الهويّات العرقيّة والدينيّة: بين "نسق الثبات"، و"نسق التحوّل"


فئة :  مقالات

الهويّات العرقيّة والدينيّة: بين "نسق الثبات"، و"نسق التحوّل"

1. الطرفيّة والمركزيّة:

في مجتمع يتكوّن من "هويّة مركزيّة" وأخرى "طرفيّة هامشيّة"، يكون البقاء على "الهامش والطرف" شرطاً متخيّلاً مُهيمناً لتحقيق "الهويّة الذاتيّة" وتحقّق "الذات" الفارقة عن الآخر، الحافظة لـ"الأصل" الممتدّ الذي تستمدّ "الهويّة الفرعيّة الهامشيّة" مكوناتها منه.

وحين يحاول أحد أفراد الجماعة ذات "الهويّة الطرفيّة الهامشيّة" الاندماج مع "الهويّة المركزيّة"، فينتقل من "الأطراف" إلى "المركز"، فإنّه يواجه بتحديات من فئتين: جماعته التي تركها في الأطراف، والجماعة ذات الهويّة المركزيّة.

أمّا من جماعته التي بقيت في الأطراف رافضةً الاندماج فإنّها تبدأ بالضغط على هذا "المرتحل" من "الأطراف" إلى "المركز" كي يعبّر عن "هويّته الطرفيّة الهامشيّة" علناً وبوضوح، وإلا فإنّ الخزي والعار سيلحقه، ثمّ "النفي" عن "الهويّة الطرفيّة الهامشيّة".

هذا الضغط يسعى لتأكيد مبدأين لا تستطيع "الهويّة الطرفيّة" المحافظة على نفسها إلا بهما، وهما:

1. أنّ اندماج الهويّة الطرفيّة بالهويّة المركزيّة مستحيل؛ فالهويّة معطىً ثابت لا يتغيّر.

2. بما أنّ "الهويّة" أمر لا يُمكن تغييره فلا بدّ أن يفخر كلٌّ بهويّته، ثمّ يعمل لصالح جماعته.

تشتغل هذه المبادئ أكثر ما تشتغل حين تكون "الهويّة" مرتبطة بمكوّن "قدري جبري" لا خيار فيه نظريّاً وواقعيّاً، كالهويّة العرقيّة، فالمرء لا يُمكنه أن يغيّر أمه وأباه، فالعرق "قدر" ليس يقبل التغيير، فلا بدّ من "الفخر به" والعمل لصالح الجماعة المنضوية تحته.

وحين تكون "الهويّة" مرتبطة بـ"الاختيار" ولو نظريّاً كالدين والمذهب والاتجاه السياسيّ الفكريّ، فإنّ هذين المبدأين يسقطان نظريّاً، فالإنسان يُمكن أن يغيّر دينه ومذهبه واتجاهه السياسيّ الفكري. لكن الواقع يشهد أنّ هذه "الهويّات" لا تقلّ عن "الهويّة القدريّة" تمسكاً بهذين المبدأين والامتثال لمقتضياتهما، فتغيير "الدين" يواجه تحديات هائلة دينياً ومجتمعيّاً وسياسيّاً، فالانتقال من الأديان هو "ردّة" من وجهة نظر أهل الهويّة الدينيّة المنتقل منها.

وهنا يظهر "التناقض" في مبادئ "الهويّات عموماً والدينيّة خصوصاً"، فانتقال "الآخر" إلى "هويّتنا الدينيّة" هو أمر محمود مشكور، بل هو غرض يجب السعي إليه عند الأديان الدعويّة التبشيريّة، لذلك نطالب بصوت مرتفع أن يحترم أصحاب الهويّات الدينيّة الأخرى حقّ أفراد منهم بالتحوّل إلى "هويّتنا الدينيّة". لكننا نواجه بغضب شديد وبطش أشدّ محاولة "أبناء الهويّات الدينيّة" الأخرى تحويل أفراد هويّتنا إلى هويّتهم!

