تنازع الهوية الوطنية حول الشعراوي


فئة :  مقالات

تنازع الهوية الوطنية حول الشعراوي

تنازع الهوية الوطنية حول الشعراوي([1])

السعي نحو فضاء مرجعي

د. عاصم طلعت

أذنت طبيعة العصر الذي نعيشه وتقلباته الأيديولوجية المتتابعة، بصراع ثقافي سمح بتجاوز حدود العرف والتقاليد عبر نقض كل ما هو إنساني، ونفي لما هو راسخ وأصيل، تلك الحرب التي لعبت على أوتارها العديد من التيارات الراديكالية، إبان ظرفية انتقل فيها الجميع من "عصر الثّوابت" إلى "عصر الشّك" الذي انتصر له العديد من التوجهات الفكرية في بعض البلدان العربية - منذ عقود - تحت تمظهر الانحياز العلمي الذي أثر على جلّ التوجهات الفكرية في العصر الحديث بما فيها التوجهات التشريعية الدينية، وإذا استحضرنا مقول "كل طرق المعرفة في الإسلام تؤدي إلى السياسة"([2])؛ فإن الأمر يرتهن بالصراع الديني في المنطقة العربية، ولاسيما مصر، والذي قام على أسسٍ داعية إلى "الفهم الصحيح لمراد الدين" في إطار مضامين الهوية والوطنية على السواء؛ وهنا تقتضي الضرورة النظر إلى التوجهات الإسلاموية التي انحازت إلى آلية (التشكيك) مسلكا للتعبير عن أيديولوجيتها ومقاصدها - في الراهن - من خلال طَرْق مفهوم (الدين) كعلاقة تصرف الانتباه إلى العلاقات البينية والشبكات الاجتماعية أكثر من الكيفية التي يحدد بها الدين كعقيدة؛ ساعية نحو تخليق هوية بديلة لما هو تراثي وأصيل في إطار من التلبيس للمفاهيم والتمييع للمضامين السائدة؛ إثر جولات الإخفاق السياسي التي لحقت بتوجهاتها إبان الفترة التي عقبت ما أطلق عليه "ثورات الربيع العربي"، والذي نتج عنه انتصار الجمعي إلى موروث الهوية بديلا للتوجهات (الإسلاموية) الزائفة؛ ومن ثم باتت العلاقة الرابطة بين مفاهيم العلوم الاجتماعية وطبيعة الخطاب الدعوي - في الراهن - قائمة على مفاهيم بديلة تتعامل مع الظاهرة نفسها (التشكيك في الثابت القيمي/ الشرعي) على أنها مطية لنقض الآخر لتحقيق الـ "أنا" وفق توجه راديكالي نفعي.

أهمية الدراسة:

تمنح الدراسة قارئها إجابة عن ماهيه التلبيس التي تعرضت لها العديد من المجتمعات العربية، ولاسيما مصر، والتي تسببت في حالة من الضبابية تجاه "فهم صحيح الدين" لدى العوام (الناس العاديين)، كما تمنح القارئ دراية بالمسالك والتكتيكات المطروحة التي تعظم من حالة (التشكيك) في القيمي/ التراثي؛ لهدف استراتيجي يرنو إلى تهميش "الهوية" الراسخة في مكون اجتماعي بعينه لتخليق (هوية) ثقافية جديدة في تمظهر الأصيل؛ الأمر الذي ربما يفسر حالة التنازع على مفهومية "الدين وعلاقته بالهوية أو الوطنية" في المنطقة الشرق أوسطية بعامة ومصر بخاصة.

كما تسعى الدراسة إلى تسلط الضوء على الحملة التي حاولت النيل من الشيخ الشعراوي - كنموذج تطبيقي - لا باعتباره ممثلا لتجديد درس التفسير في العصر الحديث، ولكن باعتباره مرجعية ثقافية تعبر عن تضافر الهوية المصرية مع التشريع الديني عبر تمظهر يكشف عن تآزر الجمعي مع الإنتاج التفسيري الديني.

وعلى هذا، نحن نقصد من وراء الدراسة المطروحة التعرض إلى الدين لا باعتباره دين (المادة) ولا دين (الممارسة)، ولكن ترنو - الدراسة - إلى مفهومية الدين كـ(خطاب) موجه يعبر من خلاله عن علاقة الترابط مع الجمعي، لإعلاء هدف سياسي مأمول.

