بولس وإشكالية انفصال الكنيسة عن المعبد (دراسة في رمزية الختان وقدسيته)


فئة :  مقالات

بولس وإشكالية انفصال الكنيسة عن المعبد (دراسة في رمزية الختان وقدسيته)

مقدمة

لا يختلف اثنان حول الأصول اليهودية للسيد المسيح فقد بعث رسولاً لخراف بني إسرائيل الضالة على حد تعبيره، فدعوته كانت خاصة لقومه دون غيرهم. كما لا يختلف اثنان على أنّ بولس أو شاول هو من غيّر مسار دعوة السيد المسيح من دعوة محدودة أو بالأحرى من حركة تصحيحية للدين الموسوي داخل المجتمع اليهودي إلى دعوة عالمية وضع أسسها وأقام أعمدتها معتمداً في ذلك على رسائله ورحلاته. ما عليه أغلب الآراء المهتمة بالدراسات المسيحية بخصوص القطيعة بين اليهودية والمسيحية (المؤمنة بنظرية المؤامرة) مرجعه بالأساس وبشكل مباشر إلى بولس الطرسوسي، الذي كان هدفه الوحيد من اعتناق المسيحية هو فصل الديانتين عن بعضهما، وقد كانت قضية إلغائه الختان مقدّمة لهذا الأمر. وسنثبت في هذه المقال عدم مصداقية هذه النظرية معتمدين على أدلة داخلية من "العهد الجديد"، وسنحاول تقديم إجابة شافية لهذا الطرح مدافعين عنه.

دعوة السيّد المسيح

مهّد يوحنا المعمدان الطريق للسيد المسيح أثناء قيامه بالتعميد في نهر الأردن، وقد كان السيد المسيح من بين الأشخاص الذين تعمّدوا أيضاً على يديه. باشر ابن مريم دعوته وجهر بها في الجليل أوّلاً بعد مقتل نبي الله يحيى ثم بباقي المدن المجاورة التي تقع في النطاق الحدودي لليهودية إلى أن وصل إلى أورشليم.

بداية دعوته كانت عنيفة خصوصًا عند احتكاكها بأفراد الطبقة العليا الساهرة والمسيِّرة للشأن الديني اليهودي، فقد كانوا رافضين لأي تغيير يسلبهم هيبتهم وثرواتهم. دوّنت أسفار العهد الجديد كل ذلك ناقلة صورة واضحة عن كل تلك الأحداث المتكررة للصراع مع مختلف الفرق اليهودية من كتبة وفريسيين وصدوقيين داخل أروقة الهيكل. وقد بلغت حدّتها بمحاولة التخلّص منه كلما سمحت لهم الظروف للقيام بذلك، كان آخرها اتفاقهم مع يهوذا الإسخريوطي لتسليمه لهم. مؤامرة نجّاه الله منها وألقى شبهه على التلميذ الخائن عقاباً له.

تمثلت دعوة السيد المسيح في إدخال الأمور الأخلاقية مع تخفيف بعض القيود عن بني إسرائيل نتيجة تشدّدهم في التنزيل الحرفي للناموس على الأرض وطغيان الجانب المادي عليهم. يقول متّى: "من لطمك على خدّك الأيمن فحوّل له الآخر أيضًا ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضًا"[1]. ومن نماذج التخفيف قوله تعالى: "مصدّقًا لما بين يدي من التوراة ولأحلّ لكم بعض الذين حرّم عليكم"[2].

بولس، توصيف تاريخي لسيرته

 ولد بولس بطرسوس[3] من أبوين فريسيين من سبط بنيامين[4]، في سنّ الخامسة تعلّم القراءة في الكتاب القدسي باللغة العبرية واللغة اليونانية السبعينية، واللغة الآرامية، المحكية في الجالية، فقرأ الشريعة، وتعلّم أحكام المشنة أي سُنّة الشيوخ، وهي الشريعة الشفوية، وأحكام التوراة،[5] فتفوّق على أقرانه على حدّ قوله: "كنت أتفوّق في الملة اليهودية على كثير من أقراني في أمتي إذ كنت أغار بإفراط على سُنّة آبائي"[6]، بعد ذلك انتقل إلى أورشليم لتعلّم الشريعة والفقه في مدرسة رابي هليل على يد حفيده جمالئيل، يقول بولس: "ربيت في هذه المدينة مؤدبًا عند رِجلَي جمالائيل على تحقيق الناموس الأبدي"[7].

