تلاحم البناء اللغوي في القرآن


فئة :  مقالات

تلاحم البناء اللغوي في القرآن

تلاحم البناء اللغوي في القرآن[1]

نحن نعلم أنّ أساس التقسيم في القرآن هو السور، لا الموضوعات. فليس في القرآن بابٌ للصلاة، وبابٌ للزكاة، وبابٌ للصيام، وبابٌ للحج، وبابٌ للجهاد، وبابٌ للنكاح، وبابٌ للبيوع، على النحو الذي نجده في كتب الفقه. وقد تجتمع هذه الموضوعات كلها في سورة واحدة، كما في سورة البقرة مثلًا. إذن فالسورة هي الوحدة الأساسية التي على أساسها ينقسم القرآن إلى مائةٍ وأربعَ عشرة وحدة مستقلة لها بداية ونهاية. والسورة فوق تنوعها في الموضوعات التي تشتمل عليها تتنوع كذلك في فاصلتها. وقليلة هي السور التي لها فاصلة واحدة، متماثلةً كانت أو متقاربة، من أولها إلى آخرها، كما مرَّ بنا. وقد مرّ بنا كذلك أنّ فاصلة الواو والنون، والياء والنون، والياء والميم، تمثل 61% من جملة فواصل القرآن وأن هذه الفاصلة تتداخل مع الفواصل الأخرى تداخلًا شديدًا في السور المكية والمدنية، والسور الطويلة والقصيرة، مما يجعل التفريق بين سورة وأخرى من حيث بناؤها الخارجي ومحتواها الموضوعي أمرًا لا يخلو من العسر.

يضاف إلى ذلك أنّ القرآن كتاب متشابه مكرر كما جاء في قوله تعالى: ﴿اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ﴾ [الزُّمَر: 23]. والمثاني المكرر. فالقرآن تتكرر قصصه ومواعظه وتوجيهاته وأمثاله. ومن هذا التكرار ينشأ التشابه بين آياته وسوره مما يجعلها تحمل ملامح متقاربة يصعب التمييز بينها. فالقصة الواحدة مثلًا تتكرر حلقاتٌ منها في سور مختلفة بمفردات متقاربة تكاد تكون متطابقة في كثير من الأحيان. وحتى الآيات التي تتحدث عن الخلق والتكوين، والجدل مع الكفار، والبعث والنشور، والجنة والنار، تتكرر بألفاظ شديدة التقارب، وعبارات كثيرة التداخل. ولكن إذا كانت السور بهذا التشابه المتكرر في موضوعاتها وفي مفرداتها وفي تراكيبها وفي فواصلها، فكيف نعلم أنَّ مقاطع السورة الواحدة تنتمي كلُّها إلى أصل واحد، وأنها ليست من أصولٍ متفرقةٍ ضُمَّ بعضُها إلى بعضٍ كيفما اتفق، بلا قصدٍ ولا نظام؟ هناك طرق عديدة لمعرفة أن السورة القرآنية تشكل وحدة نصية متماسكة الأجزاء.

الطريقة الأولى هي البحث عن الهدف أو المحور العام الذي تدور حوله موضوعات السورة المختلفة. وقد اتبع هذا المنهج سيد قطب في تفسيره في ظلال القرآن فنجح فيه نجاحًا كبيرًا لم يُسبق إلى مثله ولم يلحق فيه في تاريخ التفسير.([2]) فهو أول مفسر كتب مقدمة شاملة مستوعبة لكل سورة قبل الشروع في تفسيرها يحدد فيها معالمها الرئيسية والموضوعات التي تتناولها والمحور العام الذي ترتبط به أهدافها المختلفة. وفيها يقسم السورة إلى عدد من المقاطع أو الأشواط أو الدروس، ثم يشرع في تفسيرها تفسيرًا يستلهم النص القرآني نفسه ويربط بين آيات السورة ومقاطعها في تسلسل معنوي يحالفه فيه التوفيق والإقناع إلى حدٍّ بعيد. فهذه أوّل محاولة ينجح فيها مفسّر في الربط بين أجزاء السورة هذا الربط المنطقي المتسلسل الذي لا تكلف فيه بعد محاولات متكررة على مدار القرون (فيما يُعرف بعلم المناسبات) لم تستطع أن تتجاوز بالتفسير منطقة التفسير الذَّرِّيِّ الموضعِيِّ الذي يتناول السورةَ آيةً آيةً، ابتداءً بتفسير الرازي وانتهاءً بتفسير الطاهر بن عاشور. إلا أنّ هذه الطريقة، على ما حالفها من التوفيق الكبير على يد سيد قطب، تظل طريقةً انطباعيةً تختلف نتائجها من مفسر إلى آخر. فقد يتناول مفسران نفس السورة بالتفسير، ثم يحددان لها محورين مختلفين، مما يجعل المحاور تتعدد بتعدد المفسرين.

