تقديم كتاب "الصّوفيّة بإفريقيّة: سِيَر الرجال وسَيْر الأفكار" لزهير بن يوسف


فئة :  قراءات في كتب

تقديم كتاب "الصّوفيّة بإفريقيّة: سِيَر الرجال وسَيْر الأفكار" لزهير بن يوسف

صدر عن كلّيّة العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة بتونس كتاب "الصوفيّة بإفريقيّة سِيَرُ الرّجال وسَيْر الأفكار" في طبعته الأولى سنة 2018 للأستاذ زهير بن يوسف المهتمّ بالبحث في المقدّس الشعبي رموزا ومؤسّسات، والمنشآت الرّوحيّة معمارا وأدوارا، وهو من مواليد مدينة باجة، وخرّيج دار المعلّمين العليا متحصّل على شهادة الدّكتوراه في اللّغة والآداب والحضارة العربيّة، ويشغل خطّة أستاذ الحضارة بكلّيّة العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة 9 أبريل بتونس، وله عدّة بحوث ودراسات منشورة في مجلاّت ثقافيّة وعلميّة مختصّة، فضلا عن نشاطه الحقوقي صلب الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان.

والكتاب ضخم يمتدّ على 668 صفحة، وهو في الأصل أطروحة دكتوراه أنجزت تحت إشراف الأستاذ كمال عمران، وتتنزّل ضمن البحث في "الأدب" المنقبي العربي الوسيط، وهو أدب مازالت الدراسات حوله محدودة ومنشورات مصادره محتاجة إلى كثير من الجهد فأغلب ما كتب فيها مخطوط أو مفقود، وتكمن أهمّيته في مدى تعبيره عن "الثقافة العامة" أو "الإسلام الشعبي"، فهو صدى لما يعتمل داخل مختلف الشرائح الاجتماعيّة، وخاصّة الشعبيّة، من آمال وطموحات ومشاغل أفصحت عنها جملة الأخبار التي سجّلتها لمن عدّوا أولياء أو نسب إليهم الصلاح بما يحمله من خصال وقيم ارتقت في المتخيّل الشعبي إلى ضرب من القداسة الخارقة للزمن (قداسة الولي حيّا وميتا)، ورسمت ملامح السلوك الأنموذجي المنشود. ويفسّر زهير بن يوسف قلّة الدّراسات والبحوث في هذا الموضوع بفكرة درجت في أوساط الباحثين في التاريخ والحضارة الحديثين مفادها أنّ مثل هذا الأدب أعلق بالمشتغلين بالعقائد والأديان والمباحث الفقهيّة والأدب...لكثافة حضور العجيب والأسطوري فيه، فضلا عن الاعتقاد في غياب الإضافة الفكريّة لدى أعلام التصوّف الإسلامي وشيوخ الزوايا في العصر الوسيط "فلم يتعدّ دورهم في أحسن الحالات مجرّد تكريس النُّظم المعرفيّة المتقادمة، إن لم ينتكسوا بها في متاه التبسيط والتسطيح والانقياد باتّجاه الذّهنيّة الخرافيّة، وكانوا بذلك صدى باهتا للواقع التاريخي أكثر منهم تعبيرا صادقا عنه وفعلا حقيقيّا فيه"[1]. ويرى في هذا الموقف حضورا لجانب من الأحكام المعياريّة والانتقائيّة المتعسّفة مثمّنا عددا من البحوث المنجزة في هذا الباب مكّنت في نظره من "تمثّل العديد من جوانب الفكر العرفاني الوسيط والاطّلاع على مختلف شواغل أعلامه والإطلال على آليّات التفكير وطبيعة العقليّات التي شهدتها الفترة الوسيطة"[2]. وقد أتاح ذلك تنوّع المقاربات المنهجيّة لمثل هذا الموضوع، وهو ما أفاد الباحث منه في تقصّيه المدوّنة المنقبيّة والشخصيّات الولائيّة التي صُنّفت من أجلها، وفي سعيه إلى تقديم عمل أكثر إحاطة وشموليّة بالظّاهرة موضوع الدّرس.

