلي للأحداث بمختلف تجلياتها، الماضية والحاضرة والتطلع للمستقبل. تفسير ينصب على دراسة الأشياء، وكيفية انتقالها، ونشوئها، بما في ذلك البحث في مسالة نشأة الدولة وأفول نظامها، ليبزغ فجر نظام جديد من رحم النظام السابق. فنقد ماركس للدولة الرأسمالية، نقد جذري لجميع أنماط الحكم، بإبراز عيوبها ومساوئها السياسية والاجتماعية والاقتصادية. يتجلى ذلك في رؤية ماركس لمسألة الاقتصاد والتحليل النقدي للمسار السياسي للتاريخ. لذا، فتعاليم ماركس السياسية، مرتبطة برؤيته للشأن السياسي، وفهم التاريخ والقانون؛ بمعنى فهم المجتمع في وضعيته الراهنة، وهو ما يفسر اهتمام الفلاسفة بفكره، كألتوسير، ومشيل فوكو، ويورغن هابرماس، وجاك ديريدا...

فكر ماركس السياسي والاقتصادي، غني بتصورات نقدية حول التحولات العالمية الكبرى، المميزة لمنطق العولمة، حيث الصراع على الثروات، والصدام بين الدولة والشعوب، فلا أحد بمكنته اليوم إخفاء الدور الكبير الذي تلعبه نظريات ماركس والماركسية، في فهم أساليب الاستغلال والاضطهاد والاستحواذ الناتج عن جشع النظام الرأسمالي، فالعولمة حالة مفهومية، معبرة عن تاريخ ليبرالي تهيمن عليه النزعة الفردانية والطبقية، حيث ولادة أصنام جديدة من الاستعباد والاستلاب والتشيؤ.

إن فهم الفكر الماركسي المتعلق بمسألة السياسية/ الدولة، يتطلب الحضور المكثف لمجموعة من المفاهيم، كالمادية التاريخية، والظروف الاقتصادية، وقيمة العمل، والصراع الطبقي، والبنيتين التحتية والفوقية، وتفكيك طبيعة الرابطة بين المادية التاريخية ونظريته حول قيمة العمل[1]، حيث الارتباط بالواقع المادي، والنظر لكيفية تطور حركة المادة، عبر النفي، والصراع بين الأضداد/ الأنظمة، الذي يجعل العقل، وكأنه مجرد تمظهر عضوي لحركة المادة [2]. وفي ذلك، مخالفة للتصورات المثالية التي ربطت الدولة بالعقل المطلق على طريقة هيغل، أو نظرية العقد الاجتماعي مع فلاسفة الأنوار. فالرؤية المادية الواقعية لماركس تتجلي في نقده لهيغل، منهجا وتصورات، معتبرا أن الجدل الهيغلي يمشي على رأسه وقد وجب قلبه ليمشي على رجليه. (علما أن المادية الجدلية علم متطور، وكل اكتشاف رئيس في العلم الطبيعي، والتغيرات التي تحدث في الحياة الاجتماعية تفيد في دعم وتطور مبادئ وقضايا المادية الجدلية، التي تستوعب الدليل العملي الجديد والخبرة التاريخية للإنسانية)[3]. فما هي نظرية ماركس للدولة؟ وما أصل الدولة بالنسبة إليه؟ وأين تتجلى أهميتها، خاصة في تاريخنا المعاصر، المشوب بشوائب الاستغلال والاضطهاد؟ ولماذا انتقد ماركس الدولة الرأسمالية؟ وما مآل النظام الرأسمالي في فكر ماركس السياسي والاقتصادي؟

المحور الأول: الماركسية وأصل الدولة

1- الإنسان بين العقلانية والإنتاجية

ينطلق ماركس في حديثه عن الدولة، من مبدأ يتعلق بكون الاقتصاد هو عصب الدولة الحديثة وقطب الرحى فيها، فهو لب المجتمع، حيث يصعب، بل يستحيل النظر إلى المجتمع والدولة دون الحديث عن الجوانب الإنتاجية والاقتصادية. لذا، ففهم الاقتصاد يستدعي من الناحية النظرية والمبدئية، فهم العناصر المتحكمة في المجتمع والمساعدة على تطوره الكمي والكيفي، بما في ذلك فهم العلاقات الرابطة بين الطبقات الاجتماعية المحكومة بنمط إنتاج معين؛ فالاقتصاد هو قوة محركة للمجتمع والدولة والتاريخ. إلى درجة أن هناك علاقة جوهرية بين الدولة والاقتصاد، وبين الاقتصاد والمجتمع، فاكتشاف الاقتصاد هو الأساس الحقيقي للمجتمع، والحياة الإنسانية بصفة عامة[4].

يرى ليو شتراوس وجوزيف كروبسي، أن ماركس في معرض حديثة عن تحليل الاقتصاد الرأسمالي مثلا، وما يطرحه من تفاوتات واستغلال بشع لقوى الإنتاج، يفكك مفهوم العمل، محددا قيمته، وأثره على ذاتية العامل، فالعمل وسيلة لفهم كيفية حصول الإنتاج، من الإنتاج البدائي إلى الرأسمالي، والانتقال من الماضي إلى الحاضر، ومن نظام إلى آخر، وتلك هي المادية التاريخية، حيث النظر في كيفية انتقال الأشياء من طور إلى آخر. والحديث عن المجتمع والدولة في الفكر الماركسي السياسي، هو حديث ودراسة حول الإنسان، بطريقة مادية واقعية، دراسة الإنسان الحقيقي/ الواقعي، وليس الإنسان ككائن مجرد ومتخيل؛ يعني أن ماركس يهتم بدراسة الكائن الواقعي، وليس الممكن المثالي، ونفس الشيء بالنسبة إلى ثنائية الدولة والمجتمع، فقد حرص ماركس على تحليل الظروف المادية المشكلة للدولة، وليس فهم خير نتمناه، ونرجو حصوله، ونسعى إلى حضوره، أو إعادة بناء رؤية جديدة حول إنسان طبيعي عاش في حالة أصلية اصطلح عليها بالحالة الطبيعية مع فلاسفة الأنوار، وإنما هو حديث سياسي واقعي ومادي عن إنسان منوجد في مملكة الواقع، إنسان تجريبي متفاعل مع حركية الواقع والتاريخ عبر البراكسيس[5].

