التطرّف الديني في السّينما المصرية أين القضية من الإرهاب؟


فئة :  مقالات

التطرّف الديني في السّينما المصرية  أين القضية من الإرهاب؟

التطرّف الديني في السّينما المصرية[1]

أين القضية من الإرهاب؟

عانى المجتمع المصري من ظاهرة الإرهاب، خصوصا منذ بداية الثمانينيات وخلال التسعينيات، حيث كان ذلك الطوفان الأسود في أوج عنفوانه، بينما كانت الدولة تتعامل معه باستهانة، وربما بخوف. كان الأمر نتاج سياسة الرئيس السابق أنور السادات، عندما أطلق يد الإخوان المسلمين كي يستخدمهم لمحاربة المد اليساري في مصر، أطلق سراحهم وترك أمامهم المنابر في أرجاء المجتمع، بدءا من غرف الدراسة بالجامعات، إلى أن انقلب السحر على الساحر، فكانت نهاية السادات على أيدي المتطرفين الإسلاميين، الذين اتجهوا لمهاجمة المرأة والفن وفي مقدمتها خشبات المسرح، حتى اشتهرت فترة الثمانينيات بالجنازير التي كان يستخدمها هؤلاء المتطرفون، ثم تحولوا في التسعينيات إلى اغتيال الشخصيات المفكرة والمبدعة، فكانت محاولة قتل أديب نوبل نجيب محفوظ، وتم اغتيال فرج فودة بالفعل، إلى جانب اغتيال عدد من المسؤولين ورموز السلطة، ومنهم رئيس الوزراء، ووزير الداخلية، ورئيس مجلس الشعب، وبعض كبار الكتاب والصحفيين، ووضع كثير من الكتاب تحت الحراسة المشددة، بينما قرر البعض الآخر الهروب إلى الخارج.

كانت السينما خلال تلك الفترة تتعامل بحذر، وربما الأدق بخوف وفزع؛ فالمد الديني بدأ يتغلغل في المجتمع، حتى كانت الرقيبة نفسها متدينة وتخدم أهداف هذه الجماعات المتطرفة حتى وإن بدون قصد.[2] فحتى من تجرأ وفكر في معالجة تلك القضية لم يجد منتجاً يتحلى بالشجاعة كما حدث مع فيلم "سيد الرفاعي" الذي كتب له السيناريو عبد الحي أديب. أما مَنْ نجح في الإنتاج، فإما اضطر لتبديل بعض ملامح الشخصيات - وبدلوا الجلابيب البيضاء بالبدل - كما حدث في فيلم "بيت القاضي" حتى لا يدخلوا في صراع مباشر مع تلك الجماعة، بينما لم يجد البعض دور سينما أو موزعا يسمح له بعرض فيلمه، خوفا على تحطيم دور العرض أو حرقها من قبل الإرهابيين والمتطرفين دينياً، كما حدث مع فيلم "الملائكة لا تسكن الأرض" للمخرج سعد عرفة. فقد "أدخل منظرو هذه الجماعات ورجال الدين الفن عموما، والسينما بشكل خاص في مجال التحريم، وتجريم صنّاعها، وتبارى أثرياء هذه الجماعات على إغراء بعض الفنانات بالاعتزال وارتداء الحجاب، وإعلان توبتهم، في إدانة لتاريخهن، ولتحقير زميلاتهن، وزملائهن، وصاحب ذلك الهجوم على دور العرض، وحرق نوادي الفيديو، وتلطيخ ملصقات الأفلام بالأسود، مما أصاب الفنانين بالفزع نتيجة التهديدات المتكررة بالتصفية الجسدية، وخطابات الاستتابة، وتحذيرهم من الاقتراب في أعمالهم من تلك الجماعات أو محاولة كشفهم وتعريتهم أمام الجمهور".[3]

تحديد المفاهيم

ربما ما سبق يُفسر تأخر معالجة قضايا الإرهاب في السينما المصرية، وحتى عندما حدث ذلك، كانت تلك المحاولات تلتف حول مظهر الجماعات المتطرفة وأهدافهم، وإن كان هذا لا ينفي ضعف مستوى بعض تلك الأفلام فنيا وفكريا بغض النظر عن تلك المخاوف، لأنني على قناعة أن الرقابة بجميع أشكالها تجعل المبدع متأجج الذهن، قادرا على التفكير والبحث عن صور بلاغية، وتوظيف استعارات ورموز دلالية تتخطى أسوار الخوف. وسوف، نحاول في السطور التالية رصد عدد من الأفلام تناولت تلك الظاهرة، باحثين عن قضية تلك الجماعات وموقعها من الإرهاب، لكن بداية لا بد من تحديد بعض المفاهيم.

ما أقصده بـ "التطرف الديني" هو التحيز إلى حد التعصب، وتجاوز حد الاعتدال، ومنه الغلو بمعنى أن تتجاوز الحد وتُفرط فيه؛ أي تبالغ فيه.[4] فالغلو هو تجاوز الحد الشرعي بالزيادة[5]، وهو حرام شرعا ونتذكر قول الله تعالى: "لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ"[6]؛ فهذا الغلو في الأفكار والمشاعر والسلوكيات، بكل ما يترتب عليها من أقوال وأفعال، هو أحد أوجه التعصب في الدين والسياسة. إنه أحد أشكال التطرف بالعالم، تطرف أشخاصٍ ينتمون إلى دين معين، يتمسكون بشعاراتٍ تخص الدين وأفعالٍ تتناقض مع تسامح الأديان السماوية.

أما الإرهاب: فمن الفعل أرهب. يُقال أرهب فلاناً؛ أي خَوَّفهُ وفَزَّعهُ. فالإرهاب هو وصف يُطلق على الذين يسلكون سبل العنف والإرهاب لتحقيق أهدافهم السياسية[7]، بينما أقصد بلفظ "القضية" الدوافع الفكرية، والأهداف السياسية، حيث نفهم دوافع الشخصيات، ونُدرك رغباتها في علاقتها مع الجماعات، فكأننا نبحث في مجمل السمات المميزة للجماعات الإرهابية.

