تفاصيل مرعبة لا توجد في عقل الله


فئة :  مقالات

تفاصيل مرعبة لا توجد في عقل الله

يقدم التفسير الأرتوذوكسي للعنف الديني هذا الأخير بوصفه حرباً ضد العلمانية، ويقترح أن هذا "الإرهاب ما بعد حديث" عَرَضٌ لثورة عامة ضد حداثة الأنوار والعلمانية ورفضٌ للنظام العالمي الجديد لما بعد الحرب الباردة، وما رافقه من عولمة اقتصادية وانتشار الثقافة الشعبية الغربية في كل أرجاء المعمور؛ فقد كان المتطرفون الدينيون المسلمون والمسيحيون واليهود ينظرون إلى أفعالهم العنيفة كرد فعل على محاولة الأنظمة العلمانية طمسَ ثقافاتهم الدينية.[1]

عندما هاجم "القاعديون" (أتباع ابن لادن) برجيْ التجارة في نيويورك، فهمنا أن الدافع هو الانتقام لتدنيس الأقدام الأمريكية للمواقع الإسلامية المقدسة بمكة واجتياحها لبلد مسلم (العراق) والانحياز الواضح لإسرائيل؛ وعندما أطلق الأخوان سعيد وشريف كواشي النار على عمال مجلة شارلي إيبدو الفرنسية، علمنا من صياحهما، وهما يغادران مسرح العملية أنهما انتقما لنبي الإسلام الذي أساءت إليه الرسوم الكاريكاتورية. ويمكن أن نسترسل في جرد الهجومات الدموية التي شنها نشطاء إسلاميون ضد مصالح غربية (فرنسا وإسبانيا وبلجيكا ولندن وبلجيكا وغيرها)، والتي نعلم أن منفذيها اعتبروها حرباً مقدسة ضد "الكفار" و"أعداء الله" الذين يحاربون الله ودينه الحق.

لكن تواتر اعتداءات المسلمين على المسلمين باسم العقيدة في هذا العقد الأخير لم يؤذ الأرواح والممتلكات فقط، وإنما مس أيضاً الثقة التي كانت تميز تفسيراتنا لما يسمى "العنف الديني"؛ ذلك أن هذا التواتر نبهنا إلى واقعة أن الاعتداء الإسلامي/الإسلامي ليس حالات معزولة، وإلى أن القاعدة ليست هي حرب المسلمين ضد أعداء الإسلام، كما ألفنا الاعتقاد، وهو ما دفعنا إلى التساؤل عن السبب الذي يجعل مسلمين يطلقون النار، ويلقون بقنابل، وهم في حالة من الغبطة الصوفية، على مسلمين آخرين في مسجد.

ذلك أن حدثين دمويين حدثا مؤخراً بشكل متزامن في بلدين مسلمين، وهما الهجوم القاتل على مسجد الروضة بمصر والمواجهات الدامية بين الشرطة الباكستانية وجماعة طرقية متشددة، يفرضان علينا إعادة النظر في علاقة العنف الديني بـ"الحرب على العلمانية" التي اعتاد الباحثون على استعمالها في تفسير ذلك العنف؛ إذ ينبغي إعادة تعريف العنف الديني في ظل هذه الحرب الشاملة التي أزيلت فيها الحدود الكلاسيكية بين المدنيين والعسكر، بين المأذون والممنوع، بين الحرب والسلم، بين الأشهر الحرم وأشهر القتال. فقد قامت مجموعة من المسلحين المنتمين لولاية سيناء الإسلامية المتشددة بإطلاق النار ببرودة دم وبشكل عشوائي على المصلين في مسجد بقرية مصرية تعتبر معقل الطريقة الصوفية الحريرية الأحمدية، وأسفر هذا الاعتداء عن 305 قتيل و128 جريحاً. وبشكل متزامن تقريباً، دخلت طائفة دينية باكستانية في مواجهة مع الشرطة في باكستان أدت إلى مقتل 6 أشخاص والعديد من الجرحى.

