تطور الحياة الدينية والثقافية لأمازيغ شمال إفريقيا؛ المغرب الأقصى أنموذجا


فئة :  مقالات

تطور الحياة الدينية والثقافية لأمازيغ شمال إفريقيا؛ المغرب الأقصى أنموذجا

إن لكل مجتمع إنساني نظرته المشتركة الخاصة والمتفردة للكون والحياة والإنسان؛ فما يجمع المجتمع الواحد أولا، هو الهوية الثقافية المشتركة التي نسجت بدقة متناهية عبر التراكمات التاريخية والحضارية، وثانيا المصير المشترك، وخضوع الأفراد فيه لتأثيرات وعوامل خارجية تحكم معتقداتهم وتوجه سلوكياتهم، خاصة وأن الإنسان كائن تواصلي بامتياز، فقدرته على إنتاج الرموز هي ما يمكنه من ربط علاقات التأثير والتأثر مع باقي الحضارات المجاورة له، خاصة وإن كانت هذه الحضارات عريقة وقوية كفاية، لتكون عنصرا مؤثرا، وهو الأمر نفسه الذي ينطبق عما حدث في مجتمعات شمال إفريقيا، ومنها المغرب مثلا، الذي يتموقع ضمن مجال جغرافي مميز جعل منه بؤرة تلاقح ثقافي، كيف لا وقد جاور الحضارة الفينيقية والمصرية من المشرق، والمجتمعات الإفريقية من الجنوب، والحضارات الأوروبية من الشمال.

وفي نفس السياق، يذهب "ألفرد بل" في حديثه عن الحياة الدينية لأمازيغ شمال إفريقيا قبيل الفتح الإسلامي إلى القول: "في فجر التاريخ، وقبل ميلاد المسيح بعدة قرون، كان البربر، مستقرين يعيشون على الزراعة وتربية الحيوان. ولهذا كانت ديانتهم ديانة رعاة قبل كل شيء. وكانت متجهة إلى وقاية الحقول والمحاصيل ووفرتها وجودة القطعان والمواشي"[1]، مما يعني حسب "بل" أن الحياة الدينية في المجتمع الأمازيغي قبل ظهور الإسلام، كانت مرتبطة بالأساس بالواقع الاجتماعي المعيش ونمط العيش المعتمد، وهو ما يعني أن الحاجة المادية هي التي تقود نمط التفكير الديني. ويضيف "ألفرد بل" أيضا قائلا: "وكانت بلادهم، كما هي اليوم تقريبا، ذات مناخ قاس مفرط متميز بفصل طويل حار وجاف في الصيف، مما أولى أهمية بالغة للينابيع الدائمة الجريان وللأرواح التي تولدها أو تسكنها... كان ضرورة تصور البربر دورها على طريقتهم في التصور، وولدوا طقوسا سحرية ودينية، بدون أدائها لا يمكن للمياه الثمينة أن تتفجر"[2] ومن هنا نستنتج أن الأمازيغ القدماء في الشمال الإفريقي قد عاشوا مرحلة الوثنية بتقديس عناصر من الطبيعة وبتبني نمط تفكير أشبه ما يكون بتفكير "طفولي بريء" عاجز أمام الظواهر الطبيعية محاولا تفسيرها وفقا لإمكاناته المتوفرة والمحدودة، وقد وصف ابن خلدون هذه المرحلة من التدين قائلا: "وكان دينهم دين المجوسية شأن الأعاجم كلهم بالمشرق والمغرب في بعض الأحايين يدينون بدين من غلب عليهم من الأمم. فإن الأمم أهل الدول العظيمة كانوا يتغلبون عليهم، فقد غزتهم ملوك اليمن … مرارا على ما ذكر مؤرخوهم، فاستكانوا لغلبهم، ودانوا بدينهم."[3] فالمجوس كما الأمازيغ برأي ابن خلدون قد اتخذوا من النار والشمس رموزا مقدسة، فقاموا بعبادتها لما تحمل من دلالات توحي إلى النور المنبثق من مصدر إلهي، كما خضعت ممارساتهم الدينية لدين من غلبهم من الأمم القوية التي خاضوا معها الحروب، وذلك نظرا لعلاقات التأثير والتأثر التي تحدث في فترات الغزوات والحروب، فالحرب حرب الأفكار أيضا، وتسويق لأنماط العيش ونمط الحياة الدينية للجهة المنتصرة غالبا.

