بدء الخلق وأثره في الفكر الصّوفي


فئة :  مقالات

بدء الخلق وأثره في الفكر الصّوفي

تعدّ مسألة خلق العالم عمومًا، والإنسان على وجه الخصوص من المسائل الجوهريّة الّتي شغلت مختلف أشكال الفكر البشري وخاصة الفكر الديني منها؛ فقد التمس المفكرون من خلالها إجابات عن أسئلة طالما حيّرتهم، تعلّقت أساسًا بالوجود البشري وماهيته وفاعليّته وأبعاده وغاياته وصلاته بما حوله.

ولم يشذّ الفكر الصّوفي عن هذه النّاحية، فقد شكّل تمثّل الصّوفيّة لفكرة الخلق رافدًا أساسيًّا لمقولاتهم ومواقفهم أو تصوّراتهم للذّات الإلهيّة والذّات البشريّة والكون...إلخ، بل حكم حتّى توجّهاتهم السّلوكيّة، وكيّف إلى حدّ بعيد نظرتهم إلى الطّريق الصّوفي، وما يمرّ به السّالك أثناءه من مقامات أو يطرأ عليه فيه من أحوال أو ما قد يرد عليه خلاله من مشاهدات وكرامات، وأثّر حتّى في كيفيّة تفاعلهم مع واقعهم وبيئتهم؛ فالباحث في مفاهيم التوحيد والولاية والحب والمعرفة وغيرها من المفاهيم عند الصّوفيّة، يجد أنّها تصدر دائمًا عن تصوّرهم لقصّة الخلق، من ذلك أنّ درجات الولاية ومراتب السّالكين مثلاً ما هي إلاّ انعكاس لمراتب المخلوقات، وكذلك الشّأن فيما يتّصل بقضيّة الجبر والاختيار أو الكفر والإيمان أو خصائص النّفس البشريّة وسبل التّعامل معها؛ فجميع هذه المسائل تجد حلولها في فهم عمليّة الخلق وأطوارها ومقاصدها.

ويكفي أن نستحضر هنا نصّين كثيرًا ما استدعاهما الصوفيّة، انطلاقًا من كونهما عندهم من الأحاديث القدسيّة، لإضفاء المشروعيّة على نهجهم التعبّدي؛ ففهمهما بالطريقة التي قدّمتها مصنّفات التصوّف ييسّر إلى حدّ بعيد إدراك أبعاد تجربتهم ومقاصدها التي رسموها لأنفسهم وأعلنوا اختصاصهم بها.

أما النصّ الأوّل، فيقول: "كنت كنزًا مخفيًّا، فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق وعرّفتهم بي فبي عرفوني". وفي رواية أخرى "أردت أن أعرف...". ومتن النصّ الثاني: " ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي من أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ومن أحببته كنت له سمعًا وبصرًا ويدًا."

ولا يجد الصوفيّة حرجًا في إيرادهما على اختلاف طرق روايتهما، ولا يقيمون وزنًا لصحّتهما أو ضعفهما أو حتّى وضعهما؛ فالغاية عندهم الفكرة المتضمّنة فيهما ومفادها أنّ أصل الخلق قائم على المحبّة: محبّة الله للمعرفة ولكنّها معرفة مخصوصة متفرّدة هي معرفة الذات الإلهيّة نفسها بنفسها، فلا يتاح معرفتها بغيرها، ومن ثمّ فإنّ السبيل إليها واحد لا بديل عنه والطريق إليه أيضًا واحد، وهو المحبّة. هذا ما يبرّر إلحاح الصوفيّة على تفرّدهم بأصناف المعارف والعلوم وتمييزهم فيها بين العلم الظاهر والعلم الباطن، وتأكيدهم أنّ الله قد اختصّهم بها حين اختبر صدق تعلّقهم به وحبّهم له وإخلاصهم في ذلك.

