«تعميم» الإسلام المسؤوليَّة الجماعيَّة عن الدِّين


فئة :  ترجمات

«تعميم»  الإسلام المسؤوليَّة الجماعيَّة عن الدِّين

«تعميم»[1] الإسلام المسؤوليَّة الجماعيَّة عن الدِّين[2]

ديل أيكلمان[3]

ترجمة: فيصل الأمين البقالي

مراجعة: اضريوي بوزكري

إنَّ أعمق التَّحوُّلات الجارية في العالم الإسلاميِّ اليوم؛ تحدث من خلال نشاط طبقة وسطى من المثقَّفين والمفكِّرين الإسلاميِّين الَّذين «أخذوا على عاتقهم» أمرَ اعتقادهم عوض تركه حكراً على الشُّيوخ والعلماء. إنَّ عمليَّة «التَّعميم» هذه تتجاوز (من حيث القائمون بها) العالم الإسلاميَّ، كما أنَّها تشمل (من حيث مضامينُها) التَّسامحَ مع الأديان الأُخرى، والقبول بأفكار ومُمارسات إسلاميَّة بديلة؛ مَا ينتج عنه تقديم الإسلامِ، باعتباره مُكَوِّناً أساسيَّا و«مقبولاً» في الحياة الاجتماعيَّة وفي فعاليات مَا اصطلحنا عليه بــــ «التَّعميم»، على اعتبار أنَّه سيرورة وليس فقط مَخرَجاً مُحدَّداً، بما يتطلَّبه ذلك من تطوير لمجموعة من المهارات والاستعدادات الملموسة، والَّتي تتغيَّر أهمِّيَّتها بحسب السِّياق.

واستناداً إلى ما عَنَّ للكاتب مِن مشاهدات ولقاءات في سلطنة عُمَان والمغرب وغيرهما؛ يعمل هذا المقال على رصد أهمِّ التَّغيُّرات الصَّريحة والمُضمرَة (الظَّاهرة والخفيَّة) الَّتي طرأت على المجال العامِّ منذُ السِّتِّينيات؛ بما فيها الانتشار السَّريع للتَّعليم العالي العموميِّ، واليسر الكبير في السَّفر والهجرة، وتكاثر وسائط الاتِّصال الحديثة. ويعمل هذا المقال أيضاً - من خلال تشكيل فهمٍ أفضل لقدرات «التَّعميم» هذه- على اقتراحِ تحليلٍ أكثر دقَّة عن المســــلمين الَّذين يُعيدون النَّظر في دينهم خارج الحدود التَّقليديَّة، ويُشكِّلون حركات اجتماعيَّة جديدة.

لقد بات لدى كثيرٍ من العموم - من ذوي الكفاءات التَّنظيميَّة مِن خرِّيجي المدارس الإداريَّة والتِّجاريَّة، وكذا مِن القادة السِّياسيِّين والاجتماعيِّين الطَّلائعيِّين- تأثيرٌ رئيسٌ؛ إذ يُعاوِدون النَّظر في الإسلام فكراً وسلوكاً. إنَّهم - باختصار- يعتبرون أنفسَهم مُطالَبين بأن يَتَولَّواْ مسؤوليَّتَهُم عن دينهم. وإنَّ أعمقَ التَّحوُّلات الجارية اليوم في العالم الإسلاميِّ تمرُّ عبر طبقة وسطى مِن المثقَّفين والمُفكِّرين الإسلاميِّين مِن غير المختصِّين في العلوم الشَّرعيَّة. لقد أخذوا على عاتقهم مسؤوليَّة تطوير تديُّنهم (فكراً وسلوكاً) في اتِّجاه عالمٍ حداثيٍّ، بل و«ما بعد» حداثيٍّ، عالَمٍ يُمثِّل تحدِّياً للمسلمين ولغير المسلمين على حدٍّ سواء.

إنَّنا مُعتادون [حينما يتعلَّق الأمر بالإسلام][4] على الغُلاة والمتطرِّفين، وعلى العلماء المتخصِّصين، ولكنَّنا أقلُّ اعتياداً على مثقَّفين يُعيدون النَّظر في الدِّين خارج الأُطُرِ التَّقليديَّة، وعلى قادة تنظيميِّين يؤسِّسونَ لحركات جديدة، وعلى آخرين يعملون بصمتٍ خَلْفَ الأضواء في أدوارِ مساعدَةٍ ودَعْمٍ، وعلى إصلاحيِّين يواجهون تحدِّيات مؤسَّساتيَّة حقيقيَّة عندما يُفصحون عن أنفسهم.

لقد تَمَّت دراسة الأفكار والأشكال التَّنظيميَّة بشكل جيِّد؛ لذا فإنَّ هذه الورقة تهدف إلى استكشاف أثر مجموعة مُحدَّدة من المهارات والقدرات الَّتي تتمُّ اليوم تنميتها بين أفراد الطَّبقة الوسطى من المتعلِّمين؛ سواءٌ دعاة أو غير دعاة، من طلَّاب العلوم الشَّرعيَّة وغيرهم في البلدان ذات الغالبيَّة المسلمة. إنَّ هذه المهارات تساهم في «تعميم» الإسلام، وفي إنتاج ما هو أقلُّ غرابة وأكثر طبيعيَّة ومقبوليَّة بالطَّبع، وهو ما يمثِّل في حدِّ ذاته شكلاً من أشكال التَّسامح الدِّينيِّ والاجتماعيِّ.

لقد كنتُ مُقتنعاً قبل ما يزيد عن عقد من الزَّمن[5] بأنَّ الانفتاحَ المتزايِدَ الَّذي يعرفه النِّقاش حول دور الدِّين في السِّياسات والمجتمع في البلدان ذات الغالبيَّة المسلمة؛ يمثِّل طرفاً في اتِّجاه سائد وطويل المدى نحو دعمٍ دينيٍّ قويٍّ للمجتمع المدنيِّ الَّذي كان يواجه نوعاً من الوصاية المفروضة والتَّسلُّط، تماماً كما كان الحال عليه في بولندا خلال السَّبعينيات بالنِّسبة إلى حركة «تضامن» (اتِّحاد نقابة العمَّال البولنديِّ)، أو في أمريكا اللَّاتينيَّة خلال السِّتِّينيات والسَّبعينيات بالنِّسبة إلى حركات «لاهوت التَّحرير»؛ إذ كانت تواجه السُّلطويَّة، وتساهم في تشكيل مجتمعٍ مدنيٍّ يزيد اتِّساعه، بل حتَّى بالنِّسبة إلى الثَّورة الإيرانيَّة في سنتي 78-1979، فإنَّها قد بدَت في البداية مُتطابقة مع هذه المقاربة، وقد أعادت -بلا ريب- التَّأكيدَ أنَّه يمكن للحركات الدِّينيَّة لعب دور رئيس في الحياة الاجتماعيَّة المعاصرة.

إنَّ توقُّعات الاتِّجاهات التَّاريخيَّة بالنِّسبة إلى من يعيشها تكون في الغالب جزافيَّة. وكما كتب مارك بلوخ في كتابه (المجتمع الفيودالي)[6]: إنَّ بعض أعظم التَّحوُّلات تحدث نتيجة لمحاولة مُلاءَمة «القديم» بدلَ خلق نماذج اجتماعيَّة جديدة، وكثيراً لا تصير التَّحوُّلات الكبرى جليَّة إلَّا في وقت لاحق، لم يعد بإمكاننا الجدل - كما فعلتُ في 1998- بأنَّ ثمَّة «حركة إصلاحٍ دينيٍّ إسلاميٍّ»[7] قابَ قوسين أو أدنى، غير أنَّ النِّقاش حول دور الدِّين في المجتمع يبقى على المدى الطَّويل وبشكلٍ تصاعديٍّ وَرَشاً مفتوحاً ونشطاً. إنَّني في هذه المقالة، أشرح لماذا ما زلت متفائلاً بخصوص التَّحوُّلات الجارية على المدى البعيد في البلدان ذات الغالبيَّة المسلمة، بغضِّ النَّظر عن المشاكل الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والسِّياسيَّة الَّتي تواجهها هذه البلدان. وبما أنَّني أحاول أن أفسِّرَ التَّطوُّرات انطلاقاً مِن مستوياتها الأدنى؛ فإنَّني أعتمِدُ تجربتي باعتباري باحثاً أنثروبولوجيَّاً عمل منذ السِّتِّينيات في كلٍّ مِن العراق والمغرب، ومنذ أواخر السَّبعينيات في شبه الجزيرة العربيَّة، وكذا في غيرها من البلدان ذات الغالبيَّة المسلمة.

الحياة الدِّينيَّة في شبه الجزيرة العربيَّة 1978:

عندما زرتُ «الحمراء» - وهي عاصمة منطقة الدَّاخل الشَّماليِّ بسلطنة عُمَان- لأوَّل مرَّة في حزيران/يونيو 1978؛ كانت حينها منطقة نائية حتَّى بمقاييس البلد؛ إذ لم تكن شبكة الطُّرق المُعبَّدة ولا الكهرباء قد وصلَت بعد إلى تلك «الواحة»، ولا توجد أجهزة تلفزيون مزوَّدة بمولِّدات كهربائيَّة إلَّا في بعض المنازل القليلة، كما أنَّ المسافة إلى أقرب هاتفٍ عموميٍّ لا تقلُّ عن ساعة بالسَّيَّارة، وقد بقيَت البلدة على حالها لَمَّا عدتُ إليها بعد عام للقيام ببحثٍ ميدانيٍّ، وفي هذه الزِّيارة؛ قضيتُ يوماً في لقاءات شكليَّة مع بعض المسؤولين المحلِّيِّين وشيوخ العشائر، وبقيت مُنشغلاً إلى أن فاتَتْني الحافلة الأخيرة المتوجِّهة إلى «مسقط»؛ مَا اضطرَّني إلى قضاء ليلتي هناك. فتكرَّم «الشَّيخ»، زعيم عشيرة «العَبريِّين»، ودعاني للمبيت في «السابْلة»؛ غرفة الضِّيافة لديه، حيث كان يقضي اللَّيل هناك أشخاص آخرون جاؤوا للزِّيارة من مناطق نائية.

قبل الفجر بقليل؛ قام أولئك الرِّجال للصَّلاة، ونادى عليَّ أحدُهم مُتسائلاً إن كنتُ أنوي القيام للوضوء!..

- «ليس بعد!» أجبتُ الرَّجلَ وعدتُ لأنام.

بعدَ بضع دقائق؛ جاءني مُضيفِي الشَّيخ عبد الله مهنّا العَبري، ونَبَّهني برفقٍ بواسطة فوَّهة بندقيَّته لأنَّه من المُعيب عندهم أن تمسَّ بيدك شخصاً نائماً، وقد كان الشَّيخ عبد الله رجلاً ذا آداب وأصول!.. وسألني:

«هل أنتَ مريض؟.. إنَّك لم تستعدَّ للصَّلاة»..

غمغمتُ وأنا نصف نائم: «أنا مسيحيٌّ.. إنَّنا نُصلِّي بطريقة مختلفة»..

نظرَ إليَّ الشَّيخ عبد الله، وهو مُرتبك للحظات، ثمَّ عادَ أدراجَه.

لم تكن دهشته لغزاً مُحيِّراً؛ فَمِن الطَّبيعيِّ أن يفترض الشَّيخ أنَّ مُتكلِّماً بالعربيَّة، وذا معرفة لا يُستهان بها بالتَّقاليد العُمانيَّة؛ لا بُدَّ وأن يقوم للصَّلاة أيضاً، وفي أواخر السَّبعينيات؛ لم يكن هناك سببٌ قويٌّ يمكن أن يدفع «الشَّيخ» أو غيره مِن أهل «الواحة» للتَّفكير بشكل مُنسَّق في أيِّ دين خارج الإسلام، بل ولا حتَّى في الاختلافات المذهبيَّة بين المسلمين أنفسهم؛ فقلَّمَا تردُ على الألسن ألفاظٌ مِن قبيل «مسلم» و«مسيحي»، كما أنَّ الضُبَّاط البريطانيِّين ومسؤولي شركات النَّفط الَّذين كانوا يمرُّون بالمنطقة بشكل مُنتظَم؛ ما كانوا يمكثون بها طويلاً، وحتَّى خلال الفترات القليلة الَّتي كانوا يمكثون؛ ما كانوا يأتون ما مِن شأنه أن يدفع أهل «الحمراء» للتَّفكير في الدِّيانات الأُخرى، إضافةً إلى أنَّ عُمَّال البناء الآسيويِّين في «الواحة» مسلمون في الغالب، وكذلك كان المُدرِّسون القادمون من البلاد العربيَّة الأُخرى.

