تقديس الأمومة وأسطرتها


فئة :  مقالات

تقديس الأمومة وأسطرتها

غُلّف مفهوم الأمومة بقداسة راسخة عبر التاريخ، وحظي بتبجيل خاص، إذ عرف المصريون القدماء تكريم الأمّ قبل آلاف السنين، فقدّسوها واحتفلوا بها، واختاروا العدد الأكبر من آلهتهم من الأمّهات، بعد أن اتخذوا من إيزيس رمزًا للأمومة، كما كانوا من أوائل الذين احتفلوا بعيدها، وآثار مصر القديمة شاهدة على ذلك. ويشير المستشرق الهولندي ج. أ. ويلكين إلى أن "الأمومة" يراد بها، في عرف علماء علم الاشتراك، القرابة من طرف الأمّ، وتعني انتساب الولد إلى أمّه، وعدم معرفة الأب الحقيقي للولد، وهي أقدم عهدًا من الأبوّة. والأمومة أمر يعمّ جميع شعوب الأرض، وبعض آثار الأمومة ما تزال باقية عند البعض إلى يومنا الحالي. ونشأت الأمومة عن تعدد الأزواج، أو زواج الاشتراك الذي كان سابقًا غير مقيد برباط شرعي، ما أدى إلى تسيّد الأمومة عند سائر الأمم قبل ظهور الزواج الفردي الذي أنتج نظام الأبوة. ولم يكن العرب بمنأىً عن هذه الظاهرة، فقد شاع عندهم زواج المشاركة وتعدد الأزواج، الأمر الذي دعا إلى حصر القرابة قديمًا في الأم. ومن الأدلة على شيوع الأمومة عند العرب قبل استحكام نظام الأبوة عندهم كلمة بطن، التي تحيل إلى اليوم على العائلة أو القبيلة، وهي كلمة تشير إلى أن (المرأة، الأم) كانت مصدر العائلة ومحورها[1]، وربما هذا ما أكسبها أهميتها عند جميع الشعوب؛ فالأنساب كانت مرتبطة بها.

يتعلق كتاب "السُنّة والإصلاح"، بالطريقة السليمة التي يفهم ويقرأ بها القرآن ونمط العلاقة التي من المفروض أن يقيمها المسلم مع تراثه الديني

وقد عضّدت الأديان السماوية، والأرضية، مكانة الأمّ ودورها، وجرى اتّفاق عام على أهميّة الأمومة في حياة كل امرأة، فلا تكتمل أنوثتها إلا بأمومتهما، ومن تفتقر للأمومة، فإنما هي امرأة ناقصة لا حقّ لها في الاصطفاف مع سائر النساء الكاملات. فالحاجة النفعية عند المجتمعات القديمة أفضت إلى ظهور أسطورة الأمومة، وترسّخت تلك الأسطورة، واكتسبت أهميتها القصوى في بنية المجتمع، فقد أصبح للمرأة دور الحاضنة فضلًا عن كونها وسيلة للمتعة، وقام المجتمع بدعمها بالشرائع والأعراف والقوانين، والدعاية التي أقنعت المرأة بأن تكون جميلة وجذابة، وأن الأمومة أمر جميل ورائع لتفعله[2]. وباركت الأديان ذلك، وفق الرؤى التي دعمت هذا التصوّر بعيدًا عن سياقها التاريخي. ففي البدء كانت كلمة الله؛ كونوا مثمرين وتكاثروا هي ما أُطلقت على الأرض لتدور، وهو اقتراح عملي، حيث لم يكن هناك من البشر سوى آدم وحواء. ويعدّ شرّا إذا منع حمل الأطفال، والنظر إلى المتعة الجنسية بوصفها إثمًا. والأمومة تنظف الجماع، وتَطهّرُ النساء من خطيئة حواء وإغوائها لآدم، يكون عبر حملها للأطفال، وعدّت المرأة نجسة بسبب الحيض.[3]