ومعيار هذا الاختبار حجم الجهد المبذول في التجربة التعبّديّة بغية إزالة الحجب التي تفصل العبد عن ربّه، وفي مقدّمتها نفسه الأمّارة بالسوء ومن عادتها الجذب إلى عالمها الأرضي المدنّس ومتطلّباته. والصوفي متى صمد والتزم مقاومة هذه النفس وهواها، ضَمن إلى حدّ بعيد صفاء روحه، وقرب التحامها بعالمها السماوي المقدّس، ويتوقّف هذا على التدخّل الإلهي أو المنّة الربّانيّة، وبها يتوّج المجهود ويكون علامة على عمق المحبّة بين العبد وربّه. ومن هنا، جاء الحديث عن الإكثار من النوافل أو فعل التعبّد عامة، وعملوا على وضع ضوابط تميّزهم في ذلك عن عامّة العبّاد، ومنها تحقّق درجة من الامتلاء الروحي تمكّن من دوام استحضار الذات الإلهيّة في وجدان المتعبّد وفنائه فيها، وهو ما سمح بانفتاح تجربتهم على مختلف العقائد والديانات بما فيها الوضعيّة.

فهذا الضابط أكّد الطابع الفردي للتجربة الصوفيّة، وألحّ على الجانب الوجداني والروحي بقطع النظر عن الوسيلة المتاحة؛ فالمحبّة ترد في مقدّمة مطالب الصوفيّة وبلوغ الذروة فيها مطمحهم، وعلامتها عود على بدء؛ أي تسليم كلّيّ لله شبيه بتسليم أوّل تمّ لحظة الخلق حين كلّم الخالق عباده، وهم بعد في مرحلة الذرّ لا وجود عينيّ لهم روحًا وجسدًا، وفي هذه اللحظة تستوي المخلوقات البشريّة جميعها؛ فانتماءاتها ستكون لاحقة لوجودها الفعلي على وجه الأرض.

ويفضّل الصوفيّة في هذا السياق، استدعاء فكرة الميثاق عبر توظيف تأويل الآية 172 من سورة الأعراف ومتنها :"وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهًورِهِمْ ذُرِّيَتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِين". يستدلّون بها على وضع أوّل عاشته البشريّة وأقرّت فيه مجتمعة بمبدإ التوحيد واستمعت إلى الله مخاطِبًا مباشرًا، وهو الوضع الأمثل في عرفهم حشدوا له من النعوت والصفات أفضلها؛ فهو أنموذج الصفاء والنقاء والطهر والصدق وعلامة الإيمان الحق، من تمكّن من تحيينها وفى بعهده، وأخلص لميثاقه، واستحقّ اصطفاء الله له وقربه منه.

ويذهب الصوفيّة إلى أنّ لحظة الخلق هذه افترضت وجود البشريّة بالقوّة، وهي مرحلة روحيّة بامتياز، لم تكن الأجساد فيها حاضرة بعد، ليتحقّق ما أسموه بـ"المزجة الكونيّة" (العبارة لعبد العزيز المهدوي (توفي 621هـ/1224م) (المهدوي، مخطوط، ورقة 97). ولهذا كانت المخلوقات الآدميّة في مرتبة واحدة، لم تنطق بذواتها، وإنّما أنطقها ربّها. والمرحلة التالية سيقع فيها الامتزاج بين الروح ومكونات الجسد الأرضيّة أو الطينيّة، فتستوي ذواتًا بشريّة مستقلّة لها وجودها الخاص وهويّتها المميّزة، يقول أبو سعيد الخرّاز (توفي سنة 279 هـ): "فلمّا خلق الله نفوس الخلق وطباعها تميّزت أرواح الأولياء ونفوسهم وطباعهم عن أرواح الأعداء ونفوسهم وطباعهم. فأرواح المؤمنين كارهة لأبدانهم وأبدانهم سجون أرواحهم وأرواح الكافرين طائعة لأبدانهم فأبدانهم بساتين أرواحهم" (الخرّاز، 1976، ص ص 195-196).

وانطلاقًا من هذه اللحظة، تبدأ رحلة العبد، إمّا في اتّجاه الالتصاق بالعالم الأرضي والتشبّث به عبر الإنصات إلى نداءات جسده ونفسه البشريّة، أو يجذبه الحنين إلى لحظة الميثاق ويغلبه الشوق إلى ربّه، فيسعى إلى تحيين لحظة الذرّ بإشباع مطالب روحه وتخليصها من ربقة الجسد وأسر عالمه الأرضي وظلمته.