كانت «الحمراء» إلى ذلك العهد (2600 نسمة سنة 1980، 6000 نسمة حاليَّاً[8] بلدة من المباني الطِّينيَّة المتجمِّعة على مُنحدرٍ صخريٍّ قريباً من قناة باطنيَّة للرَّيِّ (تُسمَّى هذه القنوات الباطنيَّة «أفلاجاً»، مفردها «فلج»؛ وهو نظام للرَّيِّ اعتمد منذ القديم في عُمَان)[9] ولكنَّها كانت في الآن ذاته تعيش تغييراً عميقاً على نحوٍ لم أدركْ مداه آنذاك، فقبل ذلك بعشر سنوات؛ كانت الواحة الَّتي ما زالت تُرسم حدودُها السَّكنيَّة في ذلك الوقت بأبراج المراقبة والحراسة ضِدَّ القبائل المنافسة، قد بدأت في التَّمدُّد خارج تلك الحدود؛ إذ صار بالإمكان إيصال الماء -بفضل المضخَّات الجديدة الَّتي تعمل بالبنزين- من الآبار الَّتي يملكها الخواصُّ إلى أراضٍ زراعيَّة جديدة بعيدة عن فَلَج البلدة العالي (حيث يكون أكثر صفاءً جانب بيوت الصَّفْوَة). وفي أواخر السَّبعينيات؛ بدأت تبُنى المدارس والمقرَّات الحكوميَّة خارج مركز السُّوق الَّذي كان يوماً ما يمثِّل طرفَ البلدة الأبعد. وفي ذلك الوقت أيضاً؛ كان كلُّ أطفال «الحمراء» -تقريباً- مِمَّن هم في سنِّ التَّمدرُس؛ يرتادون المدرسة الابتدائيَّة، كما أنَّ مصادر الدَّخل الَّتي كانت تعتمد بالأساس على زراعة النَّخيل؛ قد تعزَّزَت بالوظائف الحكوميَّة وأعمال الأُجرة. أمَّا ظهرُ المباني الطِّينيَّة الَّتي وسمت «الحمراء»، فقد أخذ في التَّغيُّر سريعاً، وكنت أعاود الزِّيارة المرَّة تلوَ الأُخرى على مدى السَّنوات التَّالية لدراسة هذه التَّحوُّلات.

بعد أسابيع مِن ليلتي تلك؛ عدتُ مع زوجتي وابنتي لقضاء عام في الحمراء، وباعتيادنا على إيقاعِ حياةٍ موسوم بالصَّلاة في المسجد خمس مرَّات في اليوم بالنِّسبة إلى الرِّجال، وبصلاة الجمعة؛ تعلَّمْنا كيف نُميِّز أصوات الجيران حين يُنادون على بعضهم في «الواحة» لأداء الصَّلاة بالمسجد. لقد كانت الشَّعائر الإسلاميَّة منسوجة بدقَّة في حياة المجتمع اليوميَّة؛ ما يجعلها من المُسلَّمات عند الجميع.

شرح الإسلام:

بعد عقدٍ من الزَّمان، وخلالَ زيارة أُخرى، حدث أمرٌ أصابني بالدَّهشة؛ وذلك حين التقيتُ بشابٍّ من أقرباء شيخ القبيلة -كان تلميذاً في المرحلة الثَّانوية عندما التقيته أوَّل مرَّة سنة 1979، لكنِّي وجدته خرِّيجاً جامعيَّاً وموظَّفاً حكوميَّاً في أواخر الثَّمانينيات- حيث قال لي: إنَّ أهل «الحمراء» بمن فيهم أقرباؤه «جهلة» بالإسلام، ولذلك يتصرَّفون «كالحيوانات».. هكذا، وبدون تفكير، ثمَّ أضاف: «طبعاً، إنَّهم يُصلُّون ويصومون، ولكنَّهم لا يعرفون تفسير السَّبب والمَغزى، إذ يجب على المسلمين شرح مُعتقداتهم».

لقد استرجعت كلماته تلك في نيسان/أبريل 1997؛ عندما ألقيتُ مُحاضرةً عامَّة في إسطنبول. كنت مَدعوَّاً من طرف منظَّمة مُرتبطة بحزب «الرَّفاه» الَّذي كان يسير مدينة إسطنبول منذ 1994 إلى حين حَظْرِه سنة 1998 وتعويضه بحزب «الفضيلة» الَّذي سيُحظَر بدوره بعد ثلاث سنوات، ليحلَّ محلَّه حزب «العدالة والتَّنمية» الَّذي ما زال يحكم تركيا إلى اليوم. وعلى الرَّغم من أنَّ بعض الأتراك كانُوا ينعتون ابتذالاً حزب «الرَّفاه» بــــ «الأصوليِّ» في التِّسعينيات؛ فإنِّي وجدتُ الأتراك مِن أعضاء اللَّجنة الَّذين عقَّبوا على مداخلتي؛ لم يبدُ عليهم أيُّ رفض أو اختلاف عن بقيَّة العالم، بل أثاروا بعض الأسماء والشَّخصيَّات؛ كالفيلسوف الألمانيِّ «يورغن هابرماس» والسُّوسيولوجيِّ الفرنسيِّ «بيير بورديو»، لم تكن لديهم صعوبة في الحديث بالإنجليزيَّة أو غيرها من اللُّغات. لم يكن هؤلاء - ولا غيرهم مِن بين مَن لقيتهم مِن الشُّبَّان الأتراك ذوي القناعة الدِّينيَّة- «أصوليِّين» بالمعنى النَّمطيِّ؛ بل إنَّ ما يمثِّلونه في الواقع -تماماً كما هو الحال بالنِّسبة لذلك الشُّرطيِّ العُمانيِّ الشَّابِّ- هو أمرٌ أكثر تعقيداً.

التَّعليم العالي العموميُّ، وسائل الاتِّصال العموميَّة والمخيال الدِّينيُّ:

بعد سنوات مِن الآن؛ سوف ننظر إلى النِّصف الثَّاني من القرن الماضي، باعتباره مرحلة لتغيير عميق في العالم الإسلاميِّ؛ يُضاهي في عُمقِه عمقَ الإصلاح الدِّينيِّ البروتستانتيِّ بالنِّسبة للعالم المسيحيِّ؛ مثل الدَّور الَّذي لعبته الطِّباعة في القرن السَّادس عشر، فإنَّ هذا المزيج من التَّعليم العموميِّ ووسائل الاتِّصال العموميَّة يصبُّ في تغيير هذا العالم أو هذا الهلال الجغرافيِّ المُمتدِّ مِن شمال إفريقيا مروراً بآسيا الوسطَى، إلى شبه القارَّة الهنديَّة والأرخبيل الإندونيسيِّ، بل ويكتسب حضوراً كبيراً في أوروبا أيضاً. لقد أخذ المؤمنون - وبأعداد كبيرة وغير مسبوقة؛ سواءٌ في إسطنبول؛ تلك المدينة الكبيرة والكوسموبوليتانيَّة، أو في واحة «الحمراء» العمانيَّة الصَّغيرة والنَّائية- في فحص ومناقشة أساسيَّات معتقداتهم وممارساتهم الإسلاميَّة بأساليب لم تكن لتخطر على بال أسلافهم الأقلِّ وعياً بذواتهم. إنَّ هذا الفحص المقصود والمُتعمَد للدِّين؛ هو ما يؤسَّس -كما كتبتُ في 1998- لإصلاحٍ دينيٍّ إسلاميٍّ.

وللأسف؛ فإنَّ كلمات طنَّانة مِن قبيل «الأصوليَّة»، وعبارات جذَّابة مثل قول «صامويل هنتنغتون»: «العالَمُ الغربيُّ في مواجهة باقي العالَم»، وجِنَاس «دانيال ليرنر» في قولِه: «مكَّة أو المكننَة»[10]، وكلُّ هذه الصِّيَغ قليلة الفائدة لفهم هذه التَّحوُّلات، بل إنَّها تحجب وتُشوِّه هذا الاختمار الرُّوحيَّ والثَّقافيَّ الهائل الَّذي في طور التَّشكُّل في عالم يُحصي ما يُقارب 1.8 مليار مسلم، لِتختزلَهُ غالباً في تَزَمُّتٍ رافِضٍ لكلِّ ما هو حديث أو ليبراليٍّ أو تقدُّميٍّ. ولا شكَّ بأنَّ نوعاً من هذا التَّزمُّت يلعب دوراً فيما يحدث - بقوَّة وعُنف- ولكنَّه في الوقت نفسه؛ يصرف الانتباه عمَّا هو أهمُّ بكثير: إمكانيَّة ولوج عامَّة النَّاس اليوم بشكل غير مَسبوق إلى مصادر المعلومات والمعارف الدِّينيَّة وغيرها من قضايا مجتمعهم.

وباختصارٍ شديد؛ لقد صار صعباً في هذه البلاد -الواحدة تلوَ الأُخرى- على المسؤولين الحكومييِّن، وعلماء الدِّين التَّقليديِّين، وكذا الخطباء الرَّسميِّين أن ينفردوا بزمام وسائل ثقافة المُتعلِّمين؛ فمثلاً: عندما غامرتُ لأوَّل مرَّة كعالم أنثروبولوجيا بالشَّرق الأوسط وشمال إفريقيا سنة 1968؛ شاهدتُ النَّاس في جنوب العراق يتحلَّقون بشكلٍ روتينيٍّ حولَ المُتعلِّمين في مجتمعهم، بما فيهم أصحاب المحالِّ التِّجاريَّة، مِن أجل أن تُقْرَأَ لهم الصُّحفُ بصوتٍ عالٍ. وفي العام نفسه بأرياف المغرب؛ كان يُنادى عليَّ مِراراً من أجل ترجمة النَّشرات الإخباريَّة في المذياع مِن الفُصحَى إلى الدَّارجة المغربيَّة، بينما تقلَّص هذا الأمر بشكلٍ ملحوظ في أواسط السَّبعينيات. وفي سنة 1992، وخلال الحملات الانتخابيَّة البرلمانيَّة في المغرب، لاحظتُ أنَّ الشَّباب، حتَّى في القرى النَّائية، لا يخشون طرحَ أسئلة فاحصة على المُرشَّحين؛ لأنَّهم باتوا اليوم قادرين على الحديث بلسان «المُتعلِّمين». وقد رأيتُ «مْخازْنيا» (وهو رجل أمن مِن القوَّات المُساعدة بالعالم القرويِّ ذو رتبة دنيا) رفض -بأدب ولكن بحزم أيضاً- أمراً اشتبه فيه موجَّهاً إليه مِن طرف مسؤول محلِّيٍّ غاضب تابع لوزارة الدَّاخليَّة، وأشار إلى التَّعليمات المكتوبة الَّتي توصل بها من القيادة الإقليميَّة. ولربَّما كان هذا الشُّرطيُّ نفسه أُمِّيَّاً قبل عشر سنوات؛ وبالتَّالي غير قادر على تحدِّي تعليمات مشكوك فيها.

كان النَّاس في «الحمراء» بسلطنة عُمَان -عندما عرفتُها أوَّل مرَّة- يتوصَّلون بــــ «الأخبار» من لدن الشَّيخ عبد الله. وفي سنة 1980، عندما استخدم مولِّدَه الكهربائيَّ لتشغيل المراوح في غرفة الضُّيوف، علمَ كلُّ مَن في المدينة أنَّ الزُّوَّار الحاملين للأخبار قد وصلوا، وأنَّ الشَّيخ لن يلبث أن يحيطَهم بها علماً (أو على الأقلِّ مَا يهتمُّ بنقله إليهم). بعد سنتين؛ عُدت إلى عُمَان مرَّةً أُخرى، فوجدتُ البيوت في «الحمراء» تُتابع المشاهد التِّلفزيونيَّة نفسها الَّتي يراها المشاهدون الأمريكيُّون لمخيَّمات لاجئي مجزرة «صبرا وشاتيلا» ببيروت، بفضل فيديوهات cbs الَّتي تُزوِّد التِّلفزيون العُمانيَّ. واليوم، بفضل الطُّرق المُعبَّدة، والهواتف الخلويَّة، والكهرباء، والولوجيَّة إلى الإنترنت، والمحطَّات الفضائيَّة؛ أصبحت «الحمراء» مكاناً مُختلِفاً، فلمْ تعد الأخبار حكراً على الأقلِّيَّة، وعملت شاشات المحطَّات الفضائيَّة على تقريب النَّاس والأماكن الَّتي كانت تقع سابقاً على هامش الوعي المحلِّيِّ لتضعَه في مقدِّمة هذا الوعي. ومِن آثار ذلك أيضاً؛ أنَّه يساعد على تغيير نظرة أعداد كثيرة من المسلمين؛ سواءٌ في «الحمراء» أو غيرها إلى أنفسهم ودينهم وسياساتهم.