الطريقة الثانية هي النظر إلى النسق الذي تُعْرَضُ به موضوعاتُ السورة المختلفة. فكثير من السور التي تَعْرِض القَصص تتكون من ثلاثة أجزاء: تمهيد، وقصص، وتعقيب. فمن مِثْلِ هذه السورِ الأعرافُ، وهود، ويوسف، والحِجْر، والكهف، ومريم، وطه، والشعراء، والنمل، والقصص، وسبأ، وص، وغافر، وفصلت، والذاريات، والقمر، وغيرها. وقد يطول التمهيد في هذه السور وقد يقصر، وكذلك التعقيب. أما القَصص فتُعرض فيه غالبًا حلقاتٌ من قصص المرسلين، وترتبط هذه الحلقات في السورة ربطًا محكمًا بأدوات سردية ولوازم قصصية تتكرر فيها، وتطبع السورة بطابع خاص يميزها عن غيرها. فأداة استهلال السرد التي تتكرر في بداية كل قصة في الأعراف، وهود، مثلًا، هي قوله تعالى: ﴿وَإِلَى عَادٍ أَخاهُمْ هُودًا﴾، وقوله: ﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخاهُمْ صَالِحًا﴾، وقوله: ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُم شُعَيبًا﴾. هذه العبارة الافتتاحية للقصة تربط حلقات القصص المتوالية في السورة، كما تربط هذه الحلقاتِ بالحلقة الأولى التي بدأت بقوله تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ﴾ بقرينة واو العطف، وحَذْفِ الفعل «أَرْسَلْنَا» الذي يدل على وجوده المضمرِ والمفهومِ حرفُ الجرِّ «إلى» والاسمُ المنصوبُ «أخاهم»، وكلاهما متعلق به. وأداة استهلال القصة التي تتكرر في مريم، وفي ص، هي قوله تعالى: ﴿وَاذكُرْ﴾ وهي مرتبطة في السورتين بأول السورة. والعبارة الاستهلالية في الشعراء، وفي القمر، هي قوله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ﴾، وتتردد أربع مرات في كلٍّ منهما.

وإلى جانب هذه العبارات الافتتاحية، هناك لوازم قصصية تتردّد في هذه السور تميزها عن غيرها من السور في القرآن، كهذه اللازمة التي تنفرد بها الشعراء: ﴿وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ وتتردد فيها خمس مرات، وفيها لوازم أخرى. أو كهذه اللازمة التي تنفرد بها القمر: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ وتتردد فيها أربع مرات. فبالإضافة إلى هذه العبارات الافتتاحية واللوازم القصصية، هناك الفاصلة التي تميز هذه السور بعضها من بعض. فقصة موسى التي في الأعراف، مثلًا، لا تصلح أن توضع في طه للاختلاف الكبير بين فاصلَتَيِ السورتين. إن هذه الخصائص اللغوية العامة تقطع بما لا يدع للشك مجالًا أن حلقات القصص في هذه السور، تنتمي إلى سورة واحدة، ولا يمكن أن تُنزع حلقة منها وتوضع في سورة أخرى.

لا شك أنّ هذه الطريقة الثانية أوثق من الطريقة الأولى في إثبات تلاحم أجزاء السورة لأنها تعتمد على دليل نصي ملموس، لا على تذوقٍ ذاتيٍّ لمعنى النص. إلا أننا نواجه مشكلةً مع هذه الطريقة، وهي أنَّ سور القرآن ليست جميعها مما يعرض القصص عرضًا متسلسلًا على النحو الذي نجده في السور التي مرت بنا. ومن ثَمَّ فإن هذه الطريقة لا تسعفنا في التعامل مع سور القرآن الأخرى التي ليس فيها هذا النسق القصصي. وهذا يعني أننا في حاجة إلى طريقة ثالثة أكثر شمولًا.

الطريقة الثالثة هي أن ندرس معجم السورة دراسةً فاحصةً تستهدف الكشف عن الخصائص اللغوية الدقيقة التي تنفرد بها السورة عن غيرها من السور كوحدة نصية متماسكة. هذه الطريقة في الحقيقة امتداد للطريقة الثانية، ولكن على نحوٍ أعمق وأشمل وأدق يشمل النص القرآني كله. ذلك لأن الدراسة فيها لا تقتصر على الظاهر البادي من السمات اللغوية البارزة، كالفاصلة والعبارات الافتتاحية واللوازم القصصية، وإنما تتجاوزها إلى الكشف عن السمات الدقيقة والشيات الخافية التي تتمثل في الكلمة تتردد بصور شتى، وفي التركيب يتكرر بصيغ متباينة. ومن خلال رصد تلك السمات والشيات وتسجيلها ومقارنتها بنظائرها ترتسم للسورة صورةٌ لبناءٍ محكمٍ متماسك الأجزاء، كما ترتسم لها شخصيةٌ لغويةٌ مستقلة.

إنّ هذه الطريقة الثالثة هي المنهج الذي نستعمله في هذا الكتاب للكشف عن تلاحم البناء اللغوي في السورة القرآنية. فهي طريقة تتكامل، ولا تتعارض، مع الطريقتين الأولى والثانية، ولكنها، كما في الطريقة الثانية، تقدم دليلًا مادِّيًّا ملموسًا على تلاحم أجزاء السورة، وعلى وجود هندسةٍ دقيقةٍ بالغةِ الدقة في بناء النص القرآني.

