ثقافة الحوار في المشهد الثقافي العربي: في الدلالة والأفق


فئة :  مقالات

ثقافة الحوار في المشهد الثقافي العربي: في الدلالة والأفق

ثقافة الحوار في المشهد الثقافي العربي*

في الدلالة والأفق


تقـديـم

نتجه في هذه الورقة إلى بحث دلالة المفردة المركَّبة ثقافة الحوار، ولأنّ هذا البحث لا يتعلق بمصطلح يشير إلى مسألة واضحة ومرتبطة بسياق نظري مضبوط، فإنّ جهدنا البحثي سينصبُّ على تركيب جملة من المعطيات التي يمكن أن تساعدنا في الإحاطة بالمهمة التي رسمناها لأنفسنا ونحن نفكر فيه.

سنقدِّم لعملنا بجملة من التوضيحات التي تحدِّد الإطار الذي سنفكر فيه والزاوية التي سننطلق منها، ثم نقوم ببسط أهم المبادئ والأسئلة التي تَمَكَّنا بواسطتها من بناء المحاور التي وضعتنا في أفق ودائرة ثقافة الحوار، لنتوقف بعد ذلك، ونتساءل عن أسباب غياب أو محدودية ثقافة الحوار في مجتمعاتنا، ونبلور في قلب عملية الجواب جملة من المحاور التي نعتقد أنها تُعبِّد الطريق الموصلة إلى ثقافة الحوار المأمولة في مشهدنا الثقافي.

لنبدأ إذن بتقديم التوضيحات والمقدمات والأسئلة التي استعنَّا بها ونحن نبني مفاصل هذا العمل.

تنشأ المصطلحات والمفاهيم وتركَّب في إطار التصورات لتشير إلى دلالات محدَّدة ومعينة، وينظر إليها في المجال المعرفي باعتبارها عتبات مختلفة تروم تعيين موضوعٍ بعينه، سواء أكان عيانياً أم مجرداً. إنّ عتبة التسميات تختلف عن عتبة المصطلحات، وهما معاً تختلفان عن عتبة المفاهيم، بحكم أنّ هذه الأخيرة ترتبط في سلم التركيب النظري بالمنظومات الفكرية، حيث تتعين دلالاتها العامة في ارتباط بالمجال النظري والسياق النصي المَوْصُولَة به والمُرْسَلَة فيه.

وإذا كانت هذه المسألة واضحة في مجال المعرفة النظرية ذات الطابع العلمي والرياضي، فإنها لا تعتبر كذلك في مجال المعارف الإنسانية والاجتماعية؛ لأنّ درجة التركيب والاتساق والشمول في هذه المفاهيم تظلّ دائماً في عتبة ما قبل التَّشبُّع المعرفي الذي يمنح الكلمات معانيها المتعددة والمتنوعة، القارَّة والمتحوِّلة. أمّا المصطلحات فتقدم جهداً في التوافق على الدلالة يكون في الأغلب الأعم إجرائياً، لكنه يتيح إمكانية التداول والحوار.

تنتمي مفردة ثقافة الحوار إلى دائرة المصطلحات الجديدة، وهي ترتبط بالأزمنة الحديثة، إنها تنتمي إلى سِجِلِّ المصطلحات المتعلقة بمقارنة الظواهر الاجتماعية والثقافية، الأمر الذي يجعلها لا ترتبط في صيرورتها التداولية بمعيار الخطأ والصواب الرياضيين، وهو المعيار الذي يسمح باندثار واختفاء بعضها وتولُّد بعضها الآخر، كما يسمح بتنويع وتوسيع أو تضييق الدلالة والمعنى فيها.

تتحوَّل المصطلحات في فضاء السجالات السياسية والتاريخية والثقافية إلى جزء من آلية الصراع القائمة في الواقع، فتمارس بواسطة عمليات الإبراز والإخفاء، وآليات الاستعمال والاستعمال المُغالِط، ما يسمح بإصابة مرامٍ وغايات لا علاقة لها بمعيار الصواب والخطأ، بل إنّ معايير أخرى تنتمي إلى مجال المصالح التاريخية المتصارعة، مثل النجاعة والجدوى والدور التاريخي، تساهم في تحويل المصطلحات والمفاهيم في المجالات التي ذكرنا، إلى أدوات مساعدة على تأجيج درجات الصراع أو التقليل منها.