يخالف ماركس، هيغل الذي يعتبر أن الدولة غاية في ذاتها، وليست وسيلة لتحقيق غايات خارجية عنها، فالدولة حسب هيغل، تمثل روح وإرادة ووعي أمة من الأمم، وتجسيدا للعقل المطلق في التاريخ[6]. منتقدا أيضا فلاسفة العقد الاجتماعي، الذين تخيلوا حالة افتراضية اصطلح عليها بالحالة الطبيعية، رغم اختلافهم في توصيفها وإبراز خصائصها، وهل هي موصوفة بالخير أم الشر؟ سواء أكانت الحالة الطبيعية، حالة هدوء وسعادة أم حرب الكل ضد الكل، فإن ماركس ذهب عكس ذلك، في فهمه لأصل الدولة عامة، والرأسمالية خاصة، حيث ينطلق من الواقع، للحديث عن ظروف مادية، تجعل الإنسان منتجا للأشياء رغم بساطتها، ومستخدما لأدوات، لكن، بازدياد الكثافة السكانية اضطر إلى تحقيق الضروريات للبقاء في الوجود والمحافظة على الذات، فعن طريق الإنتاج، صار الناس مميزين ومختلفين عن بقية الكائنات، وهنا نقطة مهمة لا بد من الإشارة إليها، وهي أن الحياة وفق رؤية ماركس مطبوعة بالعمل والإنتاج اللذين يعتبران المحددين الأساسيين لنشأة الدولة في التاريخ ومن داخل المجتمع كما سنرى، فالوعي والعقلانية ثانويان[7].

وبناء عليه، يمكن القول، بخصوص الجزئية السابقة، أن الإنسان حيوان منتج، إنتاجه، يختلف عن الإنتاج الحيواني؛ فالإنتاج الإنساني، قصدي وواع، لكن، وفق ضرورات وظروف مادية، إنتاج يجعل الإنسان متميزا، وفريدا من نوعه، وكان على ماركس أن يتحدث عن صفة العقلانية أولا، ثم الإنتاجية ثانيا؛ بمعنى النظر إلى الإنسان من زاوية آلة الإنتاج التي هي العقل، ثم النظر بعد ذلك في المنتوج كنتيجة، امتنع ماركس عن قول ذلك، ربما لكي لا يناقض منهجه الجدلي المتمثل في أن أساس الحياة الإنسانية يتمظهر عبر عملية الإنتاج، بينما الجوانب العقلية ثانوية، يعني أن الحاجة إلى تحقيق الضروريات عبر الإنتاج أو الممارسة هي التي دفعت الإنسان إلى العمل والإنتاج. وبالتالي، (لما كانت الدولة هي الشكل الذي يتمكن عن طريقه أفراد طبقة مسيطرة من ترجيح كفة مصالحهم المشتركة، والذي يتلخص فيه كل المجتمع البورجوازي لعصر من العصور، فإن كل المؤسسات المشتركة تمر من خلال وساطة الدولة وتتلقى شكلا سياسيا، ومن هنا كان الوهم القائل، إن القانون يقوم على إرادة، والأنكى من ذلك على إرادة حرة منفصلة عن أساسها العيني)[8].

فضغط الحاجات، أجبر الإنسان على أن يسمو بإنسانيته، حيث سيتحدد مضمون عقله تبعا لظروف مادية واقعية بعيدة عن عقله، هذه الظروف المادية المتمثلة أساسا في الاقتصاد، هي التي ستكون سببا في نشوء السياسي، واختفاء نظام وظهور آخر، موجب لتأسيس دولة.

2- الظروف المادية ونشأة الدولة

لا يمكن تفسير نشأة الدولة في الماركسية، عن طريق نظرية الحق الإلهي، أو التفويض، ولا عن طريق العقد الاجتماعي؛ لأنهما يرتبطان بالتفسير المثالي المجرد والبعيد عن الواقع، عكس ماركس والماركسية، حيث الانطلاق من الظروف المادية الواقعية للحديث عن نشأة الدولة. فأنماط الإنتاج (من البدائي، والاقطاعي، والرأسمالي) أحدثت انشطارات وصراعات داخل المجتمع، وحفاظا على وحدة المجتمع، كي لا تتطاير جميع أجزائه، فإن الحاجة المادية، فرضت ظهور سلطة إكراهية من داخل المجتمع. ويؤكد ماركس استنادا إلى ليو شتراوس وجوزيف كروبسي: (أن سلطة الدولة هي بصورة دقيقة الفاعلية التي اخترعتها القلة الظالمة لكي تتحكم في سلوك الكثرة. إن الدولة هي أداة القهر الطبقي، جعلها تقسيم المجتمع أمرا ضروريا، يوجدها بدورها، التحكم الخاص في وسائل الإنتاج، وغني عن البيان، أن الحكومة لا تظهر بهذه الصورة لجمهور الناس، ويقر ماركس أن الطبقات تشترك في تدعيم الحكومة باحترامها، واحترام سلطة قهرها، بيد أن ذلك يعني سوى أن الناس بسبب قصور ظروفهم المادية مستعدون ومجبرون على أن ينصبوا على أنفسهم طاغيتهم الخاص، مخلوقهم الخاص الذي لا بد، كما يفعل، أن يؤكد نفسه ضدهم)[9].

