نظْمُ القُرْآنِ قراءةٌ جديدة فِي تَجَانُسِ إيقاعِهِ وَتَلَاحُمِ بِنَائِهِ


فئة :  قراءات في كتب

نظْمُ القُرْآنِ قراءةٌ جديدة فِي تَجَانُسِ إيقاعِهِ وَتَلَاحُمِ بِنَائِهِ

نظْمُ القُرْآنِ قراءةٌ جديدة فِي تَجَانُسِ إيقاعِهِ وَتَلَاحُمِ بِنَائِهِ

هذا الكتاب يَقْتَرحُ نظريةً جديدةً عن الأساسِ الذي يقوم عليه بناء السورة. فمن المعلوم أنَّ السورة القرآنية لا تتناول موضوعًا واحدًا، وإنما تتناول موضوعات متعددة، كإثبات الوحي، والحِجَاج مع المشركين، وقصص المرسلين، ومشاهد القيامة، والآيات الكونية، والأحكام التشريعية، وغيرها. وعلى مدار القرون، لم يستطع علم المناسبة أن يَعْثُرَ على خيطٍ فريدٍ يجمع بين هذه الموضوعات المتعددة من خلال المعاني المشتركة بينها، لأنَّ المعانيَ بطبعها ذاتية تتعدد بتعدد الباحثين.

في هذا الكتاب، تجد ذلك الخيط الفريد الذي ظلَّ مراوغًا بعيدَ المنال. تجده في تلاحم البناء اللغوي للسورة. إنَّ السورة، على تعدد موضوعاتها، يجري فيها خيط فريد من الأواصر اللغوية يَرْسُمُ لها شخصيَّةً لغويَّةً مستقلةً تنفرد بها عن سائر السور في القرآن، شخصيةً لا تتعدد بتعدد الباحثين لأنها ترتسم من خلال كلماتٍ وتراكيبَ متفرِّدَةٍ لا تظهر إلا فيها.

إنَّ هذا الكتابَ، في تقديرنا، مشروعٌ عِلْمِيٌّ تأسيسيٌّ يسعى إلى تقديمِ دليلٍ ماديٍّ ملموسٍ على ربَّانيةِ المصدر القرآني. وإلى تقديمِ تفسيرٍ شاملٍ للإعجاز الكامن في نَظْمِ القرآن، لا من خلال نظرية النَّظْمِ عند الجرجاني، ولا من خلال نظرية الإعجاز البلاغي عند المتقدمين والمتأخرين، ولكن من خلال ما يقوم عليه بناءُ السورة ِمن تَلاحُمٍ لُغَوِيٍّ مُحْكَمٍ لا يمكن أن يكون إلا من لدُنْ حكيمٍ خبير.

إنه مشروعٌ يحاول أن يَدْرُسَ القرآن في صورتِه الخامةِ في المصحف قبل أَنْ تُسَلَّطَ عليه قوانينُ النحوِ، وقواعدُ البلاغةِ، ومذاهبُ التفسيرِ، وأدواتُ التأويل. وهو في الأصل أطروحة نال بها المؤلف درجة الدكتوراه من جامعة أبردين بالمملكة المتحدة باللغة الإنجليزية. وَيَصْدُرُ الآن في نسخته العربية في سبعة فصول. فالفصل الأول يُعْنَى بِتَتَبُّعِ مصادرِ الإيقاعِ في القرآن، ويكشف عن العناصر اللغوية التي ينبثق منها ذلك الإيقاع، كالحروف والتنوين والضمائر وغيرها من الأدوات التي تتكرر بنسب دقيقة ومقادير موزونة، وتنشئ ذلك الإيقاع الذي ينفرد به القرآن عن الشعر وعن النثر. ذلك الإيقاع الذي تطرب له الأذن، وتهتز له النفس، ولا يخلق على كثرة الرد.