إنّ غياب الوعي بديناميكيّة "التحولات الهويّاتيّة" بين المركز والطرف تجعل الخطاب الهويّاتي مغالطاً متناقضاً؛ فهو يسعى حين يكون "مركزيّاً" إلى اندماج الأطراف فيه، واندياح الهويّات الفرعيّة في بوتقة الهويّة المركزيّة، منطلقاً من حقّ الهويّة الأكثريّة المركزيّة بفرض هويّتها على الحيّز الجغرافيّ والثقافي الذي تسيطر عليه. ولكنه حين يكون "طرفيّاً" فإنّه يسعى إلى تأسيس مبادئ احترام الأقليات والأطراف وهويّاتها الخاصة الفارقة عبر رفض الاندماج والحرص على المسافة بين محيط الدائرة ومركزها.

ولعلّ هذا التناقض يقلّ ظاهريّاً في حالتين: الأولى: غياب الهويّة المركزيّة الغالبة، فيصير النسق المجتمعي مكوّناً من هويّات فرعيّة لا تملك أيّ منها الهيمنة على غيرها، وفي الوقت نفسه لا تملك أيّ هويّة القدرة على إقصاء الأخرى، فيتحقّق نوع من توازن الضعف يجعل "العيش المشترك" خياراً ضروريّاً. والثانية: حين تكون السلطة السياسيّة بيد أفراد إحدى الهويّات الفرعيّة، حينها يصبح الانتقال إلى هويّة جامعة وطنيّة مثلاً، أو القبول بمبدأ التعدديّة الهويّاتيّة واحترام جميع الهويّات بغض النّظر عن الأغلبيّة والأقليّة خياراً فاعلاً لتحافظ "الأقليّة الحاكمة" على سلطتها باعتبارها تنتمي للهويّة الجامعة الناشئة، أو تنتمي لهويّة فرعيّة لا تستند إلى هويّتها في شرعيّة سلطتها.

والناظر في تاريخنا وواقعنا يلحظ أنّ الأزمنة التي ظهرت فيها إرهاصات إطارات إنسانويّة جامعة تتجاوز ولو بشكل جزئيّ التطرّفات الانتمائيّة للهويّات الدينيّة والعرقيّة، كانت أزمنة شهدت حكمَ فئات تنتمي لأقليّات دينيّة أو مذهبيّة أو عرقيّة تخالف انتماءات غالبية الشعوب المحكومة، فلم يكن من اليسير على هذه الفئات الحاكمة أن تؤسّس شرعيّتها السياسيّة والاجتماعيّة على الانتماء المذهبيّ والعرقيّ وحدهما، لأنّ هذا التأسيس سيصادم الانتماء الأغلبي، ولم يكن من اليسير أيضاً تحويل الأغلبيّة إلى الهويّة الفرعيّة التي تنتمي إليها الفئة الحاكمة، لذلك لجأت هذه الفئات الحاكمة إلى آليات متوازية تعمل على:

1. تحويل انتماء الفئة الحاكمة إلى انتماء لعائلة تتمتع في المخيال الشعبيّ المسلم بقابليّة "السيادة"، لذلك حاولت أغلب الفئات الحاكمة الانتساب إلى العائلة النبويّة عبر البوابة العلويّة والفاطميّة، واستعانت لتحقيق ذلك بأساطير وأخبار وشهادات من هنا وهناك، حتى لو كانت العائلة أعجميّة العرق كانت تختلق حكاية تفسّر أصل انتمائها إلى البيت العلويّ أو الفاطميّ أو القرشيّ على الأقلّ، لتسوّغ بذلك مشروعيّة حكمها وسلطتها.

2. الانفتاح على الهويّات الأوسع اقتراباً من الهويّة الحضاريّة والإنسانيّة الجامعة، لما لهذا التوسّع من تخفيف في حدّة السؤال الهويّاتيّ الذي قد يُشكّل مأزقاً لهويّة الفئة الحاكمة الفرعيّة. لذلك كانت "العروبة" في مطلع القرن العشرين إطاراً هويّاتيّاً أرحب وأوسع من الإطار المذهبيّ يحقّق لمجموعات الهويّات الفرعيّة الدينيّة والمذهبيّة مساحات حضور أرحب.

