اليهودية، الديانة التوحيدية الأقدم


فئة :  مقالات

اليهودية، الديانة التوحيدية الأقدم

تعتبر اليهودية الأقدم في الديانات التوحيدية الإبراهيمية القائمة اليوم، نسبة إلى إبراهيم (1800 ق.م.)، لكن اليهودية تنسب إلى موسى (1250 ق.م.). وممن نعرف في القرآن قبل موسى وبعد إبراهيم، إسماعيل وشعيب، إلا أنّنا لا نعرف لهما اليوم كتبًا وأتباعًا. وقد يكون النبي شعيب (يثرون)، أو حفيده الذي يحمل الاسم نفسه وهذا هو المرجح، هو والد زوجة موسى، كما في القصة الواردة في القرآن والتوراة عن هروب موسى وزواجه!

وتولى مع موسى ومن بعده قيادة بني إسرائيل أخوه هارون، ثم يوشع بن نون المشار إليه بفتى موسى في قصة موسى والخضر في سورة الكهف. وبعد وفاته قاد الشعب اليهودي طبقة من القضاة، كان آخرهم شاؤول (طالوت). ثم أسس داود الذي كان فتى في جيش طالوت وقتل جالوت، مملكة إسرائيل في القدس، وخلفه ابنه النبي سليمان. وبعد وفاة سليمان العام 975 ق.م.، انقسمت الدولة اليهودية إلى مملكتين: الأولى، هي الجنوبية "يهودا"، بقيادة رحبعام بن سليمان، وعاصمتها القدس. وقد انتهت هذه الدولة العام 586 ق.م. على يد نبوخذ نصر البابلي. والثانية، هي مملكة شومرون الشمالية وعاصمتها نابلس. وقد انتهت بعد مائتين وخمسين سنة (722 ق.م) من قيامها على يد الآشوريين، بقيادة سرغون الثاني.

حسب موقع وزارة الخارجية الإسرائيلية، فإنّ اليهودية تستمد شرائعها وعقائدها الأساسية من التوراة؛ وهي أول خمسة أسفار من الكتاب المقدس. وأهمّ تعاليم الديانة اليهودية وعقيدتها، الإيمان بالله الواحد الأحد، الفرد الصمد. وقد خلق جميع الناس على صورة الله الذي يستحق المعاملة بكرامة واحترام. ويعبد اليهود الله بالدراسة والصلاة ومراعاة الوصايا التي أوردتها التوراة. ويمكن أن يفهم هذا الإيمان بالعهد التوراتي على أنّه "عهد" الشعب اليهودي"وشهادته" "ورسالته".

اليهودية ليست ديانة تبشيرية نشطة. ويعتبر الشخص يهوديًّا إذا كانت أمه يهودية، أما إذا كان والد طفل يهوديًّا وأمه غير يهودية فلا يعتبر يهوديًّا. ويجري القبول في اليهودية بقرار السلطات الدينية اليهودية صاحبة الشأن. ومسألة اعتناق الديانة ليست مجرد مسألة تحقيق معرفة ذاتية شخصية.

ويعرض عمر أمين مصالحة في كتابه "اليهودية ديانة توحيدية أم شعب مختار"، التيارات اليهودية ذات التأثير في المجتمعات اليهودية، ومنها الأرثوذكسية اليهودية التي ظهرت في أوائل القرن التاسع عشر، وجاءت ردة فعل على التيارات التحررية الإصلاحية بين اليهود. وبالرغم من أنّ الأرثوذكسية كانت مناهضة للصهيونية، فإنّها هذه الأيام تقاربت معها. وهناك "الحريديم" التي يمتاز أتباعها بمظهرهم الخارجي الخاص بهم، ولهم معاهدهم التعليمية الخاصة؛ و"الحسيدية" التي بدأت في جنوب بولندا وفي أوكرانيا في القرن الثامن عشر. و"القابالاه"؛ أي الصوفية التي تدور في إطار توحيدي، يصدر عن الإيمان بالله الذي يتجاوز الإنسان والطبيعة والتاريخ، والثنائيات الدينية.