المجوس كما الأمازيغ برأي ابن خلدون قد اتخذوا من النار والشمس رموزا مقدسة، فقاموا بعبادتها لما تحمل من دلالات توحي إلى النور المنبثق من مصدر إلهي

يبدو واضحا من خلال ما سبق ذكره اعتناق الأمازيغ القدماء، شأنهم في ذلك شأن الحضارات البدائية، لمعتقدات تتضمن طقوسا سحرية تعكس تفكيرا "ساذجا" يؤمن بالأسطورة ويرتبط بالطبيعة وعناصرها المختلفة، حيث قدس الإنسان الأمازيغي المغربي، مثله مثل باقي أمازيغ شمال إفريقيا، النار والشمس والماء والجن والسماء، والقمر، والبحر، والجبال، والأنهار، والكهوف، والوديان، والغابات، والأحجار، والأصنام، وكانوا يشربون دماء الحيوانات، متأثرين في ذلك بالطقوس السحرية الإفريقية والمصرية القديمة.... وممارستهم الدينية غالبا ما تبرر بعجز تفكيرهم عن تفسير الأمور من حولهم، يقول "غريلي": "إن كل تلك المعتقدات التي تبناها البربر تباعا، لم تتمكن من تحطيم العمق الديني البدائي البربري؛ أعني عبادة قوى الطبيعة. وعبادة الجن المتحكمين في هذه القوى، وطبيعة الماء، والعيون والنار…، والممارسات السحرية التي لا زالت سارية الاستعمال إلى الآن."[4] وهو ما يعني أن الممارسات الدينية تتشكل على شاكلة نسيج متراكم وطقوس خاصة يخلدها الزمن، لتبقى راسخة في الذاكرة تحييها الطقوس اللاواعية، وفي هذا المجال يلمس "إيدموند دوتي" بدوره أيضا اهتمام الأمازيغ الكبير بالطقوس والقرابين المقدسة في ممارساتهم الدينية بقوله: "ففي الحين الذي تتغير فيه المعتقدات، يظل الطقس باقيا كتلك المحارات المستحثة للرخويات المنقرضة التي تساعدنا على تحديد العصور الجيولوجية. إن بقاء الطقس وثباته هو علة البقاء والرواسب التي نصادفها في كل مكان."[5] ففي كل أشكال التدين الحالية نصادف ممارسات وطقوسا تعود جذورها إلى الماضي السحيق، وهو الأمر الذي تؤكده أطروحة "البقايا الوثنية"، باعتبارها مقاربة أنثروبولوجية سعت إلى الاشتغال على المظاهر الدينية وظواهرها المختلفة، مستخلصة نتائج مهمة متعلقة بالآثار والطقوس الوثنية المستمرة في الحياة الدينية الآنية للإنسان الأمازيغي، وكيف تأقلمت هذه الطقوس مع مختلف الديانات السماوية وغيرها، فكما هو معلوم أن بعد مضي هذه المرحلة من التدين اعتنق "البرابرة" الديانات اليهودية وبعدها المسيحية وصولا إلى الإسلام، إذ تحدثنا بعض المصادر التاريخية عن تسلل مذاهب نصرانية إلى بلاد المغرب عبر الغزو الروماني والبيزنطي والحركات التبشيرية... فمن نماذج هذه القبائل التي تنصر أهلها قبائل غمارة وأوربة وبعض بطون قبائل زناتة والبرانس.[6] بينما نجد قبائل أخرى أمازيغية اعتنقت الديانة اليهودية، وكان أهم عوامل تواجد اليهود بالمغرب هو عامل الهجرة الذي كان له الدور البالغ في تواجد هذه الديانة بالمنطقة خاصة هجرة اليهود من بلاد الشام، وكذا من شبه الجزيرة الإيبيرية، وأهم مناطق تمركز اليهود كما تشير كتب الجغرافيا والتاريخ هي: سجلماسة وأغمات ونكور ووادي درعة [7] لتستقر الحياة الدينية في المغرب الأقصى عموما اليوم على ديانة الإسلام، باعتبارها الديانة الرسمية للبلاد، مع استمرار تواجد بعض الأسر اليهودية والمسيحية في بعض من مدن المملكة. ويختصر "ألفرد بل" في كتابه "الإسلام في بلاد البربر" الحديث عن هذه المرحلة، موضحا كيف أن الحياة الدينية لبربر شمال إفريقيا تشمل من التعقيد ما يستوجب البحث والدراسة "فالمعتقدات الإسلامية في شمال إفريقيا وفي المجتمع المغربي بشكل خاص، مرت بتطور تاريخي طويل عرفت خلاله الشعائر الأساسية تلاشيا تدريجيا مع مرور الزمن ..."[8]؛ ومعناه أن الإسلام بصيغته الأصلية لم يتمكن من اختراق الأنسجة القبلية في البوادي المغربية، وظلت هذه الأخيرة عاجزة عن الرفع من مستوى الفهم الديني لديها بسبب عدم قابلية "الدين الأساسي عند البربر" على حد تعبير بل.[9] وأما الإسلام في الشمال الإفريقي حسب وجهة نظر "بل"، فهو "تركيب ديني يضم معتقدات متعددة تداخلت وتفاعلت خلال قرون عدة"[10]. وما يؤكد ذلك هو ظهور أشكال مختلفة من طقوس وعادات دينية شعبية، لا تستمد أسسها من أية مرجعية إسلامية، رغم أن مزاوليها يعتقدون اعتقادا جازما انتسابها إلى الإسلام.

