تدريس الفلسفة والقدرة المؤسسية في المؤسسة التعليمية


فئة :  مقالات

تدريس الفلسفة والقدرة المؤسسية في المؤسسة التعليمية

تدريس الفلسفة والقدرة المؤسسية

في المؤسسة التعليمية[1]

إن تدريس الفلسفة في العالم العربي يعتوره العديد من العوائق على كافة المستويات المتعلقة بالعملية التعليمية، ولن ينصلح حال الفلسفة في مؤسساتنا التعليمية، ما لم تنصلح هذه الأطراف جميعها. ومن ثم، كان من اللازم أن نشير إلى هذه العوائق محاولين في الوقت نفسه الإشارة إلى بعض الحلول التي من شأنها أن تقود إلى بيئة تعليمية فلسفية سليمة. وقد درسنا هذا البحث من مستويات عدة، كالمعلم والمتعلم والمناخ التربوي والمنهج الدراسي والقيادة المدرسية وغيرها من المستويات التي يعني تضافرها الوصول إلى الجودة الشاملة في تدريس الفلسفة، والخروج بمنتج فلسفي - أقصد المتعلم - يحمل آمال الوطن وطموحاته.

أهمية تدريس الفلسفة

الفلسفة صنو العقل، وما وجدت الفلسفة في قوم ما، إلا كانوا على درجة عالية من التعقل، والتعامل مع القضايا معاملة العالم البصير الذي يضع النتائج لا بحسب الأهواء، ولكن بحسب ما تؤول إليه طباع الأمور؛ فهي الأداة الفاعلة التي تمكننا من سبر أغوار القضية موضوع البحث والمناقشة، وتصنع في الإنسان حسًّا مميزًا من التفكير الناقد والتفكير الإبداعي الذي لا يقف محلك سر من قضايا حياته وقضايا وطنه وأمته، وإنما هو ذلك التفكير الذي يزرع فينا حب البحث والتأمل وإصدار الحكم الرصين. ومن هنا، تأتي أهمية تدريس الفلسفة في العالم العربي؛ لأننا نريد جيلاً قادرًا على النقد والإبداع وتخطي الحلول التقليدية، لا جيلاً خائر التفكير، عيي التعقل، ضعيف التفلسف.

إلا أن الفلسفة في العالم العربي تبدو، وهي محملة بالعديد من الأدران التي منعتها من تحقيق الدور المنوطة بها على صعيد التدريس في المرحلة ما قبل الجامعية -المرحلة الثانوية تحديدًا - وهذه الأدران عديدة ومتداخلة في الوقت ذاته، عديدة كونها لا تتعلق بعامل أو محور واحد، وإنما بأكثر من عامل ومحور. ومتداخلة كون العامل فيها قد يكون سببًا ونتيجة وربما مظهرًا أيضًا في الوقت ذاته، وهذا يقودنا إلى ضرورة الكشف عن أمر من الخطورة بمكان، وهو أن تدريس الفلسفة على ذلك النحو المتبع في المدارس الثانوية بصورته الحالية لا يخرج لنا جيلاً قادرًا على تحويل دفة الأوطان العربية من تخلف تغرق فيه حتى الثمالة إلى تقدم منشود على المستوى الحضاري المادي والروحي الأخلاقي، وإنما سيخرج لنا جيلاً هو إلى التبعية أقرب منه إلى القيادة، ومن التقليد أقرب منه إلى الإبداع.

إن المتأمل في واقعنا الفلسفي المعاصر، يجد أن الفلسفة لم تستطع أن تحدث تغييرًا في المحيط الثقافي أو السياسي أو الاجتماعي([2])، ربما لطبيعة الفلسفة ذاتها، باعتبارها عملاً عقليًا مجردًا عن الممارسة الإجرائية([3]). وبناءً عليه، فإن الفلسفة على حد ما ذهب إليه أحد الباحثين، لا بد أن تكون طريقًا ومنهجًا يقودنا إلى ثقافة الحداثة، بما تحمله من معاني التجديد والابتكار والتغيير، تلك المعاني التي تحاول أن تواكب سير ركب العولمة وتحدياتها الراهنة.([4])

ويمكن القول إننا نتناول تدريس الفلسفة والقدرة المؤسسية من حيث عدة محاور نراها ضرورية، وتحاول أن تستقصي هذه المشكلة التدريسية من جوانبها المختلفة، وهذه المحاور هي:

أولاً- محور الرؤية والرسالة الفلسفية.

ثانيًا - دور القيادة التعليمية وموقفها من الفلسفة.

ثالثًا - الموارد البشرية والمادية المتاحة لتدريس المادة

رابعًا- المشاركة المجتمعية الفعالة

خامسًا - توكيد الجودة والمساءلة.