المنهج

أعتمد في دراستي، هنا، على استخدام المنهجين السيميولوجي، والمقارن؛ فالسيموطيقا هي لعبة التفكيك والتركيب بحثاً عن المعنى والدلالة من خلال ربط الدال بالمدلول والوظيفة القصدية، لذا أستند في تحليلي للأفلام على المنهج السيميولوجي/ أي علم العلامات/ سواء كانت العلامات أيقونية/ إشارية/ رمزية، أو سمعية/ بصرية.

أما توظيف المقارنة، فلأنها تُمكنني من دراسة الفروق والاختلافات، ومن تحديد جوانب التشابه والاختلاف بين تلك الأفلام التي تناولت ظاهرة التطرف الديني لدراسة البنية الفكرية والسينمائية المخبأة فيها، من خلال تحليلها وتفسيرها عبر مقارنتها ببعضها البعض.

"خلّي بالك من زوزو" 1972

من أوائل الأفلام التي تنبأت بالتعصب الديني - نواة التطرف والإرهاب - فيلم "خلّي بالك من زوزو" للمخرج حسن الإمام؛ ففي عام 1972 ظهرت شخصية "عمران" الشاب المتشدد دينيا، أو "المتزمت" كما أطلق على نفسه بالفيلم. كان ذلك بعد تولي السادات الحكم بعامين فقط. ربما يكون الظهور الأول للتعصب الديني، للموقف المناهض للفنون، ومنها الغناء، والرقص وتحرر البنات من قيود مجتمعية. كانت قضية هذا الـ "عمران" تطهير كليته بجامعة القاهرة من الفساد، متحسرا على القيم والأخلاق. كان ضد الفن، ضد ممارسة البنات للرياضة، فأسس مجلة "الصراط المستقيم" التي يُشهر فيها بزميلته "زوزو" ابنة "نعيمة ألمظية" الراقصة الشهيرة بشارع محمد علي. مُردّداً: "تطهير الكلية جمعاء.. فالانحراف يؤدي إلى الانحراف. الإسفاف يُؤدي إلى الكباريه".

تبدو شخصية "عمران" في بعض مشاهدها بالفيلم، خصوصا الأخيرة، منغلقة على ذاتها، ويدعم ذلك الشعور بالانغلاق من خلال ملابسه، فرغم القميص الأبيض الذي يرتديه، والذي تختلف دلالاته، لكنه أغلق جميع أزرته حتى العنق، تعبيرا على الانغلاق على الذات، وعدم الرغبة في الانفتاح على الآخر، وهو ما أشار إليه الفنان محيي إسماعيل[8] مؤكدا أنهم أثناء تصوير مشاهد الجامعة تعرضوا للهجوم والعنف من طرف بعض الطلاب المتشددين المحسوبين على التيارات الدينية.

يختتم المُتشدد مشاهده بالاعتذار لزميلته "زوزو"، معترفا بأنه يعتز بها، وأنها فخر للجامعة بمشوارها، وكفاحها ضد ظروفها، باحترامه لأسلوبها في التفكير.. لكننا عندما نتأمل اعتراف واعتذار "عمران" نشعر به - خصوصا من خلال تعبيرات الوجه التي تفضحه - بأنه تصرف سياسي بحت وليس اعتذارا مخلصا صادقا، وأنه لم يتراجع عن مواقفه المتشددة، وكأنما يخبئ شعوره الحقيقي.

"بيت القاضي" 1984

في عام 1984 تظهر على استحياء أفراد الجماعات المتطرفة - الضعيفة في بنيتها - بفيلم "بيت القاضي" للمخرج أحمد السبعاوي، وتأليف إسماعيل ولي الدين، وقصة وسيناريو وحوار عبد الحي أديب. هنا الشاب الملتحي يعترض بشكل أساسي على المرأة. يقول زعيمهم: "جهنم وبئس المصير. فستان عورة. اللهم قوي إيماني". وعندما يناقشه بطل الفيلم نور الشريف، يتأكد لنا أن صُلب دعوتهم يتجه ضد المرأة، إذ يعتبرونها سبب كل المصائب، بينما البطل يدعوهم إلى أن يُوجهوا دعوتهم لتحقيق العدل، ومحاكمة مَنْ في السلطة، فالحاكم الذي لا يشبع هو سبب هذا الفساد. لكن الملتحين يُصرّون على موقفهم بالهجوم على الفن والنساء، وضربهم على اعتبار أنهم فاسدون ومفسدون، وكأن مَنْ في السلطة بعيدين عن الفساد، لكن هؤلاء الملتحين بعد أن تم ضربهم أثناء العراك بالفرح يختفون تماماً، وكأنهم ضعاف الهوية، ولا أهداف سياسية كانت تحركهم، ولا قادة لهم.

