حوار مع نائلة السّليني


فئة :  حوارات

حوار  مع نائلة السّليني

حوار[1] مع نائلة السّليني[2]

في استنطاق النّصوص

د. نادر الحمّامي: الأستاذة نائلة السلّيني، لعلّ السّؤال الّذي يُطرح بدايةً، يتعلّق بسبب انتظار أطروحتك لنيل شهادة الدّكتوراه أكثر من خمسة وعشرين عاماً من إنجازها لتعرف طريقها إلى النّشر عن مؤسّسة مؤمنون بلا حدود للدّراسات والأبحاث، فهل يعود الأمر إلى المعارضة الّتي واجهتها في وقتها، وما الّذي جعلها محلّ معارضة؟

دة. نائلة السّليني: لمؤسّسة مؤمنون بلا حدود الفضل في أن ترى أطروحتي النّور، بعد أن خالجني الشّعور بالإحباط وهي مخطوطة بين أدراج مكتبتي تطالها السّرقات الأدبيّة، ولا قدرة لي على منع ذلك. ولعلّي انتظرتُ طويلاً أن تعرف طريقها إلى النّشر منذ أن صودرت في اللّحظة الّتي كانت فيها تحت الطّبع في مركز النّشر الجامعيّ سنة 2000، ولا أعلم اليوم إن كان أرشيف المركز يمتلك وثائق تبرّر العدول عن نشرها، رغم أنّها كانت تحظى بتوصية من وزير التّعليم العالي، باعتبارها أوّل أطروحة في اللّغة والآداب العربيّة في الجامعة التّونسيّة أنجزتها امرأة، وكان يمكن أن تُنشر وألّا تلاقي هذا الصّدّ كلّه طيلة هذه السّنوات. وقد بحثت عن الأسباب، وكان ردّ مدير مركز النّشر الجامعيّ حينئذ، أنّ الأستاذ محمّد الطّالبي رحمه الله، بعث بتقرير سلبيّ إلى رئاسة الجمهوريّة يحذّر فيه من نشرها متعلّلاً بأنّها تمسّ من قداسة النّصّ القرآنيّ، وقد أشار عليّ الأستاذ عبد المجيد الشّرفي المشرف على هذه الأطروحة بأن أزور الأستاذ الطّالبي وأتناقش معه علّه يتراجع في موقفه، فكان ذلك، وذهبت إليه في بيته وتحادثنا طيلة ثلاث ساعات، وكان في كلّ مرّة يكرّر الجملة التّالية: «أنا مؤمن وأنت ملحدة، وأنا مستعدّ أن أدافع عنك وعن إلحادك لا أن تخرج هذه الأطروحة إلى النّور». وقد حاولت بوسائل أخرى، عن طريق «مقايضات» مع دور نشر أجنبيّة، أن أنشر أجزاءً منفردة، فكان ذلك الجزء الّذي صدر عن المركز الثّقافيّ العربي، وكان من المنتظر أن أختار أقساماً أخرى من الأطروحة لنشرها في جزء ثان، ولكن، مرّة أخرى، أعلمني مدير دار النّشر الأستاذ حسن ياغي، بوجود اعتراض على نشر هذا العمل. ومنذ ذلك الوقت تُرك الأمر هكذا. وإن كنت قد داخلني اليأس لانتظار طال، فإنّ الأستاذ الشّرفي لم ييأس، بل كان في كلّ مناسبة يستحضر هذه الأطروحة الّتي ظُلمت، ولم ينفكّ في كلّ مرّة ألتقيه فيها يقول: «هذه الأطروحة الآن عصرها».

د. نادر الحمّامي: نعم، الآن عصرها، فهي لم تفقد نضارتها؛ لأنّ القضايا المضمّنة في أبوابها، مثل المواريث والزّواج، هي ذاتها القضايا الّتي أعادها المجتمع التّونسيّ إلى السّاحة منذ نقاش دستور 2014 إلى الآن. ومع أنّ الأستاذ المرحوم محمّد الطالبيّ قدّم تقريراً سلبيّاً حول أطروحتك، حال دون قبولها للنّشر، إلّا أنّك قمت بتثمين التّوجّه الّذي دعا إليه في كتابه المعروف «ليطمئنّ قلبي»، وقد عبّر عنه بـ«الانسلاخسلاميّة»، فهل هذا يعود لتمييزك بين الشّخص ومواقفه الشّخصيّة أم لرجاحة هذا التّوجّه الّذي دعا إليه منذ التّسعينات عبر ما سُمّي «السّهم الموجّه»؟

دة. نائلة السّليني: في النّهاية، نحن نلتقي حول النّتائج نفسها، ولكنّ المقاربة هي المختلفة، وهو يُنكر هذه المقاربة. وأذكر أنّه حين كان رئيس لجنة المناقشة لهذه الأطروحة، كان نقاشه لي مركّزاً حول المقاربة، ولكن ليس حول النّتائج، وقد استنكر طريق الإسلاميّات التّطبيقيّة نسبة إلى محمّد أركون، وبصفة أخص نسبة إلى المدرسة التّونسيّة الّتي أشرف عليها الأستاذ عبد المجيد الشّرفي في دراسة النّصوص الدّينيّة استناداً إلى الإسلاميّات التّطبيقيّة. فما قُمت به هو أنّني جعلت النّصّ القرآنيّ في المستوى نفسه مع جميع النّصوص الأخرى، ونظرت فيه باعتباري قارئاً ومتقبّلاً قبل أن أكون مؤمناً، وهذا الّذي رفضه الأستاذ الطّالبيّ، لأنّه يعتبر أنّ القراءة السّهميّة في النّصّ القرآنيّ لا يجب أن تخرج عن نطاق القراءة التّعبّديّة الإيمانيّة. وقد أعلن عن موقفه هذا منذ مناقشة الأطروحة، وطالبني بأن أعترف بإلحادي في المناقشة، فبيّنت له أنّني أتعامل مع النّصّ القرآنيّ ونصوص التّفسير ونصوص الفقه ونصوص التّاريخ على المستوى نفسه في اعتبارها نصوصاً تحاور بعضها بعضاً، وإن كان للنّصّ القرآنيّ مكانة، فهي لأنّه النّصّ الأوّل المؤسّس، الّذي عليه نشأت نصوص التّفسير والفقه والكلام وغيرها. ويبقى النّصّ القرآنيّ في نظري، بمثابة البّلّورة العاكسة الّتي يوجّه إليها الضّوء فتعكس إشعاعات مختلفة الألوان، وكلّ إنسان يرى لوناً معيّناً من تلك الألوان. ودوري أنا هو أن أبرز هذه الألوان المختلفة في المستوى نفسه، لا أن أختار لوناً واحداً منها، وإلّا فإنّني أتحوّل عن صفتي البحثيّة إلى تبنّي موقف من المواقف. وقد تمكّنتُ هكذا من استنطاق تلك النّصوص رغم أنّ الأمر لم يكن يسيراً؛ فالآيات القرآنيّة تظلّ متكتّمة على معناها، والتّفسير أيضاً، لأنّ هناك درجة ثانية يشتغل عليها المفسّر، وعندما تتّضح تلك الدّرجة يستوي النّصّان على المستوى نفسه، وعملي هو أن أجعل النّصوص متطابقاً بعضها فوق بعض في طبقات، وأن أنظر في الكثيف من هذه الطّبقات، وأعتبر أنّ هذا الكثيف هو ذاك الخيط النّاظم بين النّصّ القرآنيّ وما آلت إليه الفهوم والتّأويلات حوله، وهي الّتي تؤسّس المقاربة التّفسيريّة والمقاربة الفقهيّة، وبالتّالي الفكر الإسلاميّ.

