الواقع الإسلامي وذاكرة الحروب الدينية الأوروبية والإصلاح الديني


فئة :  مقالات

الواقع الإسلامي وذاكرة الحروب الدينية الأوروبية والإصلاح الديني

يشيع القول بين المثقفين العرب والمشتغلين في حقل الدراسات الدينية والفكر الإسلامي - عند الحديث عن دور حركة الإصلاح الديني في أوروبا وأفكار لوثر وكالفن إلى جانب الإسهام الفلسفي في إقلاع التنوير الأوروبي - إنه لا بدّ من أنْ يمرّ العالم العربيّ بالتجربة الأليمة والدموية التي مرّت بها أوروبا لكي تخرج منطقتنا من حروبها الطائفية والمذهبية والدينية وانغلاقها الفكري والاجتماعي، وتعانق مبادئ التنوير والحرية والحداثة التي تحفظ للدين احترامه من دون أنْ يزاحم الحياة والعصر والعلم والتطور وحقوق الإنسان. وفي مقابل ذلك، يراهن بعضهم على أنه ليس من الضرورة أنْ تمرّ دولنا ومجتمعاتنا بالظروف والصراعات والحروب والأحداث الأليمة التي عاشتها أوروبا لقرون قبل أنْ تصل إلى الاستقرار الأمني والسياسي والديمقراطية والدولة الحديثة. حجة هؤلاء الأخيرين تبدو اليوم ضعيفة أمام ما تشهده كثير من دول المنطقة من صراعات طائفية ومذهبية وحروب سياسية وفكرية تكاد تؤكد أننا لم نتعلم كثيراً من تجربة الغرب وكيف أدار صراعاته ومشكلاته الكبيرة. بل إنه بعد عقود من المراهنة على قيام علماء دين مسلمين مسنيرين بالبدء بإصلاح ديني يؤسس الأرضية الفكرية للإصلاح السياسي والنهوض العام، تبيّن أنّ عدد علماء الدين الذين تجرّأوا على فعل ذلك شحيح على نحوٍ مخيب للآمال، ومن قال كلمته الجريئة وُوجِهَ بالعزلة، ما أبقاه بعيداً عن التأثير في المناخ الفكري والديني السائد في مناهج التدريس والفتاوى والوعظ الديني.

في التجربة الغربية كانت حركة الإصلاح الديني الذي قام بها مارتن لوثر في القرن السادس عشر الخطوة النوعية الأولى التي قدمت مراجعة أساسية للنصوص الدينية. نشأ عن ذلك حروب دينية طويلة أشهرها "حرب الثلاثين عاماً" بين البروتستانت والكاثوليك؛ أنتجت في نهاية الألم معاهدة وستفاليا عام 1648، التي أرست أسس الدولة القومية ومفاهيم السيادة الوطنية وعدم التدخل في شؤون الدول الداخلية واحترام الدول، على قاعدة المساواة، مهما كانت هذه الدول صغيرة، وهو ما رسّخ أسس القانون الدولي والعلاقات الدبلوماسية وجعل الولاء لرابطة المواطنة مقدماً على الولاء للطائفة والمذهب والدين.

هذا الجهد الأوروبي الاستثنائي لم يُنهِ المعاناة والحروب بشكل كامل وجذري؛ حيث تمّ النكوص عنه، بشكل أو بآخر، إلى أنْ جاءت جهود الفلاسفة الكبار والتنويريين أمثال كانت وغيره لتعلن انتصار العقل على الكنيسة وتؤسس لحرية الفرد وامتلاكه تحقيق مصيره، وهو ما بلور حقوق الإنسان في العصر الحديث وصاغ المكانة المركزية للإنسان في الكون. لقد أوجد الحراك الديني والفكري الذي أتشأته البروتستنتية واللوثرية والكالفنية ديناً مسيحياً جديداً، حرّر بشكل كبير، وليس كاملاً، الإرادة الإنسانية وقدّم دفعة نوعية هائلة لتقرير مصير الأفراد بعيداً عن هيمنة سلطة دينية متنفذة ومتحالفة مع الطبقة السياسية. وكان على أوروبا أن تخوض صراعات دينية وطائفية وسياسية مؤلمة دامتْ عقوداً طويلة، حتى بعد انطلاق حركة الإصلاح الديني، إلى أن استقرّ بها الحال حين بنت دولة القانون والحريات والحكم المدني والمساواة. معنى هذا أن نقد حركة الإصلاح الديني، على أهميته، كان جزئياً وغير راديكالي بالكامل. وهذا الجهد الراديكالي الحاسم جاء على يد فلاسفة الأنوار ومفكريه. حراك الإصلاح الديني كان التحرر الأول، والذي تمثل بازدهار الآداب والفنون والموسيقى وغيرها، وما أكمل هذا الجهد وقدّم تحررا ثانياً للعقل العام والثقافة الغربية كان جهد الفلاسفة التنويريين الكبار الذين انتصروا، بشكل نهائي للعقل والحرية والإنسان على حساب النصوص الدينية والكنيسة والأيقونات المقدسة. كان روّاد هذا الجهد "فولتير وجان جاك روسو والموسوعيين الفرنسيين من أمثال ديدرو ودالامبير، وآخرين. وقد بلغت هذا الجهود ذروة نضجها الفلسفي على يد كانط، زعيم التنوير الألماني، أو ما يدعى بـ«الأوفكلارونغ». ويرى الباحثون أن الفلسفة المثالية الألمانية، وعلى رأسها كانط وفيخته وهيغل وشيلنغ، ليست بشكل من الأشكال إلا علمنة للإصلاح اللوثري. وهكذا حقق الفكر الأوروبي قفزة جديدة إلى الأمام. وكان هذا هو التحرير الكبير الثاني في تاريخ الفكر الأوروبي. فقد تبلور عندئذٍ مفهوم عقلاني مستنير وجديد كلياً للدين.[1]