* * *

مفهوم تلاحم البناء اللغوي في القرآن

ولكن ما المقصود بتلاحم أجزاء السورة أو تلاحم البناء اللغوي في القرآن؟ إنَّ المقصود بتلاحمِ البناءِ اللُّغَوِيِّ في القرآن هو أنْ يَعْمِدَ النَّظْمُ القرآنيُّ إلى عنصرٍ لغويٍّ معين، فَيُكَرِّرَه في مَقَاطِعَ مختلفةٍ من السورة، لِيَدُلَّ ذلك التَّكرارُ على تلاحم تلك المقاطع، ثم لا يُكَرِّرَ ذلك العنصرَ اللغويَّ في أيِّ سورةٍ أخرى في القرآن. فليس تلاحم البناء اللغوي في القرآن هو تلك العلاقات النحوية التي تنشأ بين الكلمات والجمل والمقاطع. فالعلاقات النحوية بين أجزاء الكلام من الضروريات اللغوية التي لا ينشأ نص إلا بقيامها، ولا يكون للنص معنى مفهوم بغيرها، وهي ليست مما نحن بصدد دراسته هنا بسبيل. وإنما نحن ندرس هنا ما هو وراء هذه العلاقات النحوية مما يتصل بالتصميم الهندسي للنظم القرآني. وقد مرَّ بنا آنفًا أن حلقات قصص المرسلين في سورتَيِ الأعراف وهود يرتبط بعضها ببعض بعلاقة نحوية دلت عليها قرائن معينة من واو العطف، وحرف الجر «إلى»، والاسم المنصوب «أخاهُم» في قوله تعالى: ﴿وَإِلَى عَادٍ أَخاهُمْ هُودًا﴾، وقوله: ﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخاهُمْ صَالِحًا﴾، وقوله: ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُم شُعَيبًا﴾. ولو قيل «أَخُوهُم» بدلًا من ﴿أَخاهُمْ﴾ لاضطربت تلك العلاقة النحوية ولا نقطع الاتصال بين حلقات القصة. هذا من الناحية النحوية.

أما من ناحية تلاحم البناء اللغوي الذي ينظر إلى السورة كوحدةٍ نصيَّةٍ ذاتِ شخصيةٍ لغويةٍ مستقلةٍ في سياق النص القرآني العام، فإنّ الذي يضطرب هو الهندسة الدقيقة التي يقوم عليها نظم القرآن. إنَّ وَضْعَ «أَخُوهُم» مكان ﴿أَخاهُمْ﴾ لا يُخِلُّ بالنظام النحوي وحده، وإنما يُخِلُّ بالنظام العام للسورتين (الأعراف وهود) لأنه يُدْخِلُ فيهما مفردةً ليست من معجمهما، وإنما هي من معجم سورة أخرى. إن عبارة ﴿أَخُوهُمْ﴾ لا ترِدُ في القرآن كله إلاّ في الشعراء في سياق قصص المرسلين، في قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ﴾. فالعبارة ذاتها تتكرر مع هودٍ، وصالحٍ، ولوط. فكلمة ﴿أَخُوهُمْ﴾ إِذن ليست من معجم الأعراف، وهود، وإنما هي من معجم الشعراء ولا توجد إلا في الشعراء. وكذلك لو قيل «وَفِي عَادٍ» بدلًا من ﴿وَإِلَى عَادٍ﴾، بتبديل حرف الجر، لَمَا اختل النظام النحوي فحسب، لأنّ الفعل «أَرْسَلْنَا» عادةً في هذا السياق يليه حرف الجر «إلى»، وليس «في» إلا في حالات خاصة([3])، ولكن لَدَخَلْنَا كذلك في معجم سورةٍ أخرى وهي الذاريات، لأنّ الذاريات هي السورة الوحيدة في القرآن التي يرِدُ فيها عادٌ وثمودُ مسبوقتين بعبارة «وَفِي» في قوله تعالى: ﴿وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ﴾ [الذاريات: 41].، وقولِه: ﴿وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ﴾ [الذاريات: 43]. وعبارة «وَفِي» في هذا السياق تختزن في طيِّها عبارة أخرى هي: ﴿آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ﴾ والتي اشتملت عليها آية سابقة في نفس السورة هي قوله تعالى: ﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ﴾ [الذاريات: 20]، وقد حُذفت لدلالة قرينة السرد عليها. ثم إنَّ عبارة «وَفِي» جزءٌ أصيلٌ من معجم هذه السورة وتتكرر فيها.