إنّ ما يدفعنا لبسط هذه العناصر النظرية العامة في موضوع الكلمات والمصطلحات والمفاهيم، هو مسعانا الرامي إلى إبراز الدور الذي تلعبه المصطلحات والمفاهيم في الجدل السياسي والتاريخي. وإذا كانت المصطلحات والمفاهيم تنشأ كما بيَّنَّا باعتبارها أدوات للتواصل والحوار والتعقُّل، فإننا نلاحظ أيضاً أنها يمكن أن تستعمل كوسائل مناهضة لما ذكرنا، وخاصة عند استعمالها بالطرق التي تشحنها بدلالات مختلفة عن الدلالات التي آلت إليها في سياق صيرورة تشكلها، وهذا الأمر يفسّر في جانب منه كثيراً من التخندقات المذهبية الشائعة في المجال الثقافي، سواء في مجتمعاتنا وثقافتنا أو في باقي المجتمعات والثقافات.

ننطلق في عملنا هذا من الدلالة المفتوحة للمصطلح المركَّب ثقافة الحوار، وذلك بهدف تطوير النقاش في محتوى الدلالة المقرونة به وتوضيح سياقاتها الثقافية والمجتمعية. وضمن هذا السياق نشير إلى أننا لا نخوض في قضايا نظرية خالصة كما يمكن أن توحي بذلك بعض فقرات هذا التقديم، بل إننا نتجه لمقاربة وبناء مختلف قضايا ومحاور موضوعنا استناداً إلى جملة من المعطيات المرتبطة بسجالات ومعارك قائمة في الثقافة العربية اليوم، كما سيتضح ذلك عندما نغادر مقتضيات التقديم ونبدأ في تركيب محاور الورقة.

أمران اثنان ساهما في التوجه العام لمحتوى عملنا، يتعلق الأول منهما بدلالة مصطلح ثقافة الحوار، ونهتم في الثاني ببحث صعوبات غرس قيم هذه الثقافة في المشهد الثقافي العربي، في زمن نحن أحوج ما نكون فيه إلى ثقافة الحوار وإلى مراجعة الذات.

تستوعب عملية توضيح هذين الأمرين جملة من المقدّمات الكبرى، التي رتَّبنا في إطارها مسعانا الرامي إلى إضاءة جوانب من القضايا موضوع البحث والنظر. أمّا أبرز هذه المقدمات فتتمثل في أنه لا حوار دون اختلاف وتعدُّد في وجهات النظر، في كلّ ما يجري بيننا وما يجري في العالم من حولنا، فنحن نفترض أنّ فهم وتعقُّل مختلف أوجه الحياة لا يمكن أن يحصل بطريقة واحدة، كما نفترض أنّ الحوار الناشئ في قلب المجتمعات يتيح إمكانية تقريب وتجسير الفجوات والاختلافات التي تنشأ بين الذين يتقاسمون الحياة في المجتمع الواحد.

ينتج عن المقدمة السابقة مقدمة أخرى مفادها أنّه لا حوار دون تسليم بالندية والتكافؤ بين المتحاورين، والمقدمتان معاً تعتبران من القواعد الكبرى المؤسسة لروح الفكر والثقافة في المجتمعات الحديثة، صحيح أنّ الاختلاف بين البشر قديم، وأنّ منظومات الفكر في التاريخ رُكِّبَت في إطاره، وصحيح أيضاً أنّ أفق المساواة شَكَّل ويشكل بؤرة ناظمة لتطلعات وأحلام البشر في التاريخ، إلا أنّ حديثنا عن هذه المقدمات في هذه الورقة يرتبط بفضاء التحديث المطلوب في مجتمعاتنا ومقتضياته، حيث أصبح مبدأ الاختلاف ومبدأ التكافؤ بمثابة الأسّين الناظمين لكلّ مشروع ثقافي، وأصبحت قوة النماذج الثقافية تستند أولاً وقبل كلّ شيء على الجدارة المعرفية والتاريخية التي تؤهلها لتكون مقنعة وفاعلة داخل المجتمع، دون إغفال فضائل منتوج التفاعل الحاصل بفعل الحوار.