أولاً – الرؤية والرسالة الفلسفية

يمكن القول إنه قد تكون هناك رؤية ورسالة لتدريس مادة الفلسفة داخل وزارات التربية والتعليم العربية، إلا أنهما غير واضحتين الوضوح الذي ينقل الفلسفة إلى الواقع العملي الحياتي بكل أريحية، كما أن هذه الرؤية وتلك الرسالة لم تصغ بمشاركة كل أساتذة الفكر الفلسفي في كل قطر عربي على حدة على الأقل، وإنما صيغت بليل في الغالب، قد يكون صاغها فرد أو فردين أو مجموعة تعد على أصبع اليد الواحدة، ومن ثم فهي ليست نابعة من وجهة نظر جماعية تنظر للموضوع بنظرة شاملة في الغالب، وإنما هي نظرة ناقصة، ولا شك أن النظرة الناقصة هي نظرة لا تنطلق إلا من بعض الجوانب الفلسفية متغافلة عن الجوانب الأخرى. والحقيقة أن مسألة الرؤية والرسالة التي يجب تحديدها والتي تلخص الأهداف البعيدة والمرحلية التي نهدف إليها من تدريس مادة الفلسفة، مسألة في غاية الأهمية لا لكونها تحدد الأهداف فقط، ولكن لكونها ترسم الخطط والاستراتيجيات الأساسية والبديلة التي تمكن من تحقيق تلك الأهداف المرحلية والأساسية التي اشتملت عليها الرؤية إلى أرض الواقع. وإذا كان العمل بدون تخطيط مسبق فهو كمن يضع الماء في كوب به ثقب، ولن يمتلئ الكوب إلى نهايته مهما طال مدة انسكاب الماء، وهكذا الفلسفة، فلن يجدي تدريسها نفعًا في بلادنا العربية مادام تدريسها يسير خبط عشواء؛ فلا تخطيط ولا استراتيجيات ولا أهداف عامة أو أهداف مرحلية، ولن يكون لهذه المادة تأثيرها في عقول الطلبة، ومن ثم في عقول الشعب عامة. على الرغم من أن الفلسفة قرين التثقف؛ فالمثقف - على حد تعبير عبد الله العروي - مستشار في قيادة التقدم، وصاحب الحل والعقد في الكثير من القضايا وفي مقدمتها قضية النماء والازدهار.([5])

ومن هنا تبدو أهمية مشاركة قطاع كبير من أساتذة الفلسفة في صياغة الرؤية والرسالة، ولا مانع من الاستعانة بمعلمي مادة الفلسفة في المرحلة الثانوية؛ فقد عايشوا الواقع بكل جزئياته، ومن ثم لديهم القدرة على تشريح هذا الواقع بكل هناته واحتياجاته، وتحديد الأهداف والتطلعات الكفيلة بالارتقاء بمادة الفلسفة على الناحيتين النظرية الدراسية والعملية الحياتية. كما أنه ليس من اللائق عدم الاستعانة بالطلبة وأولياء الأمور في صياغة رؤية ورسالة واضحة عن مادة الفلسفة؛ حيث إنهم يعتبرون من ضمن من تشملهم المنظمة التعليمية، ولا يجوز أن تصاغ رؤية بدونهم([6]).

تبقى أهمية إعلان رؤية ورسالة الفلسفة على الجميع، وعلى مستشاري مادة الفلسفة في وزارات التعليم العربية اتخاذ الإجراءات الكفيلة بإعلان الرؤية والرسالة في كل المديريات التعليمية التي تندرج تحتها، ولا مانع من أن تتخذ المديريات التعليمية الإجراءات الكفيلة أيضًا، بإيصالها إلى الإدارات التعليمية المندرجة تحتها ضمانًا لوصولها بدورها إلى المدارس الثانوية المعنية بتدريس الفلسفة. كما أنه لا مانع من أن تتخذ كل مديرية على حدة أو إدارة على حدة أو مدرسة على حدة رؤية ورسالة خاصة بها شريطة أن تكون منبثقة ومتوائمة مع الرؤية والرسالة التي خرجت من تحت عباءة الوزارة التعليمية.

وعليه، فإننا نظن أن رؤية ورسالة مادة الفلسفة في قطاعات التعليم العربي ينبغي أن تتسم بالآتي:

أ - أن تكون رؤيتنا لمادة الفلسفة واضحة الصياغة، فلا لبس ولا غموض، ولا اختيار لألفاظ غامضة أو مصطلحات صيغت في بيئة غير بيئتنا العربية، فهي تناسب بيئتها التي صيغت فيها أكثر ما تناسب بيئتنا نحن.

