تقديم كتاب: مشكل الكليات في الفلسفة المعاصرة بقلم غابرييل غالوزو ومايكل جوناتان لوكس


فئة :  قراءات في كتب

تقديم كتاب: مشكل الكليات في الفلسفة المعاصرة بقلم غابرييل غالوزو ومايكل جوناتان لوكس

تقديم كتاب: مشكل الكليات في الفلسفة المعاصرة

بقلم غابرييل غالوزو ومايكل جوناتان لوكس

كلّ الفصول الواردة في هذا المجلَّد عدا فصلاً واحداً هي، في الأصل، أعمال ندوة مدارها على مشكل الكليّ في الفلسفة التحليليّة المعاصرة والملتئمة في دار المعلمين العليا في بيزا (pisa) إيطاليا في غضون شهر تموز/ يوليو (2010). والحقّ أنّ هذه النّدوة كانت جزءاً من مشروع ضخم تحت إشراف فرانسيسكو دال بانتا، يتعلّق بمشكل الكليّ على امتداد تاريخ الفلسفة. إنّ هدف هذه الندوة يتمثّل في منح نظرة شاملة في شأن المطارحات المعاصرة حول الكليّات، فضلاً عن ضبط القضايا التي يمكن أنْ يكون لها بالغ الأثر والأهميّة على مستقبل البحوث الميتافيزيقيّة.

وإنّه لمن العسر بمنزلة إيجاد توصيف شامل دقيق ليس مَحَلّ خلاف لتحديد جوهر مشكل «الكليّ» تحديداً دقيقاً. ومردّ هذا الأمر إلى حقيقة لا يمكن إنكارها، تتمثّل في أنّ المشكل يتقاطع مع عديد المواضيع الفلسفيّة التي تمتدّ من الميتافيزيقا إلى علم الدّلالة، ملقيةً بظلالها أيضاً على فلسفة الرياضيّات والإبستمولوجيا؛ ذلك أنّ المشكل في تاريخ الفلسفة قلّما وقع وصفه من منطلقات دلاليّة، على غرار التساؤل عن إمكان، أوْ عدم إمكان، أنْ تكون المصطلحات العامّة في اللغة الطبيعيّة تحيل إلى موجودات، وبذلك تقدّم أنواعاً خاصّة جزئيّة من الكينونات والكليّات التي تختلف، بوجه من الوجوه، عن الأشياء الفرديّة المألوفة في تجربتنا اليوميّة. وفي بعض الأحيان، نظر الفلاسفة أيضاً في الماضي إلى مشكل الكليّ، باعتباره قضيّة إبستيميّة معرفيّة خطيرة تُعنى أساساً بطبيعة مفاهيمنا:

هل المفاهيم العامّة تمثل كيانات عامّة أوْ كليّة؟ أو هل تمثّل بكلّ بساطة كيانات فرديّة بشكل عامّ؟

إنّ هذا المجلد يمتاز بمقاربة ميتافيزيقيّة موصولة بقضيّة الكليّ. فالمشاركون في هذا المصنَّف يتقاسمون فرضيّة مشترَكة قوامها أنّ مشكل الكليّ هو، أوّلاً، وقبل كلّ شيء، قضيّة ميتافيزيقيّة أنطولوجيّة تهتمّ أساساً بعدد مقولات الأشياء التي يجب علينا أنْ ندرجها في وجودنا. فهل محتويات العالم ممتدّة بصفة حصريّة إلى كيانات فرديّة؟ أو هل نحتاج إلى أنْ ندرج في سجلّ الأشياء تلكم الكليّات الموجودة كذلك؛ أيْ الكيانات التي تشترك في جزئيّات كثيرة، أوْ، على الأقلّ، يمكن أنْ تشترك فيها؟

فأنْ نتبنّى هذه المقاربة لا يعني قطعاً أنْ ننكر أنّ مشكل الكليّ يمكن أنْ يرتبط ارتباطاً ملحوظاً بعدّة ميادين مركزيّة في علم الدلالة والإبستمولوجيا. ومع ذلك، فالقضايا الدلاليّة والإبستيميّة يُنظر إليْها، ها هنا، باعتبارها نتائج مهمّة لمشكل ميتافيزيقييّ بالأساس.

