تأويليّة المُوحَى إليهم: في تجربة التأويليّة النبويّة اليوسُفيّة


فئة :  مقالات

تأويليّة المُوحَى إليهم: في تجربة التأويليّة النبويّة اليوسُفيّة

 {وكذلك مَكنّا ليوسُف في الأرض ولنعلِّمه من تأويل الأحاديث}

(يوسُف: 21)

مثلما التأويل صنعة أصيلة لله بوصفها فعل خلق كان منها وجود العالَم بكُل مفاصله ومن ضمنه الإنسان، كذلك التأويل صنعة للإنسان، وتلك إرادة إلهيّة، ولكن ليس لتأويلية الإنسان صناعة العالَم من عدم مُطلق إنّما هو نسبي؛ فلقد جعل الله الإنسان مخلوقاً، وحباه بالإرادة والعِلم والقدرة على الفعل؛ ولهذا يمكن القول إن التأويل هو عِلمان مُطلق المصدر والقيمة يختص به الخالق الأوحد (الله) الذي أغدق على خلقه بهبات تميزه عن غيره مقارنة ببقيّة الكائنات؛ فقد أخبر الله الملائكة بأنه جاعل في الأرض خليفة (البقرة: 30) والخليفة هو "آدم" الذي علَّمهُ الله الأسماء كُلّها، من دون أن ننسى استخدام الوحي تعبير "آدم" في الآية 31 من السورة نفسها الذي هو الأصل في الموجودات البشرية، تقول الآية: {علَّم آدم الأسماء كُلها} في تفضيل إلهيٍّ للإنسان على غيره من المخلوقات الأخرى، ومن هذا العِلمان وهبَ الله، من بينَ ما وهب، مُكنة التأويل للإنسان بوفرة أصيلة في طبيعة وجوده هي له دون غيره.

يبدو تعليم الأسماء عاماً، والأسماء هنا لا تنصرف دلالتها إلى مُجرّد التسمية، إنّما إلى العِلمان كخاصّة ذهنيّة وعقلية وشعورية وترميزية ووجودية. أمّا تعليم التأويل، فيبدو مُكنة قد تُمنح اصطفاءً لبعضٍ مُختارٍ من الناس على نحو فائق مخصوص، وهذا قمين بأنّ الله لا يبخل التأويل الفائق على الإنسان، لكنه لا يفرط مُكنته الفائقة المخصوصة لكُلّ الناس عبثاً خشية الفتنة بين خلْقه، رغم أنّ الله علَّم بني آدم الأسماء كُلّها.

وهذا يعني أنّ الله هو صانع التأويل الأول، وهو المؤوِّل الأوّل (First interpreter)، الذي يهب التأويل الفائق كمُكنة (Faculty) تنويرية مخصوصة في بعض الحالات لِمَن يصطفيه من الإنس حتّى يكرّمه بهذه المزية؛ مزية التأويل الفائق الممنوح بلدُنٍ إلهيٍّ إلى بعض مختار من الناس ليصبح التأويل عنده مُكنة حتى يمكن القول إن رتبة التأويل أدقّ من مُجرد معرفة أو عِلمان الإنسان للأسماء كُلها على نحو عام وإن بدا الله يشكل التأويل ضمن العِلمان، ما يدلّ على أنّ مزيّة التأويل الفائق هذه هي أكثر قدرة على اختراق المجهول الغائب من مُجرد معارف الإنسان في حياته اليومية المحدودة بالمتناهي، والتي لا تجيد دراية الغيوب أو التحكّم بها؛ لا سيما أنّ الله قال في كتابه: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُول} (الجن: 26 - 27)، ويوسُف، عليه السلام، ممَّن ارتضى الله له هذا المقام، فللإنسان القدرة على التأويل فيما لو تحصَّل على التوفيق والإلهام الإلهيين بهذا الشأن {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُول}، ما يعني أن الله "أثبت العِلم بالغيب لغيره، وهو من ارتضى من رسول؛ فإنه أيضاً أثبت ليوسُف العِلم بالغيب في غير موضع من سورة يوسُف"([1]).