ب - أن يشارك في صياغتها ممثلون عن أساتذة الفلسفة في الجامعة، ومعلمو الفلسفة في المرحلة ما قبل الجامعية، والطلبة وأولياء الأمور، وممثلون عن المجتمع المحلي، ومؤسسات المجتمع المدني.

ج- أن تعلن الرؤية والرسالة في أماكن واضحة على مستوى الوزارة والمديريات التعليمية والإدارات التعليمية والمدارس الثانوية.

ثانيًا – دور القيادة التعليمية وموقفها من الفلسفة

القيادة التعليمية لها دور كبير في تفعيل تدريس الفلسفة تفعيلاً ينطلق بها إلى أفق رحب مما هي عليه الآن، غير أننا ملزمين أولاً أن نشير إلى أن القيادة التعليمية ليست فقط متمثلة في الوزارة بوزيرها وقياداتها المسئولين، بل إن القيادة في أوسع معانيها تشمل مديري المديريات التعليمية ومديري الإدارات ومديري المدارس وموجه مادة الفلسفة، ومشرف المادة داخل المدرسة أو المدرس فيها، وهي القيادات كلها معنية بتفعيل تدريس مادة الفلسفة تفعيلاً يتناسب مع حجم الآمال المرجوة من المادة.

غير أن هذه القيادات في حاجة دائمة إلى تنمية مهنية فعالة تبرز من خلالها فكرة أن الفلسفة مادة حيوية لها أهميتها، وتؤثر في واقعنا الحياتي، إذا تم تدريسها بطريقة منهجية سليمة وفق معايير الجودة والاعتماد التربوي؛ لأن الفلسفة لن يكون لها فاعليتها إلا في كنف قيادة تربوية تؤمن بها وتؤمن بالآمال التي يمكن أن تحققها، فالقيادة التربوية متمثلة في الوزارة يجب أن تجعل من مادة الفلسفة مادة أساسية وليس اختيارية، فذلك أولى الخطوات التي تعيد للفلسفة هيبتها وأهميتها، وبالتالي تأثيرها الكبير داخل عقول الطلبة والمعلمين على حد سواء، أما أن تدرّس الفلسفة كأية مادة اختيارية لجلب مجموع أكبر، فهذا لن يعيد لها هيبتها وأهميتها وتأثيرها.

هذا من جانب، ومن جانب آخر، لا بد أن تهتم القيادات داخل الإدارات التعليمية والمدارس، بدعم وحدات التدريب داخلها؛ لأنها كفيلة بنقل الخبرات بين المعلمين بعضهم بعضًا، أو بين الكوادر التدريبية والمعلمين، فإذا كانت وحدة التدريب هدفها الرئيس تدريب معلمين المواد المختلفة على كل ما هو جديد فيما يتعلق بمادتهم وتأهيلهم وتحقيق التنمية المهنية اللازمة لهم - ويهمنا هنا معلمي مادة الفلسفة - فإن من اللازم عمل التدريب المهني اللازم من خلالها لمعلمي الفلسفة، بيد أن على القيادة التربوية، وهي بصدد تأهيل معلمي الفلسفة أن تراعي الآتي:

أ - توفير الكوادر البشرية الفلسفية اللازمة للقيام بعملية التأهيل لمعلمي الفلسفة.

ب - توفير الموارد المادية اللازمة واللائقة للقيام بذلك.

ج - متابعة مدى الاستفادة من مخرجات هذا التدريب التأهيلي في خطط التحسين.

