تطبيق الحدود الإسلامية... هل هي حقا الحكم بما أنزل الله؟


فئة :  مقالات

تطبيق الحدود الإسلامية... هل هي حقا الحكم بما أنزل الله؟

تطبيق الحدود الإسلامية... هل هي حقا الحكم بما أنزل الله؟

لايزال هناك خلط متعمد بين الحدود الإسلامية التي لا تكف الأصوليات الدينية عن المطالبة بتطبيقها، عوضا عن تنفيذ القوانين الوضعية، والتي يعتبرونها تعدّيًا على سلطة الله، وكف يده عن التشريع وتعطيل أحكامه، واعتبار المنظومة العقابية التي أقرتها آيات التشريع في القرآن، هي وحدها الصحيحة والمتعالية عن أي اجتهاد قد يخالفها أو يؤدي إلى تعطيلها وتغييرها.

فيما يعتبر أنصار الفريق الأول أتباع الثاني في النار، لكونهم يستبدلون حكم الله بحكم البشر أو حكم الطاغوت، كما يصفونه في أدبياتهم، ويصنفه محمد بن عبد الوهاب، في كتابه مجموعة التوحيد إلى خمس فئات، منها الحاكم الجائر المغير لأحكام الله أو الذي يحكم بغير ما أنزل الله.

وهو ما يجد له تبريراته في سياق قراءتهم المتعسفة للنص، وتفسير الآية: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، دون وضع اعتبار لفهم أسباب نزولها، والموقف الذي تأسس عليه الوحي في هذا الحادث، والذي تجلّت فيه. وإزاء تجاهل تفاعل النص مع وقائع تاريخية، لها عناصرها المحددة، والتي فقدت صلاحيتها، فإن محاولة استردادها في واقع وزمن مغاير لها، يتسبب في تجميد النص من ناحية وإنتاج مقولات تتسم بالعنف الذي يأخذ صفة المقدس.

وفي واقع الحال، فليس ثمة قوانين مهما كان مصدرها أن تتعالى على الواقع وضروراته، ومستوى وعي البشر وتفوقهم الحضاري وإنتاجهم المادي، كما لا يمكن تطبيقها القسري على جسم اجتماعي وثقافي، لا تتطابق مع عناصره وتتعرف عليه.

فتحتاج كل مرحلة إلى قفزة تشريعية، تناسب شروطها التاريخية وتطورها الاجتماعي والمعرفي، واحتياجها إلى قوانين تنظم قواعد الحياة بداخلها.

فالبيئة التشريعية للنص القرآني التي انحصرت وسائلها في التجارة والحروب، عبر الخيل والسيف أو الرمح، تختلف عن عصر يشهد حروبًا بالأقمار الصناعية، وهو واقع مغاير استدعى مرة ظهور قانون ينظم التسلح النووي، مثلما تعاقب على انتاج وتسويق السيارة، ظهور قانون ينظم السير.

استعار الإسلام الكثير من الأشكال العقابية التي كانت مفروضة في شبه الجزيرة العربية وأقرها، كما تعد فترة ما قبل البعثة بمثابة الجذور التاريخية للشريعة الإسلامية، التي لم تنشئ ممارسات عقابية مخالفة لما كان سائدا، ومنها قطع يد السارق، الذي لم يختلف في الجاهلية عنه في الإسلام؛ فيذكر ابن الكلبي في كتابه المثالب فصلا كاملا عمن قطعت أيديهم بسبب السرقة، ومنها قصة الذين سرقوا غزال الكعبة، في عهد عبد المطلب، جد النبي، فنفذ فيهم حد السرقة.

ويشير إلى الوليد بن المغيرة، أحد حكام العرب ومن سادات قريش، وهو أول من طبق حد السرقة، على عمرو بن مخزوم، الذي سرق إبل عمه.

ويشير الكلبي في المصدر نفسه، إلى تحريم الزنا وحد عقوبته القتل، وهو ما يخالف الصورة الذهنية التقليدية عن فترة الجاهلية، التي كانت تعيش في اللهو والمجون، ويتعمدون في الخمر والجنس. لكن قصة بيعة هند بنت أبي سفيان ودخولها الإسلام تنفي تلك الصورة، فعندما قال لها النبي: "ولا يزنين" فقالت له: "أو تزني الحرة لقد كنا نستحي من ذلك في الجاهلية، فكيف في الإسلام؟".

وفي مناكح أزواج العرب يروي الكلبي قصة النابغة الذبياني عندما وصف المتجردة، امرأة النعمان بن المنذر، في قصائده، وكاد أن يقتله لولا أن اعتذر منه، بعدة قصائد، فعفا عنه.