إنّ مثل هذه المُكنة تبقى مُتاحة للإنسان عامّة فيما لو أقبل على تفعيلها بوصفه هذا الإنسان المخلوق الذي تعلَّم الأسماء كُلها عِلماناً من خالقه؛ أي إن هذه المُكنة متاحة كهبةٍ وإلهامٍ من الله يُمكن أن تتحوَّل إلى منهج ودربة للإنسان فيما لو تطوَّرت مَلَكاته التي تشترطها هذه النوْرنة أو الصنعة أو الحرفة، وهو ما سعى الإنسان في دروبها؛ الإنسان الذي هو في أصله الإنسي كينونة تأويليّة عامة، وقد أفرد الله للحديث عن التأويل وقائع تأريخية لا مجرَّدة أخبار متعالية متأتية من عالَم مفارق للطبيعة لا أساس عيني تاريخاني لها.

رؤيا يوسُف

دعني - صديقي القارئ - استخدم تعبير التأويليّة النبويّة اليوسُفيّة للحديث عن تأويليّة دراية مُوحى بها إلى يوسُف بن يعقوب (1610 - 1500 ق. م) بوصفه الإنسان – النبي لوصف تجربة ضمّها ﴿الْقُرْآَن﴾ بين دفتيه عن نوْرنة تأويلية كرسها في حياته ضمن وقائع تذكرها لنا قصص التوراة سابقاً وكتاب الله ﴿الْقُرْآَن﴾ لاحقا.

للحديث عن تجربة يوسُف التأويليّة بوصفها نوْرنة ربّانية موحى بها إليه، وكما يرسمها لنا المتن الْقُرْآَني، لا بد من التذكير بأن هذا الفتى (يوسُف) كان قد بصرَ رؤيا (Apocalypse) مفادها أنّ الأكوان بدت له في سجود، فقال لوالده يعقوب: {يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} (يوسُف: 3).

وبقدر ما ابتهج الأب لسماع حكاية هذه الرؤيا لما فيها من تحوّل جوهري في حياة ولده يوسُف، راح يعقوب يُنذر ابنه بأن يكون حذراً من إشهار ما رأى، قائلاً له: {يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (يوسُف: 5)([2]). وأضاف يعقوب قائلاً لولده: إنكَ يا يوسُف سوف {يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأوِيلِ الْأَحَادِيث} (يوسُف: 6)، فمن أين ليعقوب، عليه السلام، درايته وعِلمانه هذا؟

معنى هذا، أنّ يعقوب الأب، هو أول من استخدم مُصطلح (تأويل) في موجودية هذه السورة الْقُرْآَنية، وبالتالي استخدامه لتعبير "تأويل الأحاديث" أو تفسير الرؤيا، وأنّه أوّل من خصّ ولده يوسُف بأن يتأوَّل باختيارٍ اصطفائي من الله الخالق الذي سيعلِّم ولده التأويل بمشيئته؛ فهو القادر على كُل شيء بيُمن؛ ألم نقرأ أن {اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} (إبراهيم: 11)؟ ما يسوِّغ لنا الاستنتاج بأنّ لهذا الأب الدراية الفائقة بما سيكون عليه ولده من نعمةٍ سيهبها الله له، وأنّ اصطفاء يوسُف لمثل هكذا مَهمّة لهو مكتوب في قلب ووجدان الأب يعقوب، وكذلك في لوح الوجود، ولهذا حذَّر يعقوب ولده من الآخرين حوله، وعلى نحو أخص من أخوته الذين يكنون ليوسُف كراهيّة وحسد بسبب قربه من أبيه يعقوب، وتمتعه بكرامات خاصّة، فضلاً عن حُسن وجمال هذا اليوسُف الإنسان.