إنّ هذا المجلّد، مثلما تُبيّن فصوله، يشمل قدراً عظيماً من المواضيع الدّائرة على طبيعة الكليّات، وعلى وجودها وعلاقتهما بالجزئيّات التي تمثّلها. وبالنّظر إلى اتّساع النقاش المعاصر حول الكليّات والآثار الكثيرة للمشكل ذاته، فإنّه من غير الممكن نشدان الشمول والكمال المطلق في هذا الموضوع.

وعلى الرغم من ذلك، حاولنا اختيار تلكم المواضيع التي شكّلت، ولا تزال تشكّل، بصفة ملحوظة، فهمنا لأحد أكثر المواضيع دوراناً في تاريخ الفلسفة. وتماشياً مع روح النّدوة الأصليّة، منيّنا النّفس أيضاً بأنْ نقدّم مدارس وتوجّهات فلسفيّة مختلفة متعلّقة بمشكل الكليّات. وكان غرضنا من ذلك أن نبيّن أنّ التقسيم التقليديّ القائم بين الواقعيّة والاسميّة يخفي آراء فلسفيّة متّسعة ومتعدّدة، غالباً ما تكون صعبة التّناسب مع المواضيع التقليديّة. إن الواقعيّة والاسميّة تتقاسمان العديد من المجالات أكثر بكثير، إذاً، ممّا يستعدّ الفلاسفة فعلاً للإقرار به في الأغلب الأعمّ؛ ذلك أنّ الإقرار بهذا الأمر، وبالحقائق المرتبطة به، دفع بعض المساهمين في هذه النّدوة إلى تحدّي التصنيفات التقليديّة التي نستخدمها لكيْ نوظّفها في مَفْهَمة المجادلات، وصياغتها حول الكليّات، ووضعها تحت محكّ السؤال.

وفي نهاية المطاف، على الرغم من أنّ تركيزنا كان منصبّاً رأساً على مشكل الكليّ أكثر من انصبابه على بعض استتباعاته الممكنة بالنسبة إلى المجالات الميتافيزيقيّة المجاورة له، أدرجنا أيضاً في المجلّد أمثلة حيّة تتعلّق بكيفيّة تداخل «المشكل» المطروح مع مجموعة من الأسئلة المختلفة والمترابطة أيضاً، على غرار التّأسيس الميتافيزيقيّ للقوانين الطبيعيّة، والإشكاليّات الموصولة بطبيعة الأشياء ووضعيّاتها:

وعلى الرغم من أنّ المساهمات الفرديّة تتبنّى مواقف فلسفيّة وضعيّة، فإنّها تضفي على النّقاش معنى، ومن ثمّ تقدّم خيارات مختلفةً للأدبيّات الفلسفيّة. ونتمنىّ، فيما بقي من هذه المقدّمة، أنْ نسبغ معنى على محتويات هذا الكتاب ومفاصله.

لقد نهض موضوع التباين، بين المقاربة الأرسطيّة بشكل عامّ والمقاربة الأفلاطونيّة إجمالاً، حول الكليّ، بدور بارز في هذه النّدوة.

وباختصار، التباين هو ذاك القائم بين نظريّات تجعل الكليّ؛ بمعنى من المعاني، محايثاً للعالم الزمكانيّ وتلكم النظريّات التي تبني الكليّ بوصفه أمراً متعالياً عنه بوجه من الوجوه. إنّ هذا التّباين، بشكل من الأشكال، معلوم تماماً وتقليديّ. ولكنّه، في السنوات الأخيرة أصبح محلّ نظر وتحقيق وإعادة تدبّر على ضوء المقولات الجديدة الأكثر دقّة.