بدأت قصة الأديان مع الأمومة بوصفها فريضة مقدسة من سفر التكوين؛ حيث أمر الله آدم وحواء: "وباركهم وقال لهم أثمروا وأكثروا واملؤوا الأرض"، (الكتاب المقدس، العهد القديم: الإصحاح: 1/28). واستمرت القصة في المسيحية التي عمّمت مفهوم الأمومة، وكان أن قنّن الفقه المسيحي ذلك المفهوم على يدي القديس أوغسطين (354 - 430م)، الذي أكد أن الجماع حتى مع الزوجة الشرعية، ليس حلالاً ويُعدّ شرّاً، إذا ما مُنع حمل الأطفال[4]؛ أي إن المرأة آلة للإنجاب، وكائن نجس مغمور بالشرّ، وإنجابها المستمر - طالما هي قادرة على الإنجاب - وسيلة تجعلها أقلّ شرًا ونجاسة، وبذلك تكتسب المرأة أهميتها وقداستها من كوّنها أمًّا، أمّا إذا افتقرت للأمومة فتسقط عنها الحصانة، وتغدو شرًّا كلها. و"تفيد دراسة المسألة الجنسية في المجتمعات العربية المسلمة أن السلبية المضفاة على مكانة المرأة الاجتماعية أدت إلى اختزال وجودها إلى دورين لا ثالث لهما: موضع المتعة وآلة الإنجاب"[5]. ومع أن القرآن الكريم قد عبّر بشكل واضح وصريح عن مشقّة الأمومة، ولم يجعل منها هدفًا بحد ذاتها، يقول تعالى: ﴿حَمَلَتْهُ أمّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا﴾، (الأحقاف: 15)، و﴿حَمَلَتْهُ أمّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ﴾، (لقمان: 14)، وفي الآيتين تأكيد على المشقّة التي تتسّبب بها الأمومة، إلا أن هذا لم يغيّر في التصورات السائدة عن الأمومة، التي لم تخرج عن المنظومة السابقة، وأُعرض عما جاء في القرآن الكريم، أو فُسّر بطريقة تدعم وجهة نظر الثقافة السائدة، ولذلك جرى التأكيد بشكل أكبر على ما ورد في الأحاديث النبوية، وذلك لتأكيدها على ضرورة الأمومة وأهميّتها، فقد ورد في الحديث: "تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم"[6]، و"تناكحوا، تكاثروا، تناسلوا؛ فإني مباهٍ بكم الأمم يوم القيامة"[7]. ونالت المرأة نصيبًا عظيمًا من الإكرام في الإسلام بوصفها أمًّا، فالرسول أوصى ثلاث مرات بالأمّ قبل أن يذكر الأب: "أمّك ثم أمّك ثم أمّك...ثم أبوك"[8]، وحينما سألت السيدة عائشة النبيَّ الكريم: أيّ الناس أعظم حقًّا على المرأة؟ قال: "زوجها"، قالت: "فأيّ الناس أعظم حقًّا على الرجل؟ قال: أمّه"[9]. وجرت إضافات كثيرة على النصوص الدينية، ألحقتها الثقافة الاجتماعية، والموروث الشعبي من مقولات، وأمثال وأشعار، اكتست صفة القداسة جميعها في إعلائها من الأمومة وضرورتها، بلغت حدّا جعل "الجنّة تحت أقدام الأمّهات"، واطّرد ذلك في الأمثال الشعبية "الأمّ بتلمّ" و"الذي مَا له أمّ يحفر ويطمّ"، وفي رواية أخرى "حاله يغم"، و"المرا بلا ولاد بحال الخيمة بلا وتاد"، والمرأة العاقر "شجرة بلا ثمرة، حلال قطعها". وقد شاع بين عامة الناس قول الشاعر حافظ إبراهيم (1872 - 1932م):

الأُمُّ مَـدرَســةٌ إِذا أَعـدَدتَـها                  أَعدَدتَ شَعبًا طَيِّبَ الأَعراقِ

الأُمُّ رَوضٌ إن تَعَهَّدَهُ الحَيا                  بالـريِّ أَورَقَ أَيَّـمـا إِيـــراقِ

الأُمُّ أُستـاذُ الأَسـاتِـذَةِ الأُلـى                  شَغَلَـت مَآثِرُهُـم مَـدى الآفاقِ

ينبغي أن تكون المرأة أمًّا، وهي ليست شيئًا يذكر إذا غاب دورها بوصفها كذلك. واستنادًا إلى هذا الإرث الديني والشعبي والشعري، وهذا قليل منه، كُرّست صورة نمطية تربط ما بين الأنثى والأمومة، فلا انفكاك بينهما، ومن خارج المعقول أن تكون المرأة إنسانًا سويًا، إن لم تكن أمًّا منجبة وحاضنة، وهي تستطيع ذلك، وإن لم يحدث فهو عصيان صريح للإرادة الإلهية من طرف أضعف البشر، وحينما يتعذّر على المرأة الإنجاب، أو أنها لسبب ما لا تتولّى دور الأمومة، فسوف تُبتلى بغضب الله، وقد يُفسّر ذلك على أنه ابتلاء من أجل امتحان قوة إيمانها.

