تدريس الفلسفة لدى هيغل: نقد التفلسف الكانطي


فئة :  مقالات

تدريس الفلسفة لدى هيغل:  نقد التفلسف الكانطي

تدريس الفلسفة لدى هيغل:

نقد التفلسف الكانطي

تمهيد إشكالي:

تتأسس الإستراتيجية الكانطية في تعليم التفلسف بدل الفلسفة، حيث أكد أننا لا نتعلم الفلسفة بل نتعلم التفلسف، باعتبار هذا الأخير، عملية نقدية ومساءلة نقدية (فاحصة وتمحيصية) دائمة لمعارفنا السالفة، وتساؤلا عن معنى وقيمة الحقائق، هذه الممارسة النقدية تجعل من العقل يتخلى عن كل وثوقية ومعرفة دوغمائية تدعي أن لها معرفة مطلقة ومثبتة ونهائية وقطعية، إذن الفلسفة عند كانط عبارة عن تأمل نقدي محض؛ أي إن طريقة التفلسف الكانطي تتجلى في رفضه تدريس تاريخ الفلسفة ومذاهبها أو أنساقها وتسبق الحرية الفكرية على كل نسق فكري يدعي الشمولية والكونية والتاريخية، على خلاف هذا الموقف الكانطي، سنجد هيغل ينحو منحى مغايرا تماماً، يبدأ فيه بهدم الموقف الكانطي من تدريس التفلسف، ليعيد بناء موقف مضاد له تماماً، وسنكتشف ذلك من خلال طرحنا لإشكال هو عبارة عن مجموعة من الأسئلة الموجهة للتحليل والمناقشة، وهي كالآتي:

أولاً: كيف عمل هيغل على نقد تعليم التفلسف لدى كانط؟

ثانياً: ما هو الموقف المضاد الذي قدمه هيغل على غرار موقف كانط؟

ثالثاً: ما الذي يميز موقف هيغل من تدريس الفلسفة وليس تعليم التفلسف؟

رابعاً: بماذا يتميز أسلوب هيغل أثناء عمله كمدرس للفلسفة؟

خامسا: هل يمكن الاعتماد أو الاقتداء والأخذ بهيغل المدرس/ الأستاذ كنموذج / مثال أثناء تدريس الفلسفة للطلاب؟

أولاً- نقد هيغل تعلم التفلسف الكانطي:

عمل هيغل على نقد نموذج تعليم التفلسف الكانطي بشكل حازم جداً، حيث كتب أثناء إقامته في يينا، (iéna) ما يلي: «لقد ارتكب كانط خطأ فادحا، عندما أكد أن المرء لا يتعلم التفلسف، كما لو أن المرء يتعلم النجارة لا كيف يصنع مائدة أو كرسيا أو بابا أو مقعدا أو ما إلى ذلك ...»[1]، نعم تماماً، هكذا كان تعليق هيغل على تعليم التفلسف لدى كانط، ساخرا من أن المرء يتعلم الفلسفة لا كيف يصنع الفلسفة، أي تصبح له صناعة فلسفية؛ بمعنى يصبح فيلسوفا أو يحاول أن يصبح كذلك على الأقل، وفي موضع آخر من نفس الرسالة يورد ما يلي: «يتم التمييز في العادة بين المذهب الفلسفي وعملية التفلسف ذاتها، هكذا، وبمقتضى هذا الوباء الحديث فإن موضوع التعليم في الفلسفة ليس هو محتوى الفلسفة وإنما هو التفلسف، أي صورة الفلسفة، ومعنى ذلك أن نسافر دائماً من غير أن نقف على المدن والأنهار والبلدان والشعوب...»[2]، حيث يؤكد أنه لا يجب علينا التمييز في الأصل بين المذهب الفلسفي (يقصد هنا التيار الفكري الفلسفي مثل التيارين التقليديين العقلي والتجريبي) وعملية التفلسف ذاتها؛ أي تلك التي تؤسس التفكير الفلسفي وتميزه عن باقي أشكال التفكير الأخرى (يقصد هنا مبادئ التفكير الفلسفي من أشكلة ومفهمة ومحاجة وتركيب ودهشة وتساؤل ومراجعة ونقد واستنتاج ...)، حيث اعتبر أن هذا التمييز في الحقيقة بين المذهب الفلسفي وعمليات التفلسف هو عبارة عن وباء حديث ظهر في تلك المرحلة، إذن موضوع التعليم في الفلسفة هو التفلسف ذاته، وليس محتوى ومضمون الفلسفة، هذا التفلسف هو ما يشكل صورة الفلسفة، وقدم هيغل على ذلك تمثيلا جميلا كان الغرض منه هو تقريب الصورة في ذهن المتلقي، كأن تقول دائماً ما نسافر - من خلال قراءة تاريخ الفلسفة ومضامينها- دون نقف على المدن والأنهار والبلدان والشعوب -أي دون الوقوف على الأفكار والمذاهب والتصورات والأنساق الفلسفية الكبرى ...، بدون الوقوف على تاريخ الفلسفة والفكر والمذاهب والتيارات الكبرى المؤسسة له، بهذا المعنى يرى هيغل أن سذاجة السعي وراء تعلم التفلسف واكتساب أدواته في غياب أي محتوى ومضمون وتاريخ فلسفي، مجرد مضيعة للوقت والجهد، وسيؤدي إلزاما إلى تكوين أذهان فارغة وعقول جوفاء ساذجة، خاصة وأن عقل المتعلم في الأصل عبارة عن محتوى فارغ أي علبة خاوية يجب ملؤها وحشوها بمحتوى الفلسفة عبر تاريخها ومذاهبها وأنساقها الكبرى وتياراتها وأفكارها الشمولية والكلية، هذا المحتوى والمضمون هو ما سيملأ تلك الفجوات والأوهام التي تحتضن فكره الجامد، ويمهد الطريق للحقيقة لتحل محل البهتان والكذب والضلالة وأضغاث أوهام التي تقوم عقله، هذا ما جعل هيغل يقول: «أصاب بفزع عظيم كلما عاينت النقص الكبير في ثقافة ومعارف الطلبة الذين يدرسون بالجامعة ...»[3]، إذن لا بد يثير هذه الإشكالات التي كان يواجهها أثناء تدريسه الفلسفة بالجامعة، حيث رأى تعليم تاريخ الفلسفة للطالب سيتيح له من وضع المعارف الفلسفية والفكرية ومسائلها في سياقها التاريخي الكوني؛ أي المساق التاريخي الذي يحدد أي معرفة، بل يضعها حتى في مجالها الحضاري والإنساني والثقافي، ومعرفة كيف طرحت المسائل والإشكالات الفلسفية الأولى عبر الحضارات، حيث إن تاريخ الفلسفة بمثابة تأريخ للفكر الإنساني، قصة الفلسفة لديه بمثابة قصة الحضارة الإنسانية، إذن عبر هذا التاريخ الضخم جداً والممتد هو ما سيتيح للطالب /المتعلم، إمكانية التساؤل بوصفه مبدأ من مبادئ التفلسف وطرح المشكلات الفلسفية والفكرية الأساسية كما طرحت عبر تاريخها وزمانها وحضارتها. وبالتالي يصبح من العبث، بل مجرد تخبط عشوائي، حينما ندعي تدريس التفلسف للطلاب (أي تعليمهم التساؤل والمفهمة والمحاجة والتركيب والشك والنقد والمراجعة والنسقية ...) دون العودة إلى التاريخ والسياق الزمني الذي طرحت فيه هذه التساؤلات والمفاهيم والحجاج والتراكيب والشك والنقد والمراجعة والنسقية ...، كيف نطلق الحكم النقدي على فكر معين دون العودة إلى جذوره التاريخية والسياقات التي طرح فيها؟

نفس هذه الفكرة تماماً نجدها عند إيميل بريهيه مؤرخ الفلسفة الفرنسي المشهور بموسوعته في تاريخ الفلسفة (اليونانية والقروسطوية والحديثة)، والذي اهتم كثيراً بالأنساق الفلسفية والفكرية الكبرى أمثال: فيلون الإسكندري، والفلسفة الرواقية، وشلينغ وأفلوطين ودافع دائماً عن فلسفة القرون الوسطى، وأفلاطون؛ وذلك لأنه رأى فيهم نماذج لفلسفة حكيمة أي فلسفة روحية أو مبدأ للحياة الروحية، ونماذج صوفية محضة، كانت تدافع لهم رؤية فلسفية للحياة، يجب العودة دائماً إلى أفكارهم، لذلك يجب على طالب / المتعلم المهتم بالفلسفة، الرجوع دائماً إلى تاريخ الفلسفة للتعرف على هذه النماذج الفلسفية التي كانت لهم رؤية خاصة للحياة، إن لم نقل أنهم اعتبروا الحياة فلسفة، والفلسفة حياة، يجب علينا دائماً التأمل فيها من أجل بلوغ تلك الحكمة.