أولاً: أوهامٌ تَحُولُ بيننا وبين ثقافة الحوار

أبرزنا في تقديمنا لهذه الورقة بعض المقدمات التي وجّهت نمط تعاملنا مع الموضوع، ونريد أن نضيف إليها في سياق تمهيدنا لغياب ومحدودية ثقافة الحوار في مشهدنا الثقافي جملة من الأوليات التي تُتَمِّمُهَا، ذلك أنه لا يمكن أن تنشأ ثقافة للحوار دون انفتاح، ودون وعي تاريخي، أي دون إيمان بالنسبية والتاريخ، حيث يتمّ القطع مع ثقافة اليقين والإطلاق، مقابل الانتصار لثقافة تؤمن بنسبية وتاريخية المعطيات والمعارف في التاريخ وفي المجتمع.

نعتقد أنّ ثلاثة أوهام كبرى تقف وراء التصامم والانغلاق السائدين في ثقافتنا، يتعلق الأمر بالأوهام العقائدية والنفسية والسياسية. تتمثل الأوهام العقائدية في التصورات والأفكار التي تحوِّل المذاهب والعقائد إلى دوغمائيات صنمية، حيث يتمّ استبعاد التاريخ وتحويل الأفكار إلى نماذج نظرية مغلقة، نماذج نُخاصم العالم بواسطتها وانطلاقاً منها، وهذا الموقف يحوّل العقائد والتصوُّرات من أدوات مساعدة على الفهم والإدراك والتعقُّل، ومعبرة عن تصوُّر الإنسان للعالم وللتاريخ، إلى أدوات مُرْبِكة لآليات الحوار والفهم والتواصل، إننا أمام مواقف تستبعد كما قلنا لغة التاريخ لمصلحة لغات أخرى تحتفي بالمطلقات وتعادي التاريخ. إنّ استبعاد لغة التاريخ والفكر التاريخي يعني استبعاد لغة النقد والنسبية، وهما من أكبر مكاسب التاريخ الحديث والمعاصر.

نتعلم من دروس الفكر المعاصر في الفلسفة والعلم أنّ المكوِّن الثقافي داخل المجتمعات البشرية عبارة عن مشروع في التعدد والاختلاف، مشروع في احتضان النقد والفكر النقدي وبصورة متواصلة. نتبيَّن ملامح ذلك في الأحاديث المتداولة في حواراتنا في موضوع الهويّة، فهذه الحوارات لا تكشف ما يبرز أننا فعلاً أمام حوار ينشئ القضايا ويفكر فيها، بل إننا أمام عمليات تصامم تتقن التّكرار والمراوغة. ولنأخذ كمثال على ما نحن بصدده ثنائية الإسلام والغرب، عندما تصاغ وتوضع كمرادف مكافئ لثنائية الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية، تعبر عن توصيفات غريبة عن لغة التاريخ، المسلَّمة بالتداخل والاختلاط والترابط، وهي اللغة التي تتمّ بها المثاقفة داخل التاريخ. وكلّ استدعاء للمفاهيم والمصطلحات المذكورة باللغة المحنَّطة والمطلقة يُدخلنا في دوائر الحرب الدائرة بأشكال مختلفة بيننا وبين الآخرين.

أمّا الأوهام النفسية فتتمثل في نظرنا في المحن والأزمات المرتبطة بوعي الفارق القائم أو المتخيل بيننا وبين من نحاور، وهو وعي لا يقوم على نظرة تاريخية بل تشرطه أحكام مستمدة من أزمنة وعقائد لم تعد موجودة إلا في أذهاننا، بحكم أنها تغفل التحوُّلات التي جرت في العالم، ونفترض أنها صُوَّر تَمَثُّلِنَا لكلّ ما يجري في العالم أمامنا.