د. نادر الحمّامي: ذكرت أنّ القرآن يتوجّه إلينا، فهل مازال يتوجّه إلينا اليوم؟ أليس علينا أن نغيّر أسئلتنا حوله، وننتقل من سؤال «كيف يمكن أن نفهم القرآن اليوم؟» إلى سؤال «كيف يمكن أن نفهم القرآن في زمانه هو دون أن يكون متوجّهاً إلينا اليوم؟»

دة. نائلة السّليني: ما أشرتَ إليه ههنا هو لبّ القضيّة، فعلى الباحث أن يحاور النّصّ القرآنيّ في المسار التّاريخيّ والثّقافيّ والاجتماعيّ الأوّل الّذي أنزل فيه، لا أن يقفز على حيّز تاريخيّ بطول خمس عشرة قرناً جاعلاً النّصّ تحت ضغوط الظّروف الحاليّة. ومسار الأطروحة بأكمله ينتهي عند آخر فصل فيه إلى «المصحف المبثوث»، وربّما هذا ما استفزّ الأستاذ الطّالبي، وقد سمّيته قصداً هكذا، لأنّه مبثوث في الصّدور على اختلافها في الزّمن، فكلّ صدر يقرأه بمنظاره الخاص، ولذلك ظهرت القراءات المخالفة والمقاربات في النّاسخ والمنسوخ، ومعنى هذا أنّ النّصّ القرآنيّ عبارة عن محطّات تاريخيّة يجب أن يسايرها الباحث دون أن تسيطر عليه؛ وذاك عمل دقيق جدّاً لأنّه يفترض من الباحث أن يظلّ يقظاً في كلّ مرّة حتّى لا يتعسّف على هذا النّصّ فيلقي عليه همومه، وإذا ما فعل ذلك فقد قام بليّ عنق الآيات وحرّف المعنى حتّى وإن حافظ على اللّفظ. فالنّصّ القرآنيّ يجب أن يتنزّل في مساره الأوّل، وهو محاور بامتياز لتلك الشّعوب وذلك المتقبّل في عصر الدّعوة، ولذلك اختلفت القراءات بعد وفاة الرّسول وقبل أن يُجمع القرآن وحتّى بعد أن جُمع؛ وقد رأينا في ذلك نماذج كثيرة من خلال عملنا في «المصحف وقراءاته»، وانتبهنا إلى أنّ هناك قراءات خرجت حتّى في القرن الخامس للهجرة، ولم تكن موجودة زمن الدّعوة في القرن الأوّل؛ لأنّ اللّاحق يظلّ يبحث عن علامات تُلحقه بهذا النّصّ حتّى وإن كان على أساس التّعسّف، المهم أن يظلّ مستأنساً به ومستحضراً إيّاه في العصر اللّاحق.

د. نادر الحمّامي: هنالك مقولات حول هذا النّصّ تصفه بأنّه نصّ مفتوح، وما سمّيته أنت «المصحف المبثوث» يجعل من النّصّ الواحد متعدّداً وليس مفتوحاً؛ وهذا التّعدّد يستمرّ أيضاً في التّفاسير، وليس في الصّدور فحسب، لأنّها تجمع علوم القرآن كلّها، ومن ضمنها القراءات والنّاسخ والمنسوخ، ما يخرج تلك التّفاسير من طبيعتها باعتبارها نصوصاً ثوان، لتقدّم نفسها باعتبارها النّصّ الأصليّ.