ومن بين الأوجه التي يُعبّر بها عن هذا التباين هو التباين بين ما يُعرف بالمقاربتيْن التأسيسيّة والعلائقيّة للمسائل الأنطولوجيّة؛ فكلتا المقاربتين هي محاولة للخوض في ميزة الجزئيّات الملموسة المألوفة وطبيعتها. وكلتاهما تخبرنا بأنّ هذه الجزئيّات تستمدّ خصوصيّتها من الكيانات، خاصيّات وأوصافاً وطبائعَ، التي تملك ميزتها بصفة غير اشتقاقيّة؛ ذلك أنّ النظريّات التكوينيّة تحيطنا علماً بأنّ تلك المصادر غير المشتقّة للميزة هي شيء من قبيل الأجزاء والمكوّنات، أوْ التي يُطلق عليها عادةً مكوّنات للجزئيّات التي تعدّ ميزتها ضماناً لها. لذلك، فإنّ الجزئيّات المألوفة تملك بنية أكثر تأسيساً وميتافيزيقيّة من البنية ذات المعنى المشترَك المتعلّقة بعلم الأجزاء. ونظراً إلى وجود تلك البنية، فإنّ الجزئيّات تمتلك مختلف أشكال الميزة التي تصنعها. وفي مقابل ذلك، تنفي المقاربة العلائقيّة كون المصادر غير المشتقّة الخصيصة ماثلة في العالم الزمكاني. وعلى الرغم من ذلك، إنّ الجزئيّات الزمكانيّة المعتادة يمكن أنْ تربطها علاقات لا جزئيّة، أوْ روابط، بتلكم المصادر للخصيصة (التي تجسدها وتمثّلها، أوْ تمْثُل فيها). ومن هذا المنطلق، فإنّ تلكم الجزئيّات تملك أشكالاً مختلفة للخصيصة التي نصلها بها.

فــــمايكل جوناتان لوكس في فصله الموسوم بــــ(تمرين في الأنطولوجيا التأسيسيّة) وضّح هذا التباين، وأشار إلى أنّ المقاربة العلائقيّة هي المقاربة المهيمنة على النقاشات الأخيرة في خصوص القضايا الأنطولوجيّة. ويرى أنّ الهيمنة المتجذّرة في افتراض أنّ المقاربة التكوينيّة، مع خوضها في المكوّنات والبنية الأنطولوجيّة، تجترح خطأ تصنيفيّاً في مستوى المقولات. إنّه خطأ التّفكير في أنّ الجزئيّات الملموسة يمكن أنْ تملك كيانات تجريديّة (أشياء شبيهة بالخصائص والصفات) بوصفها أجزاء أوْ مكوّنات.

ويرى لوكس أنّ حجة قويّة ضدّ المقاربة التكوينيّة، يمكن أنْ تُستخلص من هذه الفرضيّة. ويتبنّى نظريّة الحزمة التقليديّة (حيث تكون الجزئيّات المألوفة حزمة من الخصائص ذات الترتيب الأوّل المحدَّدة تحديداً تامّاً) بوصفها مفتاحاً مدخلاً بالنّسبة إلى التّنظير للمكوّن. ويضع لوكس إصبعه على أربع مجموعات من الصعوبات تتعلّق بالنظريّة، مبرهناً على أنّه بوسعنا اتّخاذ تصوّر بديل من المقاربة التكوينيّة التي تتولّد من محاولات للنّظر في تلك الصعوبات. لذا، يشير لوكس إلى نظريّة المادّة والصورة عند أرسطو باعتبارها تصوّراً تكوينيّاً نجح في الخوض في المجموعات الأربع من الصعوبات المذكورة، مُقرّاً بعدم وجود نظريّات تكوينيّة حديثة ناجحة في هذا المضمار.

ويتّفق بيتر فان إنفاغن في المقال المعنون بــــ «ضدّ البنية الأنطولوجيّة» مع النظرة الأرسطيّة التي نرى «بمقتضاها» أنّنا لا نملك أيّ خيار غير تبنّي أنطولوجيا الكليّات، ولكنّه يرفض تصوّر المنظّرين التكوينيّين في شأن العلاقة بين الكليّات والجزئيّات المألوفة التي تجسّدها.