يتضح من هذه الأمثلة أنّ تلاحم البناء اللغوي في القرآن غيرُ التماسكِ النصي الذي يعتمد في أساسه على العلاقات النحوية الظاهرة أو المضمرة.([4]) إنّ العلاقة التي تنشأ بين العناصر اللغوية التي يقوم على أساسها تلاحم البناء اللغوي في القرآن علاقةٌ هندسيةٌ فيها التصميم وفيها التناظر. فالعنصر اللغوي الوارد في موقعٍ مَّا في السورة، والذي يراد له أن يكون أداةً من أدوات التلاحم، يتطلب نظيره ليتكامل معه ويُشَكِّلَ معه نظامًا هندسيًّا فيه تصميم معين قائم على التوازن والتناظر. فإذا نحن نزعنا أحد طَرَفَيْ هذا التصميم الهندسي أو استبدلنا به عنصرًا آخر، حدث الاختلال في التصميم وفي التناظر المتوازن. وهذا التلاحم في البناء اللغوي يتخذ أشكالًا شتَّى، وصيغًا متباينة. ولكن العنصر الثابت فيه هو التكرار. فالمكرر قد يكون كلمةً أو عبارة. فالكلمة أو العبارة قد تتكرر في صورٍ لا حصر لها ولكنَّ هناك دائمًا سمةً ما في العنصر المكرر تجعله متفردًا. هذا التفرد هو الذي يمنح السورة القرآنية شخصيةً لغويةً مستقلةً تميزها عن غيرها من السور.

وقد يصعب على الذين تعودوا أن ينظروا إلى تماسك النص من خلال الأدوات النحوية كعلامات الإعراب، وأدوات العطف، والإحالة، والاستثناء، والاستدراك، وغيرها، أن يتخيلوا تماسكًا للنص يقوم على نسقٍ آخر غيرِ الذي ألِفوه. وفي الحقيقة، إنّ التماسك نوعان: ملحوظ وملفوظ. فالنوع الملحوظ يتمثل في الترابط المنطقي الذي نجده بين أجزاء النص والذي نحس به دون أن نراه ملفوظًا بالضرورة، ولكن ندركه بالعقل، وقد لا نلتفت إلى الروابط المنطوقة التي يستعملها النص في إدراكنا لهذا النوع من التماسك.

أما النوع الملفوظ فينقسم إلى قسمين. فالقسم الأول هو الذي يعتمد على الروابط النحوية التي مرت بنا أمثلة منها حين تحدثنا آنفًا عن قوله تعالى: ﴿وَإِلَى عَادٍ أَخاهُمْ هُودًا﴾، وهي روابط ملفوظة نسمعها بآذاننا، ونراها بأعيننا، ونلمسها بأيدينا، وهي – كما أسلفنا – ضرورية لا ينشأ نصٌّ بدونها. والقسم الثاني – وهو الذي يدور عليه هذا البحث – يعتمد على الروابط النسقية التي تتكرر في جسم النص، وهذه الروابط النسقية تنشئ تماسك النص لمجرد تكررها في النص، لا لأدائها وظيفة نحوية معينة.

ولتقريب هذا المعنى نضرب أمثلة من تماسك النص الشعري وتماسك النص القرآني. أمّا الشعر فيقوم تماسكه على أساس الوزن والقافية. فالقصيدة تجري على بحرٍ واحدٍ من أولها إلى آخرها ولا يمتزج فيها بحران، كما مرَّ بنا. وكذلك القافية تجري على رويٍّ واحدٍ في كل القصيدة. فلو قلنا مثلًا: «بِصُبْحٍ ومَا الإِصبَاحُ مِنْكَ بِأَحْسَنِ» بدلًا من «بِأَمْثَلِ» في بيت امرئ القيس لتصدَّع بناء القصيدة الذي يقوم على تكرر حرف الروي الواحد لأن الأذن العربية لا تقبل إلا اللام في قافية هذه القصيدة ولا ينوب عن اللام فيها أي حرفٍ آخر. ومع ذلك فنحن بهذا التغيير لم نكسر وزنًا عَروضيًّا ولا قاعدةً نحوية، وإنما كسرنا ركنًا من الأركان الأساسية التي تقوم عليها القصيدة، وهو توحد حرف الروي الواحد في كل القصيدة. إنّ حرف الرويّ هو الذي يمسك إيقاع القصيدة الكبير أن يختل، لا لأنه يقيم علاقاتٍ نحويةً بين الكلمات، أو بين الأبيات، ولكن لمجرد تكرره في كل بيت. فالقافية والوزن، إذن، يتعاونان في إقامة بنيان القصيدة. وهذا يُثْبِتُ بما لا يدع للشك مجالًا أن ثَمَّةَ نوعًا آخر من التماسك يتحقق خارج العلاقات النحوية التي تقوم بين الكلمات، والجمل والمقاطع، وأن هذا النوع يقوم على أساس تكرر نسق لغوي معين.

وكذلك النص القرآني يعتمد في بناء تماسكه على تكرُّرِ أنساقٍ لغويةٍ مكررةٍ مبثوثةٍ في تضاعيفه وفي ثناياه، لا في مواقع ثابتة كما في الشعر. ولعل أوضح مثالٍ على هذا هو العبارات الاستهلالية التي تُفتتح بها سلسلة قصص المرسلين في سورة الشعراء. وهذه العبارات هي قوله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ﴾ [الشعراء: 105-106]، وقوله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ﴾ [الشعراء: 123-124]، وقوله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ﴾ [الشعراء: 141-142]، وقوله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ﴾ [الشعراء: 160-161]، وقوله تعالى: ﴿كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ﴾ [الشعراء: 176-177]. إنّ أهم شيء نلاحظه في بناء هذه العبارات أنها لا تتعاطف، أي لا تسبقها أداة عطف تربط كل عبارة بسابقتها، كأن يقال مثلًا: «وكَذَّبتْ عادٌ المرسَلين» باستعمال واو العطف، على النحو الذي رأينا في قوله تعالى: ﴿وَإِلَى عَادٍ أَخاهُمْ هُودًا﴾، وإنما يتحقق الترابط بينها لمجرد تكرُّر هذا النسق الاستهلالي. فالقارئ يدرك بداهة وبلا تفكير أنّ حلقات هذه السلسلة من قصص المرسلين مترابطة، ويدرك أيضًا من وراء هذا النسق الموحَّد في استهلال القصص أن التكذيب هو النظام الثابت في استقبال الرسل على مدار التاريخ. وهذا دليل آخر على أنّ هناك نوعًا آخر من التماسك يتحقق خارج العلاقات النحوية، وهذا النوع يعتمد – كما أسلفنا – على تكرار عنصر لغوي معين.