أمّا في ظلّ هيمنة ثنائيّة المركز/الطرف وغياب "الهويّة الحقيقيّة الجوهريّة" فتصبح السمات الخارجيّة المائزة جزءاً أصيلاً من الهويّة الطرفيّة الهامشيّة، ومتى وفّرت "الوراثة الجينيّة" لهذه الفئة سمات مائزة مثل لون البشرة والعينين والشكل، فإنّ هذه السمات البيولوجيّة تصبح سمات هويّاتيّة تساهم في رسم "الصورة النمطيّة" للمنتمي إلى "الهويّة الطرفيّة"، ومتى أمست هذه الفروق الشكليّة البيولوجيّة ضحلة ولم تعد تحقّق التمايز الشكلي، تتجه هذه "الهويّات" الطرفيّة إلى اتخاذ ملامح "انفصاليّة" تُستمد من اللباس والهيئة الخارجيّة ووضع الشعارات والحلي المائزة. والملاحظ أنّه كلما قلّت الصفات المائزة الثقافيّة والطبيعيّة كثرت في المقابل الصفات الشكليّة الاستدعائيّة الانفصاليّة.

2. الآباء المؤسّسون والنقاء الهويّاتي:

على الرغم من إيمان أغلب أبناء "الهويّات العرقيّة والدينيّة" بـ"الأصل الواحد المشترك" للجنس البشريّ، أي الأبوين آدم وحواء، إلا أنّهم يتجاوزون هذا الأصل الجامع نحو الأصل الفارق، فيبحثون عن "الأب المؤسّس" عرقيّاً ودينيّاً.

في هذا البحث عن "الأب المؤسّس/ الأصل الفارق" عرقيّاً تكمن مغالطة تنسف الأصل من أساسه، وهي أنّ هذا الأب المؤسّس هو بالضرورة ابن لأب سابق، وبما أنّ الهويّة في مبدئها الأول تقوم على "ثبات الهويّة" فإنّ هويّة الأب المؤسّس هي بالضرورة هويّة أبيه وجده حتى نصل إلى الجد الأول، وهو الأصل الجامع.

إنّ هذه النظرة "السكونيّة" التأصيليّة التأثيليّة للهويّة العرقيّة تؤكّد أنّ "الهويّة العرقيّة الفارقة" ليست أكثر من أسطورة أنتجتها تبدلات "الطرف والمركز" في المسيرة التاريخيّة لـ"جماعة ما"، ولو أزاح هؤلاء "المتعصّبون لهويّتهم العرقيّة" الحجب عن بصائرهم لأدركوا أنّ "الهويّة" مفهوم متحرّك سيوليّ متغيّر، أسهمت في تشكيله المتحوّل عوامل وروافد كثيرة جداً يصعب حصرها في منظور من "النقاء العرقيّ".

لكن الاعتراف بتحوّلات الهويّة وسيولتها يُفقد الوظيفة الهيرمينوطيقيّة للهويّة؛ فالهويّة لا تتشكّل بوصفها "حقيقة خارجيّة" يُمكن فهمها وإدراكها دون وسيط "الرمز" وتجليّاته لغة وثقافة واتجاهاتٍ، وهنا يأتي دور "اللغة والثقافة الفارقة" الكبير والخطير في تأكيد تفرّد الهويّة وعمق امتدادها التاريخيّ. فالهويّة عمليّة تأويليّة للنسقين اللغوي والثقافي المائزين، لذلك يصحب غرض "الحفاظ على اللغة" غرضاً هوياتيّاً بالضرورة، ويمسي الإحساس بالتفوّق اللغويّ ضرورة تأويليّة لتأكيد التفوّق العرقيّ.

هكذا وفي عمليّة تضخّم في الأنساق الرمزيّة المائزة، تتحوّل العادات والطعام واللباس إلى "مكونات نسقيّة للهويّة" لا تكون "الهويّة" إلا بها، تصاحبها عمليات انتزاع سياقيّ متوالية تنتزع هذه الممارسات اللغويّة والعاداتيّة والطعاميّة واللباسيّة من سياق نشأتها، وعوامل تكوينها البيئية والتاريخيّة.