ويعدّ الكليّ داخلاً في مقولة عامّة يسمّيها «علاقة»؛ ذلك أنّ المقولة تشمل القضايا/المحمولات (العلاقات العدديّة) والخاصيّات (علاقات أحاديّة)، التي تعرف عموماً، أوْ تقنيّاً، (بالثنائيّة والثلاثيّة وبصفة عامّة - عدديّاً هي من عناصر المقولة). وعلى نحو ما يرى، يعدّ إنفاغن جميع العناصر في هذا المقولة العامّة قابلة للإثبات؛ أيْ الأشياء التي يمكن تأكيدها أوْ قولها؛ ذلك أنّ القضايا القطعيّة القابلة للإثبات يمكن نطقها وإثباتها. وعلى خلاف ذلك، إنّ الخاصيّات، التي تُسمّى تقنياً علاقات، هي غير قطعيّة وقابلة للإثبات؛ وهي الأشياء التي يمكن تأكيدها، أوْ قولها عن أشياء أخرى، أوْ ن- هي أضعاف أشياء أخرى. ويرى بيتر فان إنفاغن أنّ ما هو قابل للإثبات، سواء أكان قطعيّا أمْ غير قطعيّ، إنّما هو كيانات مجرّدة لا ماديّة ولا فضائيّة. وبينما يعترف بأنّ الخاصيّات والروابط يمكن أنْ تدخل في علاقات لا جزئيّة، أو صلات مع الموجودات التي تجسدّها، فإنّه ينفي، مخالفاً في ذلك لوكس، أنّها يمكن، بأيّ معنى من المعاني، أنْ تكون أجزاء ومكوّنات أوْ عناصر في الجسيْمات الملموسة. وبالطّبع، يصرّح بأنّه لا يفهم ببساطة ما يقوله المنظّرون التكوينيّون عندما يتحدّثون عن المكوّنات والمركّبات والبنية الأنطولوجيّة.

فهذا الضرب من الكلام، مثلما يلحّ على ذلك بيتر لا معنى له. ويتّفق إ.ج. لوو في مساهمته «العلميّة» الموسومة بــ «في الدّفاع عن الجوهريات الكليّة» مع فان إنفاغن في رفض المقاربة التكوينيّة، ولكنّه على خلاف إنفاغن، الذي يرغب في مناصرة النظريّة الأفلاطونيّة، يعدّ لوو نفسه بشكل عامّ متبنّياً للنظريّة الأرسطيّة، معتبراً أنّ أرسطو يمثل نموذجيْن أنطولوجيين مختلفين؛ فمن هذه الجهة توجد النظريّة الهيوليّة حول الطبيعة وما وراء الطبيعة.

فتلك النظريّة يعدّها لوو نظريّة تكوينيّة؛ لذا يجد حديثها عن المادّة غير المشكّلة ذا مسحة أسطوريّة، مؤكّداً أنّ النظريّة فشلت في إبراز كيف أنّ المركّبات الهيوليّة، أوْ ما يريد أنْ يطلق عليه أرسطو جواهر تكوّن أشياء موحّدة بشكل حقيقيّ.

وبينما يرفض لوو المقاربة الهيوليّة، فإنّه يعدّها، في الفصل الثاني من (المقولات)، مصدراً للنظريّة غير التكوينيّة التي يلتزم بمرتكزاتها العامّة. ففي كتاب (المقولات) يقدّم أرسطو ما يسمّيه لوو أنطولوجيا ذات أربع مقولات؛ ذلك أنّ أرسطو، على غرار ما يرى لويس، يفرّق بين نوعين من الكلّي (أصناف الجواهر وأصناف المحمولات) ونوعين من الموجودات الفرديّة وأنماطها.