العلاقة بين الشك وتوجه الجمعي:

بات السعي صوب تفهم إشكالية الصراع القائم في المنطقة العربية في ما هو راهن مرتهنا بالترويج لـــ (الفهم الصحيح لمراد الدين) الذي حل مطية سياسية يراد بها إحالة التوجه الفردي تجاه الشريعة وتصيره صوب قضية جمعية سياسية، حيث انحاز الظهير السياسي الإسلامي في خطابه الديني إلى إخراج الدولة ومؤسساتها - في ضمير المتلقي - على أنها فرطت في الدين من أجل إعلاء المبادئ السياسية والحفاظ على (كرسي الحكم)، بينما اعتمد الخطاب الدعوي المؤسساتي على نقض توجهات الأول عبر تمظهر ديني / وطني، ولاسيما أن التوجهات المضادة للدولة فرضت على المواطن مناهضة نظمه السياسية (المؤسساتية) المتسيدة لسدة الحكم في البلدان العربية؛ استنادا على ذريعة (الشك) المميعة للهوية الثقافية الأصيلة، وبات نصيب "الناس العاديين" من هذا الصراع السياسي هو المحنة؛ لأنهم حلوا "فرس الرهان" المتسابقة عليه القوى السياسية جذبا واستمالة؛ باعتبارهم الجذوة التي يتم من خلالها، إما التثوير والتغيير، وإما التأكيد والتعضيد تحت تمظهر التحرر وتحقيق العدالة الاجتماعية، وقد أسهمت في ذلك حالة السماح التي انتهجتها الدول العربية حديثا (حرية الرأي والتعبير) كأحد روافد الديمقراطية التي سعت إليها في الماضي إبان فترات الاحتلال([3]).

وهنا تكمن المعضلة؛ معضلة بقاء "الناس العاديين" في حالة من التأرجح الثقافي تجاه الصناعة الدعوية المقدمة إليهم؛ فلا هي تراثية تقنع، ولا هي حداثوية تقدم؛ الأمر الذي يبدو - في المخيال - من أكثر الظواهر الاجتماعية خطورة - في آن - نتاج ما ترتب على هذا الصراع من تمييع الهوية الثقافية وتلاشي ضوابطها الحاكمة التي يلتجئ إليها العربي لمواجهة الغزو الثقافي الأجنبي.

حالة التشكيك الثقافي في مصر:

إن ذريعة التشكيك الثقافي في أي مجتمع تعمل على هلهلة الترابط الجمعي وزعزعة روح الانتماء بين المواطن والمرجعيات الثقافية لمكونه البيئي؛ الأمر الذي لعبت على أوتاره القوة الراديكالية في مصر تحت ستار الدين، والتي حققت من خلاله فوزا سياسيا موقوتا إبان ما أطلق عليه "الربيع العربي"؛ ونتاج الممارسات غير الوطنية المنتهجة أعقاب تسويدهم على سدة الحكم في بعض البلدان العربية ومصر بخاصة؛ أدى بالمواطن إلى رفض سياساتهم المسيرة وفق مبتغى راديكالي على هامش الدين؛ فنجم عن هذا الأمر نزال سياسي قائم بين "الإسلاميين" و"النظام المؤسساتي" اعتمد الأول في توجهه على التيقن - القوى المناهضة - بحتمية الانحياز إلى مسلك آخر يتفق ومآلتهم ومقتضى ثقافة الجمعي، فكان ولابد - في المخيال - من هدم ما هو كائن سياسي؛ اعتمادا على المطية الثقافية سبيلا لتخليق حالة من "الفضاء العمومي" في مجالات عدة: سياسية، دينية، اجتماعية، واقتصادية([4])، بغية خلق حالة مائعة في الضمير الجمعي حول المرجعيات الكبرى، وهذا ما يمكن تسميته بــ "ضبابية المرجعيات" وهذا ما يترتب عليه غياب الاتفاق الجمعي حول المسلمات الهوياتية، أو فقدان الإجماع حولها؛ إذ إن الحالة الثورية التي انتشرت في مصر أدت إلى الثورة على كل قائم، ولاسيما المرجعية الدينية، وما زاد من هوة تمييع الصورة وضبابية المرجعية (الدينية) حالة الضعف الثقافي والتعليمي التي انتابت العديد من المكونات البيئة "المهمشة /المنغلقة" المتغلغلة في البلاد؛ ومن ثمَّ بات المواطن المصري المعاصر يعيش على وقع تحولَيْن كبيرين:

الأول: هو الشعور بحالات القلق واللامعيارية والصدمة والشك وفقدان الاتجاه نحو (صحيح الدين).