وكان أول من طبق حد الرجم من العرب هو ربيعة الأسدي، حيث كانت امرأة من قبيلة أسد أحبت رجلا، وهربت إليه، وضبطها أحد أبنائها، وأخبر الأسدي فأمر برجمها.

تقاسمت بلاغة العرب مع ما ورد في القرآن عن الحكم بالقصاص، والذي كان ينفذ حده في القاتل قبل الإسلام وساد بعده، سواء في حالات القتل الخطأ والعمد، والذي فيه شبهات، بدون تمييز، فيؤثر عنهم عبارة كانت تتردد أثناء تنفيذ الحكم، وهي "القتل أنفى للقتل"، والتي تعني أن القتل سبب لنفي جريمة القتل ما يترتب عليه الحياة، وهو ما يشبه المعنى، في الآية التي تقر الحكم ذاته: "ولكم في القصاص حياة".

كما وافق الإسلام على تشريع الدية للمقتول، والتي حددها عبد المطلب، جد النبي، بمئة من الإبل.

نهل الإسلام من التراث التشريعي للعرب في الجاهلية، ووافقت أحكامه ما جاءت فيه، لدى قبائل كالأوس التي كانت تجلد من يثبت عليه تهمة السب مثلا. وكذلك توقيع عقوبة ماعرف بحد الحرابة في الإسلام، على من يقطع الطريق، فصلب في الجاهلية النعمان، رجلا من بني عبد مناف، كان يقطع الطريق، كما يشير الدكتور جواد علي في كتابه: "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام".

وعلى الرغم من المرجعية الإلهية للدين، لكنها ليست بمرجعية متعالية على التاريخ ووقائعه، فرجم المرأة التي تزني عرفه العبرانيون والآشوريون من الفراعنة، والذي كانت عقوبته ألف جلدة للرجل وقطع أنف المرأة الزانية، وفي شريعة حمورابي، تقتل المرأة المتزوجة التي لاتصون جسدها، فيغرقونها في الماء.

ارتبط التصور العقابي في الإسلام كما في الأديان السابقة عليه بعدة اعتبارات كانت سائدة، وتشترك فيها معظم المجتمعات القديمة، تتحكم فيها معايير الذنوب التي قد يقترفها المرء، وتعريفه للمقدس والحرام، ولم يكن في المجتمعات القديمة أدنى تمييز بين الفضاءين العام والخاص والأمور التي تدخل ضمن الخصوصيات الفردية، فكانت إرادة الفرد تنمحي وتنسحق تحت إرادة المجموع، وتتمثل في الطاعة المطلقة للأب والحاكم والأمة وتنتهي عند المقدس، فاستند نظام العقوبات لديهم على خوف غريزي وبدائي من انتقام الله (الآلهة) إزاء أي تصرف من أحد أو بعض أعضاء القبيلة/ العشيرة، وأضحت العقوبات التأديبية من قطع اليد أو الرجم، بمثابة طقوس تطهيرية وفدية للتخلص ممن يسكنهم الشيطان اتقاء غضب الله على الجميع.

يرى الدكتور محمد فياض، الباحث في التاريخ الإسلامي والتدين الشعبي، أن المنظومة العقابية في الإسلام تحمل تأثيرات بدوية تسربت إليها من التراث والبيئة التشريعية للنص، بكل مؤثراتها الثقافية وممارساتها الاجتماعية، فمعظم هذه الممارسات تشكلت ببيئة اجتماعية، ذات محيط بدوي، حتى إن بعض الاتجاهات الحديثة في التأويل، لم تعتمد مفهوم بتر يد السارق، بمعنى القطع، بل وضعت تفسيرات أخرى، ترجح شج ظاهر اليد، فتتعرف على السارق حتى تتقي شره.

ويوضح أن المنظومة العقابية ارتدت بشكل عكسي في منظومة الثواب نفسها، والتي صاغتها كتب التراث، فانحصر تعريف الجنة بمكافآت مادية، كانت في سياق تحريمي، مثل أنهار من الخمر ومضاجعة الحور العين.

وبرأيه، أن استخدام هذه المنظومة العقابية التراثية باتت أقرب لفكرة مُفلسة، لا تتماشى مع الواقع الآني بظروفه الاقتصادية وتعقيداته الاجتماعية، بل إن استحضار "الدواعش" لهذه المنظومة العقابية، كفيلاً بنسفها من الأساس، والمنقولة حرفياً من كتب التراث الإسلامي، ومن حسن الحظ أن داعش، ربما، لم تكتشف حتى الآن، مواضع عقابية أكثر كارثية، حدثت على مر التاريخ الإسلامي، مثل التسمير والسلخ والحشو والخزوقة.