إذن كاستنتاج جزئي هنا: لا وجود لفلسفة بدون تاريخ، ولا وجود لتاريخ بدون فلسفة، فكلاهما وجهان لعملة واحدة، ولا يمكن الفصل كذلك بين تعليم الفلسفة عبر تاريخها ومذاهبها وأنساقها الكبرى وتياراتها وتعلم التفلسف بأدواته (التساؤل، والدهشة، والمفهمة والمحاجة والتركيب والشك والنقد والمراجعة ...).

ثانيا- الموقف المضاد الذي قدمه هيغل على غرار موقف كانط:

حاول هيغل أن يقر أن تدريس الفلسفة بالسنة النهائية بالتعليم الثانوي ما هو سوى تمهيد لدراستها في الجامعة؛ وذلك من خلال أن من يرغب في دراسة الفلسفة التخصصية لذاتها، لا بد من ولوجه للجامعة من أجل دراستها كما هي، لذلك اقترح هيغل برنامجا لتدريس الفلسفة بالجامعة كالآتي:

في الفصل الأول: يجب على الطالب أن يدرس فلسفة الدين وفلسفة الحق وفلسفة الواجبات (أو فلسفة الأخلاق).

في الفصل الثاني: يتم تدريس الكوسمولوجيا القديمة وفلسفة الطبيعة والمؤلفات النقدية لكانط (نقد العقل المحض ونقد العقل العملي ونقد ملكة الحكم) والسيكولوجيا.

في الفصل الثالث: فتدرس فيه الموسوعة الفلسفية.

أما فيما يتعلق بمنهج تدريس الفلسفة، فيتم بشكل تدريجي، «من خلال البدء بالمنطق ثم السيكولوجيا وأخيراً الميتافيزيقا، ويتقسم مضمون السيكولوجية عند هيغل إلى قسمين: قسم يصف ظهور الروح وهو الفينومينولوجيا في حركاتها الثلاث: الأولى /الوعي، الوعي بالذات، العقل وقسم ثان يعالج فيه الإحساس والتمثل والخيال والذاكرة والتذكر...»[4].

ثالثاً- موقف هيغل من تدريس الفلسفة وليس تدريس التفلسف:

يكتب هيغل في تقرير 23/02/1812 حول تدريس الفلسفة بمدرسة الجمناز التي كان قد رفعها إلى السلطات العليا الوصية على التعليم ما يلي:

«تتضمن الفلسفة الأفكار العقلية الأكثر علوا المتعلقة بالموضوعات الأساسية فهي تتضمن ما هو حقيقي وعام في هذه الأفكار وأنه من الأهمية بمكان الاستئناس بهذا المضمون وتبقي هذه الأفكار، أما المبالغة في المحاججة والتأمل غير النسقيين، فلن تكون النتيجة سوى تكون الرؤوس فارغة من كل فكر أي لا تعرف شيئاً (.....) أنه عندما يكون الرأس قد امتلأ بالأفكار تتوفر له إمكانية النهوض بالعلم وأن يحصل فيه على أصالة حقيقية لهذا يجب طرد الجهل، وملئ الرأس الفارغ بالأفكار وبالمضمون المتين ...»[5]، يضيف قائلا: «كان أوجب واجباتنا اليوم العمل على أن نجعل الفلسفة من جديد أمرا جديا أنه ما من علم أو فن ولا من موهبة أو صنعة إلا ساد اليقين بأن امتلاكها لا يأتي بقبول المشقة وبالجهد المبذول من أجل تعلمها والتدريب عليها.»[6]

رابعاً- هيغل المدرس:

شهادة كرورزانكرامز K.RosenKrag حول الفيلسوف الألماني هيغل:

«كان يملي فقرات ويشرحها بشكل قاطع ونافذ، ولكن بدون حيوية خارجية طبعا، لم يكن يقرأ ما قاله، لكن أوراقه كانت مبسوطة أمامه، ينظر بعيداً ناثرا التبغ بكثرة يمينا وشمالا، (...)، كان هيغل من وقت لآخر يدعو هذا التلميذ أو ذاك طالبا منه قراءة ما دونه للإبقاء على الانتباه في الدرس من جهة المراقبة النقط التي تم أخدها من جهة أخرى ... في بداية كل حصة، كان يطلب من أحد التلاميذ أن يلخص درس الحصة السابقة، (...)، وببساطته كان هيجل يسمح بمقاطعته حتى أثناء عرضه، وغالبا ما يخصص جزءاً مهما من الحصة للإجابة عن هذه الأسئلة، مع أنه كان يمتلك فن إرجاع الأسئلة إلى وجهات نظر عامة تربطها بالموضوع الرئيس الدرس.»[7].

ماذا نستنتج؟ نستنتج أن ما ميز هيغل المدرس هو الصرامة والموضوعية أثناء تقديمه للمحاضرات، وتطبيقه للمنهج الدياليكتيكي/الجدلي الذي يتميز به في الأصل.

خامسا- الاقتداء والأخذ والأثر بثأر هيغل المدرس:

كيف لا نأخذ بثأر، ه وهو يتميز بخاصيتين أساسيتين -لا بد أن يكونا في مدرسي اليوم، وبالخصوص مدرس مادة الفلسفة، أولاً: الموضوعية أو الحيادية والصرامة، ثم المنهج الجدلي/الدياليكتيكي المتمثل في فن إرجاع الأسئلة إلى وجهات نظر عامة تربطها بالموضوع الرئيس للدرس.

على سبيل الختم:

عمل هيغل على نقد منهج تعلم التفلسف لدى كانط، هذا النقد ليس من أجل النقد كما فعل كانط، بل من أجل البناء والتشييد وتقديم تصور أصيل في تدريس الفلسفة يركز على تعلم الفلسفة بالفلسفة ذاتها عبر تاريخها ومذاهبها وأنساقها الكبرى، ودليلنا في ذلك تجربة هيغل الفصلية وتقديم مقترح لبرنامج تدريس الفلسفة في الجامعة، أو من خلال مجمل التقارير التي رفعها هيغل إلى السلطات العليا الوصية على التعليم في شأن تدريس الفلسفة ما بين 1808 و1816، عندما كان مديراً وأستاذا بمدرسة الجمناز بألمانيا.

[1] عز الدين الخطابي (2002): مسارات الدرس الفلسفي بالمغرب -حوار الفلسفة والبيداغوجيا، منشورات عالم التربية، ص80-81-82

[2] فريدريك هيغل، مجمل التقارير التي رفعها إلى السلطات العليا الوصية على التعليم في شأن تدريس الفلسفة ما بين 1808 و1816 عندما كان مديرا وأستاذا بمدرسة الجمناز، أعدها الباحث المغربي، مجلة فكر ونقد، العدد 48، يناير 2002، من ص 71 إلى ص 84

[3] ورد عن عز الدين الخطابي، المرجع السابق، نفس الصفحات.

[4] مزرنين محمد (2002): هيجل الفيلسوف -المدرس بالجمناز، مجلة فكر ونقد، العدد 48، ص 73

[5] هيجل تقرير1812 نقلا عن زرنين، المرجع نفسه.

[6] محمد زرنين، المرجع نفسه.

[7] Léon-Louis Grateloup (1986) notice pédagogique, Classiques Hachtte, Paris pp 28-29-30-33

أنظر ترجمة هذه الشهادات في كتاب: الفلسفة فكر وبيداغوجيا لعبد القادر المذنب – السلسلة البيداغوجيا 11 – دار الثقافة، الدار البيضاء، المغرب، من الصفحة 66 إلى الصفحة 69، الشهادة الثانية، حول الفيلسوف الألماني هيغل، بتصرف، المنقولة عن ديداكتيك الفلسفة معالم نظرية وتجارب مهنية، تنسيق وتقديم: د. عبد الله بربزي، المراجعة والتدقيق اللغوي: د. عبد العاطي الزياني، مؤسسة آفاق للدراسات والنشر والاتصال، الطبعة الأولى: مراكش 1444ه/ 2023م، عنوان المقال: تدريس الفلسفة بين تعليم الفلسفة وتعلم التفلسف، عبد الله بربزي، ص 59