ذلك أن أهم اﻟﻤﻮﺿﻮﻋﺎت اﻟﺘﻨﻤﻮﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺮﺗﻜﺰ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺗﻘﺪم اﻟﻤﺠﺘﻤﻌﺎت وﻗﺪرﺗﻬﺎ ﻋﻠﻰ ﻣﻮاﺟﻬﺔ اﻟﺘﺤﺪﻳﺎت اﻟﻌﺪﻳﺪة واﻟﻤﺘﺴﺎرﻋﺔ، هو ﻣﻮﺿﻮع إﻋﺪاد اﻟﻤﻌﻠﻢ ﻓﻲ اﻟﻘﺮن اﻟﺤﺎدي واﻟﻌﺸﺮﻳﻦ؛ ﻓﺎﻟﺘﺤﺪﻳﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﻮاﺟﻪ اﻟﻤﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﻌﺎﻟﻤﻴﺔ، كبيرة وﻣﻦ اﻟﺼﻌﺐ ﻋﻠﻰ أكثر اﻟﺪراﺳﺎت اﻟﻤﺴﺘﻘﺒﻠﻴﺔ إﺣﻜﺎﻣًﺎ وﺗﻔﺘﺤًﺎ أن ﺗﺘﻮﻗﻊ ﺣﺠﻤﻬﺎ وﺗﺄﺛﻴﺮها، واﻟﺘﺤﺪﻳﺎت اﻟﺘﻲ نواجهها في عالمنا العربي أعمق وأﻋﻘﺪ؛ ﻓﻨﺤﻦ ﺑﺤﺎﺟﺔ إﻟﻰ اﻟﻠﺤﺎق بركب اﻷﻣﻢ اﻟﻤﺘﻘﺪﻣﺔ، وﻣﻮاكبة اﻟﺘﻄﻮرات اﻟﻌﺎﻟﻤﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺤﺪث، وﻻ ﺳﺒﻴﻞ إﻟﻰ ذﻟﻚ إﻻ ﺑﺒﻨﺎء الإنسان اﻟﻮاﻋﻲ واﻟﻤﻠﺘﺰم ﺑﻘﻀﺎﻳﺎ أﻣﺘﻪ وﺷﺠﻮﻧﻬﺎ وأﺣﻼﻣﻬﺎ، الإﻧﺴﺎن اﻟﻤﺒﺪع اﻟﻤﺘﺠﺪد اﻟﻘﺎدر ﻋﻠﻰ اﻻﺑﺘﻜﺎر واﻟﺘﻄﻮﻳﺮ، وﺑﺎﻟﺘﺎﻟﻲ اﻟﻘﺎدر ﻋﻠﻰ اﻟﻮﻓﺎء ﺑﺘﻠﻚ اﻻﻟﺘﺰاﻣﺎت([7]).

وهناك جزئية أخرى مهمة تتعلق بالقيادة التربوية ودورها في تفعيل تدريس مادة الفلسفة داخل المدارس، وهي ضرورة تشجيع قيادة معلمي الفلسفة على إجراء البحوث التي تتناول الإشكاليات الفلسفية، التي تتعلق بالمادة في المرحلة الثانوية؛ إذ إننا نصطدم في واقعنا التدريسي أن معلم الفلسفة - كالكثرة الغالبة من معلمي المواد الأخرى - لا يكلفون أنفسهم مؤنة إجراء بحث أو أكثر في مادة تخصصهم، يعالج قضية من القضايا أو إشكالية من الإشكاليات الفلسفية، وما أكثرها ! إلا أن معلم الفلسفة ربما رضي كغيره من المعلمين بأن يقدم مجهوده وأفكاره للطلبة في شرح إضافي يأخذ كل وقته أو أغلبه مقابل مبلغ من المال تحت ما يسمى بالدروس الخصوصية.

فإن كانت هناك صعوبة في إجراء البحوث الفلسفية حول المادة، فإن البديل حينها هو الحلقات النقاشية، وهذه الأخيرة نوع من تبادل الخبرات بين المعلمين في المادة الواحدة، وتقوم فكرتها على طرح موضوع فلسفي ما للنقاش يقول كل معلم في مادة الفلسفة رأيه متحدثًا عن إشكالية الموضوع والإشكاليات التي يطرحها ثم يثني غيره بالحديث عن الموضوع محل النقاش عارضًا رأيه وموقفه، وميزة هذه الحلقات النقاشية أنها تستدعي التحضير الجيد لموضوع المناقشة، وهذا في حد ذاته أمر جيد يجعل مدرس الفلسفة على تواصل دائم مع المادة ومع إشكالياتها الجديدة التي تطرحها ظروف العصر، كما أن هذه الحلقات تستدعي أن تخرج بموضوعات تحتاج إلى المزيد من الدراسة والبحث، وهذا في حد ذاته إثقالاً لمنهجية البحث العلمي عند مدرس الفلسفة. إلا أن هذا لا يحدث للأسف إلا من القلة القليلة التي يمكن حصرها بسهولة، وتكون للأسف ناتجة في الغالب عن قناعة فردية من المعلم دون أن تكون بناء على خطة جماعية أو مؤسسية منهجية، حتى أن تلك القناعات الفردية أو ما يمكن أن نسميه مبادرات بناءة لا تجد التشجيع اللازم من القيادة التربوية المدرسية أو ما هو أعلى منها، فالقيادة التربوية في الغالب تشجع المبادرات البناءة ولا تحفز المعلمين على الحلقات النقاشية، ولا تستفيد من نتائج البحوث الإجرائية إن وجدت.