ومن الفئات الاجتماعية عند اليهود "الكهنة". ويجب أن يكون حامل هذا اللقب من نسل هارون أخي النبي موسى. والذي يلقب بالكاهن، تنطبق عليه المحظورات المختلفة، ويتمتع بمزايا خاصة، مثل تلاوة التوراة في الكنيس اليهودي. و"الكهنة" طبقة مغلقة، لا يستطيع أحد من خارجها الانتماء إليها. فيما لا يحق للكهنة امتلاك أرض، أو أن يرثوا مالًا، لكنهم معفون من الضرائب.

كذلك، يوجد في المجتمع اليهودي "القراؤون" الذين يعتبرون أنفسهم اليهود الحقيقيين، ويعتبر عنان ابن داود المؤسس لهذه الطريقة. ويعتقد أنّها حركة تأثرت بالإسلام، مثل إبطال نجاسة الميت، وتحريم شرب الخمر، وأحكام المحارم والميراث، وعادات الوضوء والاغتسال قبل دخول المعبد. وهناك "الفلاشا"، وربما يكون أصل التسمية "فلسطين"، وهم يهود إثيوبيا. ويعود أصلهم إلى جنوب شبه الجزيرة العربية، وربما جاؤوا من صعيد مصر، أو ربما من الذين استوطنوا إثيوبيا ويؤمنون بالعناصر اللاهوتية المشتركة بين المسيحيين واليهود في إثيوبيا. و"الجعزية" هي لغة العبادة بين اليهود والمسيحيين هناك. وبالرغم من اعتراف الحاخامية بالفلاشا، إلا أنّ الاعتراف لم يكن كاملاً، حتى أنّ مدينة إيلات رفضت أن تمد لهم الماء والكهرباء، لأنّها مدينة سياحية ووجودهم لا يجتذب السياح. فيما ترفض جماعات "الفلاشا" أن تبعث أولادها إلى المدارس الدينية، ويقال إنّ هناك تقاربًا بعقيدتهم مع المسلمين. لكن "الفلاشا" اندمجت فيما بعد مع المؤسسات الحديثة، وظهر نموذج الفلاشي الجديد المتعلم الذي يتولى أمور الجماهير ويدافع عن حقوقهم.

الأصولية اليهودية

تصاعدت الظاهرة الأصولية اليهودية وبدأت تؤثر في المجتمع والسياسة في إسرائيل، وبالطبع فإنّ اغتيال رئيس الوزراء الأسبق إسحق رابين عام 1995 يعتبر المؤشر الأهم على خطورة الظاهرة، ولكن تأثير الأصولية اليهودية يتعدى ذلك إلى موجة خطيرة تهدد إسرائيل والعالم بسبب نفوذها المتنامي في إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية. وفي كتابهما "الأصولية اليهودية في إسرائيل" يقدم البروفيسور إسرائيل شاحاك الأستاذ في الجامعة العبرية في القدس (توفى عام 2001) واليهودي الأمريكي نورتون متسفينسكي رؤية ودراسة مفادها أنّ ظاهرة الأصولية اليهودية هي أكثر الاتجاهات تأثيرًا وخطورةً في إسرائيل.

ينقسم اليهود من حيث علاقتهم بالدين إلى ثلاثة أقسام: العلمانيون ويشكلون ما بين 25 - 30% من اليهود، والتقليديون ويشكلون 55 - 50% من المجتمع، والمتدينون ويشكلون حوالي 20% من السكان، وينقسم المتدينون إلى قسمين: المتطرفون الحريديم (والحريديم هي جمع حريدي وتعني التقي) ويمتاز هؤلاء بارتداء القبعات السوداء غير المشغولة والملابس السوداء، أما القسم الثاني من المتطرفين اليهود فهم المتدينون القوميون، وهم ذوو الطواقي المشغولة.

ويتوزع تأييد الحريديم السياسي على حزبين رئيسيين هما يهدوت هاتوراه (يهودية التوراة وهو حزب الحريديم الأشكناز القادمين من أوروبا الشرقية، أما الحزب الثاني فهو حزب السفارديم (حراس التوراة) الشهير باسم شاس، وهو حزب الحريديم الشرقيين أو السفارديم الذين قدموا إلى فلسطين من الدول العربية.

أما المتدينون القوميون فينتظمهم بشكل أساسي الحزب الديني القومي (المفدال)، وهو الحزب الأنشط في مجال الاستيطان اليهودي في الضفة الغربية.