إنقاذ ما يمكن إنقاذه 1985

من الأفلام الضعيفة فنيا وفكريا "إنقاذ ما يمكن إنقاذه" من إخراج وتأليف: سعيد مرزوق، وسيناريو حوار: إبراهيم الجرواني؛ فالصوت العالي للأفكار فج ومباشر. أعتقد أن المخرج نفسه لم يدرك خطورة البعد الكامن وراء عدد من المشاهد، ومنها وجود بعض الرجال الملتحين بجلابيب قاموا بتخليص البطلة من أيدي المغتصبين، فقد كانوا أسرع من الشرطة، وإن كنت أختلف مع علي أبي شادي في أنها "نهاية تبشيرية تدعو إلى أنه لا خلاص إلا على أيدي أصحاب اللحي والجلابيب البيضاء الذين ينطلقون من المساجد لنشر الهداية والهدي".[9]

في تقديري الشخصي، إن الفيلم يتناول السلوكيات السلبية وانحلال القيم والفساد الذي صاحب سياسات مرحلة الانفتاح، لكن الختام نفسه ملتبس، وأقصد تحديدا واقعة الاغتصاب وما تلاها من مشاهد، إذ نسمع صراخ البطلة أمل في الميكروفون. ونرى رجال بجلابيب بيضاء، بينما البعض الآخر بجلابيب رمادية، بعضهم ملتحي، وبعضهم بدون ذقون ويمسكون بالعصي أيضاً. لذلك، أعتبرهم أقرب إلى المواطنين وليسوا من المنتمين للجماعات الإرهابية، صحيح أن بينهم بعض الرجال الملتحين لكنهم مواطنون، وهم مَنْ يُشاركون في تخليص أمل وإنقاذها من المغتصبين، وذلك قبل أن تصل الحكومة، ثم نراهم وراء الحكومة، وهي تسير بالمقبوض عليهم، كأنه حائط صد. لذلك، أختلف مع رأي علي أبي شادي. فما أشعر به من خلال قراءة تفاصيل المشهد - وفق المنهج السيميولوجي - أن هؤلاء الملتحين كانوا جزءاً من نسيج المجتمع، فالمواطنون أيضاً في المناطق الشعبية يحملون العصي أحياناً، كما أنهم يهبون لمساعدة المحتاج خصوصا لو كانت هناك حالة اغتصاب عبر الميكروفون. ربما أسلوب المخرج في تحديد أماكنهم بين المواطنين خلقت هذا اللبس، وربما تعمد تشكيلهم على هذا المنوال، ليشير إلى خروجهم من وسط المجتمع.

ففي رأيي، إنه رغم وجود علامات في الملابس وعلى الوجوه تشير بوضوح إلى الجماعات المتطرفة، لكن حتى ظهورهم ضعيف وغير مؤثر، ويبدو تنفيذ المشاهد ساذج. صحيح، كانت هناك إشارة إلى تلك الجماعة التي انضم إليها أحد الشباب، لكنها جملة عابرة مبتورة. أما الأكثر وضوحاً وتيمة الفيلم الأساسية، فهي محاولة تصوير المتسترين بالدين - سواء الشحاتين أو النصابين - لممارسة الفساد، ومنها السبحة، ولازمة "الكولونيا علشان طهارة الذمة". لكنّ هناك خلطا بين تلك الجماعات - التي لم يوضح الفيلم أهدافها ولا هويتها ولا قضيتها - وبين المتدين بإخلاص مثل عبد الشافي الرجل المسن الذي يُؤذن بصوت جهوري منفر. مع ذلك نراه رجلا متديّنا وتقيا ومخلصا في ذلك، إذ يُعلم الأطفال قراءة القرآن. ولا يبدو متاجراً بالدين، وليس له أهداف أخرى ولا ينتمي لأي جماعة.

حُراس الدين

إذا كان حسن الإمام مع صلاح جاهين أشارا في عدة مشاهد سريعة إلى ميلاد التيار المتشدد الكاره للفنون بالجامعات المصرية عام 1972، من دون أن يحددا هويته، أو أهدافه السياسية، أو حتى جماعة ينتمون إليها، وكأنهم شخصيات منفردة تعبر عن أنفسها، لكن بعد عدة سنوات سنرى شخصيات أخرى ترتدي عباءات حراس الدين، بعضهم يرغب في تطهير الأرض، وبعضهم يتستر بالدين لمنافع دنيوية واكتساب هيبة واحترام المحيطين، أو ليخفي نشاطه غير المشروع، واللافت للانتباه أن تلك النوعية الأخيرة ظهرت بفيلم "الملائكة لا تسكن الأرض" إنتاج عام 1987، والذي كان أحد أبطاله يحمل اسم "عمران"، وكأنه امتداد لشخصية عمران في "خلي بالك من زوزو".

في فيلم "الملائكة لا تسكن الأرض" إخراج وقصة لسعد عرفة، سيناريو وحوار عاطف بشاي، نجد مجموعة من الرجال المتطرفين دينياً، أو المتشددين دينيا بشكل مُنفر. هنا، لا نرى الإرهاب الذي يلجأ لاستخدام السلاح أو القتل، لكنه إرهاب الناس وترويعهم نفسياً باسم الله بالضرب والإهانة والعنف اللفظي الجارح. نراهم يتحدثون فقط عن التكفير ومقاومة هذا الكفر، لكننا لم نر سلاحاً يحملونه. فعندما يدخل رجل تائب إلى المسجد - كان يعاقر الخمر لكنه أعلن توبته - يحتج عليه الشيخ عمران - والد البطل - ويمنعه، ويؤيده في ذلك رجل آخر أكثر تشددا، متهما إياه بالكفر، والزندقة وضرورة تطهير الأرض من أمثاله، وأن الله لا يقبل توبته، فيتدخل شقيق الشيخ عمران، وكذلك شيخ الجامع بشكل ودود، معلنين أن الله هو الذي يحاسب الناس ويعلم ما في النوايا، وأنه رحيم غفور.

الفيلم هنا لا يناقش أغراض سلطوية تختبئ وراءها تلك الجماعة المتشددة، فصحيح أن الشيخ عمران يتضح - لاحقاً - أنه يختبئ تحت ستار الدين، ويتستر برداء التقوى والصلاح ليٌخفي تجارته غير المشروعة، وعمله بالمخدرات، لكن الجماعة المتشددة التي يلتحي رجالها ويرتدون العباءات البيضاء لا نجد لها - في أي مشهد بالفيلم - تلميحاً أو تصريحاً عن مشروعها السياسي أو السلطوي، إنما تظهر فقط، وهي متطرفة في عبادتها، نراها في المسجد تتعبد، وفي اجتماع دعوي خالص، وفي مواجهة مع تصرفات البعض. الملاحظ فقط، أن وجودها وسلوكها منفر، وتصويرها يخضع للتنميط، حيث القسوة والفظاظة في التعامل مع الآخر.