ويذهب الاعتقاد السائد عموما في أوساط البحث العلمي إلى القول إن الدعوة الإسلامية وصلت إلى المغرب مع حملة عقبة بن نافع الفهري بعد حوالي خمسين سنة من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وعملية نشر الإسلام بالمغرب تبقى غامضة إلى حد ما، نظرا لوجود عدد قليل جدا من الكتابات والروايات حول الموضوع.

ويذهب الباحث الأمريكي "أيكلمان" في نفس اتجاه "ألفرد بل" حين حكم على طبيعة الإسلام بالمنطقة بكونه إسلاما سطحيا في انتشاره، بل إن هذا التوافق في الفكرة ربما يعود إلى اعتماد "إيكلمان" نفسه على أطروحات "بل" لفهم الظاهرة الدينية عند البربر، فاعتناق القبائل البربرية للإسلام، حسب "إيكلمان" بكيفية محكمة مر بعملية بطيئة استمرت لبضعة قرون، وذلك نظرا للحاجز اللغوي والثقافي اللذين ساهما في إبطاء عملية نشر الإسلام حسب إيكلمان. وقد شهدت المرحلة الأولى من نشر الإسلام بالمغرب، حسب "إيكلمان"، ظهور اتصال مستمر وعدائي بين القبائل المحلية والفاتحين العرب الذين اتخذوا من بعض المدن معاقل رباطاتهم، والتي أصبحت بعد مرور فترة، يتداول فيها اللغة العربية، وأول دولة ظهرت في المغرب هي دولة الأدارسة[11].

فما هي الخصائص المميزة للحياة الدينية في الفترة المعاصرة لأمازيغ شمال إفريقيا؟ وما دور مختلف الجماعات الدينية الإسلامية في تغيير الحياة الدينية بالمنطقة؟


[1] ألفرد بل، الفرق الإسلامية في الشمال الإفريقي من الفتح العربي حتى اليوم، ترجمة عبد الرحمن بدوي، دار الغرب الإسلامي، بيروت 1981، ص. 55

[2] ألفرد بل، المرجع نفسه. الفرق الإسلامية في الشمال الإفريقي من الفتح العربي حتى اليوم، م، س، ص.56

[3] ابن خلدون عبد الرحمن، كتاب العبر وديوان المبتدإ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر، الجزء السادس، دار الفكر، بيروت، لبنان، طبعة 2000م، ص.139

[4] أنجلوغريلي، أسلمة وتعريب بربر شمال المغرب، ترجمة عبد العزيز شهبر، منشورات وزارة الثقافة، مطبعة دار المناهل، الرباط، 2009، ص. 200

[5] إدموند دوتي، السحر والدين في أفريقيا الشمالية، ترجمة: فريد الزاهي، منشورات مرسم، مطبعة بورقراق الرباط، 2008، ص.415

[6] يوسف بنلمهدي، معالم التفكير الاسلامي في المغرب والأندلس، الجزء الأول، إصدارات المجلة العربية، العدد: 176، ص.35

[7]نفس المرجع، ص.41

[8] منديب عبد الغني، الدين والمجتمع، م، س، ص.39

[9] المرجع نفســه، م.س، ص.40

[10] نفســه.

[11] إيكلمان ديل، الإسلام في المغرب، ترجمة محمد أعفيف، دار توبقال للنشر، الجزء الأول، الطبعة الأولى 1989، ص.47