بينما الثاني هو محاولة بناء هوياتٍ جديدة، بعدما تمزقت الهويات الأولى، عبر البحث عنها، إمَّا في الدين، وإمَّا في عوالم أخرى، كالفنون أو الرياضة أو التجميل أو في السفر والاكتشاف.([5])

ومن هذا المنطلق، يمكن الوقوف على التوجهات السياسية للتيارات الإسلاموية - فيما هو آن - التي قامت على فكرة محو ما هو ماضٍ (تراثي) لصياغة ما هو (أنا) راديكالي؛ عبر سلك مسارات فكرية تعتمد على تلبيس المفهوم (الديني) وتمييع مضامينه في ضمير (الناس العاديين) جذوة الثورات والتغيير؛ ضمانا أخيرا لبقائهم في اللعبة السياسية، وخير شاهد على ذلك الحملة المنظمة التي أنشبت على التراث الثقافي والديني، والتي لعبت على أوتاره بعض النخب الفكرية والثقافية منذ عقود وأحقاب، ولاسيما الحملة التي نالت من الشيخ الشعراوي وجهده التفسيري، رغم ما حققه من قبول وتوافق جمعي مع مستمعيه ومشاهديه؛ ولعل هذا التوجه المناهض للشيخ حل نتاج إيقان التوجهات الراديكالية بأنه - الشيخ - بات المرجعية الثقافية والدينية المعول عليها لرأب صدع الأزمات الموجهة للنيل من الشريعة والوطنية المصرية.

لماذا الشيخ الشعراوي؟:

ولكن هناك سؤالا محوريا، يلح على الدراسة التي تحاول التنقيب في التكتيك الراديكالي في ما هو راهن:

لماذا الشيخ الشعراوي بات متصدرا لحملة التشكيك في آن؟

إن حالة الاتفاق الجمعي "المصري" حول الشيخ الشعراوي هي التي أهلته لأن يكون مرجعية دينية مؤسساتية؛ لما أنتجه من تجديد في الخطاب الدعوي بنمط شفهي، صيرت أفكاره لأن تكون الأجدر على التفاف العوام والخاصة حوله، إمتاعا بالآليات التواصلية واقتناعا بكل ما توصل إليه من نتائج تفسيرية؛ الأمر الذي دفع أصحاب العقول المستنيرة إلى الاستعانة به في فترات التقلبات الثورية إبان خلع الإخوان عن سدة الحكم في مصر، ولرأب صدع انتهاكات "الإسلاميين" الذين اتخذوا من (الدين) مطية لحشد الجمعي عبر تلبيس المفاهيم وتمييع المضامين.

وإذا ما قررنا الاستعانة بنموذج دعوي استدلالي توافرت فيه العناصر الشفهية، ولقيت تربتها الخصبة في نفس المتلقي العربي بعامة والمصري بخاصة؛ يجدر بنا الإشارة إلى خطاب([6]) دعوي للشيخ الشعراوي يعد نموذجا يحتذى؛ لما حققه من مآرب إمتاعيه وإقناعيه أجبرت المتلقي على تفهم التوجهات الراديكالية - في تلك الظرفية - والعودة به إلى الهوية الأصلية للدولة، ونخص بالذكر الكلمة التي ذاع انتشارها بين الأقنية التلفازية العربية وبخاصة المصرية، إبان التقلبات المعقبة لثورات "الربيع العربي"، والتي اشتهرت بالاستهلالة اللفظية: (منْ يقول عن مصر إنها أمة كافرة؟!)([7]).

الأمر الذي كشف عن انحياز القوى الثورية "المؤسساتية" إلى مقاومة الثقافة بالثقافة، والدين بالدين عبر الاستعانة بتسجيلات الشعراوي، لردع التوجهات الراديكالية التي استحالت حالة الالتباس (الديني) والقيمي بمفهومية (الدين) الوسطي الصحيح.