فبعد سلسلة الاعتداءات المسلحة التى استهدفت المسيحيين وكنائسهم فقط، امتدت هجمات تنظيمات العنف الديني لتشمل أيضا مساجد المسلمين، تمثلت في اقتحام مسلحين من حماس لمسجد ابن تيمية في رفح وقتل خطيب الجمعة وبعض المصلين، والهجوم الانتحاري الذي تبنته جماعة بوكو حرام على مسجد في موبي بشمال شرق نيجيريا سقط فيه 50 قتيلا (21 نونبر 2017)، والتفجير الانتحاري الذي تبناه تنظيم الدولة الإسلامية في مسجد بالقطيف أوقع 19 قتيلا (4 يوليوز 2016)، والتفجيران الانتحاريان اللذان تبناهما التنظيم نفسه، واللذان استهدفا مسجدين شيعيين بكابول أوديا على التوالي بحياة ستة (25 غشت 2017) واثنين وثلاثين (20 أكتوبر 2017) مصليا، فضلا عن مقتل 16 مصليا في مسجد بباكستان إثر تفجير انتحاري (16 شتنبر 2016). وكان تنظيم الدولة الإسلامية قد استهدف أيضاً أضرحة الطرق الصوفية عام 2013، إذ فجّر ضريح الشيخ سليم أبو جرير بقرية مزار، وضريح الشيخ حميد بمنطقة المغارة وسط سيناء. وفي نونبر 2016، أعلن التنظيم ذبح الشيخ سليمان أبو حراز، أكبر مشايخ الطرق الصوفية في سيناء، بدعوى "التكهن، وادعاء معرفة الغيب". هكذا يهاجم المسلمون المتشددون مساجد الصوفية والشيعة على اعتبار أن أتباع الطرق الصوفية، حسب اعتقادهم، "أشد ردةً من غيرهم" وأنهم "عُبّاد القبور وأصحاب الشركيات" نظراً لأنهم يمجدون المساجد التي بها أضرحة، والتي يصنفها المتدينون المسلمون المتشددون ضمن "مساجد الضِّرار"، بينما يصفون الشيعة بأنهم روافض مرتدون، مع ما يترتب على ذلك من أحكام تتعلق باستباحة الدماء المعصومة وقتل الأنفس.

يبرر منفذو الاعتداء الدموي على مسجد الروضة فعلهم بكون المسجد واحد من "المساجد الضِرار" التي لم يتم تأسيسها على تقوى الله، وذلك تبعاً لاعتقادهم الذي يستلهم أفكار سيد قطب الذى يصف مساجد الصوفية بأنها "معابد جاهلية". وتستمد الحركات المسلحة الإسلامية مشروعية الهجوم على مساجد المسلمين من الآية القرآنية (7) الواردة في سورة التوبة: "وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَىٰ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ".

وعلى نحو مماثل، اندلعت مواجهات بين الشرطة وجماعة "لبيك يا رسول الله" المتشددة، والتي أدت إلى سقوط ستة قتلى وحوالي 190 جريحاً. وكان سبب اندلاع أعمال العنف في هذه الحالة أيضاً هو تفصيل صغير لم يكن موجوداً في عقل الله؟ كيف يمكن لعقل سليم أن يستسيغ أن إضافة "كلمة" إلى جملة بشرية أن تولد عنفاً بهذه الحدة؟ والحال أن قصة هذا العنف بدأت، عندما تقدمت وزارة العدل الباكستانية إلى البرلمان بمشروع قانون يتعلق بالقسم الذي يؤديه المرشحون للانتخابات، تتغير بمقتضاه عبارة "إن محمداً خاتم الرسل" إلى "أعتقد أن محمداً خاتم الرسل". وعلى الرغم من اعتذار وزير العدل زاهيد حميد عن هذا الإغفال، موضحاً أنه خطأ غير مقصود تم تصحيحه، خرج أنصار جماعة تسمي نفسها "لبيك يا رسول الله" يطالبون بإقالة الوزير، معتبرين هذا التعديل ازدراء للدين الإسلامي، ومحملينه مسؤولية محاولة تغيير "القَسَم البرلماني" الذي يؤكد ختم نبوة محمد إرضاءً للأقليات القاديانية والأحمدية التي يعدّها الدستور الباكستاني غير مسلمة؛ ذلك أن الدستور المعدل يصف، بموجب الفقرة (3) من المادة 260، أتباع الطائفتين بأنهم غير مسلمين، الشيء الذي يفرض قيوداً صارمة على ممارساتهم وتعبيراتهم ومعتقداتهم. فهذه الفقرة من المادة 260 في الدستور الباكستاني تعرف "المسلم" بأنه "شخص يؤمن بوحدة الله سبحانه وتعالى ووحدانيته، وبرسالة خاتم النبيين محمد (صلى الله عليه وسلم، ولا يؤمن أو يعترف بأي نبي أو مصلح ديني، أو أي شخص زعم أو يزعم أنه نبي بأي معنى أو وصف للكلمة، بعد محمد (صلى الله عليه وسلم)". أما "غير المسلم"، فإنه "يعني شخصاً ليس مسلماً، وتشمل الأشخاص المنتمين إلى الطوائف المسيحية والهندوسية والسيخية والبوذية والبارسية، والأشخاص المنتمين إلى جماعتي القاديانية أو اللاهورية (الذين يسمون أنفسهم بالأحمدية أو بأي اسم آخر)، والبهائيين والأشخاص المنتمين إلى أي من الطوائف المصنفة".