ويذهب لوو قُدماً في الدّفاع عن تمييز أرسطو الأنواع الجوهر من المحمولات ضدّ الميتافيزيقيّين الذين يريدون الخلط بين كلّ الكليّات ذات التّرتيب الأوّل؛ لذا يرى أنّنا بحاجة إلى الأنواع الجوهر بوصفها مقولة مميّزة للكليّات، إذا ما أردنا أنْ نتعامل مع الإشكاليّات الميتافيزيقيّة الملحّة حول التّفريد والتّجسيد وطبيعة القوانين.

ويريد غابريال غالوزو، على منوال لوو، في بحثه الموسوم بـ «وداع لطيف للأفلاطونيّة»، دعم التّمييز بين الأنواع الجوهر وكليّات أخرى مجسّدة عن طريق الجواهر الأفراد، وهو ما يسمّيه غالوزو الخاصيّات؛ ويرى أنّ فكرة وجود تمييز، ها هنا، هي أشبه ما تكون بالفكرة المستقلّة عن التباين القائم بين النظريّات التكوينيّة والنظريّات العلائقيّة، غير أنّه يتّفق مع لوو في أنّ هذا التفريق يتساوق بشكل جيّد مع السّياق الأرسطيّ. إنّه تفريق بين مقولتين مختلفتين غير قابلتين للاختزال من طراز التّرتيب الأوّل للكلّي- ماهية الكليّات وكيفيّتها.

إنّ أنواع الجوهر هي المسؤولة عن ماهية وجود الجواهر الفرديّة، ولكن ما يطلق عليه غالوزو خاصيّاتٍ يتضمّن على أيّ نحو تكون الجواهر الأولى كليّات نوعيّة. فهذه الجواهر السّابقة هي كليّات تمييزيّة؛ بمعنى إنّها تسم أفرادها بما يشبه التّمييز عدديّاً لكلّ فرد ولأشياء من أنواع أخرى، وتعطي مقياس الهويّة للموجودات الفرديّة التي تقع تحت طائلتها. ويعترف غالوزو بأنّه توجد بالنّسبة إلى كلّ نوع جوهر مجموعة من الخصائص التي تعمل على تفسير الظواهر المميّزة للنّوع، وحتّى إنّه يقرّ بأنّ مثل هذه الخصائص التي يمكن أنْ تتعلّق بالأشياء هي ضرورية بالنّسبة إلى الموجودات الفرديّة المنتمية إلى النّوع، ولكنّه يتصدّى لأيّ محاولة تسعى إلى اختزال النّوع في مجموع من تلكم الخصائص؛ ذلك أنّ النّوع على نحو ما يراه غالوزو له أسبقيّة على الخصائص المترابطة؛ وذلك لأنّ الموجودات الفرديّة هي عناصر من النوع الجوهر التي تعرضه الخصائص المترابطة، وليس الأمر منعكساً. ويظل السؤال قائماً؛ أيّ الكليات هي صدقاً جواهر أصليّة. وفي الوقت الذي يتعاطف فيه غالوزو نفسه مع التصوّر الأرسطيّ العامّ، حيث إنّ الأنواع البيولوجيّة المحدّدة تمام التّحديد، والتي تقع ضمنها أيّ ضروب الكائنات الحيّة، تتّخذ لاستنفاذ الأنواع القاعديّة، أوْ الأنواع الجوهر الأساسيّة؛ فإنّه يلحّ على أنّ إطار النوع الجوهر هو موضوع مرن يرجع إلى نظريّات ميتافيزيقيّة عدّة.