دة. نائلة السّليني: أريد أن أشير ههنا، إلى نقطة هامّة، فالحديث عن «المصحف المبثوث» كان من أهمّ النّتائج الّتي توصّلت إليها في عملي، وهو يتّصل أساساً بالسّؤال التّالي: أين نجد هذا المصحف المبثوث؟ إنّنا نجده في التّشريعات وفي الفقه، ولا نجده في النّصّ القرآنيّ في نسخة الرّسميّة (le texte clos) المحتفى بها في التّرتيل. ففي التّشريعات، أي في استنباط الأحكام، لم يستند الفقهاء إلى النّصّ الرّسميّ، وإنّما استندوا إلى قراءات أخرى قد تكون مخالفة له، وقد تكون مصحفاً آخر؛ من ذلك أنّهم يقتطعون فاصلة من آية في سورة من السّور، وفاصلة أخرى من آية أخرى في سورة أخرى، ويربطون بينهما، ويجعلون منهما آية مشتركة، يُستنبط منها الحُكم، فهذا بالنّسبة إليّ مصحف مبثوث. وقد قام التّشريع والفقه على المصحف المبثوث ولم يقوما على النّصّ القرآنيّ والمصحف الّذي بين أيدينا. ولنا مثال قطع يد السّارق، فلو نظرت إلى الآية {*وَالسّارِقُ وَالسّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المَائدة: 38]، وبقيت عند حدود الآية، فإنّك تلاحظ أنّ السّارق والسّارقة اثنان، في حين أنّ الأيدي وردت بصيغة الجمع، ولو طبّقت النّصّ القرآنيّ كما هو سيكون القطع في الأيدي الأربع، والحال أنّ الفقهاء أقرّوا بقطع يد واحدة في السّرقة الواحدة، فكيف شرّعوا ذلك؟ يقولون قرأها ابن مسعود «والسّارقون والسّارقات فاقطعوا أيمانهم»، ويأخذون لفظ الأيمان ويضيفونها إلى اليد، فتصير في ذهن الفقيه آية أخرى، وهي مبثوثة في صدره هكذا «والسّارق والسّارقة فاقطعوا اليد اليمنى»، وهذه قراءة مخالفة، يأخذ فيها بجانبٍ من الآية وينسى القراءة الرّسميّة للنّصّ القرآنيّ. وفي المقابل، فإنّ الاستئناس بالنّصوص الثّواني، كالسّنّة، يثير الكثير من نقاط الاستفهام، فهي لا تعدو أن تكون سوى مرويّات وأخبار، والرّواية تزيد وتنقص، بل إنّها «تذهب ذراعاً وتعود متراً»، وقد بيّنت في الأطروحة أنّ مسألة «قطع اليد» ارتبطت لدى العرب بالأعراف، وتذكر الأخبار أنّ ابن السّبيل عندما يقع على قوم يكرمون ضيافته، فإنّه يقطع يده اليمنى ويتركها لهم هديّة، فكيف تحوّل قطع اليد من الاعتراف بالجميل إلى العقاب على السّرقة! وقد حاولت أن أقوم بتخريج عن طريق الاستناد إلى قراءة ابن مسعود، فنظرت في الأيمان وتتبّعتها في النّصّ القرآنيّ بأكمله، ولم أجد في القرآن لفظ «الأيمان» بمعنى اليد اليمنى، وإنّما وجدت «الأيمان» من اليمين أي القسم، والقسم في الشّهادة، فكان المعنى الّذي توصّلت إليه «اقطعوا أيمانهم» أي قاطعوا السّارق والسّارقة في الشّهادة. قد أكون بهذا المعنى متعسّفة على النّصّ، ولكن هذا هو ما بلغته من نتيجة وقد أغيّر موقفي في قادم السّنوات، إن بدا لي ما يخالف ذلك.

د. نادر الحمّامي: أنت تبحثين عن المعنى الأصليّ في هذا المثال، استناداً إلى قراءة ابن مسعود الّتي ستُعدّ بداية من القرن الثّاني خصوصاً بعد القراءات السّبع، قراءة شاذّة وستُصادر، والغريب أنّها يُستند إليها في التّشريع، فهل مشروع إعادة قراءة آيات الأحكام ممكن اليوم؟ وهل يمكن إعادة النّظر فيها كلّها بوضع جداول مرتّبة لما عُدّ لاحقاً قراءات شاذّة، وبالتّالي قد تكون هذه القراءات الشّاذّة بعد نظام السّبع مدخلاً بالنّسبة إلى الدّراسات القرآنيّة اليوم، لإعادة النّظر في ما يسمّى في هذه الدّراسات «المصحف الأصليّ»، أو «ما قبل المصحف الإمام»، وهذا الأمر قد اشتغل عليه الألمان كثيراً، ولعلّ مسألة القراءات الشّاذّة تكون مدخلاً مناسباً إليه؟

دة. نائلة السّليني: هذا هو المفروض في تثوير النّصّ الدّينيّ، ولعلّ موسوعتنا «المصحف وقراءاته» الّتي أنجزناها، تنتظر أشغالاً حتّى نستغلّها ونقوم بثورة ثقافيّة دينيّة؛ فما قمنا به في «المصحف وقراءاته»، إنّما هو عبارة عن أرضيّة فكريّة ومعرفيّة تسمح بإعادة النّظر في عدّة مسلّمات كنّا نعتقد أنّها من المقدّسات وأنّها قطعيّة الدّلالة، وهذا العمل لا يمكن أن يقوم به فرد واحد وإنّما وجب أن تلتفّ حوله مجموعات بحثيّة أشبه بخلايا نحل؛ لأنّ تثوير النّصّ الدّينيّ لا يكون في عشر سنوات أو عشرين سنة، بل إنّه قد يستغرق نصف قرن، على الأقلّ، من الجهد المتواصل. ولعلّ النّقطة الّتي أسهمت في بيانها هي أنّ الفقه الإسلاميّ بأكمله لم يقم على ما اعتبر نصّاً أصليّاً مقدّساً يُتعبّد به، وإنّما قام على نصّ آخر ظلّ حيّاً في الأفئدة والصّدور وفي العادات والأعراف، وتغذّى من هذه الأعراف ونما وكبر وصار هو الّذي يوجّه الفهوم والتّشريعات وكيفيّة استنباط الأحكام.

الحقوق بين الفرض القانونيّ ومنهجيّة قراءة النّصوص

د. نادر الحمّامي: ما يتمّ تداوله اليوم والنّقاش فيه حول الحرّيّات والمساواة وكلّ ما يتعلّق بالجوانب الاجتماعيّة سواءً كان خاضعاً للتّأصيل في النّصّ القرآنيّ، أو قائماً على القطيعة معه، قد أثبت قصوره في كلتا الحالتين، وهو عندك محلّ نقاش، بناءً على النّظر في تلك الأحكام على أساس ما سمّيته «المصحف المبثوث» الّذي تتعدّد فهومه وتتجاوز التّأصيل من ناحية والقطع من ناحية أخرى، لتصل إلى طريق ثالثة تقوم على محاولة ملاءمة القيم الحديثة لمجتمعنا الرّاهن. كيف تقاربين هذه المسألة؟