أدى النجاح السياسي المدوي للحريديم في انتخابات عام 1988 إلى ظهور هؤلاء باعتبارهم قوة سياسية تأكدت وترسخت في التسعينات بسبب نجاحاتهم المتواصلة في الانتخابات، ولفت ذلك الانتباه إليهم وبخاصة في الولايات المتحدة، ونشرت عنهم الكثير من الكتب والدراسات باللغة الإنجليزية.

كيف حصلت الأحزاب الحريدية على نفوذها السياسي؟ وما البناء التنظيمي الذي استخدمه الحريديم من أجل تحقيق نجاحهم السياسي؟

ربما يقدم الاهتمام بالتعليم الإجابة على السؤالين السابقين، فقد سيطر الحريديم مباشرة أو على نحو غير مباشر على شبكات تعليمية كبيرة في إسرائيل، مما مكنهم من الانتقال من الهامش السياسي إلى القلب، وتجدر الملاحظة هنا إلى أنّ الثقل السياسي للحريديم يتركز في اليهود الشرقيين.

فقد كان اليهود المتدينون حتى عام 1948 يعتبرون الصهيونية وهجرة اليهود إلى فلسطين بدعة إشكنازية، ولذلك فإنّ مؤسسي إسرائيل هم من الأشكناز العلمانيين أو التقليديين، ويلاحظ كذلك أنّ التدين والفقر والتهميش كانت من السمات الغالبة على اليهود الشرقيين في مرحلة التأسيس، بينما هيمنت العلمانية على الأشكناز الذين شكلوا الطبقة الحاكمة والغنية والمتنفذة في الدولة الناشئة.

وشجع التمييز والإهمال اليهود الشرقيين على إنشاء مدارس دينية خاصة بهم شكلت فيما بعد قاعدة لحزب شاس الذي حصل على دعم مالي كبير استخدم في بناء المدارس، وتمويل المنقطعين للدراسات الدينية، وبناء مجموعات كبيرة من المؤيدين والمتطوعين في العمل السياسي لصالح الحزب، واستطاع شاس أن يكون الحزب السياسي الشرقي الوحيد في الوقت الذي فشلت فيه محاولات العلمانيين الشرقيين في الحصول على تأييد الإسرائيليين.

ويعبر عن اليهود القوميين الأشكناز الحزب الديني القومي، وجماعة غوش إيمونيم الاستيطانية التي حصلت على دعم كبير من وزير الخارجية الإسرائيلي الحالي شمعون بيريز الذي كان يشغل منصب وزير الدفاع في حكومة إسحق رابين الأولى(1977- 1974) وتحولت الجماعة الاستيطانية إلى قوة سياسية واستيطانية كبيرة ومؤثرة.

وتقوم فكرة الحزب على تعاليم القبالاة (الصوفية اليهودية) التي تبلورت بين اليهود الأشكناز في القرن السابع عشر الميلادي والتي تتضمن أفكارًا مبالغًا في عنصريتها تجاه غير اليهود.

وعلى عكس جماعات اليهود الشرقيين المتدينين فإنّ الحزب القومي الديني وذراعه الاستيطانية غوش إيمونيم يشجعون منتسبيهم على الانخراط في الجيش، وكان ضباطهم وجنودهم الأكثر تميزًا في القتال، وأقاموا جامعة بار إلان التي تدرس إضافة إلى التعليم التخصصات الأكاديمية الأخرى.

ويمثل باروخ غولدشتاين نموذجًا للتفكير والسلوك الأصولي اليهودي، فهذا اليهودي القادم من الولايات المتحدة اقتحم المسجد الإبراهيمي في الخليل عام 1994 وقتل 29 شخصًا من بينهم أطفال أثناء أدائهم صلاة الفجر.

وكان غولدشتاين طبيبًا في الجيش الإسرائيلي، وقد رفض مرات عدة معالجة العرب حتى الذين يخدمون في الجيش الإسرائيلي، وقد فشلت محاولات محاكمته لرفضه الأوامر العسكرية مرات كثيرة، وبعد خلاف كبير مع المسؤول الطبي للجيش نقل للعمل في مستوطنة كريات أربع بالرغم من أنّ سلوكه يعد تمردًا وخيانةً.