وقد اختار زهير بن يوسف حصر اهتمامه في العهد الموحّدي والعصر الحفصي الأوّل؛ أي من سنة 555هـ/1160م إلى حدود سنة 700هـ/1301م وفي منطقة جغرافيّة محدّدة عرفت في المصادر العربيّة الوسيطة باسم إفريقيّة، وإن كانت حدودها محلّ اختلاف، وهو ما دفع إلى التركيز على المجال الموافق للبلاد التونسيّة في عصرنا الرّاهن. ولم يفته أنّ جانبا كبيرا من المدوّنة المعتمدة في بحثه قد كُتبت في مرحلة متأخّرة عن الفترة التي اختار واستثمر ذلك للبرهنة على مشروعيّة الكتابة في الموضوع، لكونه اعترافا بقيمة الظاهرة الولائيّة وترسّخها وانتشارها في عصر الموحّدين وبدايات العهد الحفصي ببروز من عدّوا أقطابا وروّادا في التجربة الصّوفيّة. وأبان الباحث عن طبيعة مقاربته للأدب المنقبي وخصوصيّتها والغاية منها في قوله: "نريد أن نتوصّل إلى استنباط قراءة تسترفد تخصّصات متعدّدة وتستلهم زوايا إضاءة مختلفة حجر الزّاوية فيها تعقّب الجوانب الثّقافيّة والأنثروبولوجيّة/الإناسيّة لمسألة التصوّف والتديّن الشعبي المرتبط بها واستكناه خصوصيّاتها بالفضاء الإفريقي أو المغربي الأدنى، انطلاقا من الصّورة التي تنعكس لها في الكتابات المنقبيّة المعتمدة والمجموع العام للتّصانيف المكمّلة لها أو المترافدة معها بالتّزامن مع محاولة تتبّع الواقع التّاريخي من حيث مدى حضوره في هذه الآثار.."[3].

واشتمل الكتاب على مقدّمة وخاتمة وأربعة أبواب، توزّعت على النحو التّالي:

- المقدّمة وقد طرح فيها إشكاليّة البحث ونزّلها ضمن الاهتمام بالأدب المنقبي وعرض لبعض أسباب العزوف عن تناوله، ليبرز في المقابل قيمته وتنوّع المقاربات التي تناولته وأهمّيّة ما توصّلت إليه من نتائج على الرغم من بعض الصعوبات والعوائق، وشرح دوافع اختياره هذه الإشكاليّة وحصرها تاريخيّا وجغرافيّا، فضلا عن الجوانب المنهجيّة المعتمدة والغايات المنتظرة من بحثه.

-الباب الأوّل ورد تحت عنوان "الظّاهرة الصوفيّة: السّياق والينابيع"، وانقسم إلى فصلين: أوّلهما حول الإطار التاريخي لتشكّل الظاهرة الصّوفيّة بالمجال الإفريقي من بدايات العهد الموحّدي إلى صدر العصر الحفصي، والثاني اهتمّ بالتّصوّف في المجال الإسلامي العام تحديدا جذوره التّاريخيّة وتجلّياته النّظريّة. وقد غلبت على هذا الباب بفصليه القراءة التاريخيّة الوصفيّة، إذ تتبّع فيه الباحث السياقات التاريخيّة لنشأة التصوّف وصلته بنظم المعرفة في الفكر الإسلامي التقليدي، وتطوّر الظاهرة الولائيّة عامة وبدايات الآثار المنقبيّة ومؤشّرات انتشارها، واهتمّ بالمجال الإفريقي خاصة متوقّفا على ثلاثة من رجالات الزهد والتصوّف في القرنين الرابع والخامس الهجريّين (عبد الرحمن الصقلّي وأبو إسحاق الجبنياني ومحرز بن خلف) اعتبرهم نماذج ولائيّة متطوّرة، وسعى إلى تحديد مميّزات تجاربهم الروحيّة وموقعها من التجربة الولائيّة الإفريقيّة من خلال استحضار جانب من سيرتهم وفكرهم قصد تأكيد مدى إشعاعهم وتأثيرهم.

- الباب الثّاني سمّاه "المدوّنة المنقبيّة، رصد وعرض"، واحتوى أربعة فصول أوّلها حول المناقب معناها وجذورها وإرثها والثاني في معنى المدوّنة المنقبيّة. أمّا الثّالث، ففي مصادر الأخبار المنقبيّة والرابع تعريف بمؤلّفي المناقب واضعيها وجامعيها. والملاحظ من عناوين هذه الفصول أنّه ركّز على جملة من التعريفات، فقد قدّم مفهوم المناقب وأنواعها ومصادر المعرفة فيها فضلا عن ذكر بعض مؤلّفيها وعدد من أبرز عناوينها، وتميّز عرضه بالشمول والدقّة ولم يخل من طرح إشكاليات تمسّ مضامين هذه المدوّنة وأشكال ترتيب مادتها وخطّتها وصلة المؤلّفين بالأولياء المذكورين فيها، وأثر ذلك في انتقاء الأخبار وتوجيه فهمها.. وأكّد في ثنايا عرضه موقع هذه المادّة المنقبيّة في عموم مصادر بحثه المعتمدة لتقصّي تجلّيات التجربة الصّوفيّة والظاهرة الولائيّة تحديدا في سياقها الحضاري والتاريخي، وهو ما دعاه إلى البحث في جذور هذا الصنف من الكتابة في التراث الإسلامي القديم والوسيط مشرقا ومغربا، واقتفاء مناهل الخبر فيها شفويّا كان أو مكتوبا... إلاّ أنّ رغبة الباحث في عرض معطيات تفصيليّة متّصلة بهذه المدوّنة وتاريخها غلب على الجانب التحليلي والنقدي فكان عرضه إجمالا وصفيّا مقارنيّا.