دة. نائلة السّليني: هذه القضيّة هي قضيّتنا الرّاهنة، منذ سنة 2011 حين أعدنا اكتشاف بعضنا البعض، وقد كان كلّ منّا قبل ذلك منزوٍ في قوقعته يشتغل لنفسه ويقوم بعمل أكاديميّ، وكلّ جماعة من نفس الاتّجاه تشتغل مع بعضها البعض، وعندما نزل النّاس إلى الشّارع ظهرت عدّة معطيات جديدة تجعل المسار يشهد صعوبات. وكان على كلّ واحد منّا أن يكبح جماحه ليعيد النّظر في مصداقيّة ما يقوم به من عمل، وهل ما إذا كان له صدى في المجتمع، لأنّ أيّ قانون لا يمكن أن يكون فاعلاً إلّا إذا تبنّاه المجتمع، وقد ساعدني وجودي ضمن «جمعيّة النّساء الدّيمقراطيّات» الّتي ترفع شعار العَلمانيّة والقطع مع المسلّمات الدّينيّة وإعلاء القوانين الدّوليّة، وفتح أمامي فرصاً كثيرة للنّقاش والتّفاعل مع أهل الاختصاص في القانون والحقوق. وكان النّقاش محتدماً في مسألة المواريث؛ لأنّ مقاربتي ومقاربتهن تختلفان رغم أنّنا ننتهي إلى النّتائج نفسها، وقد اعتبرت كثيرات منهنّ أنّ الانطلاق من المسلّمات الدّينيّة مضيعة للوقت، في ظلّ وجود قوانين دوليّة تسيّر العالم، وأنّ علينا أن نحتكم إليها باعتبارها مرجعيّات. وقد بيّنت لهنّ أنّ هذا في مستوى التّنظير جميل وطيّب ويختزل مسافة طويلة، في مقابل الوقت الّذي قد تتطلّبه مقاربتي، ولكن الإشكال في مقاربتهنّ أنّها تظلّ نخبويّة، وغير قادرة على إقناع المجتمع، بل إنّ من الحقوقيّات والحقوقيّين، أنفسهم من هم غير مقتنعين، وفي ضمائرهم شيء من الرّيبة تجاه تلك القوانين الدّوليّة، والخشية من أن تتعارض مع إيمانهم. لذلك فإنّ المنهج الّذي طالبت به هو أن نصفّي حسابنا مع التّراث أوّلاً، ليس بمعنى النّقمة عليه أو التّنكّر له، وإنّما بمعنى الجرد الّذي تقوم به المؤسّسات قبل إخلاء عهدتها، حتّى لا تكون لنا عودة إليه، وما دام النّاس في حاجة في كلّ مرّة للرّجوع إلى هذا التّراث، فذلك لأنّهم لم يصفّوا حسابهم معه، وهذا يتطلّب جهداً كبيراً. وعلينا قبل كلّ شيء أن نتبيّن الأمر بالحجّة والدّليل وبكثير من الصّبر، لندرك أنّ القرآن مختلف عن الأحكام الفقهيّة وأنّ هناك مسافة تأويليّة بشريّة فصلت بين النّصّ القرآنيّ والحكم الفقهيّ، وبعد ذلك نستطيع أن نغلق هذا الباب نهائيّاً، وأن نقوم باجتهادات توافق الحداثة، ونحن مطمئنّون في داخلنا إلى أنّنا لم نخن هذا النّصّ القرآنيّ. وسيشارك المجتمع في هذا الجهد بكلّ ثقله بعد أن يحصل لديه هذا الاطمئنان، ويفهم النّاس خطأ الحجج الّتي يسوقها أهل النّقل والتّقليديّون ودعاة الإسلام السّياسيّ لبيان قطعيّة الدّلالة في أحكام المواريث. وقد كانت لي تجربة ثريّة جدّاً مع المجتمع من خلال لقاءاتي ومحاضراتي في هذا المجال، ولا أزال ألتقي بالنّاس في كثير من الأماكن داخل البلاد، حتّى أقنعهم بعدم وجود دلالة قطعيّة في القرآن؛ وكلّما تحدّثت معهم ببساطة وبالاستناد إلى النّصّ القرآنيّ وبيّنت لهم التّحوّلات الّتي وقعت في تغيير الآية وأخضعَتها لمفاهيم اجتماعيّة مختلفة عبر العصور، إلّا واقتنعوا بأنّ القرآن شيء وما قيل لهم في علم الفرائض والمواريث شيء آخر، وأنّهم اليوم أحرار في اختيار الطّريق الّتي يسلكونها. هذا هو المنهج الّذي علينا أن نسلكه حتّى نتحقّق من أن المجتمع يتطوّر، وهو مطمئنّ ومقتنع بأنّه لا يخالف إيمانه، فنحن في مجتمعات مسلمة تؤمن بالكثير من المسلّمات، أحببنا ذلك أم كرهنا، وعلينا أن نحاور ذواتنا الدّاخليّة وفكرنا الدّينيّ أوّلاً، ويوم نقتنع نحن فإنّنا نستطيع أن نقنع النّاس بوجهات نظرنا.

د. نادر الحمّامي: كأنّك بهذا تقولين إنّ مسألة الفرض القانونيّ أو الدّستوريّ، الّذي له بعد سياسيّ، لا يؤدّي سوى إلى نتائج ظرفيّة لا تُستبطن اجتماعيّاً، ولكن لو نظرنا على سبيل المثال في مسألة منع تعدّد الزّوجات، فإنّها لم تكن محلّ نقاش اجتماعيّ وعمل بيداغوجيّ وقراءة للنّصوص في إطار عام، بل كانت في سياق فرض سياسيّ من الدّولة أي من رئيس الحكومة الحبيب بورقيبة قبل الاستقلال، وهو الأمر نفسه بخصوص مسألة إلغاء الرّقّ في تونس منذ القرن التّاسع عشر، فقد كانت نتيجة فرض سياسيّ وليس نتيجة حوار اجتماعيّ؛ ألا يمكن بالتّالي أن تصل مثل هذه القضايا، بعد مدّة من فرضها سياسيّاً، إلى الاستبطان الاجتماعيّ، فأنت تلاحظين اليوم أنّ أغلبيّة المجتمع التّونسيّ لا تقبل بتعدّد الزّوجات وترفض تماماً مسألة الاسترقاق، على الرّغم من أنّ هذه المسائل لم تصدر عن عمل بيداغوجيّ كالّذي تدعين إليه؟