يترتب عن الأوهام النفسية مجموعة من الضغوط التي لا تسمح بالتواصل الإيجابي والحوار القادر على بناء جسور التفاهم. ولن نتمكن من تفتيت الضغوط المترتِّبة عن ذلك، إلا بتركيب مصطلحات مفاهيم قادرة على إنجاز التواصل المساعد على بلورة ممكنات التوافق التاريخي، الذي يجعل الجميع يشتركون في صناعة المستقبل.

نحن إذن في حاجة إلى تعميق معركتنا الذاتية مع ذاتنا التاريخية، لنتمكن من استيعاب أفضل لمكاسب التاريخ المعاصر. ولعلنا بهذا نمهِّد لبلورة قواعد وقيم ثقافة الحوار في ثقافتنا.

أمّا الأوهام السياسية القائمة فيمكن تعيينها في الخلط بين مستويات الاختلاف والتناقض، المنتشرة بين المجموعات الثقافية والسياسية في مجتمعاتنا. نعم هناك خلافات ثقافية سياسية عنيفة بيننا، وهي خلافات ترتبط بقضايا محددة من قَبِيل موضوع الهويّة والمسائل المتصلة بموقفنا من التراث ومن الماضي، وكذلك موقفنا من التوافقات في المجال السياسي، حيث تعمل تيارات فكرية وسياسية على مواصلة استحضاره بمنطق ولغة الكمال، محاولة ابتكار أسماء ومصطلحات لا علاقة لها بمسارات الصراع القائمة بيننا، وتخوض في ملاسنات تعيدنا إلى أزمنة موغلة في القِدم، مستخدمة مرجعية ثقافية غريبة عن حاضرنا ومستقبلنا. ولهذا السبب يكون من الضروري في فهم وتعقُّل الظواهر الثقافية وسجالاتها، التمييز في موضوعات الخلاف والحوار بين المعطيات في مستوياتها القريبة والبعيدة، حتى لا تنفلت الوقائع واللغات وتتحول المصطلحات إلى أدوات حربية، يصعب الحدّ من مفعولها في المدى الزمني القريب، وهو الأمر الذي يقتضي مزيداً من الحذر عند محاولة فهم معطيات التاريخ في أبعادها المختلفة.

ثانياً: المشروع الثقافي النهضوي، طريق لبناء ثقافة الحوار

نتصوَّر أنه لا يمكن بناء وتدعيم ثقافة الحوار في مجتمعاتنا دون إتمام المشروع الإصلاحي النهضوي في ثقافتنا، وتعميق مُكَوِّنات هذا المشروع تتطلب مزيداً من تقوية دعائم الفكر التاريخي والتاريخ المقارن، حيث تساعد معطيات هذا التاريخ حين حصولها، في عملية تعويد أذهاننا على ملكة تنسيب الأحكام والتصورات الإطلاقية المهيمنة على آليات تفكيرنا..

صحيح أنّ إنجاز عملية تحول ثقافي جذري في فكرنا تتطلب جهوداً متواصلة في باب استيعاب نتائج الثورات المعرفية والعلمية التي تبلورت في الفكر المعاصر، إلا أنّ هذا الأمر الذي نتصور إمكانية تحققه في المدى الزمني المتوسط، لا ينبغي أن يجعلنا نتوقف عن استكمال مهام الحاضر المستعجلة، والمتمثلة في مشاريع تطوير منظوماتنا في التربية والتعليم، ومشاريع الترجمة، إضافة إلى تشجيع البحث العلمي، وتوسيع مجالات ودوائر الاستفادة من نتائجه وآفاقه في المعرفة والمجتمع والاقتصاد... إلخ، فنحن نعتقد أنّ هذه المعارك في تقاطعها وتكاملها تعبّد الطريق الموصلة لباب تحرير الأذهان، وولوج مجتمعات ثقافة الحوار.