من هنا، يمكن تفهم المفارقة السياسية الجديدة التي تخلقت أعقاب الحالة الثورية "للربيع العربي" والقائمة على الفوز بالجمعي، لتحل آلية التواصل الديني/ الدعوي "حجر الزاوية" التي يقام عليها الصراع داخل المكون الاجتماعي المصري وفق مفهومية التساؤل الكبير الخاص بـ "الخطاب الديني" وأثره في تحريك المسارات الإيديولوجية والسياسيات الوطنية.

وبات "الناس العاديين" في مصر في حاجة إلى تحديد الهوية الأم التي تنازعتها التوجهات الإسلاموية "الراديكالية" والتوجهات المؤسساتية "الدولة"، والمتسببة في تخليق صراع مع الذات الوطنى؛ قوامه: "السعي نحو تحديد ماهية الهوية الثقافية الوطنية" التي تنازعتها أطماع العودة إلى سدة الحكم عبر مطية دينية راديكالية، وبين حالة الردع المؤسساتي الساعي لحفظ استقرار الوضع في البلاد وفق مطية ثقافية دينية وسطية.

الترويج على جهد الشعراوي:

امتدت الحملة الترويجية التي نالت الشعراوي إلى التشكيك في انتاجه التفسيري برمته، محاولة لإخراج جهده من حيز الأعمال التفسيرية للقرآن الكريم، والمدقق في العملية الدعوية للشيخ يجد أنها انتهجت التسلسل المنطقي لآيات النص المبارك تفسيرا؛ معتمدا في ذلك على تفسير القرآن بالقرآن وبالحديث وبالشعر؛ مخلفا منهجا تفسيريا ذا إطار علمي صارم.

يجدر بنا الإشارة إلى آلية التواصل التي انتهجها الشعراوي، والممثلة في الآلية الشفهية المتوافقة مع حال المتلقي، والمعبرة عن تفاوت درجات التراكم الثقافي الموجهة إليه عبر التقاطع مع منتجات الشريعة والروافد الثقافية الأخرى التي عكست الممارسات الفكرية والاجتماعية السائدة في مكون بيئي بعينه؛ فالثقافة الشفهية هي اللبنة الأولى للعربية، وعليها تنبني الروافد الأيديولوجية الموجهة للفرد، والمعبرة عن "الأنا" الثقافية التي تقام عليها العملية الدعوية برمتها، ومن ثم تقاطع درس (الدين) عند الشعراوي مع الممارسة الثقافية للمصريين، وقد بدا ذلك من خلال استعانته - الشعراوي - في دروسه الدينية بالأمثال العامية والحكايات والرقائق؛ الأمر الذي يعد للوهلة الأولى خروجا عن المنهجية الدعوية المتبعة في الخطاب الدعوي التقليدي، ومناهضا للنمطية الدعوية المنتهجة قِبل التيارات الرادريكالية (الدينية) التي آثرت الكلاسيكية الدعوية (الألفاظ الفصيحة - الشعر الكلاسيكي ...) المعظمة من التوجه النوستولوجي([8]) الذي - أيضا - له محل من الإعراب في اللاشعور الجمعي المصري.

وأكدت التسجيلات التاريخية أن نجاح الخطاب الدعوي يتوافق مع الحالة الثقافية المشكلة لتوجهات متلقيه؛ وهذا ما برر حالة القبول والرضى الجمعي للمصريين تجاه الشعراوي الذي بات في ظلال المنظور السياسي صاحب سلطة تعلو السلطة الحاكمة وفق مقتضى التآزر الجمعي حول شخصية دينية، اجتماعية، أو سياسية؛ الأمر الذي أجبر السلطة على الاعتراف بإنتاجه الفكري ظهيرا مؤسساتيا، ولاسيما وأن نتائجه التفسيرية تتفق مع الهوية المصرية الثقافية؛ فبات الشعراوي في مخيال "الإسلاموية" الفزاعة التي تفسد التكتيكات الأيديولوجية المتخذة من المسار (الديني) آلية لنقض التوجهات المؤسساتية في مصر، وهذا ما نتج عنه وقوع الشعراوي في مغبة الهجوم الراديكالي؛ بغية إفقاد قوة السلطة/ المؤسساتية في مصر، رافد إقناعي حاشد - الممثل في الشعراوي - بدعوى مفهومية التفتح الفكري والتحرر من الرجعية والجمود.