دة. نائلة السّليني: عصرنا اليوم مختلف عن عصر الحبيب بورقيبة، ومجتمعنا الحاليّ ليس هو نفسه المجتمع التّونسيّ في الخمسينيّات والسّتّينيّات من القرن الماضي؛ ففي ذلك الوقت كان النّاس يعيشون حياتهم اليوميّة بجميع جزئيّاتها، ولم تكن هناك قنوات تلفزيّة ولا إنترنت ولا دعاة ينشرون خطبهم ودعواتهم اليوميّة، ولا فئات تروّج لخطاب الوعد والوعيد. وعندما فرض بورقيبة منع تعدّد الزّوجات، لم يواجه خطاباً مضادّاً قويّاً في حجم ما نراه اليوم، وإنّما كان عمل الحكومة بأن مهّدت لذلك باستقطاب الأئمّة والدّعاة، لفرض المبادرة الجديدة، والقلّة من الزّيتونيّين المتشدّدين الذّين رفضوا ذلك القانون وعارضوه ظلّوا في تحرّكاتهم بمثابة المرجل الّذي يغلي من الدّاخل، أمّا المجتمع فقد تقبّل الوضع بحيثيّاته الاقتصاديّة وبسلطة بورقيبة الكاريزماتيّة. اليوم لا توجد لدينا سلطة زعيم يشبه بورقيبة بإمكانه أن يواجه الأدوات الإعلاميّة الحديثة، أضف إلى أنّ الإسلام السّياسيّ يوفّر طاقة كبيرة إعلاميّة ومادّيّة، ويعتبر القنوات الإعلاميّة مظهراً من مظاهر الجهاد، ويواجه كلّ مبادرة للنّهوض بالمجتمع بمبادرة أخرى معاكسة، يستغلّ فيها المجتمع العامّيّ الّذي لا يقرأ، ويعمّق فيه الخوف على دينه. وهنا أشير إلى قضيّة «اتّفاقيّة القضاء على جميع أشكال التّمييز ضدّ المرأة» والتي تُعرف بـ(cedaw)، فعندما بدأت المبادرة في تونس لنزع التّحفّظات على هذه الاتّفاقيّة، أصدر اتّحاد العلماء المسلمين (الّذي يمثّل الإخوان المسلمين) بياناً مضادّاً، يستعرض جميع بنود الاتّفاقيّة ويردّ عليها ببنود أخرى، وإلى يومنا هذا فإنّ اتّحاد علماء المسلمين واضع يده على هذه الاتّفاقيّة، وفي كلّ سنة يراسل قسم المرأة في الأمم المتّحدة لينبّهها أن المرأة المسلمة هي غير المرأة الأخرى في العالم، فهل نحن نساء المسلمين أقلّ درجة من بقيّة نساء الكون أم إنّنا الأرفع!.. إذا فهذا الانغلاق وتوظيف وسائل إعلاميّة هو الّذي يجعل عملنا لا يجد صداه المرجو اليوم، ولو أنّ بورقيبة سوّى في الميراث في ذلك العصر، لما وجدنا أنفسنا الآن في هذا الوضع، ولعلّه كان عازماً على الحسم في هذه المسألة لولا معارضة بعض المحيطين به، ومن بينهم الرّئيس الحاليّ، وفق ما أفادني به أحد الشّهود، ولا أعلم إن كان ذلك صحيحاً، وليت الباجي قائد السّبسي يؤكّد هذا أو ينفيه، وإن كان رأيه في ذلك الوقت بأنّ المساواة في الميراث لم يحن أوانها، فأرجو أن يكون الآن مقتنعاً فعلاً بأنّ أوانها قد حان، فنحن ننادي بالمساواة في الميراث منذ التّسعينات، ولن نسكت عن ذلك لأنّه مشغلنا ومطلبنا.

د. نادر الحمّامي: يبدو أنّ الخصومة في هذه المسائل بين المحافظين والحداثيّين، هي خصومة على الجمهور؛ ففي حين تستقوي الجهات المحافظة بدعم المؤسّسة الدّينيّة وتيّارات الإسلام السّياسيّ وتجد صدى لخطابها البسيط والمباشر في أوساط فئات شعبيّة واسعة من المجتمع، فإنّ خطاب الحداثيّين الحقوقيّ والأكاديميّ يبدو نخبويّاً وجافّاً، وغير قادر على تحقيق تلك المشروعيّة الاجتماعيّة، وكلّما حاول طرح المسائل المتعلّقة بالموروث الدّينيّ للنّقاش داخل المجال العام، إلّا وُوْجِهَ برفض المؤسّسة الدّينيّة بحجّة عدم الاختصاص. ولعلّك تواجهين ردود فعل سلبيّة بفعل هذه الحجّة الّتي تجد رواجاً لدى فئات من المجتمع؟

دة. نائلة السّليني: أؤكد صراحة أنّني عندما لا أجد ردّة فعل سلبيّة أصاب بإحباط، لأنّها دليل على أنّني وضعت إصبعي على الدّاء، ولأنّ من يتعلّل بتلك الحجج ليس قادراً على الإقناع بمثل حجّتي، وأنا واثقة في المجتمع وأتكلّم عن تجربة، وكثير من النّاس يستوقفونني في الشّارع ويسألونني ويعبّرون عن ثقتهم في خطابي، وهذا دليل على أنّهم يتفاعلون مع مقاربتي، ومن يردّ الفعل المضادّ هو العاجز الّذي يشعر بالإحباط، وبأنّ الأمور صارت تنفلت من بين يديه، ولم يبق له إلّا رمي التّهم بالإلحاد أو بعدم الاختصاص، وأنا أحمد الله أنّهم إلى اليوم لم يتّهموني بالإلحاد، ولعلّ القول بأنّني لست من أهل الاختصاص أقلّ وطأة ممّا هو أشدّ. ولو نظرنا في من يروّجون لذلك الخطاب الإقصائيّ، فسنلاحظ أنّ من بينهم أشخاصاً مثل نور الدّين الخادمي وسناء حدّدا وعبد المجيد النّجار، وهؤلاء ينتمون إلى مجلس أمناء الاتّحاد العالميّ لعلماء المسلمين، وهم يجاهدون، وعملهم كلّه يندرج في نطاق الجهاد، ولو أخرجتهم من هذا السّياق فإنّهم لا يمتلكون الآلة الّتي تقنع المجتمع. ولا أعتقد أنّ خطابهم يمكن أن يحبط من عزائمنا، فعلينا دائماً أن نخوض المعارك ضدّ الظّواهر الّتي من شأنها أن تتأخّر بالمجتمع، وتلك مهمّة وجب أن يضطلع بها كلّ مثقّف، وأن تتحمّل أعباءها النّخب المفكّرة، فهذا قدرها.

د. نادر الحمّامي: إذاً فهي مهمّة الجامعة والجامعيّين أيضاً، ولكنّنا اليوم لا نرى استجابة حقيقيّة من الجامعة للاضطلاع بهذا الدّور، ورغم مناخ الحرّيّة المتوفّر، فإنّها لا تزال منغلقة على نفسها وتواجه صعوبات في التّواصل مع المجتمع، ولا يبدو أنّ الشّباب الجامعيّ مستوعب لهذا الدّور المهمّ المنوط به.