واقع التجربة الشخصية

كباحثة، وكشخصية عاصرت في مرحلة المراهقة والدراسة الإعدادية نماذج من المدرسين المتدينين، والذين كنا نطلق عليهم "السُنيين" المتشدّدين، أرى أن شخصيات فيلم سعد عرفة - رغم بعض المبالغات والتنميط في رسم تلك الشخصيات - لكنها انعكاس لمرحلة ولناس كانت موجودة بالفعل خلال الثمانينيات، خصوصا في الأرياف، من دون أن ننسى أن الأحداث هنا تدور في مدينة الإسكندرية التي أصبحت أحد معاقل ونفوذ الإخوان المسلمين.

الهدف الأساسي من الفيلم - أو المعادل الموضوعي - هو خطورة التشدد والتطرف الديني على المستقبل، على الأجيال التالية، إذ يعمل على تشويهها وتدميرها، وهي بالتالي ستخرب المجتمع، ولن تفيد في تقدمه، وذلك ما يتضح من خلال شخصية البطل - علي - الذي تُحاصره الشكوك، والارتباك الفكري والعاطفي، ذلك الشاب الفاشل في التعليم، المشتت بين أفكاره الدينية المتشددة التي غرسها فيه أبوه، منذ الطفولة وبين سلوك الأم التي تواصل الرقص في حلقات الزار بالبيت. علي الممزق بين الخوف من الله بسبب ارتكاب المعصية، وبين رغباته الجنسية المكبوتة التي تكاد تفجر كيانه، بين حبه لابنة عمه التي تواصل تعليمها، وبين شكوكه فيها. فنراه يستنكر أن حبيبته تسير مع طالب الطب أخ زميلتها قائلاً:

"مفيش علاقة إنسانية بين بنت وراجل"

بينما هي تنفي أفكاره السيئة:

"لا.. ده في عقلك بس، علشان تفكيرك ملخبط، ونيتك مش سليمة، وضميرك مش نضيف".

من الحوار السابق، تتضح أهمية الحب وصدق بصيرة الفتاة التي نجحت في أن تلتحق بالجامعة، وتفخر بوالديها الصيادين، خصوصا عندما يعترف علي قائلاً: "حبيت أبويا وأمي، وكرهت عالمهم وحياتهم، وأفكارهم. قد ما حبيت الحرية خفت من الفوضى برَّه بيوت الصيادين. كفر وذنوب. هربت للبحر وجواه توهت، ورجعت للبر من ثاني. وما بين البر والبحر صورتك ما فارقتش خيالي".

المعادل البصري للباطن

في النصف الأول من الفيلم نرى وجه علي وجسده دائما مُحاطا بالظلام من حوله. الكادر جميعه مظلم، أسود كالح. فقط هالة من النور تُضيء وجه الشاب علي، ربما تعبيرا عن البراءة التي تتمتع بها الشخصية في علاقتها الملتبسة بالبيئة التي تشكلها. أما على مستوى الملابس، فنراه يرتدي السواد ويظهر فقط الجزء العلوي من القميص الأبيض كعلامة سيميولوجية تشي بالجزء الأبيض البريء غير الملوث من شخصيته، ذلك الجزء الذي يقاوم عوامل الجذب إلى التشدد الديني، وربما تكون نسبة الأبيض إلى الأسود في الملابس والضوء من حوله هي تعبير عن الصراع القائم في أعماق الشخصية.

الملاحظ أن هذا السواد لا يخلعه البطل - علي - إلا عندما يمارس العمل على المركب في عرض البحر. صحيح، أن للبحر دلالته هنا، لكن تغيير ألوان الملابس أيضاً له دلالة رمزية على أن العمل يساعد على مقاومة هذا الصراع. كذلك عندما يخرج علي من محبسه بالسجن نراه فقط بالقميص الأبيض، وكأنه كفَّر عن خطيئته، ثم عندما يموت صديقه يرتدي السواد الكامل تعبيراً عن عالمه الداخلي وغلق جميع منافذ الضوء، وهو ما يتضح من لقطات لاحقة حيث التشرد، والنوم في الشارع، ورحلة الضياع.

عناصر الصراع

تتجلي مفردات الصراع في الشخصيات المحيطة بالبطل علي؛ فالأب كان أول هؤلاء؛ إذ غرس فيه الخوف من الله، وليس حب الله. وقد صوره السيناريو منذ البداية على أن إيمانه غير مستقيم، فرغم ما يحاول غرسه في الطفل، فهو طماع غير قانع بما رزقه الله. في حين يستكمل دور الأب ذلك الرجل المتشدد الذي يبدو وكأنه زعيم الجماعة.

وفي الجانب المقابل، هناك الصياد المنحرف، الفاسد، الذي يقيم علاقات متعددة مع النساء، وينتقل بينهم، ويشرب الخمر، ويدخل السينما لمشاهدة الأفلام الجنسية، ويرى السينما هي الحياة، فبدونها تصبح الحياة صعبة وسوداء، ثم بين قطبي الصراع تقف الحبيبة الواعية، التي أنقذها التعليم، والتربية المستنيرة للوالدين، فهي تمتلك الوعي والبصيرة، لكنها لا تستطيع أن تنقذ حبيبها من التورط في المخاطر، والسقوط، وإصلاح أفكاره. وحتى في المشهد الأخير، عندما تقنعه بعدم الانتحار وينطلقا سوياً على الكوبري ينتهي الفيلم وهما في منتصف رحلة العبور، إذ ينحاز صناع الفيلم للنهاية المفتوحة، فهل ينجح الحب فيما أفسدته البيئة؟! وهل ينجح الحب في أن يُعالج في الكِبَر ما شوهه التشدد منذ الصبا؟!