لا تنفصل في نظرنا معارك المجال الثقافي عن مشروع ترسيخ الحداثة السياسية في فكرنا ومجتمعنا. وفي هذا السياق، نحن نعتبر أنّ انتشار دعاوى تيارات الإسلام السياسي، ودعاوى تيارات التكفير والعنف في ثقافتنا ومجتمعنا، يمنحنا مناسبة تاريخية جديدة لإطلاق مجابهةٍ نقدية أكثر حسماً وصرامة، معارك يكون بإمكانها أن تكشف فقر ومحدودية وغربة التصورات المرتبطة بهذه التيارات، وهو الأمر الذي يتيح لنا بناء الفكر المبدع والمساهم في إنشاء خيارات مطابقة لتطلعاتنا الهادفة إلى بناء ودعم ثقافة الحوار.

يمكن اعتبار أنّ استمرار نظرتنا المحافظة للتراث ولذاتنا التاريخية، تَحَوَّلَ في العقود الأخيرة من القرن الماضي إلى عملية اكتساح تراثية شاملة أعادتنا إلى لغة عتيقة في الثقافة والمجتمع، لغة كنا نعتقد أنّ الزمن عفا علها، فإذا بها تعود لترسم لذاتنا التاريخية ولتراثنا صوراً لا علاقة لها بالتاريخ. وإذا كنا نعرف أنّ المخزون التراثي الرمزي أصبح يوظف بشكل مخيف في معارك حاضرنا، داخل مجتمعاتنا وخارجها وأثناء مواجهتنا للآخرين، حيث انتعشت في السنوات الأخيرة محاولات في استخدامه في معاركنا السياسية، وداخل أغلب المجتمعات العربية رغم مظاهر الهدنة الحاصلة هنا وهناك، فإنّ العمل في هذه الجبهة بالذات يتطلب إنجاز قراءات عصرية جديدة لتراثنا ولذاتنا التاريخية المتحولة بفعل متغيرات الزمان.

ينبغي ألّا يترك المكون التراثي حكراً لقراءات غير مجتهدة، بل ينبغي إطلاق مشاريع في البحث، قادرة على إنجاز فهم يستجيب لأسئلة عصرنا ومقتضيات تجاوبنا الإيجابي مع ما يجري في العالم.

إنّ التراث الإسلامي مثله في ذلك مثل مختلف منتوجات البشر في التاريخ حَمَّالُ أَوجهٍ لا حصر لها. وهو خَزَّانٌ قَابِلٌ لأكثر من صيغة من صيغ الاستثمار الخلاق والمبدع. أمّا أن يواصل فَهمٌ نَصِّي مغلق للظواهر التراثية حضوره وهيمنته على العقول والضمائر في مجتمعنا، فإنّ في ذلك ما يبرز جوانب من الصُّور التي نصنعها لأنفسنا بأنفسنا، ويرسمها الآخرون لنا في زمن لاحق استناداً إلى منتوج الفكر المنتشر بيننا.

وعندما نقول بناء على ما سبق، فإنّ منطلق معركتنا ينبغي أن يكون هو الذات، إصلاح ذواتنا التاريخية، تصحيح صورة الذات عن ذاتها بالعمل من أجل مزيد من التصالح مع قيم العالم الذي ننتمي إليه. والعمل في الآن نفسه على مواجهة الإشكالات العديدة الناشئة في محيطنا التاريخي، نقصد بذلك إشكالات التحديث والاجتهاد والإبداع.

وقد يبدو لمن يتابع توضيحنا لجوانب من الأرضية الثقافية الداعمة لثقافة الحوار، أننا نتطلع إلى نقل نموذج تاريخي بعينه، وهنا يلزمنا أن نوضح أنّ حديثنا عن الحداثة والتحديث يتصل بمسعى إبداعي نرومه من خلال مسار تاريخي مُعقَّد، فالتحديث لا يُقتنَى وإنما يُبنَى، ليجيب عن أسئلة تاريخية ومعارك اجتماعية علاماتها بادية أمامنا حتى عندما نغض الطَّرْف عنها، أو نعلن لزوم نسيانها والتبرم منها ومن خياراتها.