دة. نائلة السّليني: لطالما قلتُ إنّ المؤسّسة الوحيدة الّتي لم تدخلها الثّورة هي الجامعة التّونسيّة، وأعطيك مثالاً بسيطاً، فعندما وقفت في سنة 2016 في وجه وزير الشّؤون الدّينيّة آنذاك ووزير التّربية، وانتقدتُ قرار فتح المدارس في العطل الصّيفيّة لتحفيظ القرآن للتّلاميذ، لم أجد مساندة من زملائي الجامعيّين، بل إنّ من بين النّقابيّين المعروفين في الجامعة من لامني على ذلك، واعتبر أنّ ما قمت به فيه إحراج لهم، ومع ذلك فقد خضت معركتي لوحدي وتمكّنت من إقناع المجتمع قبل إقناع الحكومة إلى أن أُبطل القرار. وأذكر أنّي لازمت بيتي أثناء ذلك طيلة أسبوعين لم تكن لديّ الشّجاعة للخروج، ويوم خرجت كان يوماً مشهوداً بالنّسبة إليّ، لأنّ شيخاً ومعه حفيدته أتى بوردة وطلب من البنيّة الصّغيرة إهدائي إيّاها ولقّنها أن تقول لي «شكراً جدّتي نائلة»، ولن أنسى أبداً تلك الصّورة ولا تشجيع النّاس لي.

المؤسّسات وقضايا المرأة

د. نادر الحمّامي: وتلك ملامح مشجّعة على المضيّ في مواجهة الجهات المحافظة الّتي تجد سنداً من المؤسّسات الدّينيّة، وقد كتبتِ منذ سنوات مقالات رأي حول تلك المؤسّسات ومنها الأزهر والزّيتونة والمجلس الإسلاميّ الأعلى ومؤسّسة الإفتاء، وانتقدتِ دورها في مأسسة التّجمّد والمحافظة لتصبح فرضاً قانونيّاً مسلّطاً على المجتمع وعائقاً أمام حرّيّة التّفكير، فما هي طبيعة هذا الدّور الّذي تقوم به المؤسّسات الدّينيّة اليوم، ولماذا يتعارض مع القيم الحديثة؟

دة. نائلة السّليني: نعيش اليوم في جميع الدّول العربيّة، ومن بينها تونس، حالة من الفصام بين قيم الحداثة من جهة، والهويّة التّراثيّة من جهة أخرى، وهو ما يعبّر عنه الكثيرون بمفهوم الوسطيّة، وهذا أمر يطفو على السّطح من خلال العديد من التّعبيرات الاجتماعيّة والسّياسيّة؛ من ذلك أنّ عدداً غالباً من الأحزاب السّياسيّة الجديدة تصنّف نفسها وسطيّة، وتحاول الجمع بين متناقضين، ولو فهموا معنى الوسطيّة لأدركوا أنّ من بين معانيها ما ذهب إليه المعتزلة في تصنيف الفاسق في المنزلة بين المنزلتين، فلا هو في منزلة الإيمان ولا هو من منزلة الكفر. والتّوجّه إلى تكريس هذا المبدأ الفصاميّ في المجال السّياسيّ التّونسيّ بدا واضحاً عندما عمل زين العابدين بن علي على التّقرّب من الإسلاميّين والتّأسيس للتّصالح معهم، فأحدث المجلس الإسلاميّ الأعلى[3]، والغريب أنّ رئاسة الحكومة التّونسيّة أبقت على هذه المؤسّسة بعد الثّورة، وهي اليوم مجمّدة، وقد كانت تضطلع بالكثير من المعاني التّشريعيّة، ومن بين مشمولاتها المشاركة في إصلاح التّعليم، وإذا نظرنا في من يمثّل هذا المجلس سنجد أنهم وهابيّون وإخوان مسلمون من النّهضة. وما دام المجلس الإسلاميّ الأعلى صار اليوم مفرغاً ممّا أشرت إليه من دَورٍ، فما الغاية من الاحتفاظ به؟ وما لم يقع حلّه، فهو يبقى مهيّأً لاستعادة مهامّه في كلّ وقت، كغيره من المؤسّسات الدّينيّة في باقي الدّول الإسلاميّة، الّتي اكتسبت الكثير من المهامّ المؤثّرة، وصارت القوى المحافظة تستأنس بها، وتجد فيها سنداً لفرض نفوذها، ونحن نعلم أنّ جميع تلك الدّول تعتمد على مؤسّسات دينيّة فاعلة في مجالات كثيرة، ومن بين أهمِّها نذكر مؤسّسة الأوقاف، أو وزارة الأوقاف، الّتي باتت أشبه بدولة داخل الدّولة، فهي شبه مستقلّة ماليّاً ولها مداخيل كبرى، ولها القدرة على توظيف الأفراد، والتّدخّل في شؤون بقيّة الوزارات، وفي داخلها مؤسّسات أخرى جزئيّة تُعنى بالمرأة والأسرة والشّباب والسّياحة الدّينيّة وغير ذلك. لذلك طالب الإسلاميّون في تونس بوزارة أوقاف، وطالبوا بصندوق زكاة، وكلاهما وجهان لعملة واحدة، ورغم تصدّي المجتمع المدنيّ لتلك المبادرات، فقد ظلّ أولئك يحيّنون مطالبهم تلك في كلّ مناسبة، ولم ييأسوا إلى يومنا هذا، وهم ينتظرون اللّحظة الّتي يمرّرون فيها إمّا قانون الأوقاف أو قانون الزّكاة، حتّى إنّ البنوك الإسلاميّة صارت تتبجّح بصندوق الزّكاة، وظهرت جمعيّة تسهر على جمع الزّكاة وهي «الجمعيّة التّونسيّة للزّكاة»، المتعاونة مع الحكومة، والغريب أن توكل الحكومة بعض الأدوار إلى هذه الجمعيّة في حين أنّ ذلك من مشمولات عمل هياكل الدّولة ووزاراتها ومؤسّساتها، خاصّة في ظلّ عوامل التّدخّل الخارجيّ والنّفوذ الأجنبيّ، فتلك الجمعيّات تنشط دون مراقبة، وتأتيها الأموال والتّبرّعات من الدّاخل ومن الخارج، وهذا يمسّ من أمن الدّولة وسيادتها.

د. نادر الحمّامي: هذه المؤسّسات تبدو متضامنة جدّاً في ما بينها، رغم اختلاف المجتمعات الّتي تنتمي إليها، لذلك نجد الفصل مواقفها موحّدة ضدّ معظم المسائل الّتي تُطرح للنّقاش العامّ، وكأنّها تحت راية واحدة، فما الّذي يزعج مؤسّسة دينيّة مثل الأزهر من إقرار المساواة في الإرث داخل المجتمع التّونسي، والحال أنّ تونس لا تسعى لفرض ذلك على أيّ بلد آخر!