النوْرنة التأويليّة

لقد تحقّقت نبوءة الأب يعقوب، عندما خصّ الله يوسُف بالقدرة على تأويل الأحاديث، والقدرة على كشف المستقبل، وكلاهما مُكنه ربانية ووفرة نبويّة نفهما كَهِبَةٍ ربانية (Gift of God) ما يدعونا إلى متابعة القصّة الْقُرْآَنية؛ فحن نقرأها ضمن (سورة يوسُف)، ونتوجّه "نحو الأشياء المسرودة نفسها"([3])، لاستجلاء النوْرنة فيها، وسبق أن كانت موجودة في التوراة؛ فهي ليست ضرباً من الخيال الأدبي ولا الأسطوري، لأن يوسُف ووالده وأخوته لهم وجودهم الحقيقي في الواقع - الواقعي، وهي مذكورة في كتب التواريخ منذ حدوثها.

عندما ننظر في ما نُسميه نحن التأويل اليوسُفي أو تجربة التأويليّة اليوسُفيّة أو تأويليّة المُوحى إليه، ترانا لا نعود إلى نصوص مكتوبة أو مدوَّنة كان يوسُف يتأوَّلها حرفة وصنعة إنسية موحى به إليه، كما هو الحال مع تجربة النوْرنة النبويّة المحمديّة الْقُرْآَنية (لدينا دراسة متخصصة في هذا الشأن) فنبي الله يوسُف لم يكن قارئاً للشعر أو القصص المكتوبة، على العكس من ذلك، فما لدينا هو مُجرّد سرد قصصي تنقله إلينا كتب توحيدية سماوية، ومنها التوراة ثم ﴿الْقُرْآَن﴾، التي تُقدم لنا، بدورها، تجربة نوْرنة تأويليّة عكف نبي الله يوسُف، عليه السلام، بتداولها في حياته ليس بعيداً عن أناس آخرين عاشوا معه وعاش معهم، ما يعني أن النوْرنة اليوسُفية([4]) أو النوْرنة التأويليّة اليوسُفية للمُوحى إليه - يوسُف - هي عملية تداولية في طبيعتها، وإنْ جاءت إلينا كمسرود قصصي تخبرنا به متون الكتب الدِّينية التوحيديّة.

إنّ التأويل مُكنة يبتغيها الله لغيره من الناس، جاء في الآية: {وكذلك مَكنّا ليوسُف في الأرض ولنعلِّمه من تأويل الأحاديث} (يوسُف: 21)، وهذا العِلمان التأويلي الفائق، وأقصد بالفائق: المُوحى به من الله كنوْرنة تأويلية، وجدنا صداه في حديث الأب يعقوب مع ابنه سابقاً؛ فالله هو المُمكِّن المانح هبةً لنعمة التأويل التي خصّ بها يوسُف كهبةٍ مُوحى بها إليه.

وهذا ما جرى بالفعل مع يوسُف؛ وذلك عندما أخبر والده يعقوب رؤياه؛ على أن الرؤيا ههنا - وبحسب تجربة يوسُف - ليست مُجرد أحلام يقظة، فليست هي مجرد أضغاث أحلام مبعثرة([5])؛ بل إن الرؤيا اليوسُفيّة ذات دلالة روحية استشرافية ستتعلّق بنمط شخصية يوسُف نفسها لحيازة مقام النبوّة التي اصطفاها الله له.

إنها لحظوة راقية امتاز بها الفتى يوسُف ليشكر خالقه: {ربي قد آتيتني من المُلك وعلَّمتني من تأويل الأحاديث} (يوسُف: 101)، ما يعني حيازته لصنعة التأويل حتى إنه صار يُخاطب والده: {وقال يا أبتي هذا تأويل رؤياي} (يوسُف: 100)، فحكمة التأويل المخصوصة للرؤيا الممنوحة من الله ليوسُف وجدت معادلها التطبيقي والعملي في حياة يوسُف نفسها، فكانت له كنوْرنة مُوحى بها إليه من الله، فعلاً وعملاً، فراقت له ليفتن بها ألباب الناس من حوله.