والفصول الستة الباقية، وهي لُبُّ الكتاب، تتناول تلاحم البناء اللغوي في القرآن. فالفصل الثاني يضرب أمثلة كثيرة ومتنوعة، منتزعة من السور المكية والمدنية لإثبات أن تلاحم البناء اللغوي قانون عامٌّ ينطبق على القرآن كله، مكيِّه ومدنيِّه. وهذا الفصل هو مفتاح هذا الكتاب لأنه يشتمل على الإطار النظري الذي تقوم عليه فكرة الكتاب مع الأمثلة التطبيقية التي تصدقها. فلا بد من قراءة هذا الفصل قبل الانتقال إلى غيره. والفصل الثالث يتناول القصة في القرآن وعلاقاتها المتفردة بسورتها التي ترِد فيها، لاختبار صدق ذلك القانون على مستوى موضوع واحد وهو القصة.

أما الفصل الرابع فمخصص لدراسة سورة الأنعام كاملةً، وذلك لإثبات أن قانون التلاحم يعمل على مستوى السورة الكاملة كما يعمل على مستوى الأمثلة المتفرقة، وعلى مستوى الموضوع الواحد. وقد جاء اختيار سورة الأنعام لهذا الغرض لأنها من السور التي لا تقبل القسمة إلى مقاطع مستقلة، ولأنها تحمل الطابع العام للقرآن المكي. ومع ذلك فهي تنفرد بملامحها اللغوية الخاصة. والفصل الخامس يدرُس سورة الكهف لأنها نقيض سورة الأنعام في أنها تقبل القسمة إلى أجزاء مستقلة، ومع ذلك فهي متصلة بقانون تلاحم البناء اللغوي.

والفصل السادس يختص بسورة يوسف لأنها السورة الطويلة الوحيدة في القرآن التي تتناول قصة واحدة من أولها إلى آخرها. ومن ثَمَّ فهي لا تحتاج إلى تلاحم لغويٍّ يربط بين أجزائها. ومع ذلك، فقانون التلاحم اللغوي يعمل فيها كما يعمل في السور الأخرى، مما يثبت أن النظم القرآني لا يتخلى عن طريقته حتى في أشد السور تلاحمًا وتماسكًا. والفصل السابع والأخير يختم الكتاب بإلقاء الضوء على حديث الأحرف السبعة وقصة جمع القرآن، وإثبات أن القرآن لم يكن يومًا متعدد الألفاظ، وأنه دوِّن وجُمع في حياة النبي ﷺ.

وَكَخُطَّةٍ عامة، يتدرج هذا الكتاب في عرض موضوعاته من الخاصِّ إلى العامِّ، ومن الدقيقِ إلى الجليل: يبدأ بالحروف، ثم ينتقل إلى الكلمات، ثم إلى الجُمل. كما يبدأ باستقاءِ أمثِلَتِه من سُوَرٍ متفرِّقةٍ، مكيَّةٍ ومدنيَّةٍ، طويلةٍ وقصيرةٍ، لِيَخْتبرَ صِدْقَ قاعدةِ تلاحم البناء اللغوي في البيئات اللغوية المختلفة على أكبرِ عددٍ ممكنٍ من النماذجِ القرآنية. ثم يتنقل بعد ذلك إلى اختبار تلك القاعدة على مستوى السورة الكاملة. فيختار لهذا الغرض سُوَرَ الأنعام، والكهف، ويوسف. وفي الحالتين، في حالةِ اختبار القاعدة على أمثلةٍ من سُوَرٍ متفرقة، وفي حالة اختبارها على مستوى السورة الكاملة، فإن السورة هي الوحدة الأساسية للتحليل. فالتلاحم الذي يتمُّ رصدُه وتحليله إنما هو في نطاق السورة الواحدة باعتبارها وحدةً نصيةً قرآنيةً مستقلةً لها بداية ولها نهاية. ولا شأن لهذا الكتاب بما يتكرر من الكلمات أو العبارات أو الآيات في سور مختلفة، فذلك شأنٌ خاصٌّ بدراسة العلاقات البنائية بين السور المختلفة، المتجاورة منها وغير المتجاورة.