دة. نائلة السّليني: يمثّل الأزهر المؤسّسة الأرثوذكسيّة في الدّول العربيّة بأكملها، لذلك فشيوخه عندما يشاركون في ندوات خارج مصر فإنّهم يتحرّكون وكأنّهم «أنبياء»، ويشعرون أنّ ما يقدّمون من اجتهادات هي من قبيل المقدّسات، وأنّ على جميع المجتمعات تقبّلها، وفي اعتقادهم أنّهم المنارة العلميّة لجميع الدّول الإسلاميّة، وأنّ ذلك الدّور من صميم عمل مؤسّسة الأزهر. وتلك منطلقات عمل مؤسّسة الزّيتونة أيضاً، ولكن على نطاق ضيّق يشمل المجتمع التّونسيّ، وهو ما يسمح لها بأن تعارض المبادرات الحداثيّة الّتي تطرح للنّقاش. ولعلّنا نلاحظ أنّ منارة الزّيتونة صارت رهينة في يد الإسلاميّين؛ فجلّ شيوخها تقريباً ينتمون إلى حركة النّهضة، وهؤلاء يحرجهم أن يعلن المجتمع مبادرات خاصّة، والحال أنّ على المجتمع، في نظرهم، أن يتلقّى لا أن يبادر، لاعتقادهم بأنّ ذلك يهدّد سلطتهم.

د. نادر الحمّامي: نلاحظ أنّ من أكثر ما يخيف هذه المؤسّسات الدّينيّة قضيّة المرأة، فكلّما تُطرح مسائل تتعلّق بحقوق النّساء إلّا وتسارع هذه المؤسّسات للتّصدّي لها وتتحالف في ما بينها لترفض كلّ تغيير. فهل إلى هذا القدر تبدو المرأة مخيفة في المجتمعات العربيّة والإسلاميّة؟

دة. نائلة السّليني: المرأة العربيّة بصفة عامّة تُحرج هذه المؤسّسات، وأثمّن ههنا الجهود الكبيرة الّتي تبذلها النّساء العربيّات سواء في دول الخليج أو في دول المغرب العربيّ، وقد كان لي شرف العمل معهنّ في مسائل المساواة. فالمرأة العربيّة، أكاد أقول، إنّها الكائن الحائر الوحيد في المجتمعات العربيّة، لأنّها عانت الكثير من التّضحيات، ولطالما كانت كبش فداء في الحروب، وكلّما طالبت بحقوقها تواجه بالتّسويف والمماطلة والتّجاهل؛ فقبل الاستقلال كانت الدّول العربيّة تتعلّل بأولويّة تحقيق شروط السّيادة الوطنيّة قبل الخوض في مسائل المرأة، وبعد الاستقلال ظلّت تتعلّل بأولويّة النّهوض بالجانب الاقتصاديّ والتّنمويّ قبل البتّ في أيّ إصلاح يهمّ وضعيّة المرأة. لكنّنا في تونس كنّا محظوظات كثيراً، ومن المؤكّد أنّ ما راكمته المرأة التّونسيّة من مكتسبات يرجع بالفائدة أيضاً على نظيراتها العربيّات عموماً، ويمّهد لهنّ الطّريق ليبادرن بافتكاك حقوقهنّ، وقد برهنت المرأة التّونسيّة بالحجّة والدّليل على أنّ النّساء قادرات دائماً على خوض التّحدّي والنّضال في سبيل تغيير القوانين وتغيير العقليّات. ولذلك، فالمجتمع التّونسيّ بنسائه ورجاله يخيف تلك المؤسّسات الدّينيّة، وقد بلغ أشواطاً كبيرة في مواجهتها والحدّ من سطوتها عليه. ولو لم يكن الرّجل التّونسيّ سنداً حقيقيّاً للمرأة منذ ما بعد الاستقلال إلى اليوم، بهذا المستوى العالي من الفهم والإدراك، لما أمكن لها أن تتقدّم وتقطع تلك الأشواط العظيمة في طريق التّحرّر والحقوق، ولكان حالها كحال باقي نساء العالم العربيّ؛ فلو لم يقع منع تعدّد الزّوجات سنة 1956 هل كان من الممكن اليوم أن نمنعه؟ طبعاً لَا! ولو لم يغيّر الحبيب بورقيبة شيئاً ما مجلّة الأحوال الشّخصيّة في المواريث، وأدرج الوصيّة الواجبة، ما مكّن البنت من أن يكون لها نصيب في الميراث، هل كان ممكناً أن يتحقّق لها ذلك اليوم؟ طبعاً لا... لذلك فالمرأة التّونسيّة أضحت مثالاً لنظيراتها العربيّات، بعد أن اجتازت عقبتي الصّمت والخوف، وإذا ما تمكّنت المرأة العربيّة اليوم من اجتياز هاتين العقبتين فإنّها ستختصر أشواطاً كبيرة نحو حقوقها. وعلينا أن نثمّن في هذا السّياق ما حقّقته المرأة السّعوديّة اليوم من تغييرات في حياتها اليوميّة، مهما كانت قليلة، لأنّ المطالبة بالتّغيير الجذريّ بين يوم وليلة لن يحصل، والأفضل أن يقع التّغيير على مراحل. لذلك عندما وجدنا في المقترح المقدّم للمساواة في المواريث أنّ من يقبل بالمساواة يمكن أن يطبّقها ومن يرفضها يمكن ألّا يطبّقها، غضبنا في البداية، لأنّنا نريد المساواة التّامّة، ولكنّنا بعد ذلك تفهّمنا الأمر، طالما أنّ الرّغبة في إحداث المساواة التّامّة موجودة في المقترح، كما هي موجودة لدى كثير من الآباء منذ القديم، فالكثير منهم يقومون بقسمة أملاكهم على أبنائهم إناثاً وذكوراً بالتّساوي، وهم على قيد الحياة.

د. نادر الحمّامي: لا تتوفّر إحصائيّات حول هذا الأمر، ولكن أعتقد، ممّا ألاحظه في محيطي، أنّ الكثير من الآباء يفعلون ذلك.

دة. نائلة السّليني: فهل لهذا منطلقات إيمانيّة؟ طبعاً لَا، وإنّما هم يفعلون ذلك لأنّهم يرون فيه نوعاً من الإنصاف لأبنائهم، ولا يرون في ذلك ضرراً، وحتّى إن لم يقوموا بذلك في حياتهم، فبإمكانهم إيجاد الحلّ المناسب في الوصيّة.

د. نادر الحمّامي: رغم أنّ الوصيّة هي الأصل، كما نفهم ذلك من الآيتين الحادية عشر والثّانية عشر من سورة النّساء {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ}، فإنّ الفقهاء جعلوا الميراث هو الأصل وقلبوا الآية، وفي ذلك مغالطة واضحة، يمكن شرحها للنّاس، حتّى يقتنعوا بمبدأ المساواة.

دة. نائلة السّليني: لو طُبّقت تلك الفرائض كما هي في الآيات دون الرّجوع إلى علم الفرائض الّذي نشأ في القرن الخامس للهجرة، فسنلاحظ وجود حالات تستعصي فيها القسمة، وهذا يجعلنا نتساءل، ما كان يفعل المسلمون طيلة خمسة قرون وليس لديهم حساب الفرائض؟ إنّ القرآن قدّم نماذج فحسب، وأعتقد أنّ تلك النّماذج كانت جوانب لحالات خاصّة في ذلك الوقت وليست عامّة، وقد قبلها المسلمون لأنّها تستجيب لحاجتهم في تلك الظّرفيّة. ونحن لا نعلم الكثير عن تلك الحالات، ولكن ما بقي منها هو أمر واحد يتعلّق بحالة للذّكر مثل حظّ الأنثيين من بعد وصيّة يوصي بها، ثمّ للنّساء من بعد وصيّة يوصين بها أو دين؛ أي أنّ المرأة والرّجل متساويان في هذه الحالة، والإرث هو ملك للميّت. ولكن في المنظومة الفقهيّة نجد عكس ذلك، فالإرث هو ملك للذي سيأتي من بعد وليس للميّت أن يتصرّف فيه؛ ذلك أنّ الوصيّة تعطي للفرد الحقّ في أن يتصرّف في ملكه، والقرآن واضح في ذلك، كمن قال لابنه، وقد أعطاه ديناراً، اشترِ بعض الحاجيّات من بعد أن تعطي للبائع ما يستحقّ من مال قديم، وهكذا فالأسبق هو أن تدفع للبائع مستحقّاته القديمة طبعاً. وقد جعل القرآن للمالك حقّه في أن يوصي، ونحن نعلم أنّ نظام الوصيّة موجود في الدّيانات الثّلاث، وهذا المعمول به. لكنّ الإشكال أنّنا كلّما أردنا أن نرتقي بأنفسنا إلّا وحاول التّقليديّون العودة بنا إلى ما دون ذلك. وفي النّهاية فإنّ الّذي يملك له الحرّيّة في أن يوزّع ملكه على من يشاء، سواءً كان قريباً أو بعيداً ابناً أو ابنة، وسواءً أعطى كامل ماله لابنته ولم يعط لابنه، أو قام بخلاف ذلك. فأعتقد أنّ ذلك يوفّر فرصة لكبار السّنّ حتّى لا يجدوا أنفسهم في نهاية أعمارهم دون كفيل أو معيل، وكثير من البنات اهتممن بآبائهن قبل وفاتهم، وفي الأخير يأخذ الذّكر مثل حظ الأنثيين، ولو طبّقت الوصيّة لكانت حماية لهنّ من ذلك، ودافعاً للأبناء حتّى يعدّلوا من سلوكهم تجاه آبائهم وأمّهاتهم، فلا ضرر ولا ضرار.

د. نادر الحمّامي: مسألة المساواة في الإرث مهمّة، وهي محلّ جدل اليوم، ومطروحة للنّقاش حتّى تكون قانوناً، ولكنّ ذلك ليس سوى جزء من معركة أخرى، هي معركة المساواة المطلقة بين الجنسين، ولذلك لا ينبغي أن يُنظر إليها باعتبارها قضيّة خاصّة بالمرأة فقط، حتّى لا تنحصر في إطار النّسويّات، بل يجب أن تُدرج في إطار أشمل وهو حقوق الإنسان.

دة. نائلة السّليني: نعم، وأنا أتّفق مع هذا الرّأي، لأنّنا حين نحصر هذه المسألة في إطار النّسويّة سنبقى ندور في حلقة مفرغة، فالخطاب النّسويّ ظلّ يكرّر نفسه دون أن يشعر؛ ولذلك علينا أن نشقّ طريقاً مستقيماً حتّى نتطوّر ونتجاوز ما كنّا طالبنا به، ونتمكّن من تحقيق أشياء لصالح الإنسان عموماً باعتباره فرداً فاعلاً في المجتمع.

د. نادر الحمّامي: إنّ مقولة الفرد هي القيمة الكبرى في النّهاية، ومسألة المساواة تمثّل جانباً من الحرّيّات الفرديّة. وهذا مهمّ لإعادة الاعتبار لقيمة الفرد أمام كلّ الرّواسب التّراثيّة والمؤسّسات المحافظة، ومن ثمّ إعادة النّظر في الكثير من الإشكاليّات الاجتماعيّة الكبرى في إطارها الواسع، حتّى لا تبقى حكراً على فئة معيّنة فيسهل حصارها. الأستاذة نائلة السّليني شكراً جزيلاً لكِ على ما تفضّلت به.

[1]- أجري هذا في 30 كانون الثاني/يناير 2019

[2]- نائلة السّليني، أستاذة الحضارة العربيّة الإسلاميّة بالجامعة التّونسيّة، مهتمّة بمراجعة التّراث العربيّ الإسلاميّ نقديّاً، حاصلة على دكتوراه الدّولة، بأطروحة حول «تاريخيّة التّفسير القرآنيّ والعلاقات الاجتماعيّة». أشرفت على بحث جماعي، بعنوان «ميراث النّساء ووهم قطعيّة الدّلالة» (2019)، ساهمت في «المصحف وقراءاته» (2016) بإشراف الأستاذ عبد المجيد الشّرفي. تكتب مقالات رأي تعنى بقضايا الشّأن العامّ، في عديد المواقع الإعلاميّة والصّحفيّة، ناشطة في المجتمع المدنيّ ضمن «جمعيّة النّساء الدّيمقراطيّات».

[3]- «المجلس الإسلامي الأعلى» هو مجلس استشاريّ في المجال الدّيني تابع للوزارة الأولى منذ إحداثه في نيسان/أبريل 1987 (أمر عدد 663 المؤرّخ في 22 نيسان/أبريل 1987 المتعلّق بإحداث المجلس الإسلاميّ الأعلى للجمهوريّة التّونسيّة، الرّائد الرّسميّ عدد 31، 28 نيسان/أبريل - 1 أيار/مايو 1987).