* * *

شروط تلاحم البناء اللغوي في القرآن

ولكن القرآن ليس كله كسورة الشعراء التي يتكرر فيها النسق الاستهلالي للربط بين الحلقات في سلسلة قصص المرسلين. ولا نجد في القرآن ما يشبه سورة الشعراء في هذا الجانب إلا سورة القمر. والحقيقة أن التلاحم ينشأ – كما أسلفنا – من خلال تكرُّرِ عنصر لغوي معين بشروط معينة. ونستطيع أن نصطلح على تسمية هذا العنصر المكرر الذي ينشئ التلاحم في البناء اللغوي للنص القرآني بالآصرة اللغوية. ولكي تتأهل الكلمة أو العبارة لتكون آصرة لغوية لها قوة الربط بين جزأين مختلفين من السورة، لا بد أن يتوفر فيها ثلاثة شروط، إذ ليس كلُّ عنصرٍ لغويٍّ مكررٍ في السورةِ كان أهلًا ليكونَ آصرةً لغوية.

الشرط الأول: أن يكون العنصر المكرر متفردًا بخاصيةٍ لغويةٍ معينة، كأن يكون العنصرَ اللغويَّ الوحيدَ الذي يتكرر في السورة ولا يظهر في أي سورة أخرى. فقد يكون هذا العنصر كلمةً فريدةً أو عبارةً ذات تركيب لغوي متفرد لا تظهر إلا في سورة واحدة.

الشرط الثاني: أن يقع العنصر المكرر في موقعين متباعدين. فالتباعد ضروري لأن وظيفة الآصرة اللغوية هي الربط بين مقاطعَ متباعدةٍ في السورة يُظَنُّ أنها غيرُ مترابطةٍ لبعد المسافة بينها، ولأن تكرار الكلمة أو العبارة ذاتها في مواضع متقاربة مما يقتضيه عادةً اتصالُ الموضوع وانسياقُ الحديث.([5]) ولكن قد يقع العنصر المكرر في موقعين متقاربين إذا كان الموقع الأول يختص بمقطع والثاني بمقطع آخر.

الشرط الثالث أن يقع العنصر المكرر في سياقين مختلفين. فاختلافُ السياقِ ضروريٌّ لأنَّ العنصرَ اللغويَّ قد يتكرر في مواقع متباعدة في السورة بلا فاصل من موضوع جديد أو جانب جديد من نفس الموضوع، وعندئذٍ تكون وظيفتُه الربطَ بين أجزاء الموضوع الواحد الذي يتكرر فيه.

على هذه الشروط الثلاثة – التفرد، وبعد المسافة، واختلاف السياق – تقوم قاعدة تلاحم البناء اللغوي في القرآن. فإذا رأيتَ عنصرًا لغويًّا تنطبق عليه هذه الشروط في سورةٍ معينة، فاعلَمْ أن هذا العنصر مختارٌ ومصمَّمٌ ليكون آصرةً لغويةً تربط بين أجزاء تلك السورة. ومختارٌ ومصمَّمٌ ليمنح تلك السورة خصائص لغويةً تنفرد بها عن سائر السور. ومختارٌ ومصمَّمٌ لِيَدُلَّ على وجود القصد والتصميم والإحكام من وراء تنظيم السورة القرآنية على النحو الذي هي عليه في القرآن. ولكن هذا العنصر ثمين جدًّا لا تراه ظاهرًا مكشوفًا أمام عينيك، بل لا بد من البحث عنه والتنقيب ككل العناصر الثمينة في هذا الوجود. فلذلك طابع الصرامة واضح في هذه الشروط ويوحي بتعذر انطباقها على كثير من العناصر اللغوية في القرآن. ولكن إذا استطعنا، رغم هذه الصرامة، أن نعثر على عدد كبيرٍ من الأواصر اللغوية التي تنطبق عليها هذه الشروط في سور القرآن المختلفة، مكيِّها ومدنيِّها، طويلها وقصيرها، فإن ذلك يعني أن المنهج الذي نتبعه في هذا الكتاب لإثبات تلاحم أجزاء السورة القرآنية منهجٌ موضوعيٌّ يقوم على أسس ٍثابتة، وقاعدةٍ مطردة، لا على ملاحظاتٍ متفرقةٍ لا تنضبط بقانون أو فلتاتٍ عارضةٍ لا تتكرر بانتظام.