وكذلك الشَّأن بالنِّسبة إلى التَّعليمِ العموميِّ؛ باعتبارِه الرَّافد الأساس الآخَر للتَّغيير، فقد اكتسب زخماً أيضاً. لم يشرع معظمُ العالَم الإسلاميِّ بتبنِّي التَّعليم العموميِّ إلَّا بعد الخمسينيات، بل بعد ذلك بمدَّة ليست بالهيِّنة في كثير من البلدان الإسلاميَّة، فالمغرب على سبيل المثال، انخرطَ في التَّعليم العموميِّ بعد نيل استقلاله عن فرنسا سنة 1956. ورغم أنَّه في سنة 1957، لم يكن عدد خرِّيجي المرحلة الثَّانويَّة يتجاوز الثَّلاثة عشر ألفاً، حيث ظلَّ الرَّقم مُتدنِّياً بالنِّسبة إلى المسجِّلين بالجامعة. وفي سنة 1965 كان هناك أكثر من مائتي ألف تلميذ في المدارس الثَّانويَّة، وحوالي العشرين ألفاً في الجامعات. وفي سنة 1992؛ تجاوز عدد المسجِّلين بالتَّعليم الثَّانويِّ مليون ونصف مليون تلميذاً، وعدد المنتسبين للجامعة؛ مائتين وأربعين ألف طالب. كما أنَّنا - واعتباراً من سنة 2007- سنجد أنَّ 83% من الأطفال في سنِّ التَّمدرس قد أتمُّوا المرحلة الابتدائيَّة، و68% التحقوا بالتَّعليم الثَّانويِّ، و11% يتابعون دراستهم بأشكال مُختلفة في التَّعليم ما بعد الثَّانويِّ. ورغم أنَّ نِسَب الأُمِّيَّة ما تزال مُرتفعة لدى عامَّة النَّاس (حيث نجد أنَّ نسبة الرِّجال 31% ونسبة النِّساء 57%، بالنِّسبة لِمَن تجاوز سِنُّهم الــــ 15 عاماً)، وهناك اليوم أعدادٌ مُهمَّة مِن المتعَلِّمين القادرين على القراءة والتَّفكير بأنفسهم دون الحاجة إلى السُّلطات الحكوميَّة والدِّينيَّة.

أمَّا الحالُ في سلطنة عُمَان، فهو أكثر إثارةً؛ لأنَّ التَّحوُّلات قد جرت في مدَّة وجيزة، ففي السَّنة الدِّراسيَّة 1975-1976 بالكاد تخرَّجَ اثنان وعشرون طالباً من المدارس الثَّانويَّة؛ في حين أنَّه بعد عقدٍ ونيِّف؛ أي: في 1987-1988 ارتفع هذا العدد إلى 13500. وفي 1995؛ وصل هذا الرَّقم إلى 60000، وأكثر من 3500 طالب في المعاهد العليا؛ بما فيها الجامعة الوطنيَّة الَّتي افتُتِحَت سنة 1986. واليوم؛ صارت هناك جامعات خاصَّة تُنافس الجامعة العموميَّة بسبب الطَّلب القويِّ على التَّعليم العالي، وتمَّ التَّحوُّل إلى تعميم معرفة القراءة والكتابة على كُلِّ مَن في سِنِّ التَّمدرس.

وتتشابه القصَّة نفسُها في أماكن أُخرى، رغم وجود بعض الاختلافات في تواريخ البدايات ومستويات الإنجاز، ففي تركيَّا وإندونيسيا وماليزيا؛ نجد أنَّ التَّعليم العموميَّ قد دخل إلى كُلِّ مدينة وبلدة وقرية، ففي تركيَّا مثلاً؛ نجد أنَّ نسبةَ الأُمِّيَّة بالنِّسبة إلى الكبار اعتباراً من سنة 2007 لا تتجاوز 47% لدى الرِّجال و19% لدى النِّساء؛ أي: إنَّها قد انحدرَت من 65% عند الرِّجال و85% عندَ النِّساء، وهي النِّسب الَّتي سُجِّلَت في أواسط القرن العشرين. واليوم؛ صارت المدارس الثَّانويَّة في كلِّ مكان، وانتشرت الجامعات؛ سواءٌ منها الخاصَّة والعامَّة، وفي إندونيسيا؛ ارتفع عدد المُسجِّلين بالجامعات مِن 50000 فقط عام 1960 إلى 1.9 مليون في 1990. وكذلك كان الشَّأن في إيران؛ إذ عرفت توسُّعاً كبيراً في فرص التَّعليم على جميع المستويات. أمَّا في مصر والمغرب، حيث يُهدِّد النُّموُّ الدِّيموغرافيُّ بتجاوز الطَّاقة الاستيعابيَّة للبنية التَّعليميَّة، بالرَّغم مِن ذلك؛ ارتفعت وبشكلٍ مُثير أعداد مَن يستطيعون التَّحاور بذكاء مع السُّلطات الحكوميَّة والدِّينيَّة، بَدَلَ الإنصات إليها فقط.

كذلك كان الشَّأن بالنِّسبة إلى سوق الكتب، بما فيها تلك الَّتي تتناول قضايا الدِّين والمجتمع. وأحد هذه الكتب الَّتي تُمثِّل ظهور التَّفكير النَّقديِّ العامِّ في مسائل الدِّين عندَ العموم؛ هو الكتاب الرَّائد (الكتاب والقرآن: قراءة مُعاصرة) لمؤلِّفه المهندس المدنيِّ السُّوريِّ محمَّد شحرور[11]، فمنذ عام 1990 وإلى اليوم؛ بِيعَ مِن كتاب شحرور عشرات الآلاف من النُّسَخ، ورغم أنَّ هذا الكتاب ذا الثَّمانمئة صفحة قد مُنِعَ وضُيِّقَ عليه في غير ما بلدٍ عربيٍّ؛ إلَّا أنَّ آلات النَّسخ المكتبيِّ والطَّبعات المُقَرصَنَة (في مصر وغيرها) وكذا الأقراص المُدمَجَة؛ عملَت على ترحيله خارجَ الحدود.

دعوات التَّفكيرِ النَّقديِّ:

لقد قام شحرور الَّذي درس في كُلٍّ مِن دمشق وموسكو ودبلن؛ بالمماثلة بين الثَّورة الكوبرنيكيَّة والتَّأويل القرآنيِّ الَّذي ظلَّ -حسب تعبير شحرور- مُكبَّلاً بأعراف فقهاء العصور الوسطى[12] [حيث نجده يقول][13]:

«...ومثل هذا حصل لأهل الأرض منذ مئات السِّنين؛ عندما كانوا يعتقدون أنَّ الشَّمس تدور حول الأرض، ولكنَّهم كانوا عاجزين عن تفسير بعض الظَّواهر انطلاقاً من مُسلَّمتهم هذه، حتَّى جاء شخص واحد، بشرٌ منهم ومثلهم، وقال: العكسُ هو الصَّحيح، وإنَّ الأرض هي الَّتي تدور حول الشَّمس. من هذه الحقيقة التَّاريخيَّة الَّتي حصلت فعلاً؛ تَبَيَّنَ لي بعد ربع قرن من البحث الدَّؤوب والتَّفكُّر الطَّويل والتَّأمُّل الواعي أنَّنا -نحن المسلمين- مأسورون لمسلَّمات قد يكون بعضها معكوساً تماماً...»[14].

وانطلاقاً من مناقشة قضايا المرأة ودورها في المجتمع، وكذا ما يتعلَّق بضرورة «التَّفاعل الإبداعيِّ»[15] مع الفلسفات غير الإسلاميَّة[16]؛ نجد شحرور يُحاجِج على المسلمين أن يُعيدوا قراءة النُّصوص الدِّينيَّة على ضوء ما استجدَّ من القضايا الاجتماعيَّة والأخلاقيَّة المعاصرة؛ فالفقه الإسلاميُّ للإرث على سبيل المثال - يقول شحرور- يكفل للمرأة قسمةً أقلَّ؛ مقارنةً بالرَّجل، وهو ما يُعتبر تمييزاً ضِدَّ المرأة في المجتمع الحديث، على الرَّغم من أنَّه يُعدُّ في حدِّ ذاته تقدُّماً بالنِّسبة إلى المرأة في الزَّمن الماضي، يقول د. شحرور:

«... إذا كان الإسلام صالحاً لكلِّ زمان ومكان...»، فإنَّ على المسلمين ألَّا يُغفلوا التَّطوُّرات التَّاريخيَّة والتَّفاعل بين الأجيال المختلفة، وعليهم أن يتصرَّفوا... وكأنَّ «النبيَّ تُوفِّي حديثاً وبلَّغَنا هذا الكتاب...»[17].

يُمثِّل كتاب شحرور نموذج أسلوب العديد من المفكِّرين المعاصرين الَّذين ينظرون بطريقة نقديَّة إلى التُّراث الإسلاميِّ. ربَّما لا يوجد كتاب آخَر يُنظَر إليه على أنَّه النَّظير الإسلاميُّ للأطروحات الخمس والتِّسعين (95) الَّتي علَّقها مارتن لوثر على باب كنيسة قلعة فيتنبرغ سنة 1517م. وقد أخذ الأمر أعواماً قبل أن تترسَّخ أفكار مارتن لوثر، ولكن في نهاية المطاف؛ كان على أعتى الرَّافضين أخذها بعين الاعتبار وتعديل طرائق تفكيرهم وتصرُّفهم. ولربَّما جرى الشَّيءُ نَفْسُه - بل بشكل أسرع- بالنِّسبة لأفكار شحرور وغيره من المفكِّرين النُّقَّاد. ففي أواخر التِّسعينيات، عندما توقَّفْتُ عن المتابعة؛ كانت آراء شحرور قد انتقدتها كُتُبٌ بَلَغَتْ الأربعةَ عَشَرَ كتاباً (وبعضها أضخمُ من كتابه الأوَّل) وما لا يُحصى من المقالات والمحاضرات.

وليس شحرور وحدَه مَن يُهاجم الحكمة الدِّينيَّة التَّقليديَّة واليقين غير المُتسامِح للمُتطرِّفين الدِّينيِّين، ولا هو وحدَه من ينادي بتأويلٍ مُستمرٍّ لتطبيق النُّصوص المقدَّسة على الحياة الاجتماعيَّة والسِّياسيَّة؛ فهناك مُفكِّرٌ سوريٌّ علمانيٌّ آخَر قام بالشَّيء نفسه. إنَّه صادق جلال العظم، فحين جرت في أيار/مايو 1997 مُناظرةٌ بُثَّت على قناة الجزيرة في قَطَر، بين العظم والشَّيخ يوسف القرضاويِّ -وهو مُفكِّر إسلاميٌّ مُحافِظ[18]-؛ بدا الشَّيخ في تلك المناظرة؛ ولأوَّل مرَّة في ذاكرة كثير من المشاهدين؛ الأضعف، ويقف في وضعيَّة دفاعيَّة. ولمَّا كان مِن المُستبعَد إعادة بثِّ هذا البرنامج على قنوات التِّلفزيون الحكوميَّة في مُعظم البلاد العربيَّة، حيث التَّحفُّظ على برامج قضايا الدِّين والسِّياسة؛ لكن ومع ذلك، فإنَّ تقنيات البثِّ الفضائيِّ وأشرطة الفيديو أفقدت الرَّقابة التَّقليديَّة فعاليَّتها. وهكذا، جالَت تسجيلات الفيديو الخاصَّة بتلك الحلقة من يدٍ ليد في المغرب وعُمَان وسوريا ومصر وغيرها من البلدان خلال التِّسعينيات؛ بل وقد تمَّ تعويضها مِن بعد بأقراص مُدمَجة رقميَّة أقلَّ تكلفة.