الأخلاق والنظرة للمرأة والفن

على الرغم من الخاتمة الأخلاقية للفيلم، إذ ينال الفاسدين عقابا إلهيا كختام سينمائي؛ فالصديق المتعدد العلاقات يُقتل على يد زوج عشيقته، وتاجر المخدرات المتستر بالدين يتم القبض عليه وفضحه أمام كل أهل القرية. والبطلة عندما يقبلها حبيبها تعتقد أن هذه خطيئة، وتظل تكفر عنها بالصلاة والدعاء إلى الله. كذلك، علي، بعد تقبيل حبيبته يقع في صراع يزلزل كيانه، حيث أصبح يرى نفسه كالشيطان في بعض اللحظات، عندما تنتابه تلك الرغبات المكبوتة التي يعجز عن إشباعها لأسباب دينية بحتة، وعندما يتورط في الخطيئة، ويذهب بإرادته إلى بيت الدعارة يتم القبض عليه وفضحه أمام الملأ، ويدخل السجن.

وعلى الرغم من تلك النظرة الأخلاقية الدينية بالفيلم - والتي ظلت لسنين طويلة مسيطرة على نهايات الأفلام بالسينما المصرية – فإن هذا لا ينفي وجود بعض الأفكار المستنيرة بالعمل، خصوصا المحور الرئيس المتمثل في خطورة التشدد على النشأ، والأطفال، وتأثير ذلك على المستقبل. إلى جانب النظرة إلى المرأة والموقف منها، فنلاحظ أن كاتبا السيناريو والحوار يمتلكان الوعي بأن نظرة كل من المتشدد وكذلك الفاسد تكاد تكون واحدة من المرأة؛ فكلاهما يتعامل معها بصفتها جسدا أو قطعة من اللحم. الأول يراها عورة يجب أن تُغطي رأسها وتُطيع زوجها، والثاني يراها وسيلة لإشباع نزواته وغريزته، وأحياناً يصفها بالجاموسة. وعلى الجانب الآخر، ينتصر صناع الفيلم إلى أهمية دور المرأة في مواجهة مخاطر التطرف الديني، فإلى جانب لقطة الختام، هناك لقطة أخرى مقربة نرى فيها أيدي علي، وهي تمتد باتجاه حبيبته وكأنها طوق النجاة الذي به يستغيث.

عندما أقيَم الفيلم أمنحه ثلاث درجات ونصف، رغم تنميط بعض الشخصيات، لكن الإيقاع، وقدرته على رسم الشخصيات كان جيداً، خصوصا إذا لم نغفل عنصر الزمن الذي أنتج فيه. إضافة إلي التفاصيل الخاصة بالملابس، واللغة التي تتحدثها الشخصيات الشعبية ومنها أم علي، أو شخصية الصديق الفاسد التي جسدها سعيد صالح، كذلك مهارته في ضبط إيقاع الشعور والزمن النفسي في لحظات الصمت بين الحبيبين، وتوظيف تفاصيل البيئة حتى لو صارت مجرد خلفية للأحداث ومنها البحر، وتوزيع الممثلين في الكادر وحركتهم، والديكور شديد الواقعية بصورة نادرة.

أبناء وقتلة 1987

كان المخرج الراحل عاطف الطيب أحد المخرجين الذين انشغلوا في أعمالهم بظاهرة التطرف الديني وبذور الإرهاب، فنجد في سينماه ظهورا واضحا للشخصيات المتدينة على أنواعها التي تصل حدود التطرف الديني، كما يتضح في "ضربة معلم" 1987، حيث تضطر الحبيبة لارتداء الحجاب لتنال الماجستير، في إشارة إلى تشدد أعضاء مجلس الكلية، كذلك هناك إشارة أخرى بأحد مشاهد فيلم "ليلة ساخنة" 1955، وعن ذلك يقول عاطف الطيب نفسه:

"شغلتني وطأة الظاهرة الدينية على المجتمع المصري فتناولتها في أفلامي.. كانت البداية في "الزمار" الذي قدمت فيه شيخ البلد وإمامها، والذي يمثل الرمز والقدوة الدينية لأهل البلد، لكنه ليس إلا أحد أئمة الفساد. بدأت في محاولة رصد الظاهرة بشكل أكثر تحديدا وتحليلا في "أبناء وقتلة" من خلال التعرض لفئات من شباب الجامعة المنضمين لجماعات دينية والتأكيد أن بعض هذه الجماعات على درجة كبيرة من التطرف، ولا تتورع عن استخدام العنف في طرح معتقداتها الدينية، فكان التنويه عن بداية غزو الجماعات الدينية للجامعة، كما كانت هناك شخصية محورية في الفيلم هو الابن الجامعي الذي يعاني من أصوله العائلية، فقد كان أبوه يعمل في تجارة السلاح كما كانت أمه راقصة. كان لجوء الابن إلى الدين كأحد الحلول المطروحة لحل مشاكله، وباختصار شديد كان الفيلم رصدا للظاهرة الدينية وتأثيرها على المجتمع خاصة جيل الشباب"[10]، ثم في موقع آخر من نفس المرجع يٌضيف الطيب: "أعترف أن مشهد النهاية في "أبناء وقتلة" خانني وأظهر المتطرفين في صورة ملائكية وجنح بعيدا عن المقصود، لكن في "البدرون" ظهر إلى حد بعيد ماذا أريد أن أقول".