وبما أن التكنولوجيا قد دخلت بقوة في مجال التعليم من خلال وضع المواد الدراسية الإلكترونية التي تساعد الطلاب على زيادة الفهم، باعتبارها أداة للتشويق وجذب الانتباه من خلال عرض مبهر وشائق، فإنه يلزم أن تعمل القيادة التربوية على تدريب معلمي الفلسفة - وكذلك معلمي المواد الأخرى - على استخدام التكنولوجيا في التعليم، ويجب أن تكون القيادة التربوية داخل المدرسة مشجعة على ذلك، كما يجب أن يكون ذلك نابعًا من قناعة معلم الفلسفة من داخله؛ لأن في ذلك إثراءً للمادة من جانب، وتنمية مهنية له من جانب آخر. وإذا كان توفر المادة العلمية الإلكترونية أمر ميسور توفره وزارة التعليم، فإن الإشكالية الكبرى تكمن في أمرين:

الأول، عدم توافر الأجهزة الإلكترونية - كالحاسب الآلي - داخل قاعات الدراسة، بل إن الطامة تكمن في عدم توافر الأجهزة داخل المدرسة ذاتها، فالأجهزة إما معطلة في الغالب، وإما إصدارات قديمة تفتقد إلى الكثير من الإمكانيات.

الثاني، عدم وجود موقع إلكتروني للمدرسة يمكن من خلاله تسيير عملية التواصل بين الطلبة والمعلمين أو بين أولياء الأمور والقيادة التربوية من جانب وبينهم وبين المعلمين من جانب آخر.

وإذا كانت عملية التعلم الصحيح تقوم على العلاقة الفاعلة والتفاعلية بين المعلم والمتعلم، فإنه مما لاشك فيه أن المعلم هنا يؤدي دورا نموذجيا، في هذه الوضعية يشارك المعلم بحماسة في الحوار ويعمل على توجيهه وتحريضه وإثارته، كما يعمل أيضا على تسهيل مجريات الحوار بين المتعلمين. المعلم في وضعيته هذه يجب ألا يقدم إجابات، بل يستثير التساؤل ويحرض عليه، كما يتوجب عليه أن يساعدهم على احترام وجهات النظر الأخرى لأفراد الجماعة، ويساعد على احترام القواعد الأساسية للحوار بين افراد الجماعة أو المجموعة.([8]) وإذا كان الأخير هو محور العملية التعليمية، فإن من اللازم على القيادة التربوية أن تحرص بجد على تنفيذ خطط التعلم التي هي بالأساس متمركزة حول المتعلم، ومن ثم وجب تحفيز معلمي الفلسفة خاصة على استخدام أنشطة تعليمية مبتكرة ومتنوعة وغير تقليدية، حيث تتيح التفاعل التام بين المتعلم والمادة الفلسفية موضوع التعلم، كما يجب أن تتيح الفرصة لمعلمي الفلسفة لوضع نظام للحوافز للمتعلمين المتميزين خاصة في مجال التعلم الذاتي، ذلك المجال الذي يسعى فيه المتعلم أو الطالب لأن يعلم نفسه بنفسه - مع الاستعانة بالمعلم بالطبع - من خلال عمل البحوث أو الاستزادة العلمية من المكتبات أو المواقع الإلكترونية.

ولكن يبقى السؤال المهم، وهو: توفر القيادة التربوية داخل المدارس الثانوية المعنية بتدريس الفلسفة نظامًا دقيقًا لمتابعة تقدم المعلمين فلسفيًا في ضوء نواتج التعلم المأمولة؟ أو بعبارة أخرى هل تضع آلية واضحة لتقويم الاختبارات الفلسفية دوريًا، سواء أكانت هذه الاختبارات أسبوعية أو شهرية أو فصلية أو سنوية؟ هل تدعم بعناية استخدام أدوات متنوعة لتقويم دارسي الفلسفة معرفيًا ووجدانيًا ومهاريًا؟ وهل تتابع نتائج تقويم ذلك كله؟ وكيف تستفيد من هذه النتائج في تحسين أداء المتعلمين؟ وإلى أي مدى تعمل على تحفيز المعلمين للتعاون معها في متابعة نتائج هذه التقويم وطرح سبل البديلة؟ وما النظام الذي تتخذه القيادة المدرسية لمتابعة المتفوقين وإعداد برامج لهم؟ وما النظام الذي تتخذه لمتابعة ذوي صعوبات التعلم ورعايتهم للوصول إلى المستوى المأمول في مادة الفلسفة؟ إن الإجابة عن هذه الأسئلة العديدة تتطلب بحوثًا مطولة تشتمل على جداول ورسوم توضيحية، إلا أننا سنجيب عنها في حدود السطور المسموح بها في هذه الدراسة، ويمكن الإجابة عنها بما يفتح المجالات لدراسات أخرى حولها.