إنّ مُكنة التأويل لدى يوسُف تحوَّلت من هبةٍ إلهيّة (Gift of God) إلى صنعة إنسيّة أساسها قراءة وتأويل رؤيا (Songes) الآخرين، وهذا أوّل إخبار عن كيفيّة تأويل يوسُف لرؤى الآخرين من حوله، كالذي جرى في سجن الفرعون الخصي الذي رُميَ به يوسُف، وهناك تجلّت النوْرنة النبويّة التأويليّة المُوحى بها إليه؛ حتّى إنّه راح يُشهِر لرفيقي السجن بأنه القادر على الإنباء التأويلي بحسب ما علَّمه ربّه: {أنا أنبئُكم بتأويله} (يوسُف: 45)، والقصص المسرود في المتن الْقُرْآَني لكفيل بتفسير ذلك:

أوّلاً: {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآَخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (يوسُف: 35).

لنلاحظ، بأنّ رفيقي يوسُف في السجن، وهما رئيس السُقاة ورئيس الخبازين عند الفرعون، طلبا منه تأويل ما رأياه: {تُنبئنا بتأويله}، وهو مُعادل حدثي لما تبنُاه يوسُف بقوله: {أنا أنبئُكم بتأويله}، وفي الوقت نفسه هو اعتراف صريح بمُذاهنة([6]) الإنباء التأويلي المُوحى به؛ فراح يوسُف يهمَّ بتأويل رؤى السجينين، قائلاً لهما: {يَا صَاحِبَي السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآَخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَان} (يوسُف: 40)، على أنّ دلالة ملفوظ {ربّه}، في هذه الآية، ستنصرف إلى فرعون وليس إلى الله.

ثانياً: {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُون} (يوسُف: 42).

هكذا كانت رؤيا فرعون في منامه حتّى راح يبحث عن شخص يتأوَّل هذه الرؤيا بما يرضي قلقه الوجودي، فجاء دور يوسُف الذي فسَّرها له: قال يوسُف في تأويل رؤيا الملك فرعون: {تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ، ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ، ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} (يوسُف: 47 - 49).

وجدنا أنّ تعبير "تأويل الأحاديث" الذي استخدمه يعقوب الأب - لأولِّ مرَّة في ﴿الْقُرْآَن﴾ - لن يتعامل مع نصوص مكتوبة مدوَّنة، إنما مع أحاديث، والأحاديث في النورنة التأويليّة اليوسُفية هي نصوص محكية إنسيّة يجرّبها الإنسان مثل رؤيا رفاق يوسُف في السجن، ورؤيا الملك الفرعوني؛ بل ورؤيا يوسُف نفسه، من ذي قبل، وكلتاهما - رؤيا رفاق السجن ورؤيا الملك فرعون - تلقّاه يوسُف شفاهاً من هذه الذوات الإنسيّة؛ فهي لذلك تعدّ نصوصاً شفاهية منقولة على ألسنة الذوات الذين تحدثوا عنها وبها إلى يوسُف السجين.

إنّ تعامل يوسُف مع نصوص الرؤيا المنقولة شفاهاً يستندُ إلى تبصُّر في منطوق نصوص الحكايات، وقدرة على التنبّؤ بما تريد قوله الرؤى التي تضمّها؛ ولذلك يُمكن الاستنتاج بأنّ التأويل اليوسُفي استشرافي تنبؤي مُتحرّك يُخبر بما سيجري أكثر منه مُجرد تحليل لمضمون ساكن يغلق الحدث على زمانيته ليمضي إلى نسيان، وهذا لعمري هو جوهر فكرة التعبير القرآني "تأويل الأحاديث"، بمعنى أنّ التأويل هو استشراف للمستقبل عبر المنقول من الأحاديث شفاها ليوسُف، إلّا أنه التأويل المنضبط لكونه ينطلق من أرضيّة نصيّة - شفاهيّة لا من مُجرد أفكار مُتخيَّلة عند قائليها قد تستند إلى خرافة أو أسطورة تخلو من منطق حدوث واقعي، لكنّ التأويليّة اليوسُفيّة لم تتعامل معها.