- الباب الثالث خصّصه زهير بن يوسف لـ"تراجم أعلام المدوّنة المنقبيّة: عرض وتحليل" وميّز فيه بين أربعة أصناف أو نماذج ولائيّة، وهي: الوليّ المؤلّف، والوليّ المدرّس والوليّ الصّاحب والنموذج الولائي النّسائي، واستنادا إلى هذا التّمييز توزّعت فصوله الأربعة. وقد اعتنى بمحاولة إعادة تشكيل سير عدد من الأولياء الذين احتفت بهم كتب المناقب في الفترة الزمنيّة التي اهتمّ بها البحث، فتتبّع تكوينهم الفكري وذكر آثارهم أو نتفا من مقالاتهم وكتبهم أو الخطوط الكبرى لتجاربهم الولائيّة ورصد أشكال تفاعلهم وتعاطيهم مع كلّ من السّلطة السياسيّة والسّلطة الدّينيّة والسّلطة الاجتماعيّة وقد تراوحت بين الانسجام والتناغم حينا وبين التناقض والصّدام حينا آخر.. ولم يفت الباحث أنّ بأنّ مثل هذا التشكيل السّيري هو من الصعوبة بمكان، ولا تكفي المدوّنة المنقبيّة وحدها مصدرا للتاريخ. ولم يخل هذا الباب من طرافة تمثّلت خاصّة في الإعلان عن بعض الشخصيّات الولائيّة المغمورة خاصة في الأنموذج الولائي النّسائي، وكذلك محاولة الباحث الحفر في المرتكزات الموضوعيّة لسير هؤلاء الأولياء ودلالات حضور الجانب العجائبي اللافت للنظر فيها، وتوقّفه على طبيعة اللغة الرمزيّة الموظّفة في الخطاب المناقبي والعوالم التي تعبّر عنها في تزاوج فريد بين الأدبي واليومي، وبين "اللغة الرسميّة" و"اللغة الشعبيّة". إضافة إلى عنايته بظاهرة الكرامة ودلالاتها وموقعها في الذهنيّة العرفانيّة في العصر الوسيط "باعتبارها معطى من معطيات المخيّلة واللاوعي الجماعي وإنتاجا اجتماعيّا مرتبطا بظواهر المجتمع المتأثّرة بالأوضاع التّاريخيّة وضربا من ضروب إعادة الخلق البشري للعالم وصياغة جديدة لقوانينه يهدف إلى المحافظة على تقدير الذّات لذاتها والاستقرار مع حقلها والردّ على مجمل الظّروف الاجتماعيّة القاسية والأوضاع السّياسيّة التي قمعت الشّخصيّة العاديّة وقهرتها"[4].

- الباب الرّابع عنوانه "المشهد الصّوفي بالمجال الإفريقي من بدايات العهد الموحّدي إلى منتهى القرن ІІV/ІІІX" وفيه فصلان خصّ الأول منهما للبناء النظري وروافده. أمّا الثّاني، فكان للمراكز والمؤسّسات. وقد اعتنى الباحث ضمن هذين الفصلين بروافد التجربة الولائيّة بإفريقيّة مشرقا ومغربا أشخاصا ومدارس، فعرّف بها وذكر أهمّ مميّزاتها ومجالات تأثيرها ثمّ ذكر أبرز مراكز النشاط الصّوفي ومؤسّساته، معتمدا تصوّرا جديدا لمراكز الاستقطاب والإشعاع الصّوفي داخل المجال الإفريقي مختلفا عن ذاك الذي قدّمه روبار برانشفيك في كتابه "تاريخ إفريقيّة في العهد الحفصي". وانتهى في هذا الباب إلى تثمين انفتاح التجربة الصوفيّة بإفريقيّة على مختلف روافد التجربة العرفانيّة وقدرتها على استيعابها ودعمها ولو نسبيّا برؤى وتصوّرات جديدة دلّت على خصوصيّة هذه التجربة وحركيّتها، وهو ما أتاح لها الانتشار والاستمراريّة، وكان سببا في شهرة أعلامها وتداول مقالاتهم والاعتراف لهم بالتفرّد والصّلاح.