ثالثاً: التحديث السياسي، أفق لترسيخ ثقافة الحوار

يطرح مشكل تنامي إسلام التطرف في واقعنا مطلب المواجهة بالتنوير والنقد، حيث لا يمكن أن تُحَوِّل جماعات معينة التجربة الروحية في التاريخ الإسلامي إلى تجربة متحجرة مغلقة، ونظام نصي جامد. إنّ التجربة الروحية في الإسلام تتجاوز الأحكام النمطية المحفوظة في تراث لا يعدو أن يكون جزءاً من تاريخ لم ينته، لهذا السبب نرى أنّ عودة المحفوظات التقليدية بالصورة التي تتمظهر بها اليوم في ثقافتنا وفي مجالنا التربوي والسياسي، يعود إلى عدم قدرتنا على إنجاز ما يسعف بتطوير نظرتنا للدين والثقافة والسياسة في مجتمعاتنا. إنّ فشل مشاريع الإصلاح الديني والثقافي والإصلاح التربوي في فكرنا، يعتبر من بين العوامل التي كرّست وتكرّس مثل هذه العودات العنيفة إلى المعطيات العتيقة في تراثنا وثقافتنا.

لم نتمكن من ترسيخ قيم الاجتهاد، ولم نبنِ الفكر الإسلامي المنفتح والقادر على تركيب تصورات جديدة للعالم تتيح لنا استيعاب مقدمات وأصول الحياة الجديدة في عصرنا. ولعل أخطر ما فعلته التيارات المعادية لقيم العصر في فكرنا المعاصر، هو مسعاها الرامي إلى استبعاد إمكانية تصالح ذواتنا التاريخية مع العالم، مستندة في ذلك إلى تصورات ومبادئ لا علاقة بينها وبين الإسلام في جدليته التاريخية الحية، وقد شكل كما نعرف مهمازاً للحركة التاريخية المنتصرة لقيم الأزمنة التي واكبته خلال عصورنا الوسطى.

تزداد معركة التنوير في فكرنا العربي وفي واقعنا السياسي بحكم تعقد مجال التيارات التي تنسب نفسها لحركة الإسلام السياسي، والإسلام الخلقي، وإسلام الزوايا، وإسلام الأنظمة السياسية السائدة في أغلب الأقطار العربية، ثم الإسلام المتشبع بأهمية الفكر النقدي والرؤية التاريخية، والإسلام الشعبي الطقوسي والمظهري، حيث نجد أنفسنا وسط شبكة معقدة من التصورات والاختيارات والعقائد والممارسات، شبكة تحتاج إلى كثير من الفرز والضبط والترتيب لرسم ملامح التقارب والتباعد والاختلاط الحاصل في بنيتها المركبة، وهذه مسؤولية تيارات فكر التنوير وثقافة التنوير في ثقافتنا المعاصرة.

نحن لا نبالغ في رسم معالم هذه الصورة، بل إننا عندما نضيف إلى كلّ ما سبق تعولم الإسلام السياسي واستخدامه المكثَّف للوسائط الاجتماعية، نصبح أمام شبكة فعلية تشيع في العالم لغة لا ضابط لأبعادها، حيث تختلط الوقائع والمعطيات والمواقف، ويتحول البشر إلى أحزمة من المتفجرات متطايرة الشرر في جهات عديدة من المعمورة، ولا يظلّ الإسلام عنواناً للسلام والتسامح والعقل، بل يصبح في تصورات هذه التيارات آلة حربية متعددة الرؤوس. وهو ما يزيد حاجتنا الفعلية لقيم التنوير وسماحة الروح وأخلاق العقل ولغة التاريخ وثقافة الحوار.

لا يتعلق الأمر في موضوع دفاعنا عن قيم التنوير في العالم العربي اليوم، بعملية نسخ ولا نقل لتجربة تمّت في التاريخ، والأنوار ما تزال اليوم مطلباً كونياً. وقيم عصر الأنوار التي نشأت في سياق تاريخي محدد في القرنين السابع عشر والثامن عشر في أوروبا، تتعرض اليوم لامتحانات عميقة في سياق تاريخها المحلي وسياقات تاريخها الكوني، وذلك بحكم الطابع العام لمبادئها، وبحكم تشابه تجارب البشر في التاريخ، وتشابه عوالمهم الروحية والمادية وعوالمهم التاريخية في كثير من مظاهرها وتجلياتها.