ومِن بين تلك الأصوات المنادية بالإصلاح أيضاً؛ نجد الأكاديميَّ التُّركيَّ «علي بولاتش»، وهو الجامعيُّ المتخصِّص في «اللَّاهوت»[19]؛ الَّذي أثار انتباه الشَّباب المثقَّف بدعوته إلى الأصالة وإعادة قراءة السَّنوات الأولى مِن حُكم الرَّسول؛ وذلك بتطبيق تعاليمه ومُمارساته على الخلافات الدَّائرة اليوم حولَ التَّعدُّديَّة والمجتمع المدنيِّ. وهناك «فتح الله غولن» الَّذي يُمكن اعتباره النَّموذج التُّركيَّ للمبشِّر الأمريكيِّ والإعلاميِّ المُحنَّك «بيلي غراهام»، إذ يجذب جماهير ضخمة مِن المتابعين، ونجده في المقابلات والحوارات التِّلفزيونيَّة وفي خُطَب المناسبات يتحدَّث عن الإسلام والعِلْم، والدِّيمقراطيَّة، والحداثة والتَّسامح الدِّينيِّ والأيديولوجيِّ، وأهمِّيَّة التَّعليم، وعن الأحداث الرَّاهنة. ويحتفظ فتح الله غولن مِن مقرِّ إقامته بشرق الولايات المتحدة الأمريكية منذ أواخِر التِّسعينيات بروابط متينة مع أتباعه في تركيا والعالَم، وكان صوته مسموعاً بقوَّة في الدَّعوة إلى التَّعليم والتَّفكير النَّقديِّ والاستقامة في الحياة العامَّة.[20]

ليست كلُّ الكتب المعاصرة عن الإسلام ذات مُستوىً رفيع؛ فقد شكَّل التَّمدرس العموميُّ جمهوراً عريضاً من القرَّاء، ولكنَّهم دونَ المستويات المُعتبَرة من النَّاحية الأدبيَّة. لذا عرفت المكتبة الإسلامية نموَّاً هائلاً لما يُسمِّيه صديقي الفرنسيُّ إيف غونزاليس-كويخانو (yves gonz?lez-quijano) «كتب إسلاميَّة» عامَّة غير مُكلِفَة وجذَّابة إخراجاً وطباعةً، وهي موجَّهة لهذا النَّوع من القُرَّاء. وكثير منها يطرح جملة أسئلة عمليَّة عن: كيف تعيش كمسلمٍ في العالم المعاصر؟، وتُحذِّر مِن إهمال الواجبات الإسلاميَّة. ليست كلُّ هذه الكتب تنشد العقل والاعتدال، بل إنَّ بعضَها لا يزيد على جاذبيَّة أغلفة جريئة لافتة للنَّظر بعناوين مثيرة، في حين أنَّ أعمالاً أُخرى أكثر هدوءاً تُقدِّم المشورة والنُّصحَ للشَّابَّات حول كيفيَّة العيش كمسلمات اليوم. اعتمدت هذه الكتب «الإسلاميَّة» من حيث التَّأليف على محاضرات وخطب لدعاة مِن ذوي الشَّعبيَّة بأسلوب مُرتجَل، وهي لغة عامِّيَّة أقرب منها إلى العربيَّة بأسلوب أدبيٍّ تقليديٍّ، كما أنَّها تعرض على الأرصفة وأبواب المساجد عوض المكتبات. وإذا كان الأديب المصريُّ الحائز على جائزة نوبل «نجيب محفوظ» يُعتبر ناجحاً؛ إذ باع في بلده خلال عام واحد خمسةَ آلاف نسخة مِن إحدى رواياته؛ فإنَّ هذه الكتب الإسلاميَّة غالباً ما تصل مبيعاتها إلى مئات الآلاف.[21]

لقد أصبحت المعتقدات الدِّينيَّة في العالم الإسلاميِّ - وبشكل مُتزايد- أمراً قائماً على وعيٍ ذاتيٍّ، ومُعبَّر عنها صراحةً ومُقنَّنة بشكلٍ رسميٍّ. فلم يعد كافياً أن تكون مُسلِماً فقط ومؤدِّياً للشَّعائر الإسلاميَّة؛ بل يجب على المرء أن يُجيل التَّأمُّل والتَّفكير في الإسلام، ويُدافع عن وجهات نظره. وفي بلدٍ كَسلطنة عُمَان، وهي مِن البلاد الإسلاميَّة القليلة الَّتي تتجاور فيها المذاهب الإسلاميَّة الثَّلاثة الكبرى: السُّنَّة والشِّيعة والإباضيَّة؛ يمكن أن يكون النِّقاش مُحتدِماً؛ وذلك ما حدَّثني به شابٌّ عُمَانيٌّ وهو يتذكَّر المجادلات الَّتي كان يخوضها إلى ساعة مُتأخِّرة من اللَّيل مع زملائه مِن التَّلاميذ في عنابر النَّوم بالمدرسة الثَّانويَّة خلال السَّبعينيات.

يُمثِّل «السُّنَّة» أو ما يُقابِل «الأرثوذكس» المسلمين مَا يُقارب 85% من المسلمين في العالم الإسلاميِّ. أمَّا الشِّيعة، فيُمثِّلون على الأقلِّ نسبةَ 14%، وهو مذهبٌ ذو بُعْدٍ «طائفيٍّ» يؤمن أصحابه بأنَّ الزَّعامة الدِّينيَّة الشَّرعيَّة للمسلمين في العالم يجب أن تظلَّ في آل بيت الرَّسول محمَّد، ويتواجَدُ مُعْظَمُهُم في إيران، إضافة إلى أقلِّيَّات ذات نِسَب مُهمَّة في كلٍّ مِن جنوب لبنان والعراق وباكستان والبحرين والسُّعوديَّة والسَّاحل العمانيِّ. في حين أنَّ الإباضيَّة، وهي أقلُّ شُهرةً، تؤمن بأنَّه بإمكان أيِّ أحدٍ أن يكون زعيم المجتمع المسلم حين تتوفَّر فيه الشُّروط اللَّازمة مِن تقوى وخُلُق. والإباضيُّون أقلُّ عدداً، ويتوزَّع جُلُّهم بشمال سلطنة عُمَان (حيث يُمثِّلون نصف سكَّان البلد تقريباً)، وشرق إفريقيا، وجنوب الجزائر، وليبيا.

لمَّا زرتُ «الحمراء» سنة 1979؛ كان كثير من الإباضيِّين يمارسون تديُّنَهم دون اختزالِه في المبادئ الرَّسميَّة للمذهب أو مقارنته بالمذاهب الأُخرى؛ سواءٌ المسلمة أو غير المسلمة. وعلى أيِّ حال؛ نجد مُعظم شباب الواحة في الوقت الرَّاهن واعين بهويَّة المسلم الإباضيِّ، وكيف تختلف العقائد والشَّعائر الإباضيَّة عن المذهبين السُّنِّيِّ والشِّيعيِّ في بعض المسائل الخاصَّة؛ كرؤية المؤمنين ربَّهم يوم القيامة. أُصيبَ طلبة الجامعة الإباضيُّون في الثَّمانينيات بالصَّدمة، عندما ابتُعِثوا للدِّراسة بالخارج في أماكن مثل توكسن بولاية أريزونا، إذ وجدوا الطَّلبةَ المسلمين مِن مذاهب أُخرى يصنفونهم كُفَّاراً؛ فرجعوا إلى مفتي سلطنة عُمَان، وكان مِن شيوخ الإباضيَّة، لكنَّه يُمثِّل كلَّ المسلمين في البلد، يسألونه عن كيفيَّة الرَّدِّ. وكان مِن نتيجة ذلك أن تمَّ نشرُ أشرطة فيديو وكتيِّبات تشرح الإباضيَّة عقيدةً ومذهباً، وتُبيِّن بأنَّ المبادئ الإباضيَّة تَتَّفق في معظمها مع مبادئ السُّنَّة.[22]

لقد أدَّى تراجعُ الأُمِّيَّة وانتشار وسائل التَّواصل -من خلال التَّسجيلات (السَّمعيَّة والبصريَّة والأقراص المُدمجة والرَّقميَّة) وخطب ومحاضرات الأئمَّة والوُعَّاظ الشَّعبيِّين، والَّتي تُسمَع باستمرار في سيَّارات الأجرة وغيرها من الأماكن، وكذا مِن خلال الأدبيَّات المحظورة الَّتي يتمُّ نسخها في كلِّ مكان تقريباً، وأيضاً مِن خلال الولوج المتزايد للإنترنت- بمزيد من المسلمين إلى تأويل النُّصوص الدِّينيَّة الإسلاميَّة، سواءٌ منها القديمة أو الحديثة، وتطبيقها على الحياة المُعاصرة. تُقَدَّم هذه النُّصوص في كُتيِّبات ذات طابعٍ توجيهيٍّ للعامَّة مِن خلال مواضيع من قَبيل: كيف تعيش المرأة المُسلمة حياتها في المدن الحديثة؟ كيف تُربِّي أبناءَك تربيةً إسلاميَّة؟ كيف تُمارس معاملاتك البنكيَّة والتِّجاريَّة على الطَّريقة الإسلاميَّة؟ بل توجد كذلك كُتيِّبات تتعلَّق بالجوانب العاطفيَّة والرُّومانسيَّة عند الشَّباب[23]. وكُتيِّبات وتسجيلات أُخرى، غالباً ما تُوزَّع بطريقة سِرِّيَّة، فإنَّها تتناول أنظمةً سياسيَّة بعينها لتقيسها إلى «المعايير» الإسلاميَّة. وأحياناً، كما هو الحال في شبه الجزيرة العربيَّة، قد تكون هذه المعايير تقدُّميَّة؛ إذ تنصرف إلى النَّظر في نزاهة الحاكمين واستقامتهم واحترامهم لحقوق الإنسان. وقد تكون هناك معايير أُخرى تَتَّسِم بالرَّجعيَّة، فتقيِّدُ مِن أدوار المرأة في الحياة العامَّة، وتدعو إلى فرض الرَّقابة والسَّيطرة الدِّينيَّة في المدارس.

إنَّ ثمَّةَ اختلافاتٍ واسِعةً بين الدُّول والمناطق، غير أنَّها تشترك جميعاً في وجود انهيار لمفاهيم تراتبيَّة السُّلطات الدِّينيَّة السَّابقة الَّتي تأسَّسَت على الادِّعاء بالتَّمَكُّن مِن المتون الدِّينيَّة الإسلاميَّة، والاعتراف مِن طرف جيل العلماء السَّابقين. في أوائل التِّسعينيات؛ ظهر في آسيا الوسطى ميكانيكيٌّ طاجيكيٌّ صار زعيماً لإحدى أكثر الحركات الإسلاميَّة شعبيَّةً في المنطقة. وحتَّى عندما تُعَيِّنُ الدَّولة مسؤولين في المجال الدِّينيِّ - كما عليه الحال في سلطنة عُمَان، والسُّعوديَّة، وإيران، ومصر، وماليزيا، وفي بعض جمهوريَّات آسيا الوسطى- فلم يعدْ ثمَّة مَا يضمن الإصغاءَ لكلمتهم، بل ليس هناك أيضاً ما يضمن أن يتبعَ هؤلاء المُعَيَّنونَ أنفسهم توجيهات أنظمتهم.

لا تجد أحداً من المسلمين اليوم - سواءٌ مَن يُعتبَر منهم «أصوليَّاً» أو «تقليديَّاً مُحافظاً» أو «حداثيَّاً»- غير مُتأثِّر بالتَّغيُّرات الكاسحة الَّتي عرفتها العقود الأخيرة. إنَّ هناك عمليَّةً جارية لــــ «دَمَقْرَطَة» الإسلام، والمسلمون اليوم يَدَّعون ارتباطَهم أكثر فأكثر بكلام الله مُباشرةً بدون وساطة وفق تأويلهم ووعيهم الخاصِّ فقط. ولكن هذا لا يعني أنَّه قد تمَّ التَّخلِّي عن التُّراث الإسلاميِّ جُملةً وتفصيلاً، بل يتمُّ إخضاعه للتَّمحيص والمناقشة، ثمَّ إنَّ القوى الَّتي تدعم التَّأويلات التَّقليديَّة لكلامِ الله ما تزال منيعةً، رغم أنَّ هناك تقدُّم مُتزايد لنقاشات مفتوحة مُتعدِّدة في هذا الإطار.