وليست هذه الرحلة حكرًا على مرحلة الدعوة الإسلاميّة وما بعدها، بل هي شاملة لكافة الآدميّن مذ وجدوا على وجه البسيطة، وهو ما يفسّر في عرف الصوفيّة تعاقب الأنبياء والمرسلين، لتعديل الوجهة وتذكير العباد بلوازم الطريق إلى الله وآدابه وشروط النجاح فيه، وهو تعاقب قرأ فيه رجال التصوّف تطوّر الوعي البشري وتدرّجه نحو الرشد والنضج. فانقطاع الرسالات وسلسلة النبوّة اعتراف ببلوغ البشريّة طورًا من الاكتمال يفترض منها الاعتماد على الذات لإدراك سبيل التوفيق، بعد أن اتّضحت المراتب وضبطت مكوّناتها وخصائصها، والباحث في هذا السياق يعثر في مفهوم الحقيقة المحمّديّة وأبعادها، مثلما تمثّلها الصوفيّة، بيانًا للمطلوب اتّباعه والسير على منهاجه من جهة، وإفصاحًا عن علامات النجاح ودرجاته من جهة ثانية. فبالتوازي مع سلسلة الأنبياء والرسل توضع سلسلة المقامات والأحوال الصوفيّة ويرسم سلّم تفاضل الأولياء والعبّاد، حيث يكون الغوث أو القطب في أعلى الدرجات وأرقاها لاستيفائه كافة الشروط وإحاطته بمختلف أصناف العلوم والمعارف الإلهيّة واختصاصه بمحبّة الله وقربه وعليه يكون، حسب الصوفيّة، مدار الكون.

وانطلاقًا من هذه المعطيات، فإنّه يبدو منطقيًّا، في عرف التصوّف، ألا يمكن بلوغ الدرجة القصوى من القرب الإلهي أو درجة القطابة تحديدًا إلاّ لعبد مسلم موحّد مؤمن بالرسالة المحمّديّة، متمثّل لجوهرها محيط بمكوّناتها. أمّا عدا ذلك، فليس بالإمكان إلاّ بلوغ درجات أدنى قد ترقى إلى مقامات سائر الأنبياء والرسل، ولكنّها تعجز عن إدراك مرتبة ختم النبوّة أو النبوّة المحمّديّة التي عدّها الصوفيّة علامة النضج والاكتمال، ورأوا فيها جماع النبوّات وعصارتها، وهي عندهم فاتحة المخلوقات، وفي هذا يقول سهل التستري: "لله أنوار ثلاثة أوّل وثان وثالث؛ فالأوّل محمد الحبيب، صلّى الله عليه وسلّم، لأنّ الله تعالى لمّا أراد أن يخلق محمّدًا أظهر من نوره نورًا أنار المملكة كلّها. فلمّا بلغ العظمة سجد، فخلق الله من سجدته عمود نور مشفّ كالزجاجة... فيه عبد محمد صلّى الله عليه وسلّم بين يدي ربّ العالمين...قبل خلق الخلق بألف ألف عام... وخلق آدم من نور محمد، وحينئذ محمد من طين آدم... والثاني آدم والثالث من آدم ذريته..." (الديلمي، 1962، ص 33).

وهذا التمشّي عند الصوفيّة، يعزّز اعتقادهم في تفرّد تجربتهم وشمولها وقدرتها على تمثّل جوهر الإيمان وتحقيقه، وهو ما يفسّر استيعابهم لمختلف الشرائع والديانات وعدم تحرّجهم من استدعاء نصوصها والاحتجاج بها مع الإقرار بأنّ العدّة في النهاية ليست سوى قلب المؤمن ومدى امتلائه وتشبّعه بفعل المحبّة، وهو ما يختزله قول محيي الدين بن عربي:

أَدِينُ بِدِيـنِ الحُبِّ أَنَّـى تَوَجَّهَتْ رَكَائِبُهُ فَالحُبُّ دِينِي وِإيمَـانِي.

(ابن عربي، 1981، ص 45)


مراجع:

-ابن عربي، محيي الدين. (1981). ترجمان الأشواق. بيروت: دار صادر.

-الخرّاز،أبو سعيد. (1967). كتاب الفراغ وكتاب الحقائق، ضمـن رسـائل الخراز، تحقيق قـاسم السـامرائي. مجـلة المـجمع العـلمي الــعراقي، المجـلد الخامس عشر. مطبعة المجمع العلمي العراقي.

-الديلمي، أبو الحسن علي بن محمد. (1962). كتاب عطف الألف المألوف على اللاّم المعطوف. (ج.ك. فاديه، محقّق). القاهرة: مطبعة المعهد العلمي الفرنسي للآثار الشرقية.

-المهدوي، عبد العزيز. محجة القاصدين وحجة الواجدين، مخطوط بمكتبة آل عاشور، رقم243، الورقة 97 (وجه).