ترتبط حاجتنا إلى التنوير بأسئلة واقعنا، كما ترتبط بسؤال الاجتهاد في فكرنا وفي كيفيات تعاملنا مع قيمنا الروحية. وإذا كنا نعرف أنّ المبدأ الأكبر الذي وجّه ثقافة الأنوار يتمثل في الدفاع عن عدم قصور الإنسان، والسعي لإبراز قدرته على تعقل ذاته ومصيره بهدف فك مغالق ومجاهل الكون والحياة، فإنه لا يمكن لأحد أن يجادل في أهمية هذا المبدأ، الذي يمنح العقل البشري مكان الصدارة في العالم، ويمنح الإنسان مسؤولية صناعة حاضره ومستقبله. وتاريخ البشرية يقدّم الدليل الأكبر على قيمة هذا المبدأ، ولهذا السبب نحن معنيون بإشاعة القيم التي تتضمن وتستوعب الاعتزاز بالإنسان والإعلاء من مكانته ورسالته في الوجود.

ولعلنا نزداد تشبثاً بهذا المبدأ عندما نعاين في حاضرنا كثيراً من مظاهر تحقير الإنسان والتنكيل به، فندرك بصورة أفضل أهمية الانخراط في تعزيز قيم التنوير في حياتنا. وندرك في الآن نفسه، أنّ حاجتنا اليوم لهذه القيم لا تمليها شروط خارجية، ولا تمليها إرادة نقل تكتفي بنسخ الجاهز، بل إنّ حاجتنا الفعلية لهذه القيم تحددها بكثير من القوة شروط حياتنا الواقعية والفعلية، حيث يصبح توسيع فضاء العقل والنقد والتنوير مجالاً للمعاناة والتوتر والجهد الذاتي الخلاق، في عمليات بناء القيم والمبادئ التي تتيح لنا الخروج من مأزق موصول بإرث تاريخي لم نتمكن بعد من تشريحه ونقده تمهيداً لإعادة بنائه وتملُّكِه وتجاوزه.

صحيح أنّ مشاكلنا اليوم أكثر تعقيداً، وأنّ أسلحتنا أكثر فتكاً، وأنّ حروبنا تهدد العالم أجمع وبدون استثناء، بحكم الأجيال الجديدة من أسلحة الدمار الشامل التي يُحتَمل أن تُسْتَخْدم فيها، إلا أنه ينبغي علينا ألّا ننسى في الوقت نفسه، أنّ تجاربنا في التاريخ اليوم أكثر تنوعاً وغنى، وأنه بإمكاننا أن نبني بقليل من المرونة وحسن التوافق المستندين إلى تجاربنا في التاريخ، معطيات لا حصر لها في المواءمةِ المساعدةِ على إيجاد الحلول المناسبة لقضايانا في السياسة والاقتصاد والحرب. فلاينبغي إذن إغفال أهمية مبدأي المرونة والتوافق، بحكم أنهما يسعفان ببناء قواعد في العمل مبنيةٍ على ثقافة التوازن والحوار والسلام.

نفترض بناء على ما سبق، أهمية ثقافة التواصل والحوار، ذلك أنّ القضايا الكبرى التي تشغل بال العالم تعتبر جزءاً مؤسساً لنظام وجودنا في العالم، ونحن معنيون بها لأنّ كثيراً من مظاهرها تنعكس على حاضرنا ومستقبلنا، لهذا نحرص أن يكون لانخراطنا في مواجهتها بتعاون مع الآخرين ما يمهّد للتقليص من مخاطرها.

على سبيل الختم

اتجهنا في هذه الورقة لتقديم جملةٍ من المعطيات في موضوع ثقافة الحوار، حيث سطرنا في التمهيد لها بجملة من الأوليات المُوَجِّهة لنمط مقاربتنا، كما وضحنا أبرز الأسئلة التي حدَّدت مجال عملنا، لنتوقف بعد ذلك في محور أول أمام ما أطلقنا عليه الأوهام التي تحول بيننا وبين بناء أصول الحوار المبدع والمنتج في ثقافتنا. ولم نكتفِ بتعيين الوجه السلبي المانع لتطوير ودعم ثقافة الحوار في فكرنا، بل حاولنا في المحاور الموالية النظر في السبل التي تكفل تعميم ثقافة الحوار داخل مجتمعنا، حيث أبرزنا أهمية استكمال مهام المشروع الثقافي النهضوي، وربطنا هذه العملية بمسألة الدفاع عن أهمية خيار التحديث باعتباره الأفق الضامن لترسيخ قيم ثقافة الحوار.