المسارات التشكيكية الموجهة للشعراوي:

ولم يك غريبا في ظلال آليات "الشك" المنتهجة أن يمارس ضد الشعراوي ترويجا يقصد جهده التفسيري والديني، بيد أن الغريب أن تتجاوز آليات التشكيك مواقف الشعراوي الاجتماعية والسياسية، رغم كونه مصنفا من رجال الدين، لتحل المنهجية الترويجية موجهة إلى شخصه - الشعراوي - أولا ثم إنتاجه الفكري لاحقا، ولهذا بات ذكر أنماط التشكيك التي تعرض لها الشيخ من الضروريات البحثية التي يمكن الإشارة إليها على النحو التالي:

1- الطعن في التوجه الوطني للشعرواي

إن آلية التشكيك تجاه موقف بعينه، يجب أن يراعى فيه المصداقية والإقرار بالحدوث، وعليه تقام العملية برمتها، حيث عنت القوة المضادة بالتشكيك في انفعال الشيخ تجاه موقف سياسي بعينه؛ لعبا على أوتار الوطنية، ومنها موقف سجوده - الشيخ - لله شكرا إبان وقوع نكسة 1967م، والتي لقيت حالة من الاستغراب في إطارها الوطني، بيد أن الظواهر الشكلية في ظلال الانفتاح التواصلي لا يؤخذ على عواهنه دون التطرق إلى ملابسات الموقف؛ فبتر الحقيقة من الركائز الرئيسة التي اعتمد عليه توجه التلبيس والتشكيك معا، والمدقق يجد أن ملابسات الحالة السياسية السائدة إبان النكسة (هزيمة 1967م) في مصر تؤكد انحياز القوى السياسية للقطب الاشتراكي الذي نظر إليه رجال الدين على أنه انحياز عن المنهج الإسلامي الرباني، وكان من بين أولئك الشعراوي الذي أبرز هذه الإشكالية في أكثر من موضع تفسيري عبر حلقاته التلفازية؛ الأمر الذي برر شكر الشيخ لله إبان النكسة على اعتبارها الصدمة التي تفيق الأمة الإسلامية، وبخاصة القوة السياسية في مصر؛ للرجوع إلى التوجهات الإسلامية كبديل لا خيار فيه؛ تأكيدا أن الهوية الوطنية والدينية وجهان لعملة واحدة في مصر.

وظل هذا الموقف على شاكلته ومضمونه مُتفهَما لدى العامة والخاصة، إلى أن باتت نواة ينطلق منها التوجه الراديكالي لإشعال روح الفتنة بين محبي الشعراوي عبر استغلال "الحدث" كذريعة للتشكيك في ولائه وانتمائه للوطنية المصرية؛ اعتمادا على البتر التصويري الذي قد يؤول إلى التشكيك ومن ثم تقليل جماهيريته، ولاسيما أن الشيخ صار - في الراهن - من المرجعيات الدينية التي يتفق عليها الجمعي المصري استمالة وانحيازا.

2- الطعن في مصداقية آراء الشيخ الفقهية

انحازت آراء الشيخ الدينية إلى التماس مع ملابسات العصر؛ وذلك لإيمانه بأن الفقه الإسلامي دائما في حالة نمو وحراك يلائم الظرفية المكانية والزمانية، ومن دون الدخول إلى التفاصيل الفقهية أو الإشكاليات التشريعية، فإن ما أنتجه الشيخ اعتمادا على هذا الرافد الأيديولوجي جرّأ المناهضين على التشكيك في مصداقيته الفقهية والدفع به إلى حالة من عدم المصداقية في تواصله مع المتلقين تفسيرا لكتاب الله، ومن أبرز ما تلقفته القوة المضادة ما صرح به الشعراوي تجاه أموال البنوك وانحيازه إلى المعاملات البنكية ذات المرجعية الإسلامية؛ ذلك التوجه الفقهي الذي آل بالشيخ إلى مآلات تأويلية اعتمدت على فرض تساؤل يتمحور حول علة تشجيع الشيخ إلى المعاملات البنكية الإسلامية على الرغم من تحريمه للربا في معرض تفسيره لآيات القرآن الكريم؟!

لا شك أن هذا التساؤل ربما يوقع بالإنسان غير المتفقه في المعاملات البنكية في هوة الشك لما أنتجه الشيخ من آراء تجاه إباحة التعامل مع البنوك ذات المرجعية الإسلامية.