جني السُّلطة

لقد جاءت مُكنة التأويل لدى يوسُف، وفي ضوء هذه الواقعة، بالخير العميم عليه؛ فقد تمَّ إطلاق سراحه من السجن، وصار والياً على كُل مصر بطلب من الفرعون نفسه: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} (يوسُف: 54). وبذلك منحت مُكنة التأويل يوسُف مكانة مجتمعية مرموقة في الحياة الدُّنيا، ولعلّها من أوائل القصص التي تكشف لنا عن تبوأ صاحب التأويل أو إنسان التأويل (Interpreter) منزلة السُّلطة في المجتمع والدولة في وقتها من دون تطلُّع مخصوص سعى فيه يوسُف إلى ذلك، فتأويل الرؤيا هيّأ له قطف ثمار ما أقبل عليه بتوفيق إلهي مخصوص بأن يحوز مقام السُّلطة السياسية ليصبح "عزيز" مصر، ويتزوّج هناك من "أسْنات بنت فوطي"، وينجب منها - بحسب رواية التوراة([7]) - طفله البكر "مَنسّى"، ومعناه: من ينْسى، لأنّ الله أنساه كُل مشقته، أمّا الثاني فدعاه باسم "أفْرايم"، ومعناه: المُثمر مضاعفاً، لأن الله جعل يوسُف مثمراً في أرض المذلة التي عاشها.

وفي أثناء ذلك، تسنّى ليوسُف استعادة والده العبراني "يعقوب"، وكذلك أخوته الذي كشف، هو ذاته، عن زيفهم عندما سولَّت لهم أنفسهم الحسود الحقود يوماً ما خيانته ورميه في بئر. ويؤكِّد للمجتمع أنّه الإنسان النزيه الذي لم يعتد على "زليخة" زوجة "فوطيفار، وهو مصري خصيّ ورئيس الحرس لدى فرعون"([8]) لمُمارسة الفحشاء معها، لكنه أبى مخافة ربه الذي أكرمه الجمال الخلْقي – الجسدي، ووهبه فطنة تأويل الرؤيا المُوحى بها إليه، ليُذكِّر والده يعقوب بتأويل رؤياه الباكر عندما كان صغيراً، فيقول له: {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} (يوسُف: 100)، بمعنى جعلها الله واقعاً منظور الإشهار حتى راح الناس يتحدَّثون بها إلى بعضهم بجلال واحترام وتقدير.