هنا، فقط، أتحفظ على رؤية عاطف الطيب الفنية للفيلم فيما يخص محاولة تبرير تحول الشاب ولجوئه إلى الدين نتيجة أن والده تاجر سلاح، وأمه راقصة، فقد كان تحوّلا غير مقنع، إذ ظل الشاب ينفق من أموال والده، ويعيش معه في البيت، كما أنه دينيا معروف أنه "لا تزر وازرة وزر أخرى، فالوازرة هي النفس التي لا تحمل حِمَل غيرها، فكل إنسان المفروض أنه يُحاسب عن عمله، كل شخص مسؤول عن خطئه، لكن النهاية بدت متعاطفة جدا مع المتشدد دينياً، الذي قُتل وهو بريء. إضافة إلى ما سبق، وقع صناع الفيلم في نفس التفكير النمطي وعدم تحليل أسباب هذه الظاهرة، وتغاضوا عن هوية تلك الجماعة، وأهدافها السياسية وقضيتها من الحكم".

أقرب للعصابات

اقترب عدد من الأفلام المصرية في تناولهم لظاهرة الإرهابيين من تصوير زعمائها كأنهم أفراد عصابات، كل همهم تحقيق صفقات معينة من أجل تبادل الأسري - سواء كانوا أجانب أو مصريين - أو الحصول على مبالغ مالية كما ظهر في فيلم "انفجار" للمخرج سعيد مرزوق عام 1990. أو كما حدث بفيلم "الناجون من النار" عام 1944 للمخرج علي عبد الخالق، بمعالجة تليفزيونية ركيكة وساذجة حولت الصراع بين الإرهابيين إلى صراع بين اثنين من الأشقاء ينتهي الفيلم بمقتلهما في مشهد فج مبتذل علي أيدي الشرطة ورجال الإرهاب سوياً، مثلما تم رسم شخصية أمير هذه الجماعة بشكل ساذج، فكل ما يشغله أغلب الوقت هو تخيل مانشيتات الصحف ووسائل الإعلام المحلية والعالمية تجاه نشاطهم، وتحديداً بعد خطف أحد الضباط لاستبداله بأحد المسجونين من جماعته.

أما في عام 1992، ظهرت معالجة كوميدية لم تكن عبارة عن إرهاب حقيقي، ولكنها مجرد صدفة جعلت الإنسان العادي، البسيط والمطحون يبدو إرهابيا بفيلم "الإرهاب والكباب" للمخرج شريف عرفة، ومن تأليف وحيد حامد الذي قدم عملا آخر شديد الطموح والأهمية - "طيور الظلام" - رغم المباشرة في الخطاب الأيديولوجي لقطبي الصراع، لكنه أظهر قضية هذه الجماعة وأهدافها وسعيها وراء الحكم. ولا يكاد يتفوق على "طيور الظلام" إلا فيلم "الأبواب المغلقة" سيناريو وإخراج عاطف حتاتة[11]، فقد جمع بين كشف هوية وأهداف تلك الجماعة وطموحها السياسي، ورغبتها في الاستحواذ على الحكم، مثلما جسد بفنية عالية وحساسية مرهفة - بعيدة كل البعد عن النمطية - كيف تنجح تلك الجماعات في اجتذاب الشباب المراهق إليها وتوظيفه كوقود تفجره في وجه الحكومة والسلطة، وهي أثناء ذلك تجذبهم إليها بنعومة ومودة كبيرة، وبإقناع يجعل هؤلاء المراهقين مستعدون للتضحية وتفجير أنفسهم لصالح تحقيق أهداف تلك الجماعات.

القاهرة منورة بأهلها 1991

يعد يوسف شاهين من أكثر المخرجين الذين تناولوا ظاهرة الإرهاب والتطرف عدة مرات في أفلام مختلفة، وبشكل ينم عن الوعي بالأهداف السياسية لتلك الجماعة المتطرفة والإرهابية، وهو إن كان قد أشار فقط إلى وجودها وإلى مخاطرها من دون تحديد أهدافها السياسية، ولا هويتها الكاملة في شريطه الروائي الوثائقي القصير "القاهرة منورة بأهلها" عام 1991، لكنه في "المصير" 1997 وظف التاريخ لكشف حقيقة وجوهر تلك الجماعات الإرهابية، وسعيها المستمر والخبيث للوصول إلى سدة الحكم من خلال تكفير العلماء والمفكرين، وفي مقدمتهم ابن رشد، وتقليب العامة وأفراد الشعب الجاهل عليه، بالأحاديث المتعصبة المتطرفة، وتحريف معاني الدين الصحيح لخدمة أهدافهم، كذلك بخلق الضغينة في صدر الحاكم وتقليبه على صديقه ابن رشد، لدرجة طرده من الأندلس بعد أن كان السند الفكري المهم في حياته، ثم أخذوا يشتغلون على أبناء الحاكم، فيجعلون الأول يطمع في حكم أبيه ويجذبون الثاني إليهم ليقتل أحد أصدقائه.

إن كان شاهين في "القاهرة منورة بأهلها" يربط جميع الخيوط في المجتمع ببعضها البعض، ولا يفصل بين القهر الاقتصادي، والفقر، واستفحال الكساد، وعودة العمالة المصرية من دول الخليج، إضافة إلى زحف المباني على الأراضي الزراعية، واستشراء الفنون الهابطة التي تُحاصر المجتمع المصري، فهو يربط بين كل ما سبق وبين تفشي التيارات الدينية والسياسية المختلفة وتأثيرها، ومن ثم يختتم عمله بلقطة نرى فيها أفراد الجماعات المتطرفة منصتون لأميرهم بالمسجد، وهو يصف جاهلية المجتمع الحديث بأنها أشد جاهلية من مجتمع ما قبل الإسلام، وبأنه من الضروري عليهم مواجهة هذه الجاهلية. أما فيلم "الآخر"، فيتناول فيه يوسف شاهين قضية الجماعات الإرهابية من زاوية أخرى في علاقتها بالخارج، مسلّطا الضوء بقوة على رغبتها في الاستحواذ على مقاليد الحكم.