يتأخر الإصلاح الديني الحقيقي في العالمين العربي والإسلامي لأنّ أحد اركانه الأساسية وهم علماء الدين في غالبيتهم العظمى لا يقومون بواجبهم الإصلاحي، وهم ما زالوا غير مقتنعين بأنّ ما لدينا من مدونات فقهية وتأويلات وشروحات للنص الديني بحاجة ماسّة إلى المراجعة والنقد والتفكيك والإضافة والحذف والتطوير لكي تنسجم مع روح العصر والتقدم البشري، أيْ قيم الحرية وحقوق الإنسان واحترام مبدأ المساواة بين البشر وتعزيز الثقة بهم.

كانت البروتستانتية واللوثرية والكالفنية حركة إصلاحية من داخل السياق الديني الأوروبي؛ فمارتن لوثر كان راهباً ألمانياً والفرنسي كالفن كان قسّاً وأستاذاً لتعليم الإنجيل، غير أنّ هذا لم يمنعه من الدعوة إلى وجوب خضوع الكنيسة للمراقبة وبأن يكون عملها شأناً عاماً قابلاً للأخذ والردّ. كالفن أعاد السلطة للكتاب المقدس بعدما كانت السلطة هي الكنيسة التي جعلت الكتاب المقدس يستمد منها سلطته.

ريجيس دوبريه يلفت النظر في إحدى مقارباته إلى أنّ تطوّر الغرب انتقل من عصور الانحطاط (القرون الوسطى) إلى النهضة، لكنّ التاريخ الإسلامي عرف النهضة قبل عصور الانحطاط، وينبه دوبريه إلى أهمية القراءات التي تذهب إلى أنّ الإسلام ولِد علمانياً، وهو ما يعلّق عليه الباحث التونسي يوسف الصديق بالقول: "الإسلام حتى وإنْ ولد علمانياً، فإنه لم يبق كذلك بعد القرن الثالث هجري حين اكتمل تدوين الحديث والمذاهب الفقهية"[2].

اليوم، تُستعاد كل هذه المواضعات لأننا لا نعدم العثور على بعض مشاهد الاقتتال المذهبي والطائفي وأحياناً سياسات تطهير مذهبي وإعادة تشكيل للهندسة الاجتماعية وإعادة هيكلة للديمغرافيا على أسس مذهبية وطائفية. من أمثلة ذلك ما حدث في مناطق كفريا والفوعة والزبداني وحمص في سوريا. وهو ما حدث سابقاً في العاصمة العراقية بغداد بعد الغزو الأميركي عام 2003، حيث جرى إعادة هيكلة ديمغرافية للعاصمة وفق شروط المنتصرين والحكم الجديد. وتقول الأبحاث إن عملية "إعادة التوزيع المذهبي" قبل وإبّان حرب الثلاثين عاماً (1618 ـ 1648) جعلت جنوب أوروبا يكاد يخلو من البروتستنانتيين تماماً، وشمالها كاد يخلو من الكاثوليك، كما تذكر المؤرخة البريطانية سيسلي فيرونيكا ويدغور.[3] وبعد ذلك، رفع ملك فرنسا الشهير لويس الرابع عشر شعاره المعروف: "إيمان واحد، مَلِكٌ واحد، قانون واحد"، أيْ أنّ فرنسا لا تتسع إلا لمذهب واحد هو مذهب الأغلبية الكاثوليكية، وبالتالي فما على الآخرين إلا اعتناقه فوراً أو الرحيل من البلاد أو القتل والذبح. ووفق هذا المنطق الإقصائي تم تفريغ المملكة الفرنسية من أقليتها البروتستانتية. بعض ملامح هذا الإقصاء نجده اليوم لدى المتطرفين السنّة والشيعة على حدّ سواء، ومن هنا يبقى السؤال معلقاً فيما إذا كنّا مهيأين لأنْ تكون هذه الأحداث التي نعيشها صدمة وقنطرة للعبور نحو التحرر من التعصب الديني والعمى الأيديولوجي والغرور الطائفي والتعافي الثقافي، مثلما أنتجت حروب الثلاثين عاماً في أوروبا معاهدة ويستفاليا عام 1648، التي أسست لمبادئ السيادة الوطنية وفصل الدين عن الدولة وشكلت الإطار الحديث للدولة فكانت منعطفاً تاريخياً في الفكر والسياسة والعلاقات الدولية؟.


[1] هاشم صالح، من الإصلاح الديني إلى التنوير الفلسفي، صحيفة الشرق الأوسط، لندن، (10 أكتوبر 2014)، رابط:

http: //archive.aawsat.com/leader.asp?section=3&issueno=13100&article=790185

[2] ريجيس دوبريه: اليتم الرمزي وخطاب التسامح الفوقي، صحيفة العربي الجديد، لندن (29 اكتوبر2015)، رابط:

http: //www.alaraby.co.uk/culture/2015/10/29/ريجيس-دوبريه-اليتم-الرمزي-وخطاب-التسامح-الفوقي

[3] سيسلي فيرونيكا ويدغود، حرب الثلاثين عاماً،، نيويورك - ريفيو أوف بوكس، 2006