وعليه، فظهور الدولة جاء نتيجة لتطور المجتمع في سياق تاريخي. إنها تعبير عن طبيعة نمط الإنتاج الاقتصادي السائد في مجتمع ما، والعامل الأساسي والحاسم في نشأة الدولة، يتمثل في الإنتاج الاقتصادي، وما يرتبط به من مفاهيم، كنشأة الملكية الخاصة في التاريخ، التي أدت إلى انقسام المجتمع إلى نوعين من الطبقات: طبقة المالكين لوسائل الإنتاج، وطبقة المحرومين من الإنتاج؛ بمعنى أن الدولة لم تكن موجودة في التاريخ، وليست شيئا طبيعيا، ولكنها ناشئة وفق ظروف معينة، (لم تكن الدولة موجودة دائما. فلم يكن هناك في المجتمع البدائي شيء اسمه الدولة، بالطبع، كانت هناك وظائف اجتماعية محددة، لكن، هذه الوظائف كان يقوم بها أناس اختارهم جميع أفراد المجتمع، وكان يحق للمجتمع الاستغناء عنهم في أية لحظة، وتعيين آخرين محلهم، وكانت العلاقات بين الناس تضبط في تلك الزمان السحيقة بقوة الرأي العام)[10].

فحوى ذلك، أن من سمات المجتمع البدائي اعتماد الناس على وسائل بسيطة للإنتاج بغية تحقيق الحاجات الضرورية، حيث كان الإنتاج منخفضا، ينتجون فيستهلكون جماعيا، فلم يعرفوا مفهوم الملكية والاستغلال والتخزين، وتسخير فئة لخدمة أخرى بالقهر والاستعباد؛ لأن الملكية كانت جماعية، مشاعة بين جميع الأفراد، ومن هنا جاءت تسمية الشيوعية، وفي هذه الحالة لم تكن هناك حاجة لوجود دولة؛ لأن الناس متساوون في النظام المشاعي البدائي، نظرا لانعدام الامتيازات، وغياب الطبقات، فالناس ليسوا بحاجة إلى جهاز إكراه، لكن، (استمرار تطور القوى المنتجة، أدى إلى تحلل المجتمع البدائي، ظهرت الملكية الخاصة مصحوبة بالطبقتين -العبيد وملاك العبيد- وأصبحت هناك ضرورة لحماية الملكية الخاصة، وحماية حكم وأمن ملاكها، وهذا، أدى إلى ظهور الدولة، وصاحب نشوءها وعملية تطويرها صراع طبقي عنيف، فالدولة هي نتاج المجتمع الطبقي)[11].

إن التطور التاريخي للمجتمع البدائي، أدى إلى ظهور فائض الإنتاج، الذي ظهرت معه جماعات أو طبقات، تستأثر بالمنتوج لصالحها على حساب الآخرين/ قوى الإنتاج، حيث ظهر الاستغلال في أبشع صوره، والاحتكار بمفهومه الاقتصادي والتجاري، وبزوغ فجر الملكية الفردية الخاصة، لتحل محل الملكية المشاعة. هنا، أصبح المجتمع منقسما إلى جماعات أو طبقات، رافقها ظهور أنماط متعددة من الحكم التي تعاقبت عبر العصور التاريخية. تشترك في الاستغلال والاحتكار والقهر وتكديس الثروة واستعباد الضعفاء بجعلهم أدوات وآلات طيعة ومسخرة لخدمة مصالحا وامتيازاتها. (كل أساليب الإنتاج التاريخية لها خاصية واحدة بوجه عام، وتؤثر هذه الخاصية بدورها في كل المجتمعات المناظرة؛ لأن كل الناس يشتركون في التحكم في وسائل الإنتاج، ولكن، في كل عصر يكون البعض ملاكا، بينما الكثرة تعطي نفسها، أعني تعطي قدرتها للعمل، (...) لقد حرمت الجماهير من الفرصة لكي يصبحوا أحرارا، وأناسا محترمي الذات؛ لأنها أجبرت باستمرار على أن تكون في وضع التابعين الأذلاء – أعني العبيد، الأرقاء، البروليتارية- الذين يخضعون على الرغم من أنهم مواطنون عاديون، أو رعايا مثلهم، أو يحرموهم بصورة تعسفية من العيش عن طريق قطع ارتباطهم بوسائل الإنتاج)[12]. يعني، أن الدولة في المجتمع الاستغلالي (العبودي، الإقطاعي، الرأسمالي) تعمل على حماية مصالحها وامتيازاتها الطبقية، سواء تعلق الأمر بعلاقتها بباقي طبقات المجتمع داخليا؛ وذلك بالسيطرة على الجماهير وإخضاعها بالقهر والاحتكار، أو في علاقاتها مع دول أخرى، حيث السعي للهيمنة والاستنزاف.