وكان على الرغم من عصيانه مرشحًا للحصول على ترقية شرف من كابتن إلى ميجور، وكان مفترضًا أن يمنحه رئيس إسرائيل الترقية في 14 أبريل 1994، ذكرى قيام إسرائيل، لكنّه قتل بعد تنفيذه المذبحة على يد المصلين الذين اندفعوا لمنعه من مواصلة جريمته.

ولم تعتذر الحكومة الإسرائيلية عن المذبحة، وبرر ما قام به غولدشتاين مثل أنّه تعرض لضغوط لا تحتمل وأنّ المسؤول عن المذبحة هم العرب!!. وقد رتبت جنازته بعناية فائقة لم يكن فيها إنكار للمذبحة، وغطيت جدران كثير من الأحياء بالملصقات التي تمجد غولدشتاين وتأسف لأنّه لم يقتل المزيد من العرب، وكان الأطفال يرتدون قمصانًا كتب عليها "غولدشتاين شفى أوجاع إسرائيل" وتحولت الكثير من الحفلات الموسيقية الدينية والمناسبات الأخرى إلى تظاهرة لتحية غولدشتاين، وسجلت الصحف العبرية هذه الاحتفالات بتفصيل ممل. وأعلن الكثير من المستوطنين والأعضاء في الحركات الأصولية تأييدهم لما فعله غولدشتاين في مقابلات صحفية وتلفزيونية، وأثنوا عليه بوصفه شهيدًا ورجلاً قديسًا. وقام الجيش بتوفير حرس شرف لقبره، وأصبح القبر مكانًا يحج إليه الإسرائيليون من كل مكان.

الشخصية اليهودية

الشخصية اليهودية ليست جامدة أو ثابتة على مدار التاريخ، ولذا ينبغي التعامل معها ضمن التبدلات الاجتماعية ومتغيراتها، مع ملاحظة التراث اليهودي وأثره في تركيب الشخصية اليهودية وتوجيهها. ربما تكون هذه العبارة هي الحكمة الأساسية التي يخرج بها القارئ لكتاب عز الدين عناية «الاستهواد العربي» وهي مسألة في غاية الأهمية في إدارة الصراع والعلاقة القائمة اليوم مع إسرائيل، لأنّ فهم هذه التحولات وإدراكها يساعد كثيرًا -بل وعلى نحو حاسم- في تحديد الأهداف المرغوبة والممكن الوصول إليها في تسوية الصراع. ويرى عز الدين عناية أنّ الاستهواد العربي الحديث في تناوله موضوع الميثولوجيا في التوراة حاول فصل هذه المقطوعات عن سياقها البنيوي العام وفحصها منفصلة، مما يوحي باستقلالية بينها، في حين تخضع المقطوعات الأسطورية التوراتية لمنطق موحد وجامع، اشترك فيه اليهود مع شعوب عدة كانت في درجة السلم الحضاري نفسها، مما أفضى إلى أن تسيطر على ذهنيته مفاهيم إحيائية وطوطمية كانت وسيلته لتفهم العالم. كان التسرب الأسطوري إلى اليهودية متداخلاً وغامضًا ومتدرجًا، ثم تكرس عبر الزمن، ومن خلال كتّاب متعددين وفي مراحل تاريخية مختلفة، وتتداخل الأساطير الذاتية الخاصة بالشعب العبري مع أساطير الشعوب الأخرى، ثم جرى تنسيق ذلك مع حركة التدوين. ويناقش كتّاب قضية الأضحية في التوراة، مثل محمد أحمد الطالبي، ومحمد أحمد حسن "مصر والعرب وإسرائيل" وعلي عبد الواحد وافي "الصوم والأضحية بين الإسلام والأديان السابقة" ويظهر فيها عمق تأثير الأديان المجاورة في الديانة اليهودية، فتذكر الأسفار اليهودية تقديم قرابين بشرية، مثل الملك آخاذ (853 ق.م) الذي قدم ابنه قرباناً للآلهة. تعامل الاستهواد العربي مع هذه القضايا وغيرها من منطلق تيارين، الدعوي يحاكمها إلى القرآن والمصادر الإسلامية، مثل الشيخ محمد سيد طنطاوي (بنو إسرائيل في القرآن والسنة) وأما كمال الصليبي (خفايا التوراة) فإنّه يحاول تفسير الوقائع حسب الإمكانيات العقلية والإدراكية لمنتجيها وأصحابها باعتبارها قصة حقيقية ومعيشية. ولكن غلب على التيار النقدي رفض هذه الأساطير دون تفهم اللامعقول التوراتي والتعامل معه من داخل شروطه التي نشأ في حضنها، أي إدراك الأبعاد التي سيطرت على التجربة الدينية لدى الإنسان في بداية وعيه الديني. كان الاهتمام العربي بالتلمود متأخرًا ومحدودًا، واعتمدت القراءة الحديثة على نص مترجم لكاتب ألماني اسمه روهلنغ، ترجمه يوسف نصرالله ونشر سنة 1899، ولكن عبدالعزيز الثعالبي "محاضرات في تاريخ المذاهب والأديان" نبه إلى خطأ الاعتماد على هذا المصدر المسيحي الوحيد وخطورته، وأشار إلى أنّ التلمود ليس مدونة عدائية ضد الإنسانية، بل هو مدونة فقهية دينية، وقال إنّ قسم المعاملات في التلمود فيه من الأحكام ما لا يختلف كثيرًا عمّا هو مدون في الفروع من الأحكام الفقهية الإسلامية، ولكنّ الفكرة المسيحية التي راجت في فترة العداء المسيحي- اليهودي تسربت إلى العرب في أجواء العداء العربي اليهودي. ولا يبدو ثمة اختلاف للتيار الدعوي بين اليهودي المناهض للدعوة الإسلامية في عهد النبوة وبين الإسرائيلي في القرن العشرين على الرغم من الفارق الزمني والاختلاف الظرفي بين الحدثين، انظر على سبيل المثال كتاب صلاح الخالدي "الشخصية اليهودية" وأما التيار النقدي فهو متأثر بانعكاسات حركة اللاسامية، ولهذا فقد جاء البحث في خفايا الشخصية اليهودية تكراراً لتمثلات الفكر الغربي في هذا المجال والتي ركزت على تحليل سلوكي لليهود قائم على الانطوائية والعنصرية. وهكذا فإنّ العربي الحديث في رؤيته لليهودي يرزح تحت ثقل تراث طويل ومتراكم بفعل العداء المسيحي اليهودي بالإضافة إلى العداء الإسلامي اليهودي، ويتجاهل الظروف التاريخية التي تعرض لها اليهود وبخاصة في الغرب ووقوعهم تحت هيمنة سلطوية دينية مغايرة فرضت عليهم تقسيماتها للفئات الاجتماعية.