ومن مقتضيات هذه الشروط أنْ ليست كل الكلمات التي تتكرر صالحةً لتقوم بوظيفة الآصرة اللغوية في القرآن. فالكلمات الكثيرة الدوران في القرآن، والتي ترتبط بأغراضه الأساسية المتكررة ارتباطًا وثيقًا، لا تصلح أن تكون أواصر لغوية تربط بين المقاطع، لأن كثرة الشيوع تُفْقِدُها قوةَ الربط، وقوة الربط أساسها التفرد والندرة. فمن أمثلة هذه الكلمات الكفر والإيمان، والجنة والنار، والدنيا والآخرة، واليوم والعذاب، والأرض والسماء والماء، وذلك وتلك، والكتاب والإنزال والآيات، والمِثْل والمثَل. فكلما كانت الكلمة أو العبارة نادرة الوقوع، كانت قوتها في الربط بين المقاطع أقوى. ولكن العجيب في نظم القرآن أنه يختار هذه الكلماتِ الكثيرةَ الدورانِ نفسَها، ويُدْخِلُها في تركيبٍ لغويٍّ فريد، ثم يصنع منها أواصرَ لغويةً قويةً على نحوٍ مدهش. وفي هذا النوع من الأواصر يتجلى تفرد النص القرآني في أروع صوره. فلنضرب له بعض الأمثلة هنا لتقريبه إلى التصور حتى نلتقي به في مجالٍ أوسعَ في فقراتٍ قادمةٍ من هذا الفصل وفي الفصول القادمة من هذا الكتاب.

فمثلًا تتردد كلمة «اليوم» في القرآن أكثر من أربعمائة مرة، وهو شيوع كبير يضعف قوتها في الربط بين المقاطع. ولكن السياق القرآني يأخذ هذه الكلمة الشائعة ذاتها ويكسوها حلةً تركيبيةً فريدةً فيصنع منها آصرةً لغويةً قوية. قال تعالى: ﴿يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّـهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ [غافر: 16]، وقال تعالى: ﴿يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّـهِ إِن جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ [غافر: 29]. فعبارة ﴿الْمُلْكُ الْيَوْمَ﴾ فريدةٌ لا مثيل لها في القرآن، ولا تقع إلا في هاتين الآيتين، وهي من ثَمَّ عروةٌ وثيقةٌ تربط بين مقدمة السورة وجزئها القصصي ربطًا لفظيًّا ومعنويًّا، وتجعل المقدمة تمهيدًا لقصة موسى وفرعون. إنها عبارة واحدة تؤدي معنيين مختلفين في السياقين: فالْمُلْكُ في السياقِ الأولِ غيرُ الْمُلْكِ في السياق الثاني، وكذلك اليوم. فهي بهذا التفرد تستوفي الشروط الثلاثة للآصرة اللغوية، وهي التفرد وبعد المسافة واختلاف السياق. وفي هذا تتجلى اللمسة الباهرة ليد القدرة التي تخلع على كلمة عادية كثيرة الشيوع هذه الصفة الفريدة فتجعلها عَلَمًا بارزاً بين العبارات لا يشبهها شيء.

ومِثْلُها كلمة «مِثْل» التي تتردد في القرآن خمسًا وسبعين مرة. فإذا مسها تغيير لغوي طفيف لا يكاد يُلحظ، تحولت إلى قنطرةٍ فريدةٍ تربط بين جزأين متباعدين بعداً شديدًا في سورة طويلة كآل عمران. قال تعالى: ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الْأَبْصَارِ﴾ [آل عمران: 13]. وقال تعالى: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَـٰذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إِنَّ اللَّـهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [آل عمران: 165]. إن كلمة «مِثْل» لا تقع في القرآن كله مُثَنّاةً إلا في هاتين الآيتين من سورة آل عمران. وهي بصيغتها هذه الفريدة تربط بين سياقين متباعدين في التاريخ وفي السورة. أما في التاريخ فالسياق الأول يخاطب الكفار ويذكرهم بغزوة بدرٍ التي هُزموا فيها وقد رأوا المؤمنين مثليهم رأي العين، وقذف الله الرعب في قلوبهم. والسياق الثاني يخاطب المؤمنين عقب غزوة أُحُد، ويذكرهم بأنهم – وإن أصيبوا في هذه الغزوة – فقد أصابوا مثليها من المشركين في بدر. وأما في السورة فَيَفْصِلُ بين الآيتين مائةٌ واثنتان وخمسون آية. فبمثل هذه اللمسات الخفية الدقيقة، التي تنشئ الكلمة العادية نشأةً جديدةً وفريدة، تتلاحم أجزاء سور القرآن. وإذا علمنا أن للآية الثانية التي تتحدث عن غزوة أُحد صلةً لفظيةً وثيقةً ومتفردةً بآيةٍ أخرى بعيدة تتحدث عن قصة مريم في نفس السورة [آل عمران: 37]، ازددنا يقينًا أن التشابك اللغوي بين آيات السورة لا تنقضي عجائبه. ولكننا نرجئ مثل هذا الحديث إلى أوانه في هذا الكتاب.