وثمّة موضوع آخر اضطلع بوظيفة أساسيّة في هذه النّدوة التي هي أصل هذا المجلّد، ألا وهو موضوع نظريّة المجاز، والنظريّة التكوينيّة كما قدّمها وليمز في الخمسينيات. وفي ذلك الوقت، دافع عنها جمع غفير متزايد من الميتافيزيقيّين. فمنظّرو المجاز يخبروننا بأنّ مصادر الميزة إنّما هي فرديّة، أوْ مخصوصة، شأنها في ذلك شأن الجزئيّات المألوفة التي تؤمّنها الخصيصة. ويسمون مصادر هذه الميزات مجازات، ويخبروننا أنّ الأشياء المألوفة هي حزم من المجازات المتشابهة. وأصبحت نظريّات المجاز، بمرور الزّمن، أكثر إغراء وانتشاراً بين عموم النّاس أكثر من النظريّة الاسميّة الصارمة؛ أيْ التي تذهب إلى أنْ لا وجود لخاصيّات (إمّا مجازات، وإمّا خصائص كليّة)، وإنّما توجد فحسب كائنات ملموسة فرديّة. وهذا أيضاً لأنّ نظريّات المجاز يبدو أنّها من الممكن أنْ تخلط بين مزايا الواقعيّة والاسميّة؛ فنظريّات المجاز، مثلها مثل المنظّرين الواقعيّين، تقبل بوجود الخاصيّات، ومن ثمّ توفّر مقولة أنطولوجيّة واحدة هي وجود المجازات، باعتبارها مقولة مخصوصة مثل خصوصيّة الكائنات التي تضمن وجودها ميزتها.

ويحتجّ روبارغارسيا، في مقال «هل نظريّة المجاز محلّ خلاف» لوجود نوعين من الأشياء مختلفين تماماً، ولا سيّما أنّهما مقدّمان عبر عنوان «مجاز»؛ ذلك أنّ بعض المنظّرين فسّروا المجاز، باعتباره مميّزات وخاصيّات، واعتبره آخرون موجودات فرديّة مميّزة ومجزّأة.

أمّا الضرب الأوّل، فهو كائنات تحمل خصائص كاللون الأحمر منسوباً إلى ثوب معيّن وكالشجاعة منسوبة إلى سقراط، في حين أنّ الضرب الثاني هو موجودات فرديّة مخصَّصة بدقة متناهية من قبيل موجود أحمر، أوْ موجود شجاع. يسمّي غارسيا الأوّل محوّر مجاز والثّانيَ مجازات وَحدة.

ويرى أنّ لدينا نظريّتين أنطولوجيتين مختلفتين اختلافاً جذريّاً عن ذيْنك المفهوميْن، ويخبرنا بأنّ للنّظريّتين كلتيْهما مشاكلَهما. فإذا ما أقمنا نظريّة مجاز، موظّفين مفهوم المجاز الوَحدة، تعترضنا صعوبات حقيقيّة في محاولتنا تعريف الكليّات باعتماد مجموعة المجازات.

وفي مقال «الكليّات في عالم من الأجزاء» يستخدم جون هايل التصوّر الأصليّ من نظريّة المجاز لوليمز منطلقاً لبناء نظريّة مختلفة تمام الاختلاف للميزة. ويفهم هايل مجازات وليمز على أنّها مجازات وَحدة مثلما يسمّيها غارسيا. وعلى نحو ما يرجّح، فإنّ الخاصيّات الجزئيّة أوْ الفرديّة كانت تشغل ذهن وليام ولكن، في الوقت نفسه الذي يرى فيه هايل أنّ فكرة الخاصيّات الجزئيّة يمكنْ أنْ تنهض بدور في تصوّرنا للكائنات المعهودة، يريد أنْ يفصل تلك الفكرة عن مواضيع أخرى مدار تدبّر في مجال المفهوم التّقنيّ للمجاز عند وليمز. فهو يرفض، على وجه التّحديد، التصوّر النظريّ للحزمة لدى وليام المتعلّق بالكائنات العاديّة. ويقترح بدلاً من ذلك أنْ نستدعي فكرة الخاصيّة الجزئيّة، أوْ الفرديّة، بالاعتماد على سياق أنطولوجيا الجوهر/الحمل (الإسناد). إنّه يريد أنْ ينفي أنّه بوسعنا توفير تحليل مختزل لفكرة الجوهر؛ ذلك أنّ الجواهر هي أساسيّة بصفة غير قابلة للاختزال، ولكن لا نحتاج- ونحن نأخذ بعين الاعتبار خصائص الجواهر- إلى استدعاء الكليّات التي يتبنّاها صاحب المذهب الواقعيّ «المادي» لذا نستطيع أنْ نثير فكرة الخاصيّات الجزئيّة، أوْ يجب أنْ نثيرها.