الصهيونية المؤسسة لدولة إسرائيل! الحركة الصهيونية ليست جزءًا من التاريخ اليهودي وإنّما هي جزء من تاريخ الإمبريالية الغربية، فهي الحل الاستعماري للمسألة اليهودية، ولم يكن اليهود المؤسسون للصهيونية وإسرائيل متدينين، وفي عرضه لسيرته وطريقة تفكيره يقدم الدكتور عبد الوهاب أدوات معرفية مهمة في فهم قيام دولة إسرائيل وعلاقتها بالغرب، تصلح لمناقشة فكرة يهودية الدولة القائمة اليوم. كان تيودور هرتزل مؤسس الصهيونية علمانيًّا، ولم تكن زوجته يهودية، وقد تنصر أولاده من بعده. وكان يحتفل بعيد الميلاد (الكريسماس) ولم يكن يتناول الكوشير (الطعام اليهودي وفق الشريعة اليهودية). وكان من الناحية الثقافية ابن عصره الغربي، فكان يجيد الألمانية والإنجليزية والفرنسية والمجرية، ولم يكن يعرف العبرية. واضطر إلى أداء الصلاة اليهودية لأول مرة في المؤتمر الصهيوني (1897) مجاملة للحاخامات المشاركين. وتعلم بعض الكلمات العبرية، وقد بذل ـ حسب قوله ـ مجهودًا كبيرًا كي يتعلمها يفوق الجهد الذي بذله في إدارة جلسات المؤتمر.

ولكن يمكن أن يقال: كيف استطاع الوصول إلى رئاسة الحركة الصهيونية؟ الواقع أنّ هرتزل تعود خبرته لا إلى معرفته باليهود، وإنّما بالشخصيات الاستعمارية وموازين القوى العالمية والتشكيل الاستعماري الغربي. اكتشف هرتزل أنّه يمكن للغرب التخلص من اليهود عبر تحويل هجرة اليهود من العالم الغربي إلى مكان ما خارج حدوده، حيث يمكن توظيفهم لصالح الغرب الذي لفظهم، وهذه هي المفارقة الكبرى في حالة الصهيونية.