تحصل لدينا شيء مهم، أن الدولة في الرؤية الماركسية، خاصة تصور فريديريك إنجلز، ليست نظاما طبيعيا، فهي نتاج المجتمع في مرحلة معينة من تطوره، وليدة تناقضاته وصراعاته الطبقية التي لا يمكن التوفيق بينها، فانقسام المجتمع إلى طبقات تتوسل المنفعة، وخوفا من ضياع الكل، فإن الضرورة فرضت وجود سلطة عليا من داخل المجتمع، سلطة تضع نفسها فوق الجميع، لكن، المشكل، أن الدولة التي من المفروض أن تفرض النظام والعدالة الاجتماعية، ستصبح شيئا غريبا متناقضا؛ لأنها لا تحقق الحياد الاقتصادي والسياسي. إنها وإن كانت في الظاهر تضع نفسها فوق الجميع، فإنها في الحقيقة تكرس دولة الطبقة الأقوى، الطبقة المسيطرة اقتصاديا والمتحكمة سياسيا، حيث تبتكر وسائل لاستغلال واضطهاد الطبقة الضعيفة. لذلك، فالدولة، بشكل عام، والرأسمالية التي سنتحدث عنها بشكل خاص، ليست نقطة توازن بين مصالح ومنافع مختلفة، وإنما هي الأداة التي تستخدمها الطبقة المستغلة لحماية مصالحها وامتيازاتها، فالدولة بهذا المعنى هي اللجنة التنفيذية للطبقة الأقوى يعبر عن ذلك إنجلز بقوله: (ليست الدولة إذن سلطة مفروضة من الخارج على المجتمع، وليست كذلك هي واقع الفكرة الأخلاقية أو صورة وواقع العقل كما يدعي هيغل*. إنها بالأحرى نتاج المجتمع في مرحلة معينة من تطوره، إنها شاهدة على أن هذا المجتمع يتخبط في تناقض مع ذاته(...)؛ لأنه منقسم إلى تعارضات لا يمكن المصالحة والتوفيق بينها(...) بما أن الدولة تولدت عن الحاجة إلى فرملة التعارضات القائمة بين الطبقات، وبما أنها تولدت في قلب هذا الصراع، فإنها في الأغلب الأعم، دولة الطبقة الأقوى أي التي تسود وتسيطر اقتصاديا)[13].

بناء على كلام إنجلز، يتضح أن الدولة، نشأت عن طريق انقسام المجتمع إلى طبقات، وأنها دولة الطبقة الأقوى المتحكمة في الاقتصاد والسياسة، وأنها أيضا ليست ضرورية بشكل مطلق. إنها مظهر معبر عن تحول المجتمع إلى مجتمع طبقي، وعندما يحقق هذا المجتمع تنظيم إنتاجه الاقتصادي على أسس شيوعية، فإنها لا بد وأن تزول. (فعندما يعيد المجتمع تنظيم إنتاجه الاقتصادي على أساس التشارك الحر والمتساوي بين المنتجين، فإن ماكينة الدولة ستؤول إلى الموقع الذي سيصبح منذ الآن هو موضعها؛ أي متحف الأثريات بجانب العجلة والفأس البرونزي)[14].

والملاحظ أيضا، أن الظروف المادية/ الإنتاج، هي أساس الحياة والتقدم وتحريك عجلة التاريخ؛ لأن الناس كانوا يفكرون في الإنتاج عن طريق التوفر على قوى تنظيمية تنظم العلاقات فيما بينهم؛ وذلك بابتكار وسائل كانت في البداية بسيطة، بغية تقسيم العمل، وممارسة التجارة وتنظيم الملكية[15]. هنا، احتاج الناس إلى شيء من داخل المجتمع ينظم وجودهم الاقتصادي والاجتماعي، فكانت الدولة وسيلة وأداة لتحقيق ذلك؛ بمعنى أن الدولة ليست شيئا طبيعيا كما ادعى حكماء اليونان خاصة أفلاطون وأرسطو، وليست ناشئة عن عقد اجتماعي أساسه العقل الذي طور وعدل وصوب القانون الطبيعي ليكون وضعيا، وإنما هي ناتجة عن ضرورات متمثلة في الظروف المادية، وانقسام المجتمع إلى طبقات.

إن ظهور الدولة، ارتبط بعملية الإنتاج الناتجة عن الظروف المادية، واضطراب العلاقة بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج ونمط الانتاج، هذا الاضطراب المفضي للصراع هو الذي ساهم في حركة وتقدم التاريخ والخروج من نمط إنتاج معين إلى آخر، فالنمط السائد في مجتمع، معبر عن طبيعة الدولة، كنمط الإنتاج البدائي، والآسيوي والإقطاعي والرأسمالي، والظروف المادية الواقعية هي التي تفرض نوع المجتمع والنظام، وشكل الدولة، وليس الأفراد هم الذين يحددون بمحض إرادتهم شكل النظام؛ افرض حالة معينة من التطور في قوى الإنسان الإنتاجية، فإنك ستحصل على شكل معين من التجارة والاستهلاك، فإنه سيكون لديك بناء اجتماعي مناظر؛ أعني سيكون لديك تنظيم للأسرة، للرتب، للطبقات، وباختصار سيكون لديك مجتمع مدني مناظر. افرض مجتمعا مدنيا معينا، فإنك ستحصل على ظروف اجتماعية معينة لا تكون سوى التعبير الرسمي عن المجتمع المدني[16]. ويقول ماركس استنادا إلى ليو شتراوس: (إن طاحونة اليد تعطيك مجتمعا ومعه اللورد الإقطاعي، بينما تعطيك طاحونة البخار مجتمعا ومعه الرأسمالي الصناعي)[17].

ظروف الإنتاج المادي هي التي تحدد طبيعة علاقات الإنتاج ونمط الإنتاج، وشكل الدولة، التي إما أن ترسخ عدالة الملكية؛ بمعنى أن من يعمل ويكسب يربح، أو عكس ذلك، ترسخ الاستغلال والظلم والاضطهاد واستلاب العامل عن عمله، خصوصا في ظل نظام الاقطاع، حيث النبلاء يكدسون الثروات ويستحوذون على الملكيات الخاصة، على حساب الأرقاء، ونفس الشيء بالنسبة إلى النظام الرأسمالي. فخذ بنا للحديث عن نقد ماركس للدولة الرأسمالية.

المحور الثاني: نقد ماركس للدولة الرأسمالية

1- الدولة الرأسمالية، نفي واغتراب وضياع الإنسان

إن التطور الصناعي في حلته الرأسمالية، أفضى إلى بروز نظام رأسمالي مميز للدولة الرأسمالية المطبوعة بالقهر والاستغلال والاستعباد واغتراب العامل عن عمله؛ لأن النظام الرأسمالي أفرز نوعا معينا من العمال وحدد وظيفتهم، التي تتجلى في كونهم مجرد آلات وقوة للإنتاج الرأسمالي لصالح طبقة مهيمنة ومحتكرة، إلى درجة أن العمال صاروا عبارة عن قوى وأدوات وآلات للإنتاج الرأسمالي. فالعامل لا يملك أيّ شيء إلا قوته التي يسخرها بالقوة والفعل لصالح الطبقة البرجوازية/ الرأسمالية المتحكمة في الإنتاج ونمط الإنتاج، والآنكى من ذلك، أن النظام الرأسمالي جرد الأفراد/ العمال من صفتهم الإنسانية النوعية، فلا رأي لهم، ولا خطوات يتخذونها من تلقاء أنفسهم؛ لأنهم مجرد أدوات صنمية تنفذ الأوامر فقط، ولا تعترض، إنهم آلات نمطية ومنتظمة وفق برنامج رأسمالي[18].

لقد ترتب على تلك الوضعية السابقة، أن جرد العامل من عاطفته وصفاته الإنسانية، أصبح ينظر إليه كآلة للإنتاج فقط. إنه السقوط في نزعة تغريب العامل عن ذاته، وذلك بعدم إدراكه لقيمته الإنتاجية وصفاته الإنسانية والآدمية، التي تميزه عن باقي الموجودات، واغترابه عن منتوج قوته الذي سلب قهرا وبتخطيط محكم من طرف الآلهة الرأسمالية الجديدة، واغترب أيضا عن الآخرين، فما عاد يدرك أنه ذات يجب أن تتفاعل مع ذاتها والغير، لحصول الإنتاج. إنه في وضعية الآلة التي وجدت داخل المصنع للإنتاج فقط. دون إخفاء أن النظام الرأسمالي يعيش أزمات خطيرة ومتوالية، حيث يعمد إلى ابتكار الحلول المناسبة، لكن، على حساب الإنسانية المعذبة، واليد العاملة المقهورة والمغلوبة على أمرها، إلى درجة أن النكوص الاقتصادي والسياسي والاجتماعي صار هو سيد الموقف، ومفتاح التقدم والتطور في الدولة الرأسمالية، تجسد ذلك واضحا في ثقافة السوق والتسليع وتشيء الإنسان، والأخطر من ذلك جعل الديمقراطية الرأسمالية وسيلة فعالة لإخفاء الماهية السوداوية والجهنمية للنظام الرأسمالي ومنحه المشروعية. وهكذا، (باسم الديمقراطية يتجذر الاستسلام الإرادي والقمع والمراقبة الذاتيين والتوظيف الواعي والمقصود لمختلف المؤسسات القانونية والتربوية والتعليمية ونهب الموارد الطبيعية. لذلك، يمكننا القول؛ إنه كلما تقدم السوق الرأسمالي وديمقراطيته عن شكل جديد من الحرية، كلما صاحب ذلك بشكل جديد من الاستسلام والخضوع والتشكيل والتضييع، أو قل أشكال جديدة من الاستلاب على مستوى الوجود والحقوق، حيث إن أي إصلاح للزيادة في النمو والتنمية هو إخفاء لخطوات إلى الوراء، حيث تقوم السوق والديموقراطية والرأسمالية بمس الحريات العامة وغزو الدول الضعيفة، وحماية الجشع الفاحش للأغنياء الذين دمروا المرافق والمؤسسات المالية)[19].

قلبت الدولة الرأسمالية المعادلة السياسية، وغيرت الوظيفة الإنتاجية للعامل، فعوض أن يكون العمل الإنتاجي مرآة مجلوة تعكس إنسانية الإنسان العامل، وتعبر عن قدرة العقل على تغيير الأشياء والتحكم فيها، صار العمل غاية في ذاته والعامل مجرد وسيلة، أصبح العمل الرأسمالي أداة قهر وتسلط وسلطة لجعل العامل يسقط في جميع أنواع الاغتراب، عن ذاته والآخرين وعمله، لم يعد منسجما مع ذاته، ومدركا لكينونته المتفردة، وإنما أصبح مجرد رقم، كتلة صماء منعزلة عن خصائصها وصفاتها الإنسانية، تلك بعض مخلفات وتجليات الدولة الرأسمالية المنتصرة للطبقة البرجوازية الجشعة، تجعل الإنسان العامل وسيلة لجني الربح وتوسيع الملكية. (إن البرجوازية [التي هي سمة الدولة الرأسمالية] في نظر ماركس، هي الناتج والفاعل والمستفيد، من بعض التحولات الكبرى التي نتيجتها جميعا، أن تعيد إلى ما لا نهاية الحدود التي كانت توقف قوة الإنسان الإنتاجية، مثل إزالة الأفق الجغرافي المحدود بفضل حركات الملاحة الكبيرة ونمو التجارة غير المحدود)[20].

ينتقد كارل ماركس، الدولة الرأسمالية نظرا لاستغلالها الذي يتبدى، في نظرية فائض القيمة، ومفادها، أن في النظام الرأسمالي، العمل يشترى كسلعة؛ بمعنى أن العامل يبيع عمله/ مجهوده/ منتوجه لصالح رأس المال، مقابل تكاليف ضروريات الحياة أو تحقيق الحد الأدنى منها، الذي يصطلح عليه بأجر الكفاف. فالرأسمالي يشتري العمل من العامل بقيمة معينة، ولكنه يحصل منها على ثمن يتجاوز الأجر بكثير، الذي يدفعه لكي يحصل على فرق السعر بين قيمة ما يحصل عليه، وما يدفعه للعامل كأجر. أضف إلى ذلك، أن التوسع الرأسمالي في استخدام الآلات أدت الى المنافسة، المؤذنة بزوال صغار الرأسماليين الذين تحولوا إلى عمال صغار في المشروعات الكبيرة فكثر العمال، وازدادت اليد العاملة وانخفضت الأجور، يفعلون ذلك خوفا من البطالة[21].

والأخطر من ذلك، أن الطبقات الرأسمالية في استغلالها تحالفت مع المؤسسات الدينية التي أصبحت هي الأخرى رأسمالية، حيث أصبح الدين وسيلة ناجعة لتعميق غربة الإنسان عن ذاته، ووجوده الطبيعي والاجتماعي، وذلك بتخديره روحيا وعاطفيا، وجعله مشدودا إلى عالم أخر موعود بالفردوس، عوض التفكير في القهر والاغتراب الذي يعانيه في حياته الدنيا، ومن ثمة عدم إحساس الناس بحياة إنسانية كريمة وكاملة؛ لأن تحقق ذلك يتطلب التحرر التام من جميع القيود وأشكال القهر والاستلاب والاغتراب[22]. فالتحالف الرأسمالي- الديني أفرز سلما جديدا للقيم والمعايير السياسية والإنتاجية، حيث (لا مكان لعدالة أبدا أمام عدالة الإله، ومثلما أنهم عبيد الإله، عليهم أن يكونوا كذلك عبيد الكنيسة وعبيد الدولة، طالما كانت الدولة مكرسة للكنيسة، هذا ما فهمته الديانة المسيحية أكثر من كل الديانات الأخرى الموجودة)[23].

إنه القهر المزدوج، قهر الدولة الرأسمالية المتمثل في جعل العمال أدوات مسخرة لخدمة مصالحها وامتيازاتها، وفي ذلك استبداد سياسي واقتصادي، وقهر ديني، بجعل العامل يقبل مصيره، وأنه عبد وجد لخدمة أسياده، فالدين يضفي المشروعية على سلطة الطبقة البرجوازية المتحكمة في أجهزة الدولة الرأسمالية، والنتيجة؛ ضياع قيمة العامل بسلب إنتاجه ومجهود عمله (فماذا تمثل الدولة [الرأسمالية]؟ إنها حصيلة نفي الحريات الفردية لجميع أعضائها، أو حصيلة التضحيات التي يقدمها أعضاؤها بتنازلهم عن قسم من حريتهم لصالح الخير المشترك...إذا؛ تنتهي الحرية الفردية حيث تبدأ الدولة، والعكس صحيح)[24]. فما هو البناء المؤسسي للدولة الرأسمالية؟

2- البناء السياسي للدولة الرأسمالية

يعتبر كارل ماركس، والماركسية، أن النظام الرأسمالي المميز للدولة الرأسمالية البرجوازية، يتسم بالاستغلال والاضطهاد؛ فالدولة وفق النظام الرأسمالي، ما هي إلا تنظيم سياسي معبر عن نفوذ وسيطرة وتحكم الطبقة البرجوازية في الاقتصاد. إنها أداة أساسية في يد الطبقة المسيطرة للحفاظ على امتيازاتها ومصالحها وملكيتها الخاصة (أرض/ وسائل الإنتاج/ قوى الإنتاج/ يد عاملة..). فما يسمى بالدولة الديموقراطية البرجوازية، ما هي إلا مؤسسة أو جهاز سياسي برجوازي مهمته مساعدة الطبقة الرأسمالية البرجوازية لتثبيت سيطرتها وتوطيد سطوتها على المجتمع؛ وذلك بإخضاع الطبقة البروليتارية، بغية استغلالها لتحقيق الحاجات الرأسمالية. ووفق بناء مؤسساتي محكم. يعبر عن ذلك كارل ماركس بقوله: (في حقبة الاقتصاد الرأسمالي لم يعد يبقى غير طبقتين حقيقيتين: البرجوازية والبروليتاريا. حقا، تبقى فئات اجتماعي أخرى، مثل: طبقة النبلاء الاقطاعية والطبقة الفلاحية والطبقات الوسطى والحرفيين، وطبقة ما تحت البروليتاريا)[25].