أمّا "الهويّة الدينيّة" فعلى الرغم من كونها تنطلق نظريّاً من "الاختيار"، إلا أنّها تنقلب على هذا "الاختيار" تأسيساً وممارسة، فمن التأسيس النظريّ، فإنّ الأديان السماوية مثلاً تنتسب جميعاً لأب مؤسّس معلوم، هو النبي الذي تنتسب إليه الأديان، لكن هيمنة النزوع نحو "الصواب الثابت" في المنظور الديني يتجاوز اتجاه الثبات المابعدي – أي بعد أنبياء التأسيس – إلى الثبات الماقبليّ، فيصير كلّ دين هو "الصورة النقيّة الصحيحة" لما كان عليه جميع الأنبياء السابقين، ثمّ تنتقل لنفي بنوة الفرع غير المنسجم مع الأب المؤسّس، فلا شرعيّة لآباء الآخرين المتأخّرين عن الأب المؤسّس.

هكذا تتحوّل "الهويّة الدينيّة" إلى هويّة فارقة مائزة، على الرغم من ادعائها جميعاً النسبة إلى "الأصل النقي القديم". ولأجل إغلاق "الهويّة الدينيّة" تحقيقاً لأغراضها الهيرمينوطيقيّة، يُصبح "ترك الهويّة الدينيّة" فعلاً ضلاليّاً ارتداديّاً، فالاختياريّة في الهويّة الدينيّة هي باتجاه واحد: الدخول في هويّتنا الدينيّة.

إنّ الهويّة الفارقة تتميّز بسمة تفكّكيّة تذريّة كبيرة، فهي عرقيّة كانت أم دينيّة لا تقف عند حدّ أو دائرة هوياتيّة جامعة لأفرادها، بل تميل بمكوناتها وممارساتها إلى إحداث هويّات فرعيّة متتاليّة، فتصبح "القبليات" و"العشائريّات" هويّات طرفيّة تسعى للتمركز في البؤرة الهويّاتيّة، فلا يكفي أن تكون عربيّاً مثلاً، حتى تظهر هويّات فرعيّة من عدنانيّة وقحطانيّة، وهذه الهويّات الفرعيّة لا تلبث أن تصير مركزاً لهويّات فرعيّة تالية. والأمر في الهويّة الدينيّة كذلك، فلا يكفي الانتماء لدين لتحقيق الكفاية الهويّاتيّة، بل لا بدّ من الانتماء إلى مذهب من مذاهب هذا الدين، ثمّ الانتماء لفهم معيّن في هذا المذهب، فتصبح الانتماءات الدينيّة محكومة بالهويّات الفرعيّة المتوالية التفرُّع أكثر من احتكامها للهويّة الدينيّة الكبرى.

إنّ هيمنة أسطورتي "النقاء الهويّاتي" و"الجبر العرقيّ"، وتنحية حقيقة "الاختيار الدينيّ" جعلت من الهويّتين العرقيّة والدينيّة حُجباً وجدراً تحجب الإنسان عن حقيقته الإنسانيّة، فالعرق وصف فرعيّ لا ينبغي أن ينفي الأصل الواحد المشترك للإنسانيّة، والدين اختيار لا ينبغي أن يتحوّل إلى جبريّة قدريّة تفصل إنساناً عن إنسان بما هو في الأصل موضوع للاختيار والاختبار.

لقد كان انتقال الإنسان من الموجوديّة إلى الوجوديّة أو من الوجود إلى الكينونة بسبب مزيّة الإنسان عن غيره: العقل والوعي وتجليّاتهما اللغويّة والثقافيّة. وعلى الرغم ممّا يبدو عليه هذا الانتقال من فضيلة وكرامة إنسانيّة جعلته سيّد الكائنات بوعيه، لكن الأمر في الوقت نفسه كان سبباً لمآزق الإنسان، وبين الارتقاء بالإنسان إلى إنسانيّة تجعل خصائصه المائزة عقلاً ووعياً ولغة وثقافة "فضائل إنسانيّة" من جهة، والانحدار بالإنسان إلى ما دون حيوانيّة تجعل خصائصه المائزة "رذائل لا إنسانيّة" يكمن صراع الإنسان مع الإنسان فيه وما يحمله من مزايا تفضيليّة.

إنّ الهويّة العرقيّة والمذهبيّة وجغرافيا الوجود الإنسانيّ ليست معطيات ثابتة عابرة للزمان والمكان، بل هي متحوّلة مرتحلة منقلبة، ولكن المنتمين إلى هويّة ما يحاولون في سياق وجودهم الآني إكساب هويّتهم نسقاً ثبوتيّاً قاهراً للزمان والمكان عبر عمليّات تأويل التاريخ والجغرافيا والسياسة تأويلاً وظيفيّاً يقفز على التحوّلات، أو يختلق الأساطير ويُعيد كتابة التاريخ لتبدو حكايته وادّعاؤه بالأحقيّة التاريخيّة والجغرافيّة متّسقة ومنسجمة.