استنتاجات

  1. إنّها تأويليّة متأتية من مصدر إلهي يفصح عنه يعقوب، في البداية، بعبارته الموجَّهة إلى ولده يوسُف: {وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تأويلِ الْأَحَادِيث}، وبالمقابل ما يفصح عنه يوسُف نفسه شاكراً ربّه ليقول: {وعلَّمْتني من تأويل الأحاديث}، ويعترف بذلك الفضل الإلهي متواضعاً: {ممّا علمني ربي}، فحرفة التأويل لدى نبيّ الله يوسُف كانت هبة ربانيّة مذكورة في لوح الوجود بدا والده يعقوب يعرف سرّها حتّى أخرجها الله إلى ولده من القوة الكامنة في ذلك اللوح إلى الفعل المنظور.
  2. يستمرّ التأويل لدى يوسُف ضمن عناية إلهيّة متكاملة الحدوث حتّى يُحقِّق استراتيجيته في التنبّؤ أو تأويل الأحاديث الذي سيتخصَّص به في حياته على نحو مُوحى من الله.
  3. التأويل لدى يوسُف تجربة نوْرنة نبويّة روحيّة مخصوصة وليست مُجرد طاقة ذهنيّة إنسيّة محض (Pure) له كذات إنسية، لا سيّما أنّ يوسُف نفسه يؤكِّد على أنّ مُكنته على تأويل الأحاديث هي هبة ربانيّة يُعلمها الله له.
  4. تندلق النوْرنة التأويليّة اليوسُفية عبر المسموع الشفاهي {الْأَحَادِيث} وليس عبر المكتوب أو المدوَّن في كِلا التجربتين - كما سنرى ذلك في النورنة التأويليّة المُحمديّة - وهي نوْرنة نبويّة - حيث وجود آيات الله في كتابه العزيز - تجربة النصّ الشفاهي المنقول والمُراد تأويله، وتجربة النصّ الشفاهي المؤوَّل (Interpreted)، والمُرسَل من طرف يوسُف أو تفسيره للرؤيا إلى الذوات المعنية.
  5. يفترض التأويل اليوسُفي وجود دلالة ما وراء المعنى الظاهر للأحاديث في نصوص الرؤيا الشفاهية المنقولة إليه والتي يتصدّى لتأويلها بالانتقال من معناها الظاهر إلى دلالتها الباطنية المرجو بيانها وتأوليها، والتي هي عماد وغاية النوْرنة التأويليّة النبويّة اليوسُفية. على أنّ النُقلة من (نصّ الرؤيا الشفاهي) المُراد تأويله إلى نص تأويلها (النصّ المؤوَّل) على نحو يوسُفي هي حكمة ربانيّة زادها يوسُف تكريساً موضوعياً بنبوّته، وهو التكريس الذي يُحسب له بوصفه المنوَّر إلهياً بحرفة التأويل كنوْرنة إعجازية قبل التجارب الفلسفية اليونانية وغيرها مما بعدها في آثار التأريخ الأخرى.
  6. تشترك عناصر عدّة في كلّية النوْرنة التأويليّة النبويّة اليوسُفية، هي: (المرْسِلون لنصوص الرؤيا)، وهم: رفاق السجن، والفرعون. و(نصّ الرؤيا الشفاهي) الذي أرسلته هذه الذوات والمرجوّ تأويله على نحو يوسُفي، و(الشخص المؤوِّل) أو (إنسان التأويل) وهو يوسُف، و(النص المُتأوَّل أو نص التأويل اليوسُفي) الذي يُفصح عنه يوسُف نفسه بوصفه يتأوَّل نصوص رؤيا رفاقه ورؤيا الفرعون.
  7. يعدُّ النصّ الشفاهي للرؤيا المنقول إلى يوسُف من رفاق السجن والفرعون بمثابة النص المُرسِل للمعنى الظاهر أو المُرسَلة الظاهرية الموجَّهة إلى يوسُف. ويوسُف المتلقِّي هو مؤوِّل هذه المُرسَلة الذي يقوم، بدوره، بأرسال نصه التأويلي أو نصّ تأويل الأحاديث إلى طالبي تأويله فيما نقلا إليه من أحاديث الرؤيا الخاصة بهم.