ولأننا نؤمن بأنه لا تَواصلَ مع العالم دون قاعدةِ التواصل مع الذات، فقد نظرنا إلى مسألة تصالحنا مع أنفسنا باعتبارها الحجر الأساس في مشروع النهوض الذي نتطلع إليه. نقصد بالتصالح مع الذات التصالح مع مآلها الراهن، والوعي بإمكانية تدارك مواطن العطب فيها، من أجل استعادة الروح والجسد ومواصلة العمل. لا ينبغي فهم التصالح مع الذات باعتباره مجردَ خُنوعٍ أو قَبولٍ بالأمر الواقع، فقد تشكلُ مقاومةُ مظاهر تأخرنا التاريخي العام بلغة العصر ومبادئه الكبرى، الصيغةَ المواتية لتصالحٍ يمكِّن الذاتَ من بناء ذاتها بصورةٍ أكثر فاعلية.

تسمح الخطوة المذكورة بإمكانية تحقيق مشروع ثقافي عربي في التواصل مع العالم، ولا يتعلق الأمر بتوقيف عملية أُولى وبدايةِ ثانيةٍ، أي استكمال مهمتي التصالح مع الذات ثم مع العالم، فالخطوتان معاً موصولتان ببعضهما بعضاً بوشائج من القربى، بعضها ظاهرٌ ومكشوفٌ، وكثيرٌ منها مُضمرٌ وحاصلٌ بصور عديدة يصعب في بعض الأحيان التمييز فيها بين الذات وبين العالم.

صحيح أنّ المنطقة العربية شكلت في العقدين الأخيرين فضاء لاختبار خيارات سياسية وعسكرية واستراتيجية محدَّدة، وهو الأمر الذي ضاعف مشاكلها وعمّق مآزقها التاريخية. وصحيح أيضاً أنّ التموقع الصهيوني المدعوم بإرادة القوة الأمريكية والغربية قد رسَّخ وجودَه الاستعماري في فلسطين، وأنّ العدوان الأمريكي المنفعل والمتهور يخاصم مناطقَ كثيرة في العالم، إلا أنّ كلّ هذا ينبغي ألّا يَصُدَّنا أبداً عن مواصلة المقاومة والمجابهة بأساليب التاريخ المساعدة على تعديل الموازين وتغيير المواقع، من أجل مباشرة بناءِ ما يحقق التواصل المنتج، الذي يتيح لنا ليس فقط إدراكاً جيداً لأسئلتنا ولما نريد، بل يساعدنا على إنجاز عمليات مساعدة في إعادة تركيب معادلة الصراع القائم فوق أرضنا.

وإذا كنا على بينةٍ من أنّ الحوار لن يصبح مُنتِجاً دون أن يكون متكافئاً، وأنّ تكافؤ العلاقة بيننا وبين الآخرين في العالم ليست مجردَ أملٍ يراود النفوس، أو خاطرة تحضر بالبال، فإننا نعتقد في الآن نفسه أنّ التكافؤ فعلٌ تاريخي يحصل بالوسائل التي تسمح بحصول الأحداث والمواقف في التاريخ، لهذا السبب انحزنا لمبدأ الإيجابية المشفوعةِ بالحس النقدي والتاريخي، وأبرزنا أهميّة الحوار والتواصل في عالم لا عائدَ اليوم من وراء اختيارات مواجهته برفضه، أو مواجهته بالانكفاء على ذات لم تعد ذاتاً لنا، بحكم تحوّلات وتفاعلات المجموعات البشرية وثقافاتها في التاريخ.


*- نشر هذا المقال في مجلة يتفكرون، العدد الثامن، 2016، إصدارات مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث.