جوليا كريستيفا: قلق الأنثويّ وسياسات الكتابة


فئة :  مقالات

جوليا كريستيفا: قلق الأنثويّ وسياسات الكتابة

جوليا كريستيفا...فيلسوفة طلائعيّة:

في أيامنا هذه، تتمتّع الفيلسوفة والمحللة النفسانية جوليا كريستيفا بجمهور عريض من المتابعين لمحاضراتها وندواتها في شتّى أصقاع العالم؛ من المجر إلى فرنسا مروراً بالصين وأمريكا والقدس. هذه المواطنة البلغارية التي هاجرت إلى فرنسا، وهي شابّة يافعة انفتحت سريعا على التيارات الفكرية والأدبية الفرنسية آنذاك مثل البنيوية والوجودية والظاهراتية والماركسية، وتأقلمت مع السّجالات والتحولات الفلسفية في العلوم الإنسانية والاجتماعية والسياسية التي ميّزت الأجواء الفرنسية المحتقنة في فترة الستينيات. تمثل أطروحات جوليا كريستيفا التي تتقاطع مع سيميائية رولان بارث وتفكيكية جاك دريدا وتأثّرها الواسع الامتداد بجاك لاكان ومقولاته في التحليل النفسي، رؤيةً عميقة ومعقّدة للهوية والقلق الأنثوي، كما تُعدّ سياساتها في الكتابة عن رهانات الذات وتـمثلاتها عبر الفنّ واللغة بالغة الصعوبة والصّرامة ولا يمكن حسمها بشكل طيّع وليّن.

مرّت كريستيفا في تنظيراتها الفكرية والاجتماعية والثقافية والنقدية متقاطعة مع مختلف هذه التخصصات، وهي من أصناف الـمثقفين الذين اكتسبُوا أجيالاً من المعجبين، أمثال فيلسوف التّفكيك الرّاحل جاك دريدا أو الـمفكرة الأمريكية في ميدان النسوية جوديث بتلر. ويبدو من الصعب جدّا أن نفهم كتاباتها. وفي هذا الصدد، تعلّل كريستيفا موقفها بشأن أساليب الكتابة التي تمارسها، بأن الوضوح والصورية أو الـمنطق المباشر ليست قيمة ذات رواج كبير تصلح لمعالجة مجتمع ما بعد حداثي فائق التعقيد من حيث التصورات والمفاهيم والرؤى المركبّة لـعالم يزداد اختلافا واغتراباً، ولا يمكن ترجمة تلك الانشغالات إلاَّ بلغة معقدّة وحاسمة تختلف عن "لسان الأب" الذي يمثّل السلطة والنفوذ والـمنطق والنّسق الاجتماعي والديني الصّارم.

لهذا تشقّ كريستيفا طرائق جديدة في التفكير: نضالية وثورية للتأصيل لـمواضيع اللغة والهوية والثقافة والمرأة والسياسة. ولم يمنعها توجُّهها العلماني، ونزعتها الإلحادية، عن سعيها إلى القيم الدينية والأخلاقية في المسيحية أو اليهودية، وانتقائها لنصوص صوفية مغمورة مثل نصوص تيريز دافيلا (في كتابها الصادر عن منشورات فايار 2008)، مسقطة عليها نظرات ما بعد حداثية تستند إلى الإجراءات التفكيكية والسيميائية والتحليلــ-نفسية لإدراك متغيرات عالـمنا، وقضاياه الحاسمة برؤى جديدة وفهم مختلف وأكثر فطنة.

حملت كريستيفا حمّى السؤال الأنثوي طيلة مسيرتها الفكرية الحافلة كمتخصصة في اللسانيات والسيميائيات إلى ناقدة أدبية فذّة تُجنّد أدوات التحليل النفسي وإجراءات التناص في مقاربة الخطاب الإبداعي، وُصولاً إلى شيوع اسمها في العالم كمنظّرة بارزة في النظرية النسوية، وذلك عبر أسئلتها الـملحة التي طرحتها حول الهوية الأنثوية وابتكار خطاب يفكّك ما انتهت إليه مثيلاتها سابقا، وعلى رأسهن سيمون دي بوفوار. كريستيفا في أشكلتها لمبحث النسوية لا تلهث وراء إجابات محددة وواضحة للأنثى والأنثوي بقدر ما تحاول تفجير الطبيعة النسوية، وهو ما يُمثّل مقاومة للصّنم الفكري الغربي الذي يُهيمن عليه الخطاب الذّكوري.

في نقد الحركة النسوية وإعادة تأسيسها:

ألهمت جوليا كريستيفا بدراساتها حول النقد النسوي في حقبة الثمانينات والتسعينات شريحة كبيرة من المهتمين بالنقد الثقافي وقضايا الـمرأة والاختلاف الجنسي، لا سيما في البقاع الإسكندنافية والدول الأنجلوساكسونية. وتجلّت إرهاصات كريستيفا -في بداياتها اللسانية والتحليل-ــنفسية- بالتنظير لعملية التدليل عبر كتابها الـموسوم: "سيميوتيك (Semeiotike): بحوث في السيماناليز" (1969)، ما مكّنها من التقديم للجسد والاختلاف الجنسي في مجال القراءة وتأويل النصوص الأدبية، وكذلك تطوير القضايا النسوية على وجه التحديد، مثل تـمثيل الـمرأة والأنوثة.

وتدعو كريستيفا في إصدارات أخرى مثل "الشّمس السّوداء" (1987) و"غرباء على أنفسنا" (1988) و"الثّورة الحميمية" (1997) وثلاثيتها "العبقرية الأنثوية" (بين 1999 و2003) إلى إعادة النظر في الجانب الـملتبس والـمتناقض في ذواتنا وكينوناتنا، بين أجسامنا ومشاعرنا، داخل طيّات هذا الاختلاف الـمفصلي؛ حيث يعيش النّاس غرباء عن أنفسهم، عن مشاعرهم وأجسادهم، وذلك لحرصهم في الكلام والحديث والثقافة على لغة الاستهلاك والعرض. وهذا ما يبرّر - عند فيلسوفتنا - الدّعوةَ إلى الكتابة بشكل غامض ومجازي، معقّد وغير مفهوم. وهو ما أثار انتقادات جمّة موجّهة للمعجم التركيبي عند كريستيفا أو غيرها من المنظرين والفلاسفة ما بعد الحداثيين في فرنسا، آخذين في الحسبان هذا اللّغو الـمبهم والـمعقّد ضرباً من التّشدُّد الفِكريّ، أو وسيلة لـمنع الآخرين من الانضمام إلى هذه الفئة الـمثقّفة بشكل مـحدّد.

في مجال كتابتها عن الفلسفة النسوية، يظلّ عدم الوضوح وعدم إمكانية الوصول إلى إجابات حاسمة وصارمة بشأن الوضع الأنثوي، صعب المنال، محيّرا وملتبسا. وقد طوّرت كريستيفا بؤر الاهتمام بالحركة النسوية عبر نقد بعض أطروحات سابقاتها، مبرزة نقاط ضعفها خاصة تلك المتصلة بالأمومة وعاطفتها. وهي تنتمي بذلك إلى الرعيل الثاني من الحركة النسوية في فرنسا الذي قادته سيمون دي بوفوار، حيث تم الجمع بين تحرير المرأة ومصادرة الأمومة والحطّ من قيمتها وإخراجها من دوائر الإشكاليات النسوية. فالأمومة تُعدّ من قبل التيار النسوي عقبة في طريق تحقيق الذات التي تصبو إلى المساواة الاجتماعية. لكن كريستيفا تنبّه بحذر وشغف إلى هذه الحلقة المفرغة من حلقات البحث عن الذات النسوية وإشكالاتها، لتشيد بدور الأمومة معادية النسوة اللواتي يعزلن المرأة عن جزء من طبيعتها وحساسيتها وهشاشتها.

لذلك تدعو كريستيفا مجمع النساء إلى "الولادة أو الكتابة"؛ وذلك ليبقى الاتصال والتّواصل دائما مع ذاتها الهشّة الخصبة والخلاّقة. وعندما تُطرح إشكالات وتساؤلات حول ماهية المرأة في المنابر الثقافية، تتوجّس كريستيفا من تحديد مفهوم للمرأة، من زجرها داخل حدود واسعة أو ضيّقة الـمفاهيم تُحدثُ شروخا على صلابة الـموضوع، وتكتفي كريستيفا بإجابة: "الـمرأة؟ لا أعرف ما الـمرأة!" بإطباق الصمت والغور في دهاليز الـمعنى الدفين لفرادة الذات النسوية وإعادة الاهتمام بتلوّنات أهوائها، وتشكّلات هيكلتها، وكشف حقائقها، والتمتع بجغرافيتها الرغائبية والغرائبية.

خاتـمة:

يُـمكننا وسم فكر جوليا كريستيفا بأنه ثورة مستدامة، لوضع الحياة دائما تحت علامات الاستفهام أو أمام تصدّع القناعات وقلق الـمعتقدات وتحدّي الرّهانات، وهي الوسيلة -الوحيدة في حاضرنا- التي لم تغلق أبوابها ونوافذها، حفاظاً على مستقبل أكثر انفتاحاً وتقبّلاً للاختلاف. من خلال التعمق أكثر في حياة الفرد، وسبر أغواره الدّاخلية الدفينة اللاّوعية، وبحث تجلياتها الفنية والصوفية والإتيقية. وهو ما تكرّسه كريستيفا داخل تصنيفاتها الجادّة في السنوات الأخيرة.

 

مصادر ومراجع الـمقال:

Julia Kristeva, Semeiotikê. Recherches pour une sémanalyse, Seuil, France, 1969

Julia Kristeva, Soleil noir. Dépression et mélancolie, Gallimard, France, 1987.

Julia Kristeva, Étrangers à nous-mêmes, Fayard, France, 1988

Julia Kristeva, La Révolte intime, Fayard, France, 1997.

Julia Kristeva, Seule, une femme, Éditions de l'Aube, France, 2007.