البناء المؤسساتي للدولة الرأسمالية، ينبني على الإنتاج والتحكم في تقسيم العمل الاجتماعي، فكل نقد للدولة الرأسمالية يتطلب حضور مجموعة من المفاهيم السياسية والاقتصادية، كالسيطرة والصراع الطبقي والاستغلال، وعلاقة ذلك، بعلاقات الإنتاج وقوى الإنتاج ونمط الإنتاج؛ لأن مشكل الدولة الرأسمالية يتمثل في أن الصراعات الطبقية، وخاصة ما يتعلق بالطبقة الأقوى، أنها تتدخل بكيفية حاسمة في تقسيم العمل وتحديده، ليتماشى مع التشكيلات الاجتماعية الرأسمالية، فهي دولة تتدخل في وعي الأفراد، بجعلهم أدوات لتحقيق الإنتاج والربح، عبر مختلف أطوارها ومراحلها التاريخية، دولة ليبرالية، دولة تدخلية، دولة رهينة استبداد الطبقة البرجوازية[26].

ومن المفارقات الكبرى في الدولة الرأسمالية، أن الطبقة العاملة، تشكل الأغلبية الساحقة مقارنة مع الطبقة المحتكرة للاقتصاد والسياسية، لكن، البرجوازية هي التي تلعب الدور الرئيسي، اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا؛ لأنها تمتلك جميع وسائل الإنتاج، والأكثر من ذلك، أنها تسيطر على سلطة الدولة وتتحكم في أجهزتها عبر جملة من الوسائط والوسائل، كالتأثير الأيديولوجي، والاستحواذ على الإنتاج الاقتصادي، وهو ما يجعل الدولة الرأسمالية تتخذ ثلاثة ملامح كبرى: الاقتصاد الذي هو العمود الفقري، والسياسة التابعة للاقتصاد، والايديولوجيا للتأثير في النفوس والعقول. إن الدولة الرأسمالية تجعل من قانون القهر والسيطرة أداتين للتحكم والتطور، وهي القضية التي تجعل الشعوب المقهورة، والمجتمعات المستغلة، تعاني أشد المعاناة، وتسعى إلى التحرر من ظلم الرأسمالية، إلى درجة أن المجتمعات الواقعة تحت نير الدول الرأسمالية، صارت تبحث عن الوسائل الفعالة للانفلات من استبداد الرأسمالية؛ لأن أحد أسباب المشاكل الأساسية للتطور الاجتماعي، مرتبط بالفعلين السياسي والاقتصادي للدولة الرأسمالية، المؤسسين على الاضطهاد[27].

الرأسمالية هي الاضطهاد، والقهر والاستلاب، لأنها حفيدة الإمبريالية، حيث أصبح العالم في يد حفنة من الدول الرأسمالية الحاكمة سياسيا والمتحكمة اقتصاديا، والمسيطرة جغرافيا. فداخليا، متحكمة في المجتمع، وخارجيا، باضطهاد الدول الأخرى. (الرأسمالية سهلت في مرحلتها الأولى عملية تحرر الشعوب من النير الاقطاعي، ومن قبضة الكنيسة، أصبحت بدخولها المرحلة الامبريالية القامع الشرس لحرية الأمم والشعوب، وتغير جوهر القضية والقومية، واتسع مداها كثيرا، فتحولت إلى قضية داخلية في الدولة إلى مشكلة عالمية، تؤثر على مصائر ملايين من الشعوب على نطاق العالم بأسره)[28].

المحور الثالث: مآل الدولة الرأسمالية

تنبني الماركسية على قانون الأضداد والصراع والنفي، ونفي النفي، الذي سينقل من مجال دراسة حركة المادة وتطبيقه إلى حركة الواقع السياسي والاجتماعي، وتفكيك مختلف الأنظمة السياسية التي عرفتها البشرية، فالتناقض أساس الوجود والطبيعة والحركة والتاريخ، حيث لا يمكن للأشياء أن تتطور وتتقدم بدون عنصر الصراع الذي هو محرك التاريخ؛ فالتناقض موجود في ثنايا الكائن أو الشيء أو الموضوع، حيث إن هناك أجزاء تموت وأخرى يبزغ فجر وجودها، يعني أن صراع الأضداد، هو القوة الدافعة للتغيير، فحبة القمح مثلا التي تم زرعها في الأرض، تنمو وتتحول إلى شجرة تنتفي كحبة، فالنفي هنا، يعقب الإثبات بالضرورة، وبه تتم حركة التطور والانتقال، ونفس الشيء بالنسبة إلى الحياة الاجتماعية والسياسية، فتاريخ البشر الإنتاجي، تاريخ نفي الأنظمة الاستغلالية وميلاد أخرى أشد استغلالا، فمن رحم كل نظام يتولد نظام أخر جديد، وصولا إلى النظام الرأسمالي الذي هو أخر نظام متناقض واستغلالي، وطبقي، ومعه ستدخل الطبقة البروليتارية في صراع مع الطبقة المحتكرة والمستغلة للاقتصاد، لميلاد مجتمع بدون طبقات، بمعنى ميلاد نظام ومجتمع وتاريخ جديد. إنه قانون نفي النفي، والأضداد/ الصراع الطبقي، موجودة في المجتمع، ونتيجة لعلاقات الاستغلال والاضطهاد تدخل العناصر/ الطبقات في صراع ضروري وحتمي إلى درجة أن التاريخ لا يتقدم إلا عن طريق الصراع الطبقي، فهذا الأخير أساسي في حركة الأشياء، وبالتالي فهو ضروري لفهم كيف تتشكل أنظمة معينة وتختفي أخرى[29].