وفي الصراع العربيّ "الإسرائيليّ" نموذج لهذا التدافع الأسطوريّ والتاريخيّ والجغرافيّ، ففي الوقت الذي لا تنتمي غالبيّة اليهود اليوم إلى عرق خالص نقيّ هو عرق بني "إسرائيل" وسلالته، بل تكاد تكون السلالة "الإسرائيليّة" أسطورة مختلقة، فإنّ الدعاية الصهيونيّة منذ تأسيسها تؤكّد هذا الثبات الهويّاتيّ والحقّ الجغرافيّ في فلسطين بوصفها الحيّز المكانيّ لأسطورتها التاريخيّة.

وممّا أكسب هذه الأساطير قوّة أنّ الخطاب الإسلاميّ القديم والحديث تبنّى "السرديّة اليهوديّة التوراتيّة" لحكاية الوجود اليهوديّ والعرق الإسرائيليّ، فتجد كثيراً من المفكّرين والمشايخ يحلّلون شخصيّة "اليهوديّ" المحتلّ لفلسطين في القرن العشرين والقرن الواحد والعشرين بوصفها امتداداً لشخصيّة اليهوديّ القديم منذ زمن يعقوب ويوسف وموسى وداود وسليمان! وكأنّ الهويّة "الإسرائيليّة اليهوديّة" هويّة عابرة للزمان والمكان، ثابتة لم تتغير!

ومن المفارقات أن تجد بعض المفكّرين العرب يفرحون بتفكيك السرديّة التوراتيّة التي قام بها علماء التاريخ والأركيولوجيا ونقّاد الكتاب المقدّس في الغرب، دون أن ينتبهوا إلى أنّ تفكيك السرديّة التوراتيّة هو تفكيك للسرديّة القرآنيّة والإسلاميّة الشائعة والسائدة أيضاً.

لذلك ينبغي أن يوازي النقدَ التوراتيّ نقدٌ للسرديّة الإسلاميّة، وإعادة تشكيل للسرديّة القرآنيّة تستفيد من سمة "السيولة التاريخيّة والجغرافيّة" في السرديّة القصصيّة القرآنيّة، ممّا يجعلها سرديات سائلة عائمة تقترب من الحكايات والقصص الرمزيّة بقدر ابتعادها عن السرديّة التاريخيّة.

وفي صراع الانتماءات المذهبيّة داخل الحيّز الإسلاميّ أمثلة كثيرة لنسق التحوّلات، وتحوّلات أنساق الهويّة، فقبل ألف عام كان الصراع "السنّي الشيعيّ" معكوس الاتجاه؛ "المدّ الشيعيّ الفاطميّ" القادم من غرب العالم الإسلامي، والمدّ "السلجوقيّ" المنضوي تحت لواء "الخلافة العباسيّة" القادم من الشرق، وكانت بلاد الشام والعراق والجزيرة العربيّة منطقة التماس، ممّا يعني أنّ "الهويّات المذهبيّة" قابلة للتحوّل والانقلاب، وفي "الصفويين" المتحوّلين من "سنة شافعية صوفيّة" إلى "شيعة إماميّة" شاهد آخر لذلك.

يُمكن أن تكون الانتماءات الفرعيّة عرقيّاً ومذهبيّاً مظاهر غنىً وإغناء للانتماء الأصليّ الجامع وهو الانتماء للإنسان، ويُمكن أن تكون أيضاً إقصاءً وتضييعاً وتضييقاً لهذا الانتماء الأصليّ. والاختيار بين هذين الممكنين هو نتاج الوعي الحضاريّ والتدافع المصالحيّ السياسيّ والاقتصاديّ والثقافيّ المهيمن عبر نماذج الوعي وأنساق الفكر والسياق الطبيعيّ الذي تعيشه تلك الهويّات والجماعات، ورهان المثقّفين والمفكّرين الواجب هو ترجيح الخيار الأوّل ما كان السبيل إلى ذلك ممكناً.