لقد اخترنا عنوان نظم القرآن لهذا الكتاب لأن النَّظْم واسع المدلول، متعدد المعاني. فالنظم يعني التركيب، أيْ دخولَ الكلمة في علاقات نحوية مع غيرها من الكلمات لتكوين الجملة، ثم النص. ويعني كذلك الترتيب، أيْ تنسيقَ الكلمات والجمل والفقرات على نحو معيَّن يُخْرِجها من حيِّز الفوضى إلى حيِّز النظام، فيَجمعها بعد تفرُّق، ثم يكسوها الجلال والجمال. ويعني كذلك الأسلوب، أي الطريقةَ التي يسلكها كل نص للتعبير عن أغراضه، ويتميز بها عن غيره من النصوص سواء في إيقاعه في السمع أو تأثيره في النفس. ويعني كذلك تنظيم الأفكار والمعاني في أجزاء النص الواحد بحيث يرتبط بعضها ببعض، ويتصل السابق منها باللاحق، والمقدمة بالنتيجة. ونظم القرآن –على النحو الذي استُعمل به في سياق هذا الكتاب– يتضمّن كل هذه المعاني، وهو أوسع في مدلوله مما عنى به الأقدمون عند إطلاقه. وأهم ما يميز معنى النظم في سياق هذا الكتاب تركيزُه بصورةٍ حصريةٍ على دراسةِ النصِّ القرآني، لا على دراسة العلوم والمعارف والنظريات التي دارت حوله، وبهذا يفترق منهج هذا الكتاب عن المناهج التي اتبعها السابقون لدراسة القرآن.

إنه يعرض حقائق جديدة عن القرآن في تجانس إيقاعه وتلاحم بنائه مرتكزًا على حقيقة أنه كتابٌ متشابه مكرَّر. يتكرر فيه القصص، والمواعظ، والأمثال، ومشاهد القيامة، والآيات الكونية، والحجاج مع الكفار والمشركين، وغيرها من موضوعاته. إن هذه الحقيقة، حقيقة كون القرآن كتابًا متشابهًا مكرَّرًا، أبرز سمة في القرآن، وفيها تكمن أسرار إبداعه، وعليها مدار إعجازه. ويتجلى من خلال هذا التكرار الدقةُ الباهرةُ في اختيار الحروف والكلمات والتراكيب، تلك الدقة التي تصوغ من كلمات متشابهة، وتراكيب متقاربة، وموضوعات متداخلة، شخصيةً لغويةً مستقلةً تنفرد بها كلُّ سورة عن أختها، وتمنع أن تنتقل آياتها إلى سور أخرى مهما تشابهت عباراتها وموضوعاتها. ذلك أنّ النظم القرآني يَعْمِدُ إلى عناصر لغوية معينة، فيكررها في مقاطع مختلفة من السورة، لِيَدُلَّ ذلك التَّكرارُ على تلاحم تلك المقاطع، ثم لا يكرر تلك العناصر اللغوية في أيِّ سورة أخرى في القرآن. فالسورة هي الوحدة الأساسية التي يدور عليها التحليل، فما يتكرر من العناصر اللغوية في سور مختلفة يقع خارج نطاق هذه الدراسة.

وأخيرًا، فإنّ هذا الكتاب، فيما نحسب، مرجعٌ علميٌّ يجد فيه الأكاديميُّ المتخصصُ بغيتَه، كما يجد فيه القارئُ العامُّ ضالتَه. إنّه مصمّم بصفة خاصة ليكون مرجعًا للذين يريدون أن يواجهوا المشككين في ربانية المصدر القرآني من المستشرقين وتلاميذهم. ذلك أنّ أكبر تَحَدٍّ واجهه القرآن أثناء نزوله في العهد النبوي، ثم بعد اكتمال نزوله، ثم على مدار التاريخ، وحتى يومنا هذا، هو الشك في أنه من عند الله. وقد شغلت قضية إثبات الوحي مساحة كبيرة في القرآن نفسه. ويأتي هذا الكتابُ مساهمةً جادةً للتصدي لهذا الشك بمنهجٍ علميٍّ رصين. فالأدلة التي يقدّمها على ربانية المصدر القرآني مؤيدةٌ بإطارٍ نظريٍّ عِلْمِيٍّ مُحْكَمٍ، وبأمثلةٍ تطبيقيةٍ موضوعيةٍ لا يستطيع إنكارها إلا مكابر. ونحسب أن القارئ سيجد في كل فقرة من فقرات هذا الكتاب ما لا يجده في الدراسات السابقة، وما لم تره عيناه من قبل في كتاب.

أسأل الله أن ينفع به، ويتقبله مني، ويجعله خالصًا لوجهه الكريم.