لقد بدا هذا واضحاً في دمشق صيفَ 1997 فيما يُمكن أن نُسمِّيه «مبارزات خُطَب الأعراس» (وطبعاً توجد كذلك على أشرطة الفيديو بعد ذلك). كانت المناسبة الأُوْلى الَّتي حضرتُها هي عرس ابنة محمَّد شحرور، حيث استمع حوالي 600 من الضُّيوف، بِمَن فيهم مسؤولون في الدَّولة وفي حزب البعث، إضافة إلى أجنبيٍّ واحد (أنا)، إلى كلمة جودَت سعيد - والَّذي يُلَقَّبُ بـ«غاندي»؛ لأنَّه رفض سنة 1967 أن يُحارب في صفوف الجيش السُّوريِّ ضدَّ إسرائيل، مُعتبِراً أنَّ الأُمَّة العربيَّة لا يُمكن أن تنتصرَ إلَّا بالمقاومة السِّلميَّة- حيث كان يشرح كيف ترتبط العقيدة الإسلاميَّة بالأحداث الجارية. بعد ذلك بيومين؛ استمعْتُ في عُرسٍ آخَر لكلمةٍ ألقاها سعيد رمضان البوطيُّ - وهو داعيةٌ سوريٌّ له شعبيَّة وحضورٌ تلفزيونيٌّ، ويُعارض بشدَّة آراء شحرور- ردَّ فيها على كلمة العُرس السَّابق. فبعد أن أشارَ إلى ما جاء في كلمة أُلْقِيَتْ في عرس «أحد المهندسين المعروفين»؛ أهابَ بأنَّه: «كما أنَّ المرء يقصد الطَّبيب عند المرض، والمهندس لبناء منزل؛ فإنَّه يَتَعَيَّنُ عليه في أمور الدِّين أن يقصِدَ فقط المُختصِّين مِمَّن تلقَّواْ تكويناً رسميَّاً في العلوم الشَّرعيَّة».

تَتَّسِم النِّقاشات العموميَّة حول العقيدة والممارسة الإسلاميَّة بالتَّنوُّع والتَّباين[24]، كما أنَّ نتائجها ما تزال غير واضحة بعد. يتشبَّثُ «شحرور» بأنَّ الدِّيمقراطيَّة ركنٌ ركين في الإسلام، وتزداد فكرتُه جاذبيَّةً يوماً بعد يوم، بينما أغلب الأنظمة العربيَّة ما تزال أنظمة سُلطويَّة. في النِّظام المصريِّ، نجد «البلطجيَّة» يبطشون بالنُّشَطَاء الدَّاعين إلى احترام حقوق الإنسان وإصلاح القضاء، وفي الجزائر جنح الإسلاميُّون المتطرِّفون في التِّسعينيات إلى الإرهاب في مواجهة نظامٍ عسكريٍّ يقمع بوحشيَّة. وأمَّا في بلدان مُسلمة أُخرى؛ هناك حماسٌ ووعيٌ إسلاميٌّ بالذَّات جديدان؛ دَفَعَا إلى خلقِ أنظمة أكثر غلوَّاً في السُّلطة على الأقلِّ على المدى القصير[25]. كما أنَّ دولاً أُخرى -كماليزيا وباكستان، والسُّعوديَّة وبعض دول الخليج، والمغرب ومصر- سواءٌ منها ذات الأنظمة المحافظة، أو تلك الَّتي تُعتبَر نسبيَّاً ليبراليَّة؛ تسعى إلى استيعاب حُزمة مِن وجهات النَّظر[26] (أو على الأقلِّ تبدو ساعيةً إلى ذلك). وقد حاولت أنظمةٌ في بلدان أخرى مثل الأردن، أن تُلائِمَ بشكل واضح وصريح بين الاهتمامات الإسلاميَّة والعلمانيَّة السِّياسيَّة، وأن تُدْمِجَ المنظورات المختلفة في نظامٍ ذي صبغة برلمانيَّة.[27]

إنَّ التَّعدُّديَّة والتَّسامح والمدنيَّة لا تتعزَّز تلقائيَّاً بتراجع نِسَب الأُمِّيَّة وتَطوُّر مستوى التَّعليم، بالإضافة إلى انتشار وسائل الإعلام الجديدة، لذا يتعلَّم النَّاس، على الأقلِّ أحياناً، مِن التَّجربة. وهكذا؛ كان لحزب الرَّفاه التُّركيِّ «الأصوليِّ» الفضلُ في اجتذاب النِّساء للانخراط في أساسيَّات الحياة السِّياسيَّة، رغم مقاومته لمسألة تَبَوُّئِهنَّ مواقع قياديَّة[28]. في العقود الأخيرة، قَلَّصَت الوسائط الحديثة - بما فيها الإنترنت، وتقنيات النَّشر المكتبيِّ، والأشرطة المرئيَّة والمسموعة، والمُدوَّنات، والأقراص المُدمجة والرَّقميَّة، وفيسبوك وتويتر- شيئاً فشيئاً من الحدود القائمة بين المُنتج الإعلاميِّ والمتلقِّي. كما أنَّ الانخفاض الكبير في تكلفة هذه الوسائط الحديثة يَسَّرَ لأناسٍ جُدد وأشكال جديدة للتَّواصل؛ الانخراطَ في النِّقاش العموميِّ والإجراءات الخاصَّة؛ مَا أدَّى إلى إمكانيَّات أشكال جديدة في المجتمع. في السَّابق كانت وسائط الاتِّصال القديمة وسيلةَ قادَةٍ مثل الزَّعيم المصريِّ جمال عبد النَّاصر لمخاطبةِ الشَّعب. أمَّا الوسائط الحديثة؛ فتخلق انطباعاً وهميَّاً يبدو في غالب الأحيان واقعاً بأنه حديث مع الشَّعب.

إنَّ الأمرَ شبيه بما يكون عليه الحال في الدِّعايات التِّجاريَّة؛ فمَا أن يُزَجَّ بالصُّوَر والمواضيع البرَّاقة في الفضاء العامِّ؛ حتَّى تَتَّخذ لها وجوداً مُستقِلَّاً. في سنة 1998؛ تحوَّلَت الدِّعاية الانتخابيَّة المضادَّة لـ «دوكاكس» في الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة -الَّتي تمَّ فيها استغلال قصَّة المُجرم المغتصب المُدان «ويلي هارتن»[29]- إلى أيقونة نمطٍ تواصليٍّ يتفاعل بعيداً عن الجماهير المعنيَّة به في الأصل.

ومنذ السَّنوات الَّتي تَلَت الفيديو المضادَّ للحملة الانتخابيَّة لـ«ويلي هارتن»؛ برزت الإنترنت باعتبارها من وسائط الاتِّصال الجديدة الأساسيَّة. فثمَّة مواقع شبكيَّة، كتلك الَّتي تنشر بيانات أبو مصعب الزَّرقاويِّ أو رسائل القاعدة وتضعها بين يدي الفضائيَّات العربيَّة، صارت تجد لها صدىً يتمدَّد بِيُسرٍ في وسائل الاتِّصال التَّقليديَّة مِن صُحُف وإذاعة وتلفزيون، لِتَصِلَ بشكل سريع وفعَّال إلى ملايين النَّاس. يقوم تضخيم هذه الرَّسائل النَّصِّيَّة على وضعها في محتوى المنشورات المفتاحيَّة في الإنترنت. ورغم أنَّ وسائل الإعلام التَّقليديَّة تُعتَّم على المواقع الإلكترونيَّة للإرهابيِّين ومُنظَّماتهم؛ إلَّا أنَّ توقيتَ ومضامينَ منشوراتهم يُظهِر تطوُّراً مُعتبراً في كيفيَّة جذب انتباه الإعلام العموميِّ. كما أنَّ صوراً من الإعلام العموميِّ يتمُّ التقاطُها عبر مواقع الإنترنت ودمجها في قصص وأخبار ذات أغراض مُختلفة جدَّاً.

الافتراضيَّة الواقعيَّة[30]:

لقد بدأ يظهر -منذ مُدَّة- وعيٌ جديد بالفضاء العموميِّ في البلاد ذات الأغلبيَّة المُسلمة كما في غيرها، وقد تشكَّل مِن خلال منافسة مفتوحة ومُتزايدة على الأحقِّيَّة في استخدام لغة الدِّين ولغة السِّياسة بِمَا تُمثِّلانِه مِن رمزيَّة. كما أنَّ الأنماط التَّواصليَّة الجديدة المُتاحَة أكثر فأكثر، عَوْلَمَت هذه المنافسة وأعطَت للصِّراعات المحلِّيَّة أبعاداً عابرةً للحدود، وربطَت بين المجتمعات المتباينة جغرافيَّاً، وخلقت مجتمعاتٍ تقارب من ذوي التَّفكير المتماثل. وساهم في هذا أيضاً ارتفاعُ مستويات التَّعليم العموميِّ وسهولة أكثر في التَّنقُّل. ومنذ أيلول/سبتمبر 2001؛ ساهمَت الحروبُ في أفغانستان والعراق وغيرهما، مع استمرار غياب أيِّ حلٍّ للصِّراع الفلسطينيِّ-الإسرائيليِّ والمواجهة المُتزايدة بين الولايات المتَّحدة وإيران، في خلقِ فرص مُتعدِّدة لبروز فاعلين جُدد لضمِّ قضايا جهويَّة لإقناع واجتذاب جماهير جديدة.

لقد صارت شاشات الحواسيب -في إطار ما يصطلح عليه السُّوسيولوجيُّ مانويل كاستلز بـ «الافتراضيَّة الواقعيَّة»[31]- أكثر مِن مُجرَّد قنوات تمرُّ عبرها صور الواقع، بل لقد صارت جزءاً إجباريَّاً مِن هذا الواقع؛ وذلك من خلال شبكة الإنترنت وتداول أشرطة الفيديو والأقراص الرَّقميَّة، الأمر الَّذي يتمُّ غالبا بشكلٍ سرِّيٍّ. فالصُّوَر الرَّقميَّة المُلتقطَة بسجن «أبو غريب»، تمَّ عرضها حول العالَم على شبكة الإنترنت وتضخيمها في وسائل الإعلام التَّقليديَّة وإعادة قولَبَتِها عبرَ الآلاف من المواقع الرَّقميَّة وتحميلها مختلفَ الرَّسائل؛ على أنَّ كثيراً منها ضَرْبٌ لِشرعيَّةِ ومِصداقيَّةِ الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة. ومع أقلِّ حدٍّ من التَّمويل؛ غدَت هذه الصُّوَر -الَّتي قدَّمَها في الأصل السَّجَّانون أنفُسُهم مَجَّاناً- أكثر مِن مُجرَّد انعكاس للواقع، بل صنعت «افتراضيَّة واقعيَّة» تقف سلطةُ الدَّولة أمامها عاجزةً عن الكبح والسَّيطرة.

تُقدِّم وسائل الإعلام الجديدة سبلاً لبناء ودعم الصِّلة مع المتلقِّي أكثرَ سُرعةً ومُرونةً، مِمَّا كان عليه الحال في العقود السَّابقة. إنَّ هذا الجمعَ بين وسائل الإعلام الجديدة والفعاليَّات الجديدة في المجالين الدِّينيِّ والسِّياسيِّ؛ يُعَزِّزُ الوعي لدى جميع الفاعلين بتنوُّع طرائق تشكيل القِيَم والممارسات، وهذا -غالباً- ما يضع المؤسَّسات الرَّسميَّة المدعومة من طرف السُّلطات موضع تساؤل[32]. وفي غالب الأحيان، بدأت الرَّقابة تدرك بأنَّ الجهود المبذولة لمنع وسائل الاتِّصال الإلكترونيَّة لا تنجح أبداً إلَّا في جذب مزيد مِن الانتباه للمواقع الرَّقميَّة الممنوعة.