ويفسّر هايل هذه الخاصيّات، باعتبارها طرائق لقيام الجوهر، ويقترح أنّه إذا ما فهمناها في هذا المساق، فيجب أنْ نلغي فكرة كونها أجزاء أوْ مكوّنات لجواهر.

وفي الوقت الذي يخرج فيه على تصوّر وليمز حول الكائنات المحسوسة المعهودة يقبل هايل تصوّر وليمز للكليّات بوصفها مجموعات من الخاصيّات الجزئيّة المتشابهة، ويرى أنّها تجسّم نظريّة لها محاسن الواقعيّة التقليديّة حول الكليّات دون اعتبار كلفتها الأنطولوجيّة.

ويدّعي، مراراً وتكراراً، الواقعيّون، المتعلّقة همّتهم بالكليّات، أنّ الكليّات تنجح في ضبط القوانين العامّة، بينما المجازات، وما لفّ لفّها، تفشل في ذلك؛ بيد أنّ هايل يتحدّى هذا الرّأي.

وتذهب صوفي غيب في مقالها «المجازات وعموميّة القوانين»؛ ذلك المذهب، وترى أنّ الواقعيّين ليس لهم أيّ فضل على الإطلاق مقارنة بمنظّري المجاز في هذا المضمار؛ إذْ تتمثّل حجّة الواقعيّين في أنّه إذا ما افترضنا هويّة عدديّة للكلّي في مختلف حالاته، فإنّه من السّهل تفسير كيف أنّ قانوناً يتّخذ الشّكل الآتي: كلّ (F) هي (G) يجب أنْ يكون صالحاً صلاحيّة عامّة. وبعد ذلك يكون لدينا كليٌّ (F) في وضع اشتغال، ولكن من قِبَلِ أنّ هذا الكليّ متطابق في جميع أحواله، فمن الممكن أنْ نفترض، في حال تطابق كلّ العوامل الأخرى، أنْ يؤدي الدور نفسه في كلّ أحواله.

وتبيّن غيب أنّ مفهوم الواقعيّين لهويّة الخاصيّة لا يوفّر تفسيراً ممكناً للتّعميم الموجود هاهنا أكثر من مفهوم منظّري المجاز للتماثل الحقّ.

وعلى وجه التّحديد، باعتبارها خاصيّة مفردة، يمكن أنْ نفترض أنّها تنهض بالدور السببيّ نفسه في الظروف نفسها، وكذلك تكون المجازات المتماثلة تمام التّماثل. وتحتجّ غيب لكون هذا الأمر صحيحاً بغض النّظر عن فهمنا للخصائص في معناها الاصطلاحيّ الشرطيّ، أوْ المقوليّ التّصنيفيّ.