الإرهابي 1994

فيلم "الإرهابي" من تأليف لينين الرملي وإخراج نادر جلال. يُعتبر أحد ثلاثة أفلام قام ببطولتها عادل إمام، وظهر الإرهاب بها كعنصر أساسي، - طبعا بعيدا عن "الإرهاب والكباب" - هي "حسن ومرقص" 2008 ، وقبلها "عمارة يعقوبيان" 2006، وإن كان الأخير لم يقنعنا فيه السيناريو بمبررات لجوء طه الشاذلي إلى الجماعات الإرهابية، ولماذا احتمى بحماها، بينما لم تفعل حبيبته نفس الشيء، وفَضَلَّت أن تنفصل عنه، رغم أن ظروفهما الاجتماعية والاقتصادية كانت تقريبا واحدة. أما فكرة التفجير بدافع الانتقام بعد أن تم اغتصابه بالمعتقل فغير كافية للتبرير، كما أن تلك الواقعة جاءت بعد انضمامه للإرهابيين واقتناعه بأفكارهم إلى درجة محاولته إقناع خطيبته بأفكارهم، وطلبه منها أن ترتدي الحجاب، لكنها رفضت. فلماذا ذهب كل منهما في طريق مغاير ومناقض؟

وإن كان هدف تلك الجماعات الإرهابية غير واضح تماما في كل من "حسن ومرقص" و"عمارة يعقوبيان"؛ ففي الأول التطرف والتعصب الديني بداخل الأفراد هو التيمة الرئيىسة من خلال الكوميديا. أما الثاني، فتبدو رغبة تلك الجماعات في الحكم والسلطة غير واضحة تماما، فأحاديثهم تُوحي بأنه لو طبقت الحكومة الشريعة الإسلامية بحذافيرها كما يريد هؤلاء الإرهابيون، فإنهم سيتوقفون عن حربهم مع الدولة، فهل هذا صحيح؟! هل القضية هي مجرد تطبيق للشريعة الإسلامية أم الرغبة في السيطرة على مقاليد الحكم؟!

أما فيلم "الإرهابي"، فيُعد أحد أهم تلك الأفلام، فقد تناول فكر الجماعات التكفيرية، وطريقة تعامل أفرادها داخل الجماعة وخارجها؛ فهناك أكثر من إشارة في الفيلم عن تمويل تلك الجماعات من الخارج، ورغبتهم في الوصول إلى الحكم، ثم إن أمير الجماعة - أحمد راتب - يحث الشاب علي كي يسرق أموال الطبيب، وأن يغتصب ابنته، رغم أنهم حموه وعالجوه، وآووه في بيتهم، لكن في نظر الأمير إن أموالهم ونساءهم حل لهم، على اعتبار أنهم كافرون.

أهم ما يميز الفيلم في تقديري، ليس فقط توضيحه لأهداف تلك الجماعات السياسية وتلقيها أموالا من الخارج، ولكن النقاش حول أسلوبهم وسياستهم، وتقديم الفيلم لنموذج وسطي معتدل للأسرة المنفتحة التي يمكن اعتبارها رمزا للمجتمع الصحي الذي بإمكانه أن يحتضن الإرهابي، ويُخلصه من أفكاره المتطرفة.

يبدأ الفيلم بتحطيم محلات الذهب المملوكة للمسحيين، ثم محلات الفيديو المحملة بالأفلام السينمائية، وإشعال حريق للتخريب والتدمير على أيدي الإرهابيين بالجلابيب واللحى، كتلخيص للموقف المعادي من الدين المسيحي والفنون وفي مقدمتها السينما. لاحقاً يتكشف بوضوح موقفهم المعادي والمحتقر للمرأة والنظر إليها باعتبارها جسدا، يتزوجونه ويخفونه وينقبونه، وأما النساء المتبرجات المتحررات فتعتبر ملكا لهم، وحلال عليهم؛ لأنها تدخل في عداد "وما ملكت أيمانهم".

فمثلاً عندما نتأمل أسلوب أمير الجماعة في تعامله مع النساء زوجاته، نشعر أنه يضعهم في مكانة الدجاج. حركة اليد وهو يشير إليهم بالدخول عندما يدق شخص ما على زجاج الباب، حركة يده كأنه يهش الدجاج ويُدخله الحظيرة قائلا: "هش هش…" كذلك نسمع ونرى علي عندما تسأله سيدة مُسنة عن أحد الأتوبيسات، فيزجرها بعنف وغضب قائلاً: "امشي.. امشي"، مع ذلك يقع علي فريسة الصراع الداخلي بين اشتهاء المرأة وتحقيرها، تفضحه نظراته لمحاسن ومفاتن المرأة الجارة ومشهد الاحتلام متخيلاً جسدها بين أحضانه.

إضافة إلى التناقض ورغبة التملك وجشع أفراد تلك الجماعة الواضح من خلال سلوك أميرها؛ ففي بيته يطالعنا منظر الطبلية وعليها أشهى المأكولات والطعام، بينما كان يقدم طعام عبارة عن خبز جاف وشحيح للبطل المُجند لتنفيذ عملية اغتيال، كما أن أمير الجماعة يُصرّ ويُلح على إلغاء فريضة التفكير، فيقول للبطل: "المجتمع لازال على فساده وظلاله بسبب الحكومة الكافرة. لا تجادل ولا تناقش يا علي، فهذا أمر خطير".