ولا يقتصر دور جماهير الإنترنِت على التَّفاعل، بل هم يتواصلون فيما بينهم بما يرفع مِن مستوى الوعي بين ذوي التَّفكير المُماثل أو الانخراط في العمل، ونادراً ما توجد المجتمعات الرَّقميَّة في حالة عزلة، وتندمج في حلقات مُتعدِّدة من القرابة والانتماء. وهكذا، توجد طائفة شيعيَّة في جنوب آسيا -وهي طائفة «البهرة الدَّاوديَّة»[33]- زادت بأضعاف مُضاعفة مِن حجم حضورها على الإنترنت خلال العقد الماضي، ورسَّخَت لأسبابِ سلطتها في مجتمعها محلِّيَّاً ودوليَّاً، وبسَّطَت اعتقاداتها لغير أتباعها[34]. يلعب الإنترنت دوراً في مثل هذا الانتشار السَّريع، والعمل جنباً إلى جنب مع وسائل التَّواصل الأُخرى ومع الاتِّصال الحيِّ والمباشر، مِن أجل إعادة تشكيل ملامح الفعل الدِّينيِّ والسِّياسيِّ، بل وسائل الاتِّصال التَّقليديَّة أيضاً.[35]

يَسَّرت وسائل الإعلام الجديدة العمل أيضاً، وصار في إمكان الحكومات في شبه الجزيرة العربيَّة وغيرها أن تُبرمج كلَّ الهواتف النَّقَّالة في بلدانها لتذكير الآباء بتسجيل أبنائهم في المدارس. كما صار في الإمكان أيضاً مِن خلال هذه الهواتف النَّقَّالة نفسِها أن تَتِمَّ تعبئةُ المتظاهرين في عَمَّان للتَّظاهر ضدَّ إجراءٍ حكوميٍّ أمام كاميرا صحفيٍّ متواطئ من فضائيَّة عربيَّة بأسرع من إمكانيَّة قدوم قوَّات الأمن مِن أجل تفريقهم. ونفس الأمر يصِحُّ بالنِّسبة إلى الرَّسائل النَّصِّيَّة العامَّة الَّتي يمكن من خلال تداولها إثارة الانتباه إلى مَا يجري في الشَّارع أو في مدوَّنة رقميَّة أو في وسائط إعلاميَّة أُخرى تُروِّج بين الأصدقاء أو ذوي التَّفكير المُماثل. وعلى نفس المنوال، فإنَّ مَا عمدَت إليه الحكومة في سلطنة عُمَان مِن توقيف مؤقَّت لبعض المدوِّنات ذات الشَّعبيَّة في كانون الثاني/يناير 2005 أوحى لشريحة كبيرة من الشَّباب بالانتباه إلى أنَّ شيئاً ما قد حدث. وبوقتٍ ليس بالقصير قبل أن يُصْدِر الإعلام الرَّسميُّ أيَّة إشارة عن وجود مؤامرة مزعومة ضدَّ النِّظام؛ كان الشَّباب، بِمَن فيهم حتَّى غيرُ المؤطَّرين سياسيَّاً، قد أخذوا عن ذلك فكرة واضحة وبشكل ملحوظ من خلال التَّواصل المباشر. وكذلك كان الشَّأن في إيران، في كانون الثاني/يناير 2009، أصبح كلٌّ مِن الفيسبوك وتويتر مصدراً رئيساً للأخبار بالنِّسبة إلى وسائل الاتِّصال القائمة القديمة.

حلقات الانتماء:

غدَت الإنترنت ووسائلُ الإعلام الرَّقميَّة سهلةَ المنال ومؤثِّرةً بشكلٍ قويٍّ في عالم «الواقع». كما أدَّى الانتشار السَّريع الَّذي عرفَته الوسائط الجديدة إلى انخفاض سعرها، وضاعفت وسائل الإعلام من إمكانيَّات إنشاء مجتمعات وشبكات فيما بينها، مُزيلةً العوائق القديمة في المكان والمسافة، ومُنفتحةً على أسس جديدة للتَّفاعل والاعتراف المتبادل. رغم ما تعرفه الحياةُ الاجتماعيَّة مِن تعقيدٍ، وطبيعةُ الهويَّاتِ مِن تنميط، والطَّلبُ على الصَّدارة والأولويَّة مِن منافسة؛ لا يمكن طمسُ أهمِّيَّة حلقات «الدِّفء» الَّتي تنشأ داخل المجتمع، أو إلغاء الالتزامات الَّتي تُخوِّل رحابة وتبادل الثِّقة والدَّعم؛ مع ما تقتضيه مِن ولاء ومعاملة بالمثل لا جدال فيها[36]. ومع ذلك؛ فإنَّ ولاءات الأُسَر والقبائل المُمتدَّة تبقى مُتقاطعة ومتداخلة، ولا يمكن تفادي انقسامها. ثمَّ إنَّ الحلقات «الفاترة»[37] في المجتمع -تلك الَّتي تكون رسميَّة، مُتباعدة، ومُنعزلة- تبْحَثُ بدورها عن الأولويَّة والصَّدارة، لكنَّها جِدُّ مُستبعَدة عن مجال الممارسات والاهتمامات اليوميَّة؛ لدرجة لا تُمكِّنها مِن تأمين الولاء المطلق المنشود. وهو الشَّكل الَّذي غالباً ما تأخذه نداءات الواجب الوطنيِّ والتَّضحية مِن أجل الوطن.

تتجلَّى العلامة الفارقة بالنِّسبة إلى المجال العامِّ الحديث في سرعة حلقات المجتمع «الفاترة» لدمج واحتواء الأُخرى «الدَّافئة» مُنشئةً بذلك شعوراً جديداً بالهويَّة والانتماء، كما تتجلَّى أيضا في مدى قدرة الإنترنت على سرعة تشكيل مُجتمعات «دافئة» مُتقاربة، رغم تباعدها وتشتُّتِها. إنَّ الحوارات والتَّصريحات عبر الوسائط الإلكترونيَّة، تماماً كما هو الحال بالنِّسبة إلى المحادثات المباشرة، تستلزم شركاء موثوقين، وقنوات ووسائل اتِّصال، ومواضيع وأنماط، وغير ذلك مِن أعراف تواصليَّة تقع ضمن واقعٍ اجتماعيٍّ مُختلِف. أصبحت بعض الوسائط التَّواصليَّة، كالهاتف والقنوات التَّلفزيَّة المحلِّيَّة أو حتَّى القنوات التَّابعة لبعض الأحياء في تركيَّا، تتلاءمُ مع بنيات شبكيَّة مخصوصة، ومع سلوك البحث عن المعلومة المطلوبة لدى البروليتاريا مِن المهاجرين؛ والَّتي تملك شبكات علاقات قرابة وصداقة منتشرة على نطاقٍ واسعٍ؛ بل وعالميٍّ. وعبر النِّطاق الاجتماعيِّ، اكتسبَت بعض الدَّعوات مستوىً عالميَّاً؛ فهذا سعيد رمضان البوطيُّ بسوريا، وهذا فتح الله غولن بتركيا، وهذا يوسف القرضاويُّ في قطر، وآخرون من أمثالهم في إيران أو المنفَى، جميعُهم اجتذبوا إليهم مَن ينشر أفكارَهم مِن الأتباع والمُحلِّلين والمُترجمين.

ولا يمكن فصل الرَّسائل النَّصِّيَّة لهؤلاء المُفكِّرين، كما هو الحال لدى كثير من الأشخاص المجهولين؛ سواءٌ «المعتدل» أو «المتشدِّد» منهم، ليس فقط على مستوى المزاج والأسلوب؛ بل أيضاً على مستوى وسائل التَّواصل المختارة. في عصر قنوات التَّواصل المُتعدِّدة الخيارات، فإنَّ مواضيع كيفيَّة الوصول إلى مختلف الجماهير، وكيفيَّة تلقِّي الرَّسائل ذات الحمولة الدِّينيَّة والسِّياسيَّة في الشَّرق الأوسط الجديد وفي البلدان ذات الغالبيَّة المسلمة، مسألة تحديد الشَّكل والمضمون في مختلف قنوات الاتِّصال؛ كلُّها تكتسب أهمِّيَّةً على قدر المحتوى الصَّريح لهذه الخطابات. في بعض الأحيان، تكون هذه المساهمات مجهولة المصدر، مثل بعض ما يُنشر على الشَّبكة العالميَّة، وهي «خطَّة» تُغيِّر مِن مفهوم المشاركة العامَّة، كما تفعل المنشورات غير المشروعة. وذلك ما حصل إبَّان ما كان يُسمَّى بأمريكا الكولونياليَّة، وخلال السَّنوات الأولى للجمهوريَّة الأمريكيَّة؛ كانت المنشورات المجهولة المصدر عاملاً رئيساً للحفاظ على الفضاء العامِّ النَّاشئ[38].

إنَّ المنشورات مجهولة المصدر في تلك الحقبة المبكرة تلعب نفس دور بعض منشورات الإنترنت، وبعض النَّاطقين مجهولي الهويَّة في الصَّحافة المألوفة؛ رغم أنَّه قد صار من الصَّعب التَّمييز في بعض وسائل الإعلام الجديدة بين تلك الخطابات والأُخرى الصَّادرة عن غريبي الأطوار والعناصر الهامشيَّة والمعلومات المُضلِّلَة.

عولَمة من الأسفل:

هناك خاصِّيَّة أخرى لوسائل الإعلام الجديدة، وهي أنَّها تُحْدِثُ عولمة «من الأسفل»؛ فمن جهة: يشمل المركزُ المُنتمين من الطَّبقة المهنيَّة، وهم يتوفَّرون على وسائط مُتعدِّدة للاتِّصال، ولهم المهارات لتسخيرها، ومن جهة أُخرى: هناك نظراؤهم من الطَّبقة العاملة أو البروليتاريا يستعملون الوسائط الجديدة لدمج وضمِّ شبكات مُمتدَّة من تلك العلاقات إلى أشكال مجتمعيَّة جديدة. وسواءٌ بالنِّسبة إلى تقنيِّي العولمة أو المشاركين فيها؛ فهُمَا معاً مُنتجون ومُستهلكون، ومُنشئون لمجتمعات على مقاسهم، ولكن في شكلٍ لا يختلف عن تلك المؤسَّسات المتعدِّدة الجنسيَّة في طبيعتها الشَّبكيَّة المرنة[39]، وسلاستها[40]، وقيامها على الاتِّصالات التَّشاركيَّة؛ وذلك ما يُمثِّل الحدَّ الأدنى لِمَا يمكن أن نُعَرِّفَ به المجالَ العامَّ. إنَّ أكثرَ المنشورات الرَّقميَّة تأثيراً على الإنترنت، كتلك المُتعلِّقة بأمور الدِّين على سبيل المثال، لا تبني سلطتَها فقط على السُّمعة الشَّخصيَّة ومعرفة النُّصوص، بل وبشكل مُتزايد على استيعاب واضحٍ وعمليٍّ للمجتمع المعاصِر، والقدرة على مشاركة جمهورها فهم تحدِّيات الحياة اليوميَّة واهتماماته الوجوديَّة.

يشير غموض الخطوط الفاصلة بين المجتمعات في الفضاء السِّيبيرانيِّ إلى استمراريَّة أكثر أهمِّيَّةً تسمح بالتَّحوُّلات السَّريعة بين العامِّ والخاصِّ، وبين السِّرِّيِّ والعلنيِّ. وتبرز هذه الجماهير الجديدة على طول سلسلة مُتَّصلة بين وسائل اتِّصالٍ جماهيريٍّ يتوجَّه إلى الجميع، وبين تواصلٍ شخصيٍّ مباشر يستهدف أشخاصاً لديهم علاقة شخصيَّة مسبقة.

لقد يَسَّرَ الفضاء العامُّ الآخذ في الاتِّساع عمليَّةَ تحويل ذلك المعاصِر المغمور[41] أو المجهول إلى شريك يَنْشَط في إطار نفس القيم الأخلاقيَّة والأهداف المشتركة. تساهم الإنترنت في إدراكنا بأنَّ جمهوراً كهذا لا يُعرَفُ بكونه ضخماً وغير واضح الهويَّة، بل يُحدَّد حسب تفاعله ومشاركته أو بالأحرى: من خلال أدائه. وبهذا الاعتبار؛ يشير بنديكت أندرسون[42] (benedict anderson) إلى أنَّه نزوع مُتزايد إلى القراءة الجماعيَّة، وهذا الميول انبثق بشكلٍ أقلَّ من الجمعيَّات أو بالتَّحديد مجال المجتمع المدنيِّ، وبشكل أكبر ينبعث في طرائق التَّعامل بثقة مع الآخرين في إطار فضاءٍ اجتماعيٍّ مُمتدٍّ من العلاقات التَّواصليَّة المشتركة. وهذا النُّزوعُ المشترك المُتزايد إلى القراءة الجماعيَّة؛ يساهم فيما سَمَّيناه «تعميم الإسلام».

الخصائص المُميِّزة للتَّعميم:

إنَّ وصفَنا لمجال تفاعل الأفكار والهويَّات والرَّوابط الاجتماعيَّة بأنَّه «سوق»؛ ليس على سبيل الاستعارة والمجاز، بل إنَّه في واقع الأمر يُحوِّل بشكل حاسم منتديات ومصادر هذا الخطاب وممارساته. إنَّ وسائل الاتِّصال الجديدة، وبالأخصِّ الفضاءَ السَّيبرانيَّ، تلفتُ الانتباه إلى النِّظام الاجتماعيِّ لعمليَّة التَّواصل؛ حيث تتداخل فيها وسائل إعلاميَّة مختلفة.

من المهمِّ جدَّاً الإصغاء لِمَا في هذه الخطابات العموميَّة مِن اختلافات ومِن قواسم مُشتركة. وإنَّه لأمر مُضلِّل بشكل خطير أن ننطلقَ مِن فرضيَّة وجود نمطيَّةٍ ما في وجهات النَّظر في البلدان ذات الأغلبيَّة المسلمة، أو تَعصُّب تجاه العقائد الأخرى. فبالنِّسبة إلى الكثيرين؛ أجاب القرآن الكريم بشكل قاطع عن دور المجتمع المسلم في عالم مُتعدِّد، وذلك في قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِيما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ}[43].