إن هذا الحدث المصري المروع والذي هوجم فيه "الله في بيته"[2]، يكشف لنا عن هول الشعور بأنه يمكن لتفاصيل لغوية أن تكون سبباً في موت هذا العدد الكبير من الناس، وهم ساجدون على يد أفراد يسجدون بنفس الطريقة لنفس الإله. ويكشف لنا ما حدث في باكستان أن واقع البشر ليس مادة جامدة وخارجية، وإنما هو نفسه واقع الكلمات والرموز التي يبنون بها عالمهم، وهو ما يدفع إلى التساؤل كيف يجتمع تصلب الإيمان ببعض الحروف بهذا العنف الرهيب لدى الحركات الإسلامية. وبعبارة أخرى، كيف تتضاعف الحمولة الإيديولوجية لبضعة حروف (ض.ر.ا.ر) إلى درجة توليد هذا القدر من العنف الفظيع؟ وتتماس مع هذه الأسئلة أسئلة أخرى أقرب إلى المصدر المقدس لتلك الحروف: هل كان الله يفكر في مسجد الروضة، عندما أنزل الآية المتعلقة بمسجد الضرار؟ هل بنى أهل الطريقة الصوفية الحريرية الأحمدية مسجد الروضة، ليكون ضراراً لمسجد الرسول وكفراً لله وتفرقةً للمسلمين؟ وهل حارب هؤلاء المصلون العزل الرسول من قبل؟ كيف يمكن لفكرة صغيرة جداً تقيم في عقل مجموعة من الناس أن تدفعهم إلى إطلاق وابل من الرصاص على أشخاص ساجدين يؤمنون بنفس الرب ونفس الرسول؟

يذكرنا المفعول الواقعي لكلمتي "أعتقد" في حالة المواجهات الباكستانية و"ضرار" في حالة الاعتداء على المسجد المصري بملاحظة المفكر الفرنسي أناتول فرانس: "نظن أنفسنا نموت من أجل الوطن، لكننا في الواقع نموت من أجل أصحاب المصانع". ومع ذلك، يطرح السؤال: هل حقا نموت من أجل الوطن؟ ألسنا نموت من أجل كلمة تتكون من ثلاثة حروف (و.ط.ن)؟ لذلك يجب على الباحثين في العنف الديني أن يستكشفوا العملية الخيميائية التي تحوّل نظام المظهر غير الواقعي المتمثل في النظام الرمزي أو نظام الكلمات إلى نظام الواقع الصامت والفعال المتمثل في ظاهرة العنف. فالخطاب الديني المتطرف خطاب شمولي يريد أن يحمل على عاتقه كل معاني العالم الاجتماعي، حيث يسعى إلى أن يغتصب جميع الصلاحيات بدون استثناء، بما فيها تلك المتعلقة بتحديد بأي يد تتوضأ في المرحاض. إن هذا البعد الشمولي للدين مسؤول عن العنف الذي يحدث باسمه أو دفاعاً عنه؛ بيد أنه ينبغي أن نحترس من نظرية تصور الخطاب الديني الشمولي وكأنه خطاب مخادع، بل هو خطاب يؤمن بأنه يمثل عالم الحقيقة الذي يتوافق فيه جميع الناس باختلاف مستوياتهم الاجتماعية والفكرية، وهو خطاب لا يشك أبداً في أنه الوحيد القادر على إقناع الناس بالحقيقة التي لا تقبل التنسيب، لأنهم مواطنو الحقيقة. فبخلاف الخطاب السوفسطائي الذي يعرف أن وظيفته هي "الخداع"، يؤمن الخطاب الديني بقيمته الكونية، لذلك فإنه خطاب يحلم بقصر من الأحلام داخل كوخ، على حد تعبير أندري أكون. وعلى الرغم من أنها مسألة تتعارض مع منطق الحس السليم، فإن شيطان العنف الديني يكمن في التفاصيل، في صُوَيْتَاتِ اللغة الدينية التي تساهم في بناء الواقع التاريخي للعالم.

[1] Juergensmeyer, M. Terror in the Mind of God: The Global Rise of Religious Violence, Berkeley: University of California Press, 2000

[2] المسكيني، محمد، "من يهاجم الله في بيته؟"، موقع مؤمنون بلا حدود.