ويضيف: "كان جزء كبير من العرف السائد في شبه الجزيرة العربية، وما جاورها، قد تم الإبقاء عليه، بما في ذلك الأشكال العقابية، من قطع اليد والرجم والجلد، والتي أُعيد استخدامها بدافع الردع، وإن كانت إشكالية الردع قد تم التجاوز عنها بعد ذلك، بسبب التعقيدات السياسية، وتحول المنظومة العقابية لإرهاب وقمع المفكرين والمعارضين والمتصوفة، مثل مقتل ابن المقفع، بل وتم استلهام وسائل عقابية أخرى ارتبطت بتراث المسيحية، كصلب الحلاج، في مرحلة متأخرة بعد ذلك".

ويشير إلى أن "تشويه الجسد ببتر أحد الأطراف أو سمل العيون، كان جزءا كبيرا من معادلة السياسة في الإمبراطوريات القديمة، وتحديداً الإمبراطورية البيزنطية، فعند الاستقرار على حاكم جديد كان يتم في أحيان عديدة تشويه الورثة الآخرين، لعدم إمكانية المطالبة بوراثة العرش، وكان ذلك أيضاً يتم عند خلع أي حاكم حتى يتم غلق الباب أمام عودته لسدة الحكم مرة أخرى، وهو ما نجد له صدى بشكل غير مباشر في الفقه الإسلامي، الذي وضع شروطاً جسدية للحاكم الإسلامي أبرزها سلامة الأعضاء من التشويه.

وارتهنت فلسفة العقاب في الإسلام، بحسب فياض، باحتكار الحقيقة من كافة عناصر السلطة الأبوية في التاريخ، وتوارث تصوراتها القديمة عنه، والتي تشكلت من شيخ القبيلة والخليفة والقاضي والمحتسب، وترتبت عليها تآكل مساحة الحرية والتعدد لصالح رؤية عنيدة وسلطوية. وكانت أحد تجلياته في الإسلام حديث الفرقة الناجية الذي احتكرته السلطة وفقهائها، لسحق المعارضة والفرق المغايرة، وتوظيفه لتطهير المجتمع الإسلامي من الجماعات الفكرية، أو بحسب التعبير التراثي من "تلبيس إبليس"، وبالتالي كان باب مهم لتطبيق فكرة العقوبة، قتلاً ونفياً وتعذيباً باسم المقدس.

ومثلما كان بتر العضو الفاسد عملاً تطهيرياً يضمن الخلاص والطهارة لباقي أفراد الكيان، وجري تفسير بعض المظاهر الطبيعية أن عدم سقوط المطر والجدب أو هجوم الجراد وتفشي الأوبئة، هي نتيجة ذنوب اقترفها أفراد داخل المجتمع، وعندما كان يتم تطهير هذه العناصر بأي شكل من أشكال العقوبة تنفك الغمة وتعود الأمور لطبيعتها.

فالقرآن يستخدم المنهج النازل وليس الصاعد، بمعنى أن نصوصه كانت نتاج جدله مع الواقع، فقدم له حلولا، ولم يتطوع الله بالإجابة عن أمور تتخطى ما كان يشغل العقل المسلم وقتها، بل تفصح الآيات التي تأتي بصيغة "ويسألونك عن.."، مثلا، أنها كانت رد على أسئلة يحتقن بها أفراد المجتمع ووعيه الجمعي.

فالمطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية وحصرها في أحكام الحدود، وثب على الواقع، ويتجاهل مقاصد الشريعة، التي ترى في مصلحة الأمة مهما كانت شرع الله، فهدف الشريعة من الحدود هو حماية المجتمع من الانحراف والمنحرفين، فالنص القرآني ينبغي تجاوزه في حدود تاريخيته ويصيغ نفسه من جديد مع الواقع المتغير، مثلما تغير في لحظة تأسيسه مع الوحي بين المرحلتين المكية والمدنية.

فإن صلاحية النصوص تكون في مدى مطابقتها وفاعليتها مع الواقع، وضروراته، وفهمها في سياقاتها التاريخية ومبرراتها، فمع تطور الطب وتعويض الإنسان الذي فقد يده بأخرى صناعية، لاتصبح هناك جدوى من حد قطع يد السارق، إذا لم تجعله يكف عن السرقة، وتنهاه عنها، فتحرير النصوص من سطوة السلف يتطلب تطويعها من جديد لمفاهيم معاصرة، بدلا من تطبيقها القسري، كما كانت في واقعهم البدوي، الذي خلط بين قطع يد السارق بمعني "الكف" عن السرقة وبين معني البتر.