الصراع الطبقي، قانون وضرورة حتمية لتطور المجتمع، وهو موضوعي ومستقل عن الوعي الإنساني، وبفهمه تفتح آفاق جديدة لإسعاد الطبقة العاملة، والخروج من عنق زجاجة الدولة الرأسمالية؛ ذلك هو التفسير المادي الجدلي للمجتمع والتاريخ والدولة، فالمجتمع بمختلف نظمه التي تعاقبت عليه، خاضع لقانون التطور، ومحدود بطرق الإنتاج المادي كضرورة مادية لا محيد عنها، فالعمل الإنساني والإنتاج عنصران لفهم الأنظمة[30].

وبالتالي، إن تجاوز ونفي الدولة الرأسمالية، يتم بتجاوز نمط الإنتاج الرأسمالي وتعويضه بالدولة الاشتراكية، في أفق تحقق الشيوعية، حيث يصير النظام مبنيا على الملكية العامة لوسائل الإنتاج، والقطع مع استغلال فئة أو طبقة لأكثرية عامة، هذه الملكية قد تتخذ شكل ملكية الدولة، وذلك بتحريرها من يد الطبقة المسيطرة على الإنتاج والاقتصاد خاصة بعد تحقق الثورة الصناعية وازدياد أعداد العمال، علما أن النظرية الاشتراكية فلسفة اجتماعية لها جذور تاريخية منذ العصر اليوناني إلى الحقبة الحديثة، حيث برهنت مجموعة من النظريات السياسية على عيوب ومساوئ تقسيم المجتمع إلى أغنياء وفقراء، وفي ذلك تهديد لأسس العدالة والمساواة والحرية، فتحقق الاشتراكية كنظرية اجتماعية وسياسية يتطلب تكوين طبقة منظمة من العمال[31].

 

الهوامش:

[1] ليو شتراوس، وجوزيف كروبسي، تاريخ الفلسفة السياسية، الجزء الثاني، من جون لوك على مارتن هايدغر، ترجمة محمود سيد أحمد، مراجعة إمام عبد الفتاح إمام، (الناشر، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة الطبعة الأولى)، 2005، ص، 468

[2] كارل ماركس، بِؤس الفلسفة، ترجمة، أندريه يازجي، دار اليقظة العربية، ودار مكتبة الحياة، بيروت، لبنان، د ط، ص، 112

[3] روزنتال ويودين، الموسوعة الفلسفية، ترجمة سمير كرم، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى، 1981، ص، 434

[4] نفسه، ص، 467

[5] مصدر نفسه، ص، 468

[6] هيغل، أصول فلسفة الحق، ترجمة، إمام عبد الفتاح إمام، مكتبة مدبولي، القاهرة، د ط، ص. 497 - 498. (بتصرف).

[7] ليو شتراوس وجوزيف كروبسي، الفلسفة السياسية، ص، 468

[8] كارل ماركس وفريديريك انجلز، الأيديولوجيا الألمانية، ترجمة، جورج طرابيشي، (دار دمشق للطباعة والنشر، الطبعة الثانية، 1966)، ص، 70

[9] ليو شتراوس وجوزيف كروبسي، الفلسفة السياسية، ص، 475

[10] إيفانا سييف، أسس المعارف الفلسفية، ترجمة، دار التقدم، موسكو، 1979، (بدون طبعة)، ص، 289 - 992

[11] مصدر نفسه، ص، 299

[12] ليو شتراوس وجوزيف كروبسي، تاريخ الفلسفة السياسية، ص، 472

[13] F. Engels, l’origine de la famille, trad. Stern, éd. Sociales, paris, 1983, pp.281-286

[14] F. Engels, ibid., p. 286

[15] ليو شتراوس وجوزيف كروبسي، تاريخ الفلسفة السياسية، ص، 469

[16] ليو شتراوس وجوزيف كروبسي، تاريخ الفلسفة السياسية، ص، 470

[17] مصدر نفسه، والصفحة نفسها.

[18] محمد وقيع الله أحمد، مدخل إلى الفلسفة السياسية. (دار الفكر، دمشق، الطبعة الأولى 2010)، ص، 200

[19] محمد بوجنال، السياسة، السوق، الديموقراطية، (منشورات إفريقيا الشرق، بدون طبعة، 2012)، ص، 9

[20] جون توشار، تاريخ الأفكار السياسية، المجلد الثاني (من عصر النهضة إلى عصر الأنوار)، ترجمة ناجي الدراوشة، (دار التكوين للتأليف والنشر، الطبعة الأولى 2010)، ص، 836

[21] أميرة حلمي مطر، الفلسفة السياسية، (من أفلاطون إلى ماركس)، دار المعارف، الطبعة الخامسة، 1995. القاهرة. ص، 111

[22] محمد وقيع الله أحمد، مدخل إلى الفلسفة السياسية. ص، 203

[23] ميخائيل باكونين، الإله والدولة، تعريب، جلال المخ، (دار المعارف للطباعة والنشر)، (د.ت)، تونس، ص، 34

[24] ميخائيل باكونين، الأعمال الكاملة، عن كتاب الوافي في الفلسفة، دار الفكر اللبناني، بيروت، 2000، د ط. ص، 236

[25] جون توشار، تاريخ الأفكار السياسية، ص، 835

[26] نيكولاس بولانتزاس، نظرية الدولة، ترجمة مشيل كيلو، (التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت)، الطبعة الثانية، ص، 123. (بتصرف).

[27] إيفانا سييف، أسس المعارف الفلسفية، ص، 283

[28] مصدر نفسه، ص، 284

[29] أميرة حلمي مطر، الفلسفة السياسية، ص، 108

[30] مصدر نفسه، ص، 109

[31] مصدر نفسه، ص، 105