  8. قد تكون هناك اختلافات في قصّة يوسُف بين التوراة و﴿الْقُرْآَن﴾ كمصدرين توحيديين ناقلين للمبنى الحكائي المسرود، لكنّ هذه الاختلافات، ومن حيث الحذف أو الإضافة، لا تمسّ جوهر نشاط النوْرنة التأويليّة اليوسُفية الذي انصرف فيها - يوسُف نفسه - إلى تأويل رؤياه شخصياً؛ ورؤيا رفاق السجن، ورؤيا الفرعون، ضمنَ طقس استشرافي مُستقبلي يكرِّس عِلمه بالغيب الذي خصَّه الله به؛ ولذلك أصف هذه التأويليّة بأنّها تأويليَة المُوحى بها إليه في تكريس لعلاقة يوسُف النبي المصطفى بالوحي (Revelation)، فهي ليست مجرّد قدرة إنسيّة ذاتية خالصة أو محضة ليوسُف فقط، ولكن، وفي الوقت نفسه، لا تأويل إلّا ويتمّ عبر الإنسان، ولهذا تراني أستخدم مصطلح (إنسان التأويل) = (Interpreter)، ولنا في تعبير "مكنّا"، في الآية المذكورة، دلالة على ذلك بخروج النوْرنة اليوسُفيّة النبويّة التأويليّة إلى العلن، ما يدلُّ أن يوسُف "كان واقفاً على حقائق الأمور والحوادث، مُطلعاً على بواطنها التي تؤول إليها في الواقع"([9]) المنظور الذي عاشه، الوقوف والاطلاع الموُحى به إليه من ربه.
  9. تمتدُّ تجربة التأويل اليوسُفي زمنياً إلى السنوات التي عاشها - هذا النبي - خلال حياته (1610 - 1500 ق. م)، ما يعني أنّها تجربة لاهوتية مروية أقدم من كُل التجارب الفلسفية اليونانية لأنها تعود إلى أكثر من ثلاث آلاف سنة ماضية حتى عصرنا الحالي (2017). أما بالنسبة إلى الثقافة الإسلامية فهي تمتد إلى زمنية تنزيل الوحي لـ (سورة يوسُف) في مكَّة المكرمة على خاتم الأنبياء مُحمَّد (ص).
  10. تعدُّ النورنة التأويليّة اليوسُفية من التجارب القديمة في التأريخ، تلك التي تستبطن، بقدر ما تُظهر، ثنائية الباطن والظاهر في خطاب الكلام الإنسي حتّى لو اتخذت رداء تفسير (الرؤيا) التي هي أيضاً تجربة إنسية، وتلك ثنائية لا تزال تحكُم الفلسفية التأويليّة راهناً؛ فلماذا نستغرب عندما نجد أن الكون الدلالي للنص الْقُرْآَني، وكذلك التوراتي، من ذي قبل، رغم تحريفه، طوَّع هذه الثنائية كمنهج لقراءة الخطاب المُتاح أمام الإنسان؟ ولماذا نعيب ظهور سلسلة من المؤلَّفات التي كُتبت ونُشرَ بعضها وضاع غيرها منذ شروق الرسالة السماويّة الإسلامية، وهي تقرأ الخطاب المُتاح أمامها بمنهجية تفسيرية - تأويلية وفقاً لثنائية الظاهر - الباطن إذا كان المتن الْقُرْآَني هو نفسه، وفي كينونته نفسها، جرَّب ذلك بحسب أنموذج التأويليّة في سورة يوسُف؟
  11. لقد ظهرت مفردة "التأويل" في سورة يوسُف ثمانية مرّات دون السور الأخرى من أصل سبع عشرة مرّة، ظهرت فيها كلمة "تأويل" في كُل المتن الْقُرْآَني.
  12. التأويليّة اليوسُفية هي تأويلية دُنيوية (Profane) من حيث نص التداول والمُمارسة، لكنّها تكرِّس غيبيّة ما سيأتي وسيكون من ناحية موضعية الأحداث، وما تؤول إليه، وفي ذلك إعجاز وحكمة.