وعلى الرغم من إتيان الشيخ بأدلته العقلية والشرعية المبررة لتشجيع المعاملات البنكية الإسلامية، إلا أن مطية البتر والتشكيك الراديكالية أبت أن تذكر السبب في معرض بيان المسألة، بغية إشاعة حالة من الميوعة تجاه نتائج تفسيرية التف حولها العامة والخاصة في آنها تأييدا واقتناعا.

ما الغرض الاستراتيجي من تشويه إنتاج الشعراوي:

يعدّ الشيخ بما مثله من إنتاج دعوي شفهي مسلسل للنص القرآني من المرجعيات الإسلامية المؤطرة بإطار الهوية العربية والإسلامية، والتي جاءت - في أكثرها - مناهضة لأفكار الإسلام السياسي الراديكالي المتخذة من الدين مطية ترويجية، لتخليق هوية جديدة منافية للهوية المصرية ذات الطابع الإسلامي الأزهر([9]).

وبات من الطبيعي والمنطقي انحياز تلك القوة المضادة - في الراهن - إلى نزع فتيل التشكيك تجاه إنتاج الشيخ عبر إثارة العديد من الآراء في ثوب تثقيفي علماني ينأى عن أية شبهة تتماس مع التوجهات الإسلاموية في مصر - الغريم الرئيس لإنتاج الشيخ - وإلباس مسارات التشكيك لباس الثقافة المدنية ذات التوجه الإسلامي المعاصر؛ سعيا وراء إيقاع "الناس العاديين" في حالة من ضبابية تحديد مفهومية "الأنا" الثقافية، الأمر الذي ينجم عنه "فضاء مرجعي" يسمح للتوجهات الراديكالية التواجد في اللعبة السياسية من خلال تمظهر جديد يُنسي ممارساتها السياسية الماضية ويلبس توجهاتها الترويجية لباس "حصان طروادة" الذي يحيل الأمة إلى مدينة الفاضلة.

الخلاصة:

بات تفهم المسارات الأيديولوجية لتيارات الإسلام السياسي بعد حالة الهزيمة التي نالت منها أعقاب ما بعد "الربيع العربي" ضرورة بحثية، ولاسيما أنها سارت على ما انتهجته في الماضي شكلا ولكن بآليات مختلفة؛ انحازت في الفترة الراهنة على "التشكيك" في كل المسلمات والمعتقدات الأصيلة، وامتدت إلى العلماء الذين سعوا من خلال إنتاجهم على مناهضة التوجهات الراديكالية، وبات "التشكيك" في زمن ما بعد الربيع العربي هدفا مأمولا باعتباره المفصل الأيديولوجي الذي يستوى عنده الزائف من المفاهيم بالرصين والأصيل.

بات التطرق إلى الحروب القائمة على "التشكيك" فيما هو راهن "حجر الزاوية" الذي فرض على الباحث حتمية دراسة وتفهم الأسباب الدافعة إلى تخطي ضوابط القوة الأمنية والعسكرية كأحد أبرز أدبيات المقاومة والردع بين الخصوم السياسية؛ ليحل الصراع الثقافي بديلا لا خيار فيه.

تعد آلية "التشكيك والتلبيس" الرافد الأبرز فيما هو راهن عبر العديد من الممارسات التي تؤول إلى تغير مسارات الشعوب من خلال التأثير على السواد الأعظم "الناس العاديين" الذين تنازع دورهم ما بين الصعود والهبوط المجتمعي؛ باعتبارهم القوة الحقيقة المحركة للمسارات الثورية والفاعل الحقيقة في التغيير. وعلى هذا، فإن اللعب على أوتار ومشاعر "الناس العاديين" في ما هو آن، يعد أقرب السبل والملاذ الأخير الذي ترنو إليه القوة المضادة للنظم المؤسساتية في الدول العربية، والمحرك الرئيس الذي تقوم عليه الحركات المضادة التثويرية، وبات اللعب على هذا القطاع الفئوي هو "فرس الراهن" الذي ترتهن عليه التيارات الراديكالية في مصر عبر إحداث حالة من التشكيك في كل رصين، ولاسيما في ظلال ظرفية بات فيها الشعراوي وتوجهاته الأيديولوجية هو المحرك الرئيس في ترسيخ القوة المؤسساتية في مصر لما هو راهن عبر انتهاج سبل دعوية اشتملت على الحفاظ على الهوية المصرية (الأم) بنمطيتها الوسطية الدينية، والتي باتت في مخيال تيارات الإسلام السياسي المناهض الحقيقي لأيديولوجيتهم الترويجية.