يقف المدافعون عن المجتمع المدنيِّ والدِّيمقراطيَّة والنِّقاش المفتوح حول القِيَم الأساسيَّة - وهي المُثُل الَّتي يبسُطُها في أعمالِهِ السُّوريُّ محمَّد شحرور، ويدعو إليها التُّركيُّ فتحُ الله غولن وغيرهما- ضِدَّ الامتيازات الخاصَّة والقويَّة. ولهذا؛ فإنَّ هذه المُثُلَ تُعْتَبَرُ تهديداً «لمناصب الامتيازات المريحة»[44] الَّتي يستفيد منها العديدُ من الوعَّاظِ وعلماءُ الشَّريعة والمدرِّسون والمشايخ[45]. ولا غرابة أن تُواجَهَ بقوَّة بعضُ هذه الجهودِ الدَّاعية إلى تَبَنِّي مقاربة نقديَّة لأساسيَّات الإيمان وللتَّقدُّم.

ومع ذلك، فإنَّ ما أُسمِّيه «الإصلاح الإسلاميَّ» هو في تقدُّمٍ رغم عدم إمكانيَّة تأريخه وتحيينه بدقَّة. وبطبيعة الحال، فإنَّ العديد من المسلمين سيقاومون تشبيهنا الجزئيَّ له بالإصلاح البروتستانتيِّ في أوروبَّا. وكنت قد زرتُ الدَّاعية التُّركيَّ فتح الله غولن منذ اثني عشر عاماً؛ وذلك قُبَيْلَ أن أستخدم مُصطلح «الإصلاح الدِّينيِّ الإسلاميِّ». وفي ختام مناقشة حيويَّة حول مدى تأثُّر خطابِه بالانتقال من اعتماد اللِّقاءات المباشرة إلى التِّلفزيون؛ ذكَرْتُ بأنَّني أريد أن أستخدم هذا المصطلح عنواناً لمقال؛ فأجابني بأدبٍ مازحاً: «إنَّه عنوانك، لا عنواني». وشرح لي بأنَّه ينظر إلى عمل حياته - والَّذي يتضمَّن فكرة عدم التَّعارض بين نظرتي الإسلام والعلم للعالَم- على أنَّه مجهود لدعوة النَّاس إلى فهم الإسلام على ما هي عليه تعاليمه الأساسيَّة والعيشِ بمقتضاها. فأشرتُ إلى أنَّ مارتن لوثر قد قال شيئاً مماثلاً لهذا؛ إذ هو بدوره نظر إلى عملِه على أنَّه عودة إلى أصول الإيمان، وليس اختلاقاً لأيِّ شيءٍ جديد، كما أنَّه لم يصف نفسَه قطُّ بأنَّه «مُصلِحٌ دينيٌّ»، وإنَّما غيرُه مَن وصفَه بذلك. وقد جاء مِنْ بعدِه مَنْ نظر إلى أفكاره وأعماله على أنَّها دعوة إلى «الإصلاح».

ومع ذلك؛ فإنَّني أعترف بأنَّ ممثالتنا من حيث الإصلاح البروتستانتيِّ غير تامَّة. لكن، وكما اكتشف ولي نصر[46] خلالَ زيارة له إلى قيصري بتركيا؛ إذ شبَّهَ العمدةُ وبشكل واضح -في مَعْرِضِ حديثِهِ عن كتاب ماكس فيبر (الأخلاق البروتستانتيَّة)[47]- روَّاد الأعمال المسلمين في مجتمعه بالكالفينيِّين الأوائل في أوروبَّا[48]، وهي مقارنَةٌ يقوم بها حتَّى غيرُ المثقَّفين من عموم المسلمين. لا توجد في العالم الإسلاميِّ اليوم شخصيَّة مركزيَّة أو تسلسل هرميٌّ لسلطة مرجعيَّة يستجيب إليها النَّاس. وبدلاً من ذلك؛ هناك العديد من السُّلطات على الرَّغم من المزاعم على ذلك، فلا وجودَ لفردٍ ولا لحركةٍ تتكلَّم باسم المسلمين جميعاً، بل هناك العديد مِمَّن يمتلكون المهارات المعاصرة الأساسيَّة في «تعميم» الدِّين.

هناك أربع مجموعات رئيسة من المهارات؛ تتعَّلقَ بما أعتبره «تعميماً». أوَّل فئة من هذه المهارات: نجدها عند المثقَّفين الَّذين 'تولَّوا مسؤوليَّة' تطوير الأفكار وإقناع جماهير عريضة في الدُّول الَّتي تُعارض بشدَّة الحركات المنَظَّمة غير الحكوميَّة. ففي سوريا على سبيل المثال؛ يُسمَح للمثقَّفين المستقلِّين الَّذين يتصرَّفون من تلقاء أنفسهم -سواءٌ كانوا مُتديِّنين أو علمانيِّين- بحرِّيَّة واسعة في الكتابة طالما تجنَّبوا انتقاد النِّظام. ويشمل هذا الأمر مُفكِّرين كمحمَّد شحرور وصادق جلال العظم، والدَّاعية على التِّلفزيون الدِّمشقيِّ النَّاطق باللِّسان الكرديِّ سعيد رمضان البوطيِّ.

المجموعة الثَّانية: هي القدرة على الخروج إلى العَلَن، وتَصَدُّرُ عمليَّات التَّنظيم والتَّواصل الفَعَّال؛ فالدُّول بما فيها اللِّيبراليَّة أو الشُّموليَّة، تعتمد على المهنيِّين من الطَّبقة الوسطى بنفس القدر الَّذي تلجأ إليه الحركات الدِّينيَّة والمدنيَّة النَّاجحة، كما هو الحال في إندونيسيا والمغرب. لذا؛ فإنَّ الجهود الَّتي ترعاها هذه الدُّول لتعزيز الحوار بين الأديان مثل مؤتمر الحوار بين الأديان الَّذي بادرت به السُّعوديَّة سنة 2008 بمدريد، ورسالة عمَّان الَّتي أطلقها ملك الأردن عبد الله الثَّاني؛ داعياً إلى الاعتدال والحوار بين الأديان سنة 2004. كلُّ هذه الجهود تقوم بها من حيث التَّنظيم والتَّسيير مِهَن الطَّبقة الوسطى، وتعمل في الوقت ذاته على أن تظهر بمظهرٍ مُستقلٍّ عن هذه الدُّول، كما هو الشَّأن بالنِّسبة إلى المبادرات غير الحكوميَّة؛ كمبادرة الحوار الدِّينيِّ الَّتي يرعاها أتباع فتح الله غولن في تركيا وغيرها. إنَّ هذه المنتديات والجمعيَّات تُعزِّز طرائق جديدة في النَّظر وتبادل الأفكار، مثل منتدى الفكر العربيِّ بالنِّسبة إلى الفلسطينيِّين، وهي كذلك تُمثِّل هذا النَّمط من التَّصدُّر لعمليَّات التَّنظيم. يتقاطع النِّقاش الدَّائر في المجتمع المدنيِّ مع الأشكال التَّنظيميَّة لتعميم الإسلام، ولكنَّه يمتاز عنه من حيث إنَّ التَّركيز لا يرتبط بالمسألة المدنيَّة في حدِّ ذاتها، أو بالدَّمَقْرَطَة فحسب، بل يركِّز على «تسويق» الأفكار والممارسات الَّتي تتعلَّق بطريقة مُعيَّنة في تنزيل وتفعيل الدِّين في المجتمع.

وأمَّا المجموعة الثَّالثة مِن المهارات، فتتجلَّى في القدرة على العمل الهادئ وراء الكواليس من أجل الدَّفع إلى الأمام بمصلحة أو قضيَّة مُعيَّنة، حيث الأشكال الضَّعيفة للعمل المدنيِّ تلتحم بأشكال صلبة مِن البنى، كما هو الحال في شبه الجزيرة العربيَّة، حيث تجرى المبادرات الرَّئيسة المدعومة من طرف الدَّولة لتوظيف منهاج «الدِّراسات الإسلاميَّة» الخاصَّة بالمدارس الابتدائيَّة والثَّانويَّة؛ لاعتماد وضعِ نموذجٍ يهدف لغرس قيم التَّفكير النَّقديِّ والمساواة بين الجنسين والتَّسامح الدِّينيِّ. كما حصل الشَّيءُ ذاتُه في مراجعة مُدوَّنة الأسرة المغربيَّة في شباط/فبراير 2004، وهو قانون يهدف إلى تعزيز حقوق المرأة، وقد كان قيدَ الإعداد لسنوات، ولكنَّه لم يصدر إلَّا عَقِبَ هجمات الدَّار البيضاء الإرهابيَّة الكُبرى في أيار/مايو 2003، وهو الحدث الَّذي مَكَّنَ المَلَكِيَّة من القيام بخطوة كبيرة وجريئة دون معارضَةٍ تُذكَر.

أمَّا المجموعة الأخيرة مِن المهارات؛ فهي التَّأكُّد من ضمان التَّفوُّق على السِّرِّيَّة. لقد ألهمَ التُّركيُّ فتح الله غولن -الَّذي تدرَّب مبدئيَّاً كداعية برعاية الدَّولة، واختير مُؤخَّراً كواحِد من أفضل مائة مثقَّف في العالم- إحداثَ شبكةٍ من المدارس والصُّحُف ومحطَّات الإعلام الإذاعيَّة والتِّلفزيونيَّة؛ لينقلَ إلى أتباعه احترامَ التَّميُّز التَّعليميِّ والتَّسامح الدِّينيِّ. وإنَّ مِن شأن الدِّعاية أن تتجاوز الشُّبهات المُثارة حول جماعات وأفكار مُعيَّنة، وبذلك تساهم إسهاماً كبيراً في «التَّطبيع» مع هذه الجماعات والأفكار. غير أنَّ «التَّعميم» يتطلَّب ثمناً أيضاً؛ فَلَربَّما رُمِيَ دعاةُ «التَّعميم» بالغموض والافتقار إلى الدِّقَّة؛ خصوصاً وأنَّ «تعميم» الإسلام عادةً ما يُقلِّل من شأن الخصوصيَّات الثَّقافيَّة لصالح تمكين وتأهيل الفرد. وقد يمكن لمعارضي التَّعميم التَّباهي بوضعهم النَّشاز، لكنَّ معارضةً كهذه قد تكون عنيدة، ومع ذلك؛ فقد زاد النِّقاش احتداماً مع تعميم التَّعليم العالي، والتَّغلغُل المتصاعِد لوسائل الاتِّصال الجديدة، وازدياد إمكانيَّة الولوج إليها، مع اليُسْر الأكبر في السَّفر والتَّواصل بشكلٍ عامٍّ.

إنَّ «تعميم» الإسلام يُعدُّ تغييراً مهمَّاً «من الأسفل»، ولا ينبع فقط من المفكِّرين الأساسيِّين والزُّعماء الدِّينيِّين، بل هناك أيضاً مقاومة لمثل هذه التَّحوُّلات. ومع ذلك، هناك اعتراف صريح مُتزايد -أو على الأقلِّ ضمنيٌّ- بمثل هذه الآراء المتضاربة في الفضاء العامِّ. إنَّ تلك الفكرة الَّتي تُخامر البعض بأنَّ الدِّيمقراطيَّة مبدأ أساسيٌّ في الإسلام؛ سوف تترسَّخ وتزدهر[49]. وأيَّاً كانت النَّتيجة؛ فإنَّ الإصلاح الدِّينيَّ الإسلاميَّ ماضٍ قُدُماً، لكنَّه يواجه معارضةً أشَدَّ مِمَّا كانت تبدو عليه منذ عقد من الزَّمن. وفي هذا الصَّدد، على الأقلِّ، يمكن القول: إنَّ ثمَّة تشابهاً موازياً للإصلاح الدِّينيِّ الَّذي عرفته أوروبا. وهذا الأمر ليس مُجرَّد نقطة ما زمنيَّة، وإنَّما هو سيرورة.

[1] - المقصود: الإسلام في نسخته السَّائدة.

[2] - كان العنوان الفرعيُّ الَّذي اختاره صاحب المقالة Taking charge of the faith، وهو ما يعني «تولِّي المسؤوليَّة الدِّينيَّة» أو «تولِّي المسؤوليَّة عن الدِّين أو الإيمان أو العقيدة». وقد رأينا أن نجعله مُفسِّراً للمضمون العامِّ للمقالة, أو بالأحرى مُظْهِراً للمسكوت عنه في العنوان الفرعيِّ الأصليِّ. (المترجم)

[3] - الترجمة مقتطفة من كتاب: أنثروبولوجيا المجتمعات الإسلامية، الصادر عن دار مؤمنون بلاحدود، عام 2022

[4] - هذه زيادة من المترجم لتوضيح المعنى في سياقه.