ويُعنى الفصلان الأخيران بمواضيع شتّى مركزيّة بالنّسبة إلى النقاشات المتعلّقة بالكليّات وصلاتها بالجزئيّات. وفضلاً عن مزاياهما الجوهريّة الموصولة بالنقاشات حول الكليّات، يهدف هذان الفصلان إلى بيان كيف أنّ مشكل الكليّ هو مشكل بعيد الحدود ومتشعّب، باعتباره يتقاطع تقاطعاً مثمراً مع عدّة قضايا ميتافيزيقيّة ذات وشائج قربى؛ ذلك أنّ الدّفاع عن الواقعيّة المتعلّقة بالكليّات هو موضوع أثيرٌ لدى الفلسفة التّحليليّة في خطواتها الأولى. ويحتجّ راسل لوجود الكليّات؛ وذلك عبر الاستدلال لصالح العلاقات غير القابلة للإلغاء والتّعميم. ويعيد فريزر ماكبرايد طرح هذا الموضوع في مقال «في أصول النظام: هل العلاقات هي غير متماثلة أوْ متماثلة فقط؟» محتجّاً بأنّ العلاقات غير المتماثلة غير قابلة للإلغاء؛ ذلك أنّ العلاقة غير المتماثلة هي إحدى العلاقات التي من أجلها توجد طرق مختلفة تنطبق فيها العلاقة على الأشياء الموصولة بها. لذلك، فإذا كانت (R) هي علاقة ثنائيّة غير متماثلة، من ثمّ توجد بالنّسبة إلى (x وy) المناسبتيْن طريقتان مختلفتان تكون فيهما العلاقة قادرة على الانطباق على (X وY)، إمّا عبر وجود الطريقتين في حالة (xRy) وإمّا في وجود حالة (yRx). ويرى ماكبرايد أنّه يجب علينا أنْ نعتبر هذا الشرط المتعلّق بالعلاقات غير المتماثلة شرطاً مبدئيّاً، وحقيقة غير قابلة للإلغاء في شأن الكون؛ وهي حقيقة ليست بحاجة إلى مزيد من التّفسير. ولذا، يمضي بريدج قدماً في مواجهة المحاولات الأخيرة لاختزال العلاقات غير المتماثلة إلى علاقات متماثلة. في هذا الصدد يرفض مبدأ هومين، الذي قوامه أنْ لا وجود لضرورات ميتافيزيقيّة صِرف (أيْ الضرورات التي لا تستدعي أيّ تفسير جديد)، محتجّاً لصالح فكرة أهميّة تأسيس خطاب ميتافيزيقيّ حول بعض المسلّمات الأوليّة ميتافيزيقيّاً؛ ذلك أنّ تصوّراً مؤثّراً في الأنطولوجيا التكوينيّة يخبرنا بأنّه فضلاً عن الجزئيّات والخصائص نحتاج إلى أنْ نفترض وجود مركّبات تُدعى وضعيّات الأشياء.

ويمكن أنْ تتبلور الحجّة كما يأتي: من أجل تفسير كيف يستطيع جسيْم (x) أنْ يمثّل خاصيّة (F)، فنحن نحتاج إلى أكثر من وجود (x وF) من قِبَل أنّ كليهما يوجد دون أنْ يكونا في حالة (x هي F). ولنتحصّلَ على نتيجة أنّ (x هي F) نحتاج إلى افتراض وجود عنصر آخر؛ أيْ حالات الأشياء المكوّنة لكينونة (x لــــــــ F).

ثمّ إنّ حنّا صوفيا مورين تبحث في مقال «الحالات الرّاهنة وعلاقة التّراجع» في هذا المسار الحجاجيّ. وترى أنّ افتراض وجود وضع للأشياء مناسب ينجح في إعطائنا نتيجة (x هي F) فقط، إذا كانت العناصر في وضعيّة أشياء موحَّدة. غير أنّ مورين تذهب إلى أنّ بلوغ الوَحدة المطلوبة نحتاج فيه إلى رابط، أو علاقة، تمنحنا فقط مجموعة جديدة (x, F، وعلاقة أو رابط مُجاوَرَة).

لذا، فهذه المجموعة تحتاج، في الوقت نفسه، إلى أنْ تكون موحَّدة، وبهذا نخلص إلى علاقة تراجع مألوف. وهكذا تمضي مورين قدُماً في تصوّر الطرق التي تضمن الوَحدة المطلوبة، إمّا باجتناب التّراجع، وإمّا بجعله بلا أذى. وترى مورين أنّ النتائج ليست بمشجّعة، ولذلك تستنتج أنّه إذا كانت وضعيّات الأشياء مفترضَة لتبيان على أيّ نحو يمكن للكليّات والجزئيّات أنْ يكونا موحَّدين، فإنّها لا تخدم ذلك الغرض حقّ الخدمة.