فلا غبار على أن وزارات التعليم العربية تلزم باتباع الآلية المناسبة لتقويم الاختبارات دوريًا، وتتنوع أدوات التقويم فيها معرفيًا ووجدانيًا ومهاريًا، إلا أننا لا نستطيع القول إن هذه الأدوات تستطيع أن تنشأ لنا جيلاً فلسفيًا يستطيع التفكير بطريقة عقلانية منطقية أو أن تنشأ لنا جيلا يستطيع نقل المجتمع تلك النقلة التي فعلها فلاسفة كبار في عالم الفكر. ذلك أن أدوات التقويم، وإن كانت متنوعة وتقيس جوانب مختلفة، إلا أنها لا تقيس مستويات عليا من التفكير، فهي في الغالب في مستوى الطالب المتوسط، ولا تحاول أن ترتقي به إلى مستوى النبوغ والابتكار، فضلاً عن أن هذه الأدوات من التقييم تطرح في اختبار جماعي على كل المتعلمين في الفصل أو المدرسة، دون أن يصنف هؤلاء المتعلمون إلى ضعيف، ومتوسط، وجيد، وجيد جدا مثلاً، ثم يتم وضع الاختبار المناسب لكل فئة على حدة، فذلك أجدى وأنفع في قياس المستوى والارتقاء بالطالب الضعيف إلى مرحلة التوسط والطالب المتوسط إلى مرحلة الجيد وهكذا، أما مستوى الاختبارات الحالية فهو يقيس الطالب المتوسط فقط دون الاهتمام بالضعيف أو المتفوق، ومن ثم فهي أدوات لا تقيس الفروق الفردية بين المتعلمين في الغالب.

وعليه، فإن الاختبارات لا تعبر في رأيي عن المستوى الحقيقي الذي عليه الطلاب في مادة الفلسفة أو غيرها من المواد الدراسية، لأن الاختبار بما أنه في مستوى الطالب المتوسط فإن هذا الطالب المتوسط يستطيع بسهولة أن يحصل على الدرجة النهائية، وبالتالي يتساوى في الدرجة مع المتفوق حقيقة، فلا نحن بذلك قيمنا المتوسط حقيقة ولا المتفوق حقيقة.

أما من حيث وجود نظام للاستفادة من نتائج التقويم في تحسين أداء المتعلمين، فلا يوجد نظام بهذا الشكل في أغلب مدارسنا الحكومية، وإن كنا نجده في الكثير من المدارس الخاصة التي تهتم برفع مستوى الأولاد لناحية تجارية، فكلما كان المستوى فيها مرتفعًا كان الإقبال عليها متزايدًا، وبالتالي زاد الكسب المالي، حتى مع وجود مثل هذا النظام - إن افترضنا وجوده - فإنه كما قلنا لن يتابع المتابعة الجادة؛ لأن المقياس كان في الغالب معيبًا؛ كونه لا يخاطب كل مستويات المتعلمين في مادة الفلسفة.

ناهيك أنه لا يوجد التحفيز اللائق مع فرضية تعاون معلمي الفلسفة في متابعة أداء المتعلمين؛ ذلك أن التحفيز في الغالب أما غير موجود، أو في أضيق الحدود يكون تحفيزًا معنويًا لا أكثر، كون أغلب بلداننا العربية التي تدرس مادة الفلسفة في المدارس الثانوية - نستثني من ذلك بالطبع دول الخليج الغربي الغنية، فإنها لا تدرس الفلسفة من الأساس - فقيرة ماديًا وليس لديها قدرة بالتحفيز المادي، وتلك من أهم المشاكل التي تواجه الفلسفة في مدارسنا الثانوية.

وبما أن الاختبارات لا تفي بحاجة المتفوقين، فإننا لا نتوقع أن يكون هناك نظام لمتابعة أدائهم وإعداد برامج لهم، وهذه جزئية لم نفطن إلى أهميتها حتى الآن، وقد فطنت بعض الدول العربية إلى أهمية وضع برامج لرعاية المتفوقين والموهوبين، وإن كان هذا الأمر تعتريه بعض الصعوبات منها:

أ - أن هذه البرامج لا زالت في طور الإعداد والتجربة.

ب - أن هذه البرامج في حاجة كبيرة إلى فهمها من قبل المعلمين.

ج - أنها برامج لا تعنى للأسف بمتفوقي مادة الفلسفة وموهوبيها، وإنما تركز في الأساس على المتفوقين رياضيًا وفنيًا.

وأخيرًا، فإن على القيادة التربوية معنية بأن تشيع روح الممارسات الفلسفية بين المتعلمين، وذلك من خلال الآتي:

أ - اتباع أسلوب الحوار في الوصول إلى القرارات، وإشراك المتعلمين فيما يخص بيئتهم التعليمية.