وقد أدرك هرتزل أنّه لا بد من اللجوء إلى الاستعمار الغربي باعتباره الآلية الوحيدة لتنفيذ مشروعه الاستعماري الاستيطاني الإحلالي، فقام بتأسيس المنظمة الصهيونية ليفاوض القوى الاستعمارية باسم يهود العالم، ولكن منظمته لم تكن تمثل إلا أقلية من اليهود لا يعتد بها، فكان العنصر الحاسم هو الدولة الاستعمارية الراعية وليس المنظمة، فتجاهل منظمته، وبدأ بحثه الدائب عن قوة غربية ترعى المشروع. ولم يكن المؤتمر الصهيوني الذي عقد في بال عام 1897 ونسجت حوله الأساطير مؤتمرًا سريًّا خطيرًا، ولكنّه نشرت وثائقه في الصحف، وحضره أشخاص أسماؤهم جميعًا ووظائفهم معروفة، وكان معظمهم من يهود أوروبا الشرقية وينتمون إلى جمعية صهيونية واحدة، وكان معظم الحضور من الطبقة الوسطى وربعهم من رجال الأعمال والباقي من الأدباء والطلبة. وكان بينهم ملحدون واشتراكيون وأحد عشر حاخامًا، فقد كانت المرجعية الدينية اليهودية تحرم العودة إلى فلسطين. وقد وصف روتشيلد هذه المجموعة بأنّهم مجموعة من الصغار والشحاذين والمغفلين الذين يقودهم هرتزل. كان هدف المؤتمر المعلن هو إقامة وطن قومي لليهود ترعاه واحدة أو أكثر من الدول الكبرى، وكان المؤتمر وكذلك المؤتمرات التالية علنية حضرها مراقبون غير يهود وممثلون لوسائل الإعلام.

وأصبح الحديث عن سيطرة اليهود واللوبي الصهيوني على الإعلام ومؤسسات صنع القرار في الغرب من ثوابت الخطاب السياسي والإعلامي العربي، ولكن السيطرة الإعلامية سببها الحقيقي هو أنّ الصهيونية جزء من التشكيل الاستعماري الغربي، ولم تكن هذه السيطرة بسبب الثراء والمخططات اليهودية. فاللوبي الصهيوني وإمكانياته الإعلامية والاقتصادية هي أداة الغرب الأقل كلفة؛ دولة وظيفية عميلة للولايات المتحدة تؤدي كل ما يوكل إليها من مهام، تشبه العلاقة بين فرنسا والمستوطنين الفرنسيين في الجزائر أثناء الاستعمار الفرنسي للجزائر، وبين بريطانيا والمستوطنين الإنجليز في روديسيا. فقوة الحركة الصهيونية تنبع من أنّها تخدم المصالح الأميركية، وهكذا يجب أن يفهم سر سطوة الإعلام الصهيوني، وسر نفوذ اللوبي الصهيوني. فالحركة الصهيونية ليست جزءًا من التاريخ اليهودي، ولا هي جزء من التوراة والتلمود بالرغم من استخدام الديباجات التوراتية والتلمودية. وإنّما هي جزء من تاريخ الإمبريالية الغربية، فهي الحل الاستعماري للمسألة اليهودية. ولذلك فإنّها لم تظهر بين يهود اليمن أو المغرب، وإنّما ظهرت بين يهود الغرب، ولم تظهر بينهم في العصور الوسطى على سبيل المثال، وإنّما في أواخر القرن السابع عشر مع ظهور التشكيل الاستعماري الغربي وبدايات استيطان الإنسان الغربي في العالم الجديد وفي آسيا وأفريقيا. وقد ظهرت في بداية الأمر بين مفكرين استعماريين غير يهود، ثم تبناها بعض المثقفين اليهود من شرق أوروبا ووسطها. لقد كانت فكرة الدولة اليهودية في فلسطين استعمارية أطلقها قادة استعماريون يكرهون اليهود، وقبل وجود تأثير يهودي في الغرب، مثل نابليون وبسمارك وبالمرستون وبلفور.