المدهش في الأمر أن بطل الفيلم هنا اسمه علي، وكأنه امتداد لشخصية علي في "الملائكة لا تسكن الأرض"، وكأنه تم التغرير به والتأثير على أفكاره، ويمكن أن يعود إلى صوابه إذا توفرت الشروط. هنا يقع التحول في شخصية الإرهابي في بيت الطبيب. هذا التطور التدريجي الذي تم تحقيقه عبر مشاهد متوالية تشي بأنه إذا تم غلق منافذ الأفكار الإرهابية وكافة الصنابير المغذية لها، وإذا تم توفير مناخ صحي، يمكن لأي إنسان متطرف أن يتعافي ويُعاد تأهيله، ويمكن أن يتغير ويُصبح إنسانا صحيا، ويرتبط بعلاقة قوية بمجتمعه. كما أن التأثير العاطفي، والحب يلعب دوراً كبيراً في ذلك؛ فمثلاً الأثر العاطفي لشخصية ابنة الطبيب - التي صدمته بالسيارة - يظهر لأول مرة عندما يلمح علي صورة شيرين على المكتب أثناء إعادة المبلغ الذي سرقه من مكتب والدها. هنا، نسمع موسيقى آلة العود المعبرة عن تحرك الإحساس، ولاحقاً نسمع صوت الفيولينة بصحبة آلات موسيقية وثرية مرتعشة تعبيرا عن خفقان القلب وتأثره بالقبلة التي طبعتها البطلة على خذه.

ثم تتوالى مشاهد التغيير وتبديل موقف علي من الشخصيات الأخرى أثناء مشاهدة مباراة فريق المنتخب، هنا نلمح حركة اليد وهي تدق خفيفاً على ساقه في لقطة كلوز، وعلى وجهه علامات الارتياح، وهو يتأمل أفراد هذه الأسرة بصحبة الجار المسيحي والمفكر العلماني فؤاد مسعود - الذي يرمز للمفكر الذي تم اغتياله فرج فودة - لكن صناع الفيلم يضعون نهاية قاسية، إذ يُقتل علي عبد الظاهر على أيدي الجماعات المتطرفة الإرهابية؛ لأنها لا تقبل بانشقاق أحد أفرادها عنها.

ومن الأمور اللافتة أيضاً بالفيلم - والتي اتضحت بفيلم "حسن ومرقص" أيضاً - أنه عندما يدور الحديث والنقاش بين علي وبين أفراد تلك الأسرة العلمانية حول الأمور الحياتية والفكرية يعم الوئام والسلام، وتكون الأجواء صحية، لكن عندما يدخل الدين في النقاش تعم الفوضى ويتوتر الجميع، ويتعكر صفو العلاقات، ويصبح الوضع على شفى معركة وحرب وشيكة.

الخاتمة

يتبين لنا مما سبق، أنه رغم معاناة المجتمع المصري من ظاهرة الإرهاب في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، فإن السينما خلال تلك الفترة ظلت تتعامل بحذر وخوف مع الموضوع؛ فالمد الديني كان قد تغلغل في المجتمع لدرجة أنه حتى من تجرأ وفكر في معالجة تلك القضية لم يجد منتجاً يتحلّي بالشجاعة، ومَنْ نجح في الإنتاج لم يجد دور عرض سينمائي تُتيح له عرض فيلمه، لذلك تأخرت معالجة قضايا الإرهاب في السينما المصرية، وحتى عندما حدث ذلك، كانت تلك المحاولات تلتف حول مظهر الجماعات المتطرفة وأهدافهم، فقد ظهر أفراد تلك الجماعات على استحياء بعدد من الأفلام التي تناولت تلك الظاهرة، بدءاً من مولد التيار المتشدد، ثم بزوغه، لكن أغلبها كان يكشف عن عدم الوعي الكامل بالقضية، مثلما كان أغلبها ضعيفاً فنياً، فالصوت العالي للأفكار كان فجّاً ومباشراً، وتصويرها كان يخضع للتنميط، حيث السلوك المنفر، القسوة والفظاظة في التعامل مع الآخر. وأحيانا، كانت الخاتمة العاطفية الرومانسية تصب في صالح الشخصيات المتشددة دينياً، مثل "أبناء وقتلة". ومثلما يبدو الخلط بين تلك الجماعات وبين أفراد العصابات أحياناً، حيث لم تتضح أهدافها ولا هويتها ولا قضيتها، ويظل الاستثناء في ذلك أعمال من توقيع المخرج عاطف حتاتة في "الأبواب المغلقة"، والمخرج يوسف شاهين الذي يعد أكثر المخرجين الذين تناولوا ظاهرة الإرهاب والتطرف عدة مرات في أفلام مختلفة، وبشكل ينم عن الوعي بالأهداف السياسية لتلك الجماعة المتطرفة والإرهابية، خصوصا في فيلم "المصير"، إضافة إلى عملين آخرين من تأليف لينين الرملي "الإرهابي"، ووحيد حامد في "طيور الظلام".

[1]- مجلة ذوات/ العدد 55

[2] علي أبو شادي في كتابه «السينما والسياسة» تحدث عن الرقيبة التي منعت أفلام، وطالبت تعديل أفلام أخرى، وطالبت الأزهر بالتدخل لمنع أفلام ثلاثة. الكتاب صادر عن مكتبة الأسرة، الهيئة المصرية العام للكتاب. طبعة أولى 2000- ص 171

[3] علي أبو شادي. المرجع السابق، ص 168

[4] المعجمالوجيز.طبعةخاصةبوزارةالتربيةوالتعليم،1955. مصر، ص 389

[5] المرجع نفسه، ص 454

[6]سورة المائدة، الآيه77

[7] المعجم الوجيز، مرجع سابق، ص 279

[8] من حوار متلفز له - ضمن ندوة فنية - علي اليوتيوب.

[9] علي أبو شادي - السينما والسياسة، مرجع سابق، ص 171

[10] هاشم النحاس: عاطف الطيب... رائد الواقعية المصرية المباشرة، المجلس الأعلى للثقافة، طبعة أولي، 2016

[11] أمل الجمل: أفلام الإنتاج المشترك في السينما المصرية، الهيئة العامة لقصور الثقافة، العدد 60، الطبعة الأولي، ص 276- 294