[1]. كمال الحيدري: يوسُف الصديق، تقرير: محمود نعمة الجياشي، ص 82، مؤسسة الهدى للطباعة والنشر، بيروت، 2014

[2]. يروي اليعقوبي (ت 284 أو 298 هجرية) في تأريخه حكاية مماثلة تعرّض لها الرسول محمَّد (ص) بما يدل على علامات النبوة التي ظهرت له، فقال: "لما بلغ العشرين، ظهرت فيه العلامات، وجعل أصحاب الكتب يقولون فيه ويتذاكرون أمره، ويتوصّفون حاله، ويقرِّبون ظهوره، فقال - محمَّد - يوماً لأبي طالب: يا عم، إني أرى في المنام رحلاً يأتيني ومعه رجلان، فيقولان: هو هو، وإذا بلغ فشأنك به، والرجل لا يتكلَّم، فوصف أبو طالب ما قال - محمَّد - لبعض مَن كان بمكّة من أهل العِلم، فلمّا نظر إلى رسول الله، قال: هذه الروح الطيبة! هذا والله النبيّ المطهَّر. فقال أبو طالب: فاكتم على ابن أخي، لا تغر به قومه؛ فو الله إنما قلتُ لعليَّ ما قلت، ولقد أنبأني أبي - عبد المطلب - بأنه النبي المبعوث، وأمرني أن أسترَ ذلك لئلا يغري به الأعادي". أحمد بن أبي يعقوب: تأريخ اليعقوبي، ص 14، دار صادر ودار بيروت، بيروت، 1960

[3]. يقول الفيلسوف الفرنسي بول ريكور (1913 - 2005): "المقترح هنا هو وجودب التفات النظر نحو الأشياء المسرودة نفسها بدل الالتفات نحو السارد والهامس في أذنه". بول ريكور: مقالات ومحاضرات في التأويليّة، ترجمة: محمَّد محجوب، مراجعة: جلال الدين سعيد، ص 146، المركز الوطني للترجمة، تونس، 2013

[4]. وتراني ههنا أتجنّب استعمال ملفوظ (مُمارسة)، كمُمارسة الإنباء التأويلي أو المُمارسة التأويليّة، لأن ملفوظ (مُمارسة) قد يُحيل على ما هو حسي تجريبي اختباري ملمُوس، بينما النوْرنة التأويليّة المُوحى بها إلى الأنبياء هي ذات طبيعة غير حسية تجري رحاها في روع من يختاره الله الخالق من المخلوقات الإنسيّة.

[5]. الرؤيا لدى النبي يوسُف، عليه السلام، وفي ضوء منحاها الرباني كما هي في كتاب الله ﴿الْقُرْآَن﴾، ليست من قبيل الأحلام المبعثرة التي يراها الإنسان في منامه المعتاد، كما أنها ليست من باب الهُذاء أو الهذيان (Delusion) أو المُخادعة الوهمية أو الهلوسة أو الهلاس (Hallucination)، إنما هي مُكنة وحْيويّة - من الوحي - تُلقى في موجوديته برمتها.

[6]. المُذاهنة فعل للذهن، فعل تفكير ننظر إليه كخاصة للإنسان دون غيره مقارنة ببقية الكائنات، والمُذاهنة تختلف عن الذهان (Psychosis) المرضي أو الهوام (Phantasy)، فأقتضى التنبيه. واستخدمنا لمصطلحات ننحتها هنا في مباحثنا مثل: المُذاهنة التأويليّة، والمفاطنة التأويليّة، والحدْسان التأويلي، والترميز التأويلي، هي حزمة مفاهيم نضعها في موازاة تُقابل تجارب ما يؤديه مُصطلحنا (النوْرنة التأويليّة) المُوحى بها من الله إلى الأنبياء، عليهم السلام، ومنْ على شاكلتهم. على أن الصيغ التأويليّة التي ندرسها في مباحثنا هذه كُلها تمضي في دروب اللاهوت الْقُرْآَني المقدَّس، وكُل نماذج إنسان التأويل المدروسة، عبر هذه المباحث، هي نماذج تختلف بحسب مقامها كمقام الأنبياء ومنْ على شاكلتهم، وبقية الناس من الربانيين المُلهَمين أو الأوصياء أو الأئمة أو العُلماء.

[7]. التوراة: (في التفسير التطبيقي للكتاب المقدَّس، سفر التكوين، 41).

[8]. التوراة: (في التفسير التطبيقي للكتاب المقدَّس، سفر التكوين، 37).

[9]. كمال الحيدري: يوسُف الصديق، ص 111، مؤسسة الهدى للطباعة والنشر، بيروت، 2014