ومن مثلها كلمة «تِلْكَ» التي تتكرر في القرآن ثلاثًا وأربعين مرة. وهي في جميع مواقعها ترِدُ مجردةً من الزيادة، والزيادة التي تطرأ عليها في اللغة عادة هي ميم الجمع (تِلْكُمْ) وميم التثنية (تِلْكُمَا). إلا أنها ترِد في موضعين من القرآن مُحلّاةً بهاتين الزيادتين في سورة واحدة. قال تعالى: ﴿فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍۚ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِۖ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾ [الأعراف: 22]. وقال تعالى: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُۖ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُۖ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّۖ وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف: 43]. نحن هنا أمام مشهدين مختلفين في موقعين متباعدين من سورة الأعراف. المشهد الأول في الجنة قبل أن يهبط منها آدم وزوجه إلى الأرض بعد وسوسة الشيطان لهما، والنداء فيه من الله موجه إليهما. والمشهد الثاني في الجنة كذلك، ولكن جنة الآخرة، بعد أن انتهت الحياة الدنيا وآبَ الناسُ إلى ربهم بعد رحلتهم الطويلة في الأرض، تلك الرحلة التي بدأت بعد هبوط أبيهم آدم إلى الأرض، والنداء فيه موجه إلى أبناء آدم.

ويريد السياق القرآني أن يربط بين هذَيْنِ المشهدين المختلفين أشد الاختلاف، بين الجنة قبل أن يخرج منها آدم، وبين الجنة بعد أن رجع إليها أبناء آدم، بعد انقضاء فترةٍ من الزمان لا يعلم مداها إلا الله. فيختار كلمة «تلك» التي تفيد الإشارة ويضيف إليها ميم التثنية ﴿تِلْكُمَا﴾ في الآية الأولى التي فيها قصة آدم وزوجه لأنها مبنية على التثنية كي تتناغم مع أخواتها في الإيقاع. ويضيف إليها ميم الجمع ﴿تِلْكُمُ في الآية التي فيها الخطاب لجماعة المؤمنين في الجنة. إنَّ «تلك» تشير في الآية الأولى إلى الشجرة المحظورة التي كانت سببًا في خروج آدم وزوجه من الجنة، وتشير في الآية الثانية إلى الجنة التي عاد إليها بَنُو آدم بعد ذلك الخروج القديم. وبهذه وتلك يحقق السياق القرآني ربطًا محكمًا بين الآيتين بصيغةٍ لغويةٍ لا توجد في القرآن كله إلا فيهما.

ولكن السياق القرآني لا يكتفي بهذا الربط المحكم العجيب بين الآيتين في اللفظ والمدلول، وإنما يأتي بكلمةٍ أخرى تتكرر في الآيتين وهي قوله تعالى: ﴿وَنَادَاهُمَا، وقوله تعالى: ﴿وَنُودُوا﴾، كأنما يريد أن ينفي أي شبهةٍ للمصادفة في هذا الاختيار. فمادة «نادى» التي تتكرر في القرآن ثلاثًا وخمسين مرة بصيغها المختلفة لا تجتمع في القرآن كله بكلمةِ «تلك» إلا في هذَيْنِ الموضعين. فالنداء الأول كان لإعلان الهبوط، هبوط آدم وزوجه من الجنة إلى الأرض. والنداء الثاني كان لإعلان الاستقبال، استقبال العائدين من الأرض من ذرية آدم إلى الجنة، وإعلان وراثتهم لدار الخلود. يقول سيد قطب: «فكأنما كانت هذه عودة المهاجرين وأوبة المغتربين عن دار النعيم. وكأنما استحقوا الإياب وأُورِثوا الجنة، لأنهم عَصَوُا الشيطان، بعد أن كان اتِّباعُهُ سببَ الخروج.»([6]) ويأتي الكشف عن التلاحم اللفظي المتفرد بين المشهدين في هذه الدراسة تصديقًا وتأييدًا لذلك التلاحمِ الغَرَضِيِّ الذي أدركه سيد قطب بحسِّه الأدبي النافذ.

بهذه الدقة المذهلة تصاغ القصة في القرآن وترتبط بالسورة التي تقع فيها ارتباطًا لفظيًّا ومعنويًّا وثيقًا. ومن هنا استحال أن توضع قصة آدم التي في الأعراف مكان قصته في البقرة رغم التشابه الشديد الذي يكاد يبلغ حد التطابق بين القصتين. ولنا في الفصل القادم حديث مفصَّل عن علاقة القصة بسورتها في القرآن.