وختم زهير بن يوسف بحثه بجملة من الاستنتاجات عدّها من المقوّمات الأساسيّة والثوابت القارة في الأنموذج الولائي الذي أعلنه الخطاب المنقبي، وسعى إلى ترسيخه وتكريسه، ومنها خاصّة ما اقترن بالوظائف المسندة إلى الوليّ وتكاد تنحصر في بعدين أولهما اجتماعي وثانيهما سياسي على ما بينهما من اتصال وتقاطع، من ذلك الإقرار بالانخراط العضوي والموضوعي في تأمين البلاد داخليّا وخارجيّا، فالوليّ موكول إليه التصدّي لأيّ عدوان خارجي، إن من خلال المشاركة المباشرة في القتال أو عبر الدّعاء وشحذ الهمم عبر التنبّؤ مثلا بالنّصر، والوليّ أيضا ضمانة للسلم الاجتماعي بتصدّيه مثلا لحياة "الحرابة" وقطع الطّرق وتقديمه المثال والقدوة في السلوك لغيره وتدخّله لفضّ النزاعات وانتصاره للعدل وأخذه بيد المظلومين والفقراء والمستضعفين فضلا عن دوره التعليمي وحرصه على الجمع بين الحقيقة والشريعة.. إضافة إلى اضطلاعه بمنح "الشرعيّة" للسّلطة السّياسيّة أو سلبها منها أو حسمه في الصّراعات السّياسيّة التي قد تنشب بين مختلف الأطراف المتصارعة على الحكم.. وقد قدّم زهير بن يوسف أمثلة دقيقة ومفصّلة عن مختلف الأدوار والوظائف التي سجّلتها كتب المناقب للأولياء واحتفت بها، ليؤكّد أهمّيّة التصوّف في موفّى القرن السّابع للهجرة/الثالث عشر ميلادي، حيث أضحى "جزءا لا يتجزّأ من المشهد الاجتماعي والسّياسي القائم، مثلما أنّه أمسى بما كان له من دور نظري وتربوي جزءا لا يتجزّأ من المشهد الثقافي والدّيني المهيمن كما أنّه صار من ناحية أخرى بما أصبح يتفرّد به من مؤسّسات جزءا من المشهد العمراني"[5]، وهو ما ستكون له آثار عميقة في ما سيتلو من قرون.

لقد دلّ هذا الكتاب على جهد كبير في جمع مادّة المناقب من متونها المخطوط منها والمنشور، وكذلك توزيعها وتبويبها، وقد كان فيه الباحث وفيّا لبعض ما أعلنه في مقدّمته من سعي إلى إعادة تشكيل سير الأولياء واستقصاء أفكارهم، وهو أمر لم يخل من إشكاليّات منهجيّة أساسا انتبه إليها زهير بن يوسف، وحاول تلافيها ليكون عرضه على قدر من الشمول والإحاطة بموضوع بحثه ورصيدا يمكّن المهتمّين بهذا النوع من البحوث من تجنّب كثير من المطبّات والعراقيل في مستوى جرد المادّة وتدقيقها وسبل الاستفادة منها، فمن رام الحفر في تجربة أبي مدين شعيب الصوفيّة أو تجربة أبي الحسن الشاذلي أو عبد العزيز المهدوي أو أبي علي النفطي أو أبي سعيد الباجي... يجد في هذا الكتاب ضالته من حيث التعريف بسير هؤلاء ومؤلّفاتهم وسياقات فكرهم وسلوكهم التاريخيّة والمعرفيّة والاجتماعيّة والسّياسيّة، ويظفر بتدقيق صلاتهم وملامح تقاطع تجاربهم الولائيّة. إلاّ أنّ الجهد التاريخي والوصفي غلب على البعد التحليلي النقدي ونلمس هذا خاصة في تتبّع الجانب الفكري أو النظري لمختلف الشّخصيّات الصوفيّة المتناولة في هذا الكتاب، على الرغم من اعتراف الباحث بقيمته وخصوصيّته، إذ اكتفى بعرضه عرضا لم يخل من تعميم واختزال في كثير من المواضع يكاد يتحوّل إلى أحكام يقدّمها زهير بن يوسف استنادا إلى دراسات اطّلع عليها قد يكون بعضها فاقدا للمصادر التي أتيح له الحصول عليها أو أوردها في كتابه، وهو ما حال دون الوقوف حقيقة على سِيَر هذه الأفكار، سواء في تطوّرها الدّاخلي عند الصّوفيّ نفسه أو في تطوّرها العامّ بين مختلف الصّوفيّة الذين عاشوا في الفترة المعنيّة بالبحث، وكذلك في امتداداتها وحجم تأثيرها في التجربة الصوفيّة مشرقا ومغربا. فلا نعرف مثلا مواضع التواصل الفكري بين كلّ من عبد العزيز المهدوي ومحيي الدين بن عربي، ولا يكفي ههنا التنصيص على أنّ الثاني تلميذ للأوّل وخصّه برسالة يعترف له فيها بفضله عليه وبرقيّ تجربته الروحيّة وتفرّدها، سيّما وقد ظفر الباحث بنصيب محترم من مؤلّفات المهدوي ومقالاته منشورا ومخطوطا، وكان بالإمكان أن يكون له السّبق في إماطة اللثام عنها والكشف عن خصوصيّتها، وهو ما تجلّى أساسا في كتاب "محجّة القاصدين وحجّة الواجدين" بترتيب علي بن عبد الرحمن البجائي وقد حقّقه ونشره هشام عبيد ضمن كتابه "الشيخ عبد العزيز المهدوي وتراثه الصوفي" سنة 2016 عن المجمع التّونسي للعلوم والآداب والفنون (بيت الحكمة)، فضلا عن منشورات أخرى لمخطوطات ذكرها زهير بن يوسف ولكن لم يكن في كتابه صدى لمحتوياتها.