حاولت الدراسات النسوية خلخلت مفاهيم كثيرة ارتبطت بحال المرأة، ومنها وهم الأمومة، الذي ما كان من طبيعة المرأة، إنّما من ثقافة المجتمع الذي تعيش فيه

إن التراث الإنساني زاخر بالحكايات، والأمثال التي تعبّر عن التصوّر السابق؛ الأمر الذي أدّى إلى تصنيف الأمومة على أنها صفة لصيقة بكل امرأة تسعى إلى تحقيق ذاتها، إذ ساد اعتقاد أن الطفلة تولد أمًّا بالفطرة، وركّز الشرح التقليدي على قدرة المرأة التناسلية، ورأى في الأمومة هدف المرأة الرئيس في الحياة، معرفًا ضمنيًا النساء اللواتي لا يصرن أمهات أنّهن منحرفات، ونُظر إلى وظيفة المرأة بوصفها ضرورة للنوع واستمراره، وسوّغ المدافعون عن النظام الأبوي تعريف النساء عبر دورهن الأمومي، وإقصائهن من الفرص الاقتصادية والتربوية على أنه يخدم المصالح الأفضل لبقاء النوع، وكان تكوينهن البيولوجي ووظيفتهن بوصفهن أمهات هما سبب عدّ النساء غير ملائمات للتعليم والعمل؛ فالطمث وسنّ اليأس وحتى الحمل، كلّها نظر إليها على أنها حالات ضعف، أو مرض، أو تشوّه، جرّدت النساء من القدرة وجعلتهن أدنى[10]، وبقي هذا الاعتقاد قابعًا في الخيال المجتمعي، إلى أن جاءت الدراسات النسوية، التي حاولت خلخلت مفاهيم كثيرة ارتبطت بحال المرأة، ومنها وهم الأمومة، الذي ما كان من طبيعة المرأة، إنّما من ثقافة المجتمع الذي تعيش فيه؛ ويؤكد ذلك عبد الله إبراهيم مشيرًا إلى أن الثقافة العامة، بل والفكر الفلسفي والديني، لم يدّخروا وسعًا في اختزال المرأة "إلى كائن دوني مُنح دورًا هامشيًا في الحياة، وإذا نُظر بموضوعية إلى ذلك الموقع الذي حُبست فيه المرأة، وشوّه عمقها الإنساني، نفهم النبرة النقديّة القاسية التي ميّزت الفكر النسوي في تحليله للثقافة الأبويّة-الذكورية، ومحاولته تفكيك الركائز التي تقوم عليها"[11]. وقد كشفت "بيتي رولن" عن أن الاعتقاد بالرغبة في الأمومة أمر غريزي، أو واجب بيولوجي، هو الخطأ بعينه، إذ أظهرت التجارب أن الأمومة، والسلوك التزاوجي يُتعلمان، وليسا غريزيين[12].


 

[1]- ويلكين، ج. أ: الأمومة عند العرب، دراسة في أنماط الأنوثة والنكاح، تر: الدكتور بندلي صليبا الجوزي، المركز الأكاديمي للأبحاث، العراق، تورنتو، كندا، بيروت، ط1، 2014، ص20، 24-25، 50-51

[2]- رولن، بيتي: الأمومة...ومن الذي يحتاج إليها، ضمن كتاب الذكر والأنثى بين التميز والاختلاف، مقالات مختارة، تر: محمد قدري عمارة، مرا: إلهامي جلال عمارة، تقديم: هالة كمال، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ط1، 2005، ص382

[3]- المرجع نفسه، ص382

[4]- المرجع نفسه، ص382

[5]- بوحديبة، عبد الوهاب: الإسلام والجنس، تر: هالة العوري، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط2، 2001، ص300

[6]- رواه النسائي وأبو داوود والإمام أحمد.

[7]- أخرجه البيهقي عن سعيد بن أبي هلال في سننه.

[8]- ينظر الحديث كاملا عن أبي هريرة، وهو متفق عليه، رواه البخاري (506 ح5971)، ومسلم (1124 ح2548).

[9]- رواه النسائي (5/363 ح9148)والحاكم في المستدرك، (4/193ح 7338 ).

[10]- ليرنر، غيردا: نشـأة النظام الأبوي، تر: أسامة إسبر، مرا: الأب بولس وهبة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1، 2013، ص45-46، 49

[11]- إبراهيم، عبد الله: السرد النسوي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 2011، ص61

[12]- رولن، بيتي: الأمومة...ومن الذي يحتاج إليها، ص379-381