كان بولس صانع خيام بطرسوس وقد حصل على الجنسية الرومانية كما يقول سفينسيسكايا[8] بسبب مهنته، فصناعة الخيام كانت تلزم أكثر ما تلزم الجيش، فطبيعة الخدمة التي كان يؤديها للجيش الروماني خوّلت له الحصول على هذا الامتياز. ولما انتقل إلى أورشليم عمل حارساً في الهيكل، وهذا ما يفسّر وجوده في الساحة التي رجم فيها استيفانوس حتّى الموت، حيث راح يحرس الثياب التي خلعها الجلاّدون[9].

استمرّ بولس في محاربة أتباع السيد المسيح داخل حدود اليهودية، ولما فرّ مَن فرّ إلى الخارج طلب من رئيس الكهنة الإذن بملاحقة المرتدّين وإرجاعهم إلى أورشليم، فحدث أن تحوّل بولس في طريقه إلى دمشق لحركة "المسيحية الناشئة" فأصبح بعد ذلك من أكبر المدافعين عنهم والمنظّرين لدعوتهم. سافر مع برنابا فيما يعرف برحلة بولس التبشيرية الأولى، إلا أنّهما اختلفا قبل بدء الرحلة الثانية فافترقا كل في طريق مختلف عن الآخر، وقد انتصرت دعوة بولس المثقف واشتهرت على حساب دعوة برنابا وباقي الحواريين البسطاء الصيادين. لذلك يعتبر النقدُ التاريخي في القرنين الماضيين بولسَ المؤسّس الفعلي للمسيحية[10].

الختان والانشقاق المسيحي عن اليهودية

كما ذكرنا في مدخل هذا المقال فقد كانت دعوة بولس بمثابة الجدار الفاصل بين العهد القديم والعهد الجديد واستقلال الأخير بكنيسة أنطاكيا بتركيا وبقاء الأوّل بهيكل أورشليم المركز الروحي لليهودية بفلسطين.

أولى الفرضيات التي أسّست لهذا الانفصال مسألة الختان وتعويضها بالمعمودية بالنسبة إلى اليونانيين المتهوّدين، فقد اعتمد أصحاب الرأي القائل بأنّ بولس هو من دعا المهتدين الجدد لترك الختان والاقتصار فقط على الإيمان بالمسيح مخلصاً لتحقيق النجاة كأوّل إشارة فاصلة في هذا الأمر، وقد استدلوا بقول بولس في رسالته إلى أهل غلاطية حيث يقول: "ها أنا بولس أقول لكم إنّه إن اختتنتم لا ينفعكم المسيح شيئاً"[11]، وفي رسالة أخرى يقول: "فإنّ الختان ينفع إن عملت بالناموس. ولكن إن كنت متعديًا الناموس، فقد صار ختانك غرلة! إذا إن كان الأغرل يحفظ أحكام الناموس، أفما تحسب غرلته ختانًا؟ وتكون الغرلة التي من الطبيعة، وهي تكمّل الناموس، تديّنك أنت الذي في الكتاب والختان تتعدى الناموس؟ لأنّ اليهودي في الظاهر ليس هو يهوديًّا، ولا الختان الذي في الظاهر في اللحم ختانًا، بل اليهودي في الخفاء هو اليهودي، وختان القلب بالروح لا بالكتاب هو الختان، الذي مدحه ليس من الناس بل من الله"[12].

إنّ الناظر في هذه الأقوال ليجد بأنّ موقف بولس كان واضحاً من ختان الأمميين الذين قبلوا دعوة السيد المسيح، لكنّنا إن رجعنا إلى الخلف قليلاً وأردنا التأصيل للمسألة، فإنّنا نجد بأنّ بولس لا دخل له في هذا التغيير الطقوسي للمهتدين الجدد، فقد أثير مشكل الختان بعدما أرسل الحواريون برنابا - الذي أرسل بدوره لبولس من أجل مرافقته - إلى أنطاكيا لتثبيت من اعتنق اليهودية من اليونانيين ومباركته. يقول لوقا: "وأما الذين تشتتوا بسبب الضيق الذي وقع بشأن إسطفانس، فإنّهم انتقلوا إلى فينيقية وقبرس وأنطاكية، لا يكلمون أحدًا بكلمة الله إلا اليهود، غير أنّه كان منهم قبرسيون وقيرينيون، فلما قدموا أنطاكية، أخذوا يكلمون اليونانيين أيضًا ويبشّرونهم بالرب يسوع، وكانت يد الرب معهم فآمن منهم عدد كثير فاهتدوا إلى الرب. فبلغ خبرهم مسامع الكنيسة التي في أورشليم، فأوفدوا برنابا إلى أنطاكية، فلّما وصل ورأى نعمة الله، فرح وحثهم جميعًا على التمسك بالرب من صميم القلب، لأنّه كان رجلاً صالحًا، ممتلئًا من الروح القدس والإيمان. فانضم إلى الرب خلق كثير، فمضى إلى طرسوس يبحث عن شاول، فلما وجده جاء به إلى أنطاكية، فأقاما سنة كاملة يعملان معًا في هذه الكنيسة ويعلمان خلقًا كثيرًا، وفي أنطاكية سمي التلاميذ أول مرة مسيحيين"[13].