إلاّ أنّ هذا لا يقلّل من قيمة الكتاب والمجهود الذي بذله صاحبه فيه في الكشف عن تراث صوفيّ مغمور والإبانة عن ثرائه وقيمته وتنوّعه في حيّز جغرافي وزمني مخصوص هو إفريقيّة بين سنتي 555هـ/1160م و700هـ/1301م، وهو تراث تمكّن أصحابه من استيعاب التصوّف المشرقي والمغربي على حدّ سواء وهضمهما والإضافة إليهما، وهو ما جعل فكرهم وأدبيّاتهم متداولة فاعلة إلى أيّامنا هذه، بل علامة فارقة في التصوّف التونسي والإسلامي عامة سلوكيّا ونظريّا. فضلا عن أنّ هذا الكتاب تجاوز أسلوب التعاطي مع المصادر المنقبيّة انطلاقا من أحكام معياريّة أو مسبقة تدينها وتقلّل من قيمة الرصيد المعرفي الذي تقدّمه، ومكّن في المقابل من بيان سبل استثمار مثل هذه المصادر بطريقة علميّة ومنهجيّة سمحت بإعادة تشكيل البنى الثقافيّة والسياقات الاجتماعيّة والسياسيّة والعرفانيّة التي أفرزتها فكانت مرآة عاكسة لها من زاوية مخصوصة ومتميّزة لها خلفيّاتها ومرجعيّاتها التي لا تقلّ أهمّيّة عن الرؤية "العالمة"، بل لعلّها أكثر تأثيرا وتداولا لالتصاقها بمختلف الشرائح الاجتماعيّة واستجابتها لأفق انتظار عام في نحت ملامح النماذج الولائيّة. وهكذا كان الكتاب فرصة لـ"استشراف الجوانب الكامنة من الذّات الإسلاميّة التّقليديّة الوسيطة واستكشاف القطاع المقنّع، المهمل والمضمر في التاريخ والذّات وتملّك النّشاط المكبوت في الفكر والإرادة والسّلوك واكتناه النّواة المجهولة لمختلف مظاهر السّلوك"[6].

[1] بن يوسف زهير، الصوفيّة بإفريقيّة سِيَرُ الرّجال وسَيْر الأفكار، ط1، تونس: كلّيّة العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة بتونس، 2018، ص 9

[2] بن يوسف زهير، الصوفيّة بإفريقيّة سِيَرُ الرّجال وسَيْر الأفكار، ص 11

[3] بن يوسف زهير، الصوفيّة بإفريقيّة سِيَرُ الرّجال وسَيْر الأفكار، ص 15

[4] بن يوسف زهير، الصوفيّة بإفريقيّة سِيَرُ الرّجال وسَيْر الأفكار، ص 29

[5] بن يوسف زهير، الصوفيّة بإفريقيّة سِيَرُ الرّجال وسَيْر الأفكار، ص 618

[6] بن يوسف زهير، الصوفيّة بإفريقيّة سِيَرُ الرّجال وسَيْر الأفكار، ص 29