 

المراجع:

إريك هوبزمان، عصر التطرفات: القرن العشرون الوجيز (1991-1914) المنطقة العربية للترجمة، ترجمة فايز الصياغ، بيروت لبنان 2011

الألباني: سلسة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة، مكتبة المعارف بالرياض، ط1/1993

البيهقي في: شعب الإيمان، تحقيق أبي هاجر زغلول، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1/2000

رشيد العلوي، الفضاء العمومي من هابرماس إلى نانسي فريزر، مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، تاريخ النشر 8 نوفمبر 2014، https://www.mominoun.com/articles/

عبد المجيد الصغير، الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية في الإسلام: قراءة في نشأة علم الأصول ومقاصد الشريعة، دار المنتخب العربي، بيروت، ط1/1994

د/ عاصم طلعت محمد، مجلة ذوات- وظائف مواقع التواصل الاجتماعي في الخطاب الإرهابي- العدد 46/2018م

د/ عربي إدناصر، الفقهاء والثورة.. أزمة النخبة الفكرية في مناخ سياسي متقلِّب - مركز نهوض على الرابط https://nohoudh-center.com/

مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري أبو الحسين: مسلم في صحيحه: كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن وفي كل حال وتحريم الخروج على الطاعة ومفارقة الجماعة- دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان

معيد النعم ومبيد النقم، انتقد تاج الدين السبكي هذه النماذج في شهادة خاصَّة بقوله: "فكم رأينا فقيهًا تردَّد على أبواب الملوك فذهب فقهُه ونسي ما كان يعلمه...". تحقيق جماعي، دار الكتاب العربي بمصر، ط1/1948

الإنجليزية:

 Talcott Parsons et la grande théorie- Jean-François Dortier, Dans La -sociologie (2009)

المواقع الإلكترونية:

- https://www.youtube.com/watch?v=d9-H_u9qLKE

[1] - الشيخ محمد متولي الشعراوي أحد مفسري القرآن الكريم في القرن العشرين، والذي صنف كأحد مفسري المدرسة الاجتماعية في التفسير القرآني الذي أرسى مبادئه الإمام محمد عبده، وقد تجلى دور الشيخ السياسي في العديد من المواطن التفسيرية في النص القرآني، والتي لقيت رواجا كبيرا خاصة في المجتمع المصري لانتهاجه آلية تفسيرية شفهية اعتمدت على جسور ثقافية بينه وبين المتلقين؛ جرأت العوام على فهم كتاب الله بنمط ثقافي بسيط.

[2] - عبد المجيد الصغير، الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية في الإسلام: قراءة في نشأة علم الأصول ومقاصد الشريعة، دار المنتخب العربي، بيروت، ط1/1994، ص9

[3] - د/ عربي إد ناصر، الفقهاء والثورة.. أزمة النخبة الفكرية في مناخ سياسي متقلِّب - مركز نهوض، الرابط https://nohoudh-center.com/

[4] - رشيد العلوي، الفضاء العمومي من هابرماس إلى نانسي فريزر، مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، ص19.:

https://www.mominoun.com/articles/

[5] - إريك هوبزمان، عصر التطرفات: القرن العشرون الوجيز (1991-1914) المنطقة العربية للترجمة، ترجمة فايز الصياغ، بيروت لبنان 2011، ص 48

[6] - انظر الرابط: https://www.youtube.com/watch?v=d9-H_u9qLKE

[7] - د/ عاصم طلعت محمد، مجلة ذوات– وظائف مواقع التواصل الاجتماعي في الخطاب الإرهابي – العدد 46/2018م - ص47

[8] - التعظيم من العودة إلى الماضي في ضمير المتلقي، والتي تمثل القديم على أنه المثل العليا للمنهج الإسلامي، وكل حديث أو مدني، فهو بدعة مخالف للدين، ويعد التوجه النوستولوجي أحد التوجهات الأيديولوجية التي ارتكزت عليها جل التوجهات الراديكالية لعبا على اللاشعور لدى الفرد المؤيد والذي نال حظا من التهميش المجتمعي والذي تسبب في التجاءه إلى التوجهات الراديكالية بديلا عن واقعه المعاش

[9] - نسبة إلى التعاليم الدينية في الجامع الأزهر.