[5] - Eickelman, dale f. «national identity and religious discourse in contemporary oman». international journal of islamic and arabic studies 6:1 (1998): 1-20.

[6] - Bloch, Marc. feudal society (148). chicago: university of chicago press, 1964

[7] - يستخدم أيكلمان لفظة «islamic reformation» ليحيل على الإصلاح في المجال الدِّينيِّ بالأساس أو قُل: الإصلاح الَّذي ينطلق من قناعة أنَّ معاودة النَّظر في النَّصِّ الدِّينيِّ والقناعات الدِّينيَّة للمسلمين مدخل أساس من مداخل الإصلاح، وهو في ذلك يضعه في نفس الإطار مع «حركة الإصلاح» الَّتي عرفتها أوروبا مع الدَّعوة البروتستانتيَّة. ولذلك أضفنا النَّعتين «الدِّينيَّ» و«الإسلاميَّ» ضميمةً دون الوقوع في المعنى العامِّ لكلمة «الإصلاح الإسلاميِّ» مع ما تحمله من معانٍ تتجاوز المقصود. (المترجم)

[8] - تجدر الإشارة إلى أنَّ كتابة هذا المقال تعود إلى سنة 2010. (المترجم)

[9] - إضافة من المترجم.

[10] - مقترح ترجمة للعبارة الجناسيَّة: «mecca or mechanization». (المترجم)

[11] - انظر: شحرور، محمد. «الكتاب والقرآن: قراءة معاصرة»، ط1990، الأهالي للطباعة والنشر، وانظرأيضاً شحرور 2009

[12] - لقد قمنا بالإحالة مباشرة على نصِّ محمَّد شحرور في أصله العربيِّ. (المترجم)

[13] - هذا الَّذي بين معقوفتين زيادة من المترجم اقتضاها السّياق. (المترجم)

[14] - شحرور، محمَّد: «الكتاب والقرآن: قراءة معاصرة»، ص29، الأهالي للطِّباعة والنَّشر، دمشق.

[15] - يتحدَّث د.أيكلمان عن «creative interaction» ما يعني «التَّفاعل الإبداعيَّ» وهو لا يخلو من حسن دلالة على المقصود، ولكني آثرتُ أن أستعمل تعبير د.شحرور نفسه ما دمنا في سياق الإحالة عليه وهو «التَّفاعل الإيجابيُّ». (المترجم)

[16] - يتحدَّث د.شحرور عن «الفلسفات الإنسانيَّة» وقد أثبتناها بلفظة «غير الإسلاميَّة» مشياً على ما أورده صاحب النَّصِّ الأصليِّ، مادام المقام ليس مقام إحالة بل تعليق. (المترجم)

[17] - شحرور، محمد: «الكتاب والقرآن: قراءة معاصرة»، ص44، دار الأهالي للطِّباعة والنَّشر، دمشق.

[18] - يحيل أيكلمان هنا على دراسة عند يوسف القرضاوي قام بها كل من بيتينا غراف (bettina gr?f) وجاكوب سكوفغارد-بيترسون (jacob skovgaard-peterson) بعنوان: «المفتي العالمي: ظاهرة يوسف القرضاويِّ» (the global mufti : the phenomenon of yusuf al-qaradawi)، 2009(المترجم)

[19] - تترجم «theology» على أنَّها اللَّاهوت وعلوم اللَّاهوت، وعلوم الكلام والإلهيَّات، وعلوم الدِّين. وقد اخترت «الإلهيَّات» لأنَّها -من جهة-المصطلح المعتمد في الجامعة الترُّكيَّة، ومن جهة أخرى؛ لأنَّ «علوم الدِّين» و«علم الكلام» قد تحيل على نظر مخصوص في العقائد الإسلاميَّة، تماماً كما أنَّ «اللَّاهوت» قد يحيل على نظر مخصوص في العقائد الكِتابِيَّة. (المترجم)

[20] - hakan m. yavuz, and john l. esposito, eds. turkish islam and the secular state: the güen movement. syracuse : syracuse university press, 2003

[21] - yves gonz?lez-quijano, «les gens du livre : Edition et champ intellectuel dans l'Egypte républicaine». paris : cnrs éditions,1998 (الكتبيُّون: عالم الثَّقافة والنَّشر في جمهوريَّة مصر)

[22] - dale f. eickelman, «national identity and religious discourse in contemporary oman», international journal of islamic and arabic studies 6, no. 1 (1989): 1-20

[23] - maimuna huq, «from piety to romance: islam-oriented texts in bangladesh.» in new media in the muslim world: the emerging public sphere, 2 nd edn, edited by dale f. eickelman and jon w. anderson, pp. 129-57 (bloomington: indiana university press, 2003). وهو مقتطف من دراسة بعنوان «من العفَّة إلى الرُّومانسيَّة: قراءة في النُّصوص ذات التَّوجُّه الإسلاميِّ في بنغلاديش» للأنثروبولوجيَّة البنغاليَّة د.ميمونة حق، وقد نُشِرَت ضمن كتابٍ جماعيٍّ بعنوان: «وسائط الاتِّصال الحديثة في العالم الإسلاميِّ: المجال العامُّ النَّاشئ» تحت إشراف كل من ديل أيكلمان وجون أندرسون. المترجم

[24] - اخترنا أن نُترجم لفظة «protean» بكلمتي «التَّباين» و«التَّنوُّع» وفاءً بالمعنى المراد في النَّصِّ الأصليِّ. (المترجم)

[25] - juan goytisolo¬ argel?a en el vendaval (algeria in the gale) (madrid : el pais, 1994).

[26] - مزيدة على الأصل (a range of views) لأنها بدت أدلَّ على مقصود الكاتب. رغم أنَّ التَّنكير في لساننا العربيِّ يفي بالمعنى كما جاء في الأصل، إلَّا أنَّ زيادة هذا النعت سيكون أدلَّ وأوفى بما يفهم من سياق الكلام. (المترجم)

[27] - jillian schwedler, faith in moderation: islamist parties in jordan and yemen (cambridge: cambridge university press, 2006).

[28] - jenny b. white, islamist mobilization in turkey: a study in vernacular politics (seattle: university of washington press, 2002).

[29] - مُلخَّص قصَّة «ويلي هارتن» هذا في علاقته بالانتخابات الأمريكيَّة، أنَّه كان قد أُدين بالمؤبَّد على خلفية إدانته بجرائم مُتعلِّقة بالاغتصاب والقتل. وكان أحد المستفيدين من برنامج سُمِّيَ آنذاك بــــ «برنامج إجازة آخر الأسبوع». لكنَّه خرج ولم بعد من «إجازته» بل وارتكب جرائم اعتداء وسطو واغتصاب. وقد حدث هذا عندما كان أحد المرشَّحين الدِّيموقراطيِّين للانتخابات الأمريكيَّة وهو «دوكاكس» حاكماً على ولاية ماساشوسيت حيث وقع هذا. فاستغلَّت هذه القصَّة من طرف الجمهوريِّين (جورج بوش الأب) في إطار حملتهم المضادَّة. مِن أجل فهم سوق الكاتب لهذا المثال يرجى مراجعة الرَّابط الاتي: https://en.wikipedia.org/wiki/willie_horton#horton_in_the_1988_presidential_ campaign (المترجم)

[30] - وجدته مُستعملاً في ترجمة مفهوم «real virtuality» كما نحته البروفيسور مانويل كاستليس (manuel castells) أستاذ علم الاجتماع والاتِّصال بجامعة كاليفورنيا، وهو تطوير لمفهوم «الواقع الافتراضيِّ»/«virtual reality». (المترجم)

[31] - manuel castells, the rise of the network society (malden, mass.: blackwell publishers, 1996).

[32] - dale f. eickelman and jon w. anderson, «redefining muslim publics.» in new media, ed. eickelman and anderson, pp.1-18.

[33] - وهي إحدى فرق الإسماعيليَّة المستعلية؛ أي: نسبة إلى الخليفة الفاطميِّ المستعلي بالله. (المترجم)

[34] - jonah blank, mullahs on the mainframe: islam and modernity among the daudi bohras (chicago: university of chicago press, 2001).

[35] - yves gonz?lez-quijano and touriya guaaybess, eds., les arabes parlent aux arabes: la révolution de l'information dans le monde arabe (arles: sindbad, 2009).

[36]- dale f. eickelmanand armando salvatore, «muslim publics.» in public islam and the common good, edited by armando salvatore and dale f. eickelman (leiden: brill, 2004), pp. 15-18

[37] - زيادة من المترجم: وقد فضَّلنا لفظة «الفاترة» على «الباردة» في ترجمة «cold circles» لأنَّها أدلُّ على ضعف قوَّة العلاقات الاجتماعيَّة كما هو المقصود في النَّصِّ الأصليِّ.

[38]- michael warner, the letters of the republic: publication and the public sphere in eighteenth-century america (cambridge, mass.: haravard university press. 1990

[39] - هو مقترح لترجمة لفظة: interstitial وهي في العموم تدل على معانٍ ثلاثة رئيسة: الطَّبيعة المائعة، البنية المركَّبة المحافِظَة على الفراغات بين مكوِّناتها، والتَّشابك والتَّخالل. وذلك بحسب سياق ورودها كما يدلُّ عليه القاموس الإنجليزيِّ. ونرى أنَّ المعنى المقصود في سياق النص هو ما ذهبنا إليه. ولعلَّ ما يأتي بعده يؤكِّده! (المترجم)

[40] - كان من الأفضل أن نقول: «وسيولتها» أو «وميوعتها» ولكنَّ الأول قد يحيلنا من غير قصد على مفهوم «السُّيولة» في عالم المال والأعمال لتقارب المجال الدَّلاليِّ أو على مفهوم «السُّيولة» كما نحته المفكِّر زيجمونت باومان. أمَّا الاختبار الثَّاني؛ ففيه إحالة على الحكم الأخلاقيِّ السَّلبيِّ الَّذي درج عليه القول في لفظة «الميوعة». (المترجم)

[41] - نقصد به الخامل الذِّكْر وغير المشهور. (المترجم)

[42]- benedict anderson, imagined communities: reflections on the origin and spread of nationalism. (london: verso, 1991), pp,37-46

[43] - سورة المائدة، الآية 48. (لقد وضع الكاتب في سَوْقِهِ لترجمةٍ للآية تفسيراً للمعنى المتَحَصِّل منها بعد قوله تعالى «ولكن» وهو أنَّ الله تعالى لم يشأ أن يجعل النَّاس أمَّة واحدة. وقد وضعه الكاتب بين معقوفتين تنبيهاً إلى ذلك، وقد اقتصرنَا على الآية كما هي في القرآن الكريم. المترجم).

[44] - في الغالب هي مناصب لا تستدعي جهداً أو عملاً حقيقيَّاً في مقابلها المادِّيِّ «sinecures» (المترجم).

[45] - جعلنا كلمة «المشايخ» مقابلة للفظة «clerics» في النَّصِّ الأصليِّ لقناعتنا بأنَّ هذه اللَّفظة ليس لها مقابل دقيق في السِّياق الإسلاميِّ؛ إذ تعني «رجال الدِّين» الَّذي هو في حدِّ ذاته مفهوم ملتبس بين علماء الدِّين والعباد والمتصوِّفة والدُّعاة والوعَّاظ، وأحياناً حتَّى بعض القيادات الفكريَّة و«الرُّوحَّية» للحركات الإسلاميَّة.. وفي لفظة «المشايخ» خصوصاً كما ترد في التَّداول المشرقيِّ دلالة وافية بالمقصود! (المترجم).

[46] - ولينصُر أو (فَالينصر) هو خبير إيراني أمريكيٍّ في الشَّرق الأوسط والعالَم الإسلاميِّ، وكاتب وأستاذ السياسة الدوليَّة في مدرسة فليتشر للحقوق والديبلوماسيَّة في جامعة تافتس. (المترجم)

[47] - كتاب «الأخلاق البروتستانتيَّة وروح الرَّأسماليَّة» لماكس فيبر. (المترجم)

[48]- dale f. eickelman, review of vali nasr, forces of fortune: the rise of the new muslim middle class and what it will mean for our world. new york university center for dialogues, new york. url: http://islamuswest.org/books_islam_and_the_west/,2020

[49]- sadek j. sulaiman, «democracy and shura.» in liberal islam: a sourcebook, 1840-1940, edited by charles kurzman (new york: oxford university press, 1998), pp. 96-98