بعد ذلك قدم بعض اليهود لأمور تجارية إلى أنطاكيا وبدؤوا يحثّون اليهود الجدد على ضرورة الختان حتى يتحقّق لهم الخلاص حسب ما تقتضيه شريعة موسى عليه السلام، يقول مؤلف أعمال الرسل: "ونزل أناس من اليهودية وأخذوا يلقنون الإخوة فيقولون: إذا لم تختتنوا على سُنّة موسى، لا تستطيعون أن تنالوا الخلاص، فوقع بينهم وبين بولس وبرنابا خلاف وجدال شديد. فعزموا على أن يصعد بولس وبرنابا وأناس منهم آخرون إلى أورشليم حيث الرسل والشيوخ للنظر في هذا الخلاف، فشيعتهم الكنيسة، فاجتازوا فينيقية والسامرة يروون خبر اهتداء الوثنيين، فيفرح الإخوة كلهم فرحًا عظيمًا، فلما وصلوا إلى أورشليم رحبت بهم الكنيسة والرسل والشيوخ، فأخبروهم بكل ما أجرى الله معهم، فقام أناس من الذين كانوا على مذهب الفريسيين ثم آمنوا، فقالوا: يجب ختن الوثنيين وتوصيتهم بالحفاظ على شريعة موسى، فاجتمع الرسل والشيوخ لينظروا في هذه المسألة"[14].

ويوضح ول ديورانت قدسية طقس الختان بالنسبة إلى اليهود: "لم يكن الختان عند اليهودي من الطقوس التي توجبها صحة الجسم، بقدر ما كان رمزاً مقدساً لعهده القديم الذي عاهد عليه الله، ولهذا روع اليهودي المسيحي حين فكر في نكث ذلك العهد"[15].

بعد أخذ وردّ ونقاش بين الحواريين ومختلف الطوائف اليهودية بالهيكل، تقرر حسب رواية سفر أعمال الرسل رفع الختان عن الأمميين بناءً على الكلمة التي تناوب عليها كل من بطرس ويعقوب. ولتوضيح الأمر أكثر ندرج كلمة كل منهما زيادة في التوضيح، قال بطرس: "أيّها الإخوة، تعلمون أنّ الله اختار عندكم منذ الأيام الأولى أن يسمع الوثنيون من فمي كلمة البشارة ويؤمنوا والله العليم بما في القلوب قد شهد لهم فوهب لهم الروح القدس كما وهبه لنا، فلم يفرّق بيننا وبينهم في شيء، وقد طهّر قلوبهم بالإيمان، فلماذا تجرّبون الله الآن بأن تجعلوا على أعناق التلاميذ نيرًا لم يقو آباؤنا ولا نحن قوينا على حمله؟ فنحن نؤمن أنّنا بنعمة الرب يسوع ننال الخلاص كما ينال الخلاص هؤلاء أيضًا"[16]. أمّا كلمة يعقوب فأهّم ما جاء فيها قوله: "ولذلك فإنّي أرى ألا يضيّق على الذين يهتدون إلى الله من الوثنيين، بل يكتب إليهم أن يجتنبوا نجاسة الأصنام والفحشاء والميتة والدم"[17].

انطلاقًا مما ذكرنا يتبين لنا بأنّ مسألة رفع الختان عن اليونانين الذين قبلوا دعوة السيد المسيح لم تكن من بنات أفكار بولس، وإنّما كانت قراراً جماعياً للهيئة العليا للحواريين بأورشليم. وأنّ تعويض الختان بالمعمودية على حد قول بعضهم هو باطل لسببين:

ü  الأول هو أنّ النص الصريح الذي خرج به الحواريون في مسألة الختان لم تُذكر فيه كلمة المعمودية أو نحوها،

ü والثاني هو أنّ المعمودية كانت من قبل في نهر الأردن تتم على يد يحيى عليه السلام لليهود المختونين. فكيف يصحّ القول بتعويض الختان بالمعمودية.