ب - مشاركة ممثلين من العاملين والمتعلمين القيادة التربوية في وضع خطط التطوير.

ج- وضع نظام لترقي الاقتراحات والشكاوى والتعامل معها بكل شفافية.

د- تفعيل اللوائح والقوانين بما يخدم المؤسسة التعليمية.

هـ - مشاركة أعضاء المؤسسة التعليمية في وضع قواعد المساءلة، مع تطبيقها على الجميع، وبمستوييها الفردي والجماعي.

ثالثًا – الموارد البشرية والمادية المتاحة لتدريس الفلسفة

لا أظن أن هناك عجزا في معلمي الفلسفة في الصفوف الثانوية، حيث إن هناك العديد من الكليات المعنية بتخريج متخصصين في مادة الفلسفة، وهذه الكليات عليها إقبال متزايد من قبل البعض، إلا أن المشكلة تكمن في عدم توفير التنمية المهنية الخاصة بالمعلمين، كما تكمن في عدم توافر الإمكانات المادية المعينة على إتمام تدريس المادة كمكتبة مناسبة ومزودة بالمصادر والمراجع الفلسفية المتنوعة التي تفي باحتياجات المتعلمين، ومن الضروري أن تتاح هذه المكتبة في أوقات الدراسة، وفي غير أوقات الدراسة، ولا سيما إذا كانت المكتبة متصلة بشبكة الإنترنت؛ حتى يستطيع المتعلمون الإحاطة بالموضوعات التي تتعلق بمنهج الفلسفة والاستزادة منها، خاصة في حالة عجز المكتبة عن الوفاء بحاجاتهم الفلسفية.

رابعًا - المشاركة المجتمعية الفعالة

تمثل المشاركة المجتمعية أحد الروافد المهمة في التأكيد على أهمية الفلسفة والتفلسف لطلبة المرحلة الثانوية، خاصة بعدما أشيع عنها كذبًا أنها هرطقات وخزعبلات وأوهام، وهي تلك الدعاوى التي تحصر الفلسفة في إطار ضيق متعللة ببعض الأفكار اليونانية التي فهمها أصحابها خطأ؛ كونها تخالف الدين أو العقل، وبعدما أشيع عنها كذبًا أنها تمثل حلولاً غير واقعية، فأصبحت مقولة (هو يتفلسف) مقولة تعني الازدراء في نظر العامة في مصر مثلاً. ومن ثم، كانت التوعية المجتمعية التي تقوم بها المؤسسات التعليمية تجاه فئات المجتمع لتوضيح صورة الفلسفة من أقوى السبل التي تزيل سوء الفهم الذي أحاط بها. ومن ثم على توجيه الفلسفة أن يكون له يد فاعلة في الانطلاق بالفلسفة إلى عمق المجتمع، وتصحيح الصورة التي حيكت حولها بقصد أو بدون قصد، ويشاركهم في ذلك كل الأطراف المعنية في الوزارة من مستشار مادة الفلسفة إلى القيادة التربوية المدرسية، خاصة وأننا نفتقد إلى وجود خطة توعية بأهمية الفلسفة في خدمة المجتمع هذه الخطة لا بد أن تتبناها الوزارات التعليمية، وتنفذ تحت إشراف مستشار مادة الفلسفة وتوجيهاتها داخل المديريات والإدارات التعليمية، ولا مانع من عقد ندوات فلسفية، وعمل ملصقات ونشرات تبين في سهولة ويسر ما يمكن أن تقدمه الفلسفة للمجتمع.

خامسًا - الفلسفة في ظل التقييم والجودة

نحن كباحثين للفلسفة نريد أن يصل تدريس الفلسفة في عالمنا العربي إلى مستوى الجودة المأمولة، ولن يتم ذلك بدون عمل تقييم ذاتي أولاً يدور حول مادة الفلسفة، هذا التقييم الذاتي تشارك فيه كل الأطراف المعنية ومن المعلمين والطلاب والقيادة المدرسية ومجلس أمناء المدرسة وأولياء الأمور والمتعلمين، ويستحسن أن تكون أدوات التقييم الذاتي التي نجمع بها بياناته متنوعة بين الملاحظة والمقابلة وفحص الوثائق والاستبيانات، وفائدة هذه الأدوات أنها تعطي صورة واقعية عن حقيقة الفلسفة عند تلك الفئات، وما موقفهم منها على وجه التحديد. ويمكن أن تكون الأسئلة المطروحة في هذه الأدوات من نحو:

-          ماذا تعرف عن الفلسفة؟

-          ما مفهوم الفلسفة؟

-          هل تدريس مادة الفلسفة مهم؟ كيف؟

-          ما الموضوعات التي تحب أن يطرح منهج الفلسفة؟

-          هل هناك علاقة بين الفلسفة والمجتمع؟

-          ما طبيعة هذه العلاقة؟

-          لماذا يتخذ الكثيرين موقفًا سلبيًا من الفلسفة؟

-          كيف نزيل هذا اللبس؟

ولا شك في أن الإجابة عن هذه الأسئلة من قبل الأطراف المختلفة، سيساعد كثيرًا في إيجاد العديد من الحلول وإزالة مختلف ألوان اللبس التي تعتري الفلسفة من قبل من لا يعرفون قيمتها وأهميتها. ولا مانع من أن تنشر المؤسسة التعليمية التي تولت هذا النوع من التقييم الذاتي نتائجها على الإنترنت أو من خلال بطاقات أو مطويات صغيرة. ومن الأهمية بمكان أن تقوم المدرسة بهذا النوع من التقييم إذا توافرت لديها الإمكانيات البشرية والمادية اللازمة، فإذا انتهت من مرحلة التقييم بدأت في وضع خطط التحسين في ضوء نتائج هذا التقييم، ومن المهم أن يشارك في وضع الخطة معلمو مادة الفلسفة بالمدرسة، مع القيادة التربوية بها مع مجلس الأمناء فضلاً عن توجيه الفلسفة. وتبقى أهمية الخطة مرهونة بتوزيع الأدوار الفلسفية بدقة على كل الأطراف السابقة، مع الالتزام بالإطار الزمني المحدد فيها، ويجب أن تستهدف الخطة تنمية أداء المتعلمين في مادة الفلسفة على الصعيد المعرفي والوجداني والمهاري في ضوء النتائج التي أفرزتها عملية التقييم الذاتي، وهذه مسئولية المعلم في المقام الأول، أما دور التوجيه فيتمثل في المتابعة والتقييم المستمرين ووضع صورة كاملة للقيادة المدرسية التربوية عن تدريس الفلسفة؛ وذلك للتأكد من مدى مطابقة الأداء لمعايير الجودة.

ثم تجمع نتائج كل مدرسة إلى الإدارة التابعة لها، ومنها إلى المديريات التعليمية التي بدورها تنقلها الوزارة ممثلة في مستشار المادة، فتكون لديه صورة واضحة عن نتائج التقييم الذاتي وخطط التحسين لمادة الفلسفة تمكنه من المساهمة في كشف العوار ووضع البدائل السليمة لتدريس المادة، وله في ذلك أن يستعين بمن شاء من المتخصصين.

[1]- مجلة ذوات العدد38

[2])) انظر عادل ظاهر، دور الفلسفة في المجتمع العربي، بحوث المؤتمر الفلسفي العربي الأول، بالجامعة الأردنية بعنوان: الفلسفة في الوطن العربي المعاصر، بيروت، مركو دراسات الوحدة العربية، 1985م، ص 71

[3])) انظر مصطفى محسن، نحن والتنوير، عن الفلسفة والمؤسسة ورهانات التنمية، والتحديث وتكوين الإنسان في أفق الألفية الثالثة، بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 2006م، ص 44

[4])) انظر برهام غليوم بالاشتراك مع سمير أمين، ثقافة العولمة وعولمة الثقافة، حوارات لقرن جديد، بيروت، ط دار الفكر المعاصر، دمشق، دار الفكر، 1999م، ص 23

([5]) انظر عبد الله كامل الكتاني، التأصيل الثقافي تجديد لتصحيح مسار التنمية، ملتقى العنصر الثقافي في التنمية، تونس، نوفمبر 1988م، سلسلة العلوم الاجتماعية، العدد 17، الجامعة التونسية، مركز الدراسات والأبحاث الاقتصادية والاجتماعية، 1991، ص 77

[6])) انظر شروط صياغة الرؤية والرسالة تفصيلاً، دليل الاعتماد لمؤسسات التعليم قبل الجامعي، الجزء الأول: إجراءات الاعتماد والتقييم الذاتي، القاهرة، ط الهيئة المصرية لضمان الجودة والاعتماد التربوي، 2007م، ص 62

[7])) انظر أحمد عوضه الزهراني، يحيى عبد الحميد إبراهيم، معلم القرن الحادي والعشرين، على الرابط التالي:

http://almarefh.net/show_content_sub.php?CUV=400&Model=M&SubModel=138&ID=1682&ShowAll=On

[8])) انظر علي أسعد وطفة، هل يتفلسف الأطفال، على الرابط التالي:

http://bawaba.khayma.com/%D8%A7%D9%84%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9/