([1]) مقتطف من الفصل الثاني من كتاب "نظم القرآن..."، الصادر عن مؤمنون بلاحدود للنشر والتوزيع2022

([2]) لقد ظهرت محاولة مبكرة في أوائل القرن العشرين قام بها العالم المسلم الهندي، عبد الحميد الفراهي (ت: 1930م) للكشف عن الوحدة الموضوعية في القرآن، وألف كتابًا سماه دلائل النظام، ربما تيمنًا بكتاب دلائل الإعجاز للجرجاني. فقد حاول في هذا الكتاب أن يصوغ نظرية للنظام الذي تصور وجوده في القرآن، ثم طبقه على عدد من السور القصار في تفسيره الذي سماه نظام القرآن. تقوم فكرة النظام عنده على أساس أنَّ لكل سورة عمودًا تدور عليه موضوعاتها، وهذا العمود يمكن استنباطه من خلال التأمل الكلي الدقيق للأغراض والمعاني التي تشتمل عليها السورة، وعلى أساس أنَّ السورة – فوق كونها وحدةً واحدةً في نفسها – تتناسب مع ما قبلها وما بعدها حتى يصير القرآن كله كلامًا واحدًا من أوله إلى آخره. انظر: عبد الحميد الفراهي، دلائل النظام (المطبعة الحميدية، 1388هـ)، 75. وهذا نفس الرأي الذي قال به برهان الدين البقاعي (ت: 885هـ) من قبل، والذي يرى أنْ لا وقف تام في كتاب الله ولا على سورة الناس، لأنّ اتصال سورة الناس بما قبلها كاتصالها بالفاتحة أو أشد. انظر: برهان الدين أبو الحسن إبراهيم بن عمر البقاعي، نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (القاهرة: دار الكتاب الإسلامي، بلا تاريخ)، 1: 15. ولكن للفراهي في استنباط عمود السورة لفتات قيِّمة ونظرات عميقة جديرة بالتأمل ليست عند البقاعي أو غيره من الأقدمين. إلا أنه قد يعتسف المعاني أحيانًا في بحثه عن عمود السورة ويربط معنى آيةٍ بآياتٍ أخرى لا علاقة لها بالموضوع. فمن ذلك أنه يربط قوله تعالى: ﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [المائدة: 6] – وهذه آية تتحدث عن تطهير البدن من النجاسة الحسية، وهذه الجزئية التي استشهد بها من الآية خاصةً تعقيبٌ على الحرج الذي رفعه الله عن الناس بإباحة التيمم عند فقد الماء – يربط هذه الآية بآيات أخرى سابقة تتحدث عن الوفاء بالعقود، وعن تحريم العدوان على الحجيج وهديهم، وعن تحريم الصيد أثناء الإحرام، وعما أُحِلَّ من طعام أهل الكتاب والمحصنات من نسائهم، وعما أُحِلَّ وحُرِّمَ من الذبائح، وعن إكمال الدين وإتمام النعمة. يقول في هذا: «فالذبح طهور للبهائم، والمهر وقصد الإحصان طهور للنساء، والوضوء طهور للصلاة.» انظر: عبد الحميد الفراهي، نظام القرآن (نيو دلهي: الدائرة الحميدية، الطبعة الأولى، 2008)، 44. إنّ هذا المعنى الذي يختاره الفراهي – فوق ما فيه من التعسف – يتجاهل معاني أخرى جليلة في تلك الآيات، منها الأمر بالتعاون على البر والتقوى وعدم التعاون على الإثم والعدوان، ومنها إعلان إكمال الدين وإتمام النعمة، بالإضافة إلى المعاني الأخرى التي ذكرناها. وكلها لا علاقة لها بالطهارة بالمعنى الذي تنص عليه الآية السادسة، اللهم إلا إذا تمحلنا معنى الطهارة المعنوية تمحلًا وفرضناه على النص فرضًا. فعندئذٍ لا يثبُت للنص معنًى، وتصبح النصوص سيَّالةً يموج بعضها في بعض، ويصبح بمقدور كل إنسانٍ أن يركِّب ما شاء من المعنى على ما شاء من النص بلا ضابط ولا نظام. وعندئذٍ، وعندئذٍ فقط، يصبح القرآن كله كلامًا واحدًا من أوله إلى آخره، على تباين موضوعاته، وتعدد أغراضه، وتنوع مجالاته.

([3]) يقع حرف الجر «في» تاليًا للفعل «أرسلنا» في مواضع قليلة في القرآن في سياق التأكيد على أن الرسول من القوم الذين أُرْسِل إليهم، كما في قوله تعالى: ﴿فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُۖ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾ [المؤمنون: 32] أو في سياق التأكيد على الموضع الذي أرسل إليه الرسول، كما في قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ﴾ [سبأ: 34].

([4]) See M.A.K Halliday and Ruqaiya Hasan, Cohesion in English (Edinburgh Gate, Harlow: Longman Group Limited, 1976), 3, 89, 143, 227.

([5]) مثال هذا ما جاء في قصة إبراهيم في سورة الأنعام من وقوع كلمة «أَفَلَ» ثلاث مرات، والتي لا تظهر في القرآن كله إلا في هذه القصة. قال تعالى: ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًاۖ قَالَ هَٰذَا رَبِّيۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَٰذَا رَبِّيۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَٰذَا رَبِّي هَٰذَا أَكْبَرُۖ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: 76-78]. فكلمة «أَفَلَ» وإن كانت تحقق التلاحم بين أجزاء القصة نفسها فإنها ليست آصرة لغوية تربط بين مقطعين مختلفين لورودها في نفس السياق. ويقال مثل هذا في كلمة «بَزَغ» التي في القصة نفسها.

([6]) سيد قطب، التصوير الفني، 180.