يقول دافيد نيوهاوس David Neuhaus: "لم تكن اليهودية والمسيحية في مرحلة بولس ديانتين منفصلتين في الحقيقة، فبولس بدّل توجّهه لكنه بقي داخل اليهودية بتغيير اليهودية الفريسية بيهودية مسيحية"[18]، ويقول في موضع آخر: "إنّ انفصال المسيحية عن اليهودية متأخر عن بولس"[19]. فالرأي الأخير لصاحبه أظهر بوضوح أنّ مسألة انفصال المسيحية الناشئة عن الرحم اليهودي لم يكن في الفترة التي كان بولس يكرز بدعوته للأمم الوثنية، على الرغم من خلافه مع برنابا وباقي الرسل واستقلاله بلاهوته الخاص عن السيد المسيح، وبالتالي لم يكن لحداثة الختان أي دور في الأمر.

فالمسألة أعمق بكثير من مجرّد ربط سطحي لحدث الختان مع ما اشتهر به بولس من اجتهادات ذات حمولة فلسفية وغنوصية متأثراً في ذلك بما كان شائعًا من أفكار دينية في الجزء الشرقي من البحر الأبيض المتوسط، فأدخلها للمسيحية وشوّه بها رسالة السيد المسيح وأخرجها من إطار الوحي الإلهي الموجّه لليهود خاصة إلى سيناريو أسطوري موجّه إلى الوثنيين عامة.

        

لائحة المراجع:

-   القرآن الكريم

-  الكتاب المقدس

-   إ.س. سفينسيسكايا، المسيحيون الأوائل والإمبراطورية الرومانية (خفايا القرون)، ترجمة حسان مخائيل إسحاق، دار علاء الدين، سوريا، الطبعة، 2000

-   فراس السواح، ألغاز الأناجيل، دار التكوين، دمشق، 2012

-    مجموعة من المتخصصين، قاموس الكتاب المقدس، هيئة التحرير: بطرس عبد الملك، إبراهيم مطر، جون الكسندر طمسن، عن مجمع الكنائس في الشرق الأدنى، 1971

-    يوسف درة الحداد، فلسفة المسيحية، سلسلة دراسات إنجيلية العدد الثالث، المكتبة البولسية، لبنان، 1968

-   David M. Neuhaus, À La rencontre de Paul, Connaitre Paul Aujourd’hui? un changement de paradigme, Revue - Recherches de Science Religieuse, 2002/3 Tome 90.


[1] متى )5: 39- 40 (

[2] سورة آل عمران، الآية 50

[3] عاصمة كيليكيا في شرقي آسيا الصغرى وهي مبنية على ساحل متسع على بعد 12 ميلاً من كلٍ من البحر المتوسط وجبل طوروس. أنشأ الرومان إقليم كيليكيا في سنة 64 ق. م. جعلوا طرسوس مقر الحاكم. ولا تزال تدعى طرسوس إلى اليوم، وهي مدينة تركية. قاموس الكتاب المقدس، مجموعة من المتخصصين، هيئة التحرير: بطرس عبد الملك، إبراهيم مطر، جون ألكسندر طمسن، عن مجمع الكنائس في الشرق الأدنى، 1971، ص 575

[4] أنظر رومية (11: 1) وفيلبي (7: 5)

[5] فلسفة المسيحية، يوسف درة الحداد، سلسلة دراسات إنجيلية العدد الثالث، المكتبة البولسية، لبنان، 1968، ص 51 و52

[6] أنظر غلاطية (1: 14)

[7] أعمال الرسل (22: 3)

[8] إ.س. سفينسيسكايا، المسيحيون الأوائل والإمبراطورية الرومانية (خفايا القرون)، ترجمة حسان مخائيل إسحاق، دار علاء الدين، سوريا، الطبعة، 2000، ص 100

[9] فراس السواح، ألغاز الأناجيل، دار التكوين، دمشق، 2012، ص 350

[10] David M. Neuhaus, A La rencontre de Paul, Connaitre Paul Aujourd’hui ? un changement de paradigme ? Revue - Recherches de Science Religieuse, 2002, Tome 90, P 353

[11] غلاطية (5: 2) و(5: 6)

[12] رومية (2: 25- 29)

[13] سفر أعمال الرسل (11: 19- 26)

[14] سفر أعمال الرسل (15: 1- 5)

[15] ول ديورانت، قصة الحضارة، ج 11، ص 268

[16] سفر أعمال الرسل (15: 7- 11)

[17] سفر أعمال الرسل (15: 19- 20)

[18] David M. Neuhaus, À La rencontre de Paul, Connaitre Paul Aujourd’hui ? un changement de paradigme? P P 361-362

[19] Ipid, P 355