حوار مع المؤرّخة الأستاذة بثينة بن حسين: جدل الدين والسياسة في الإسلام المبكّر


فئة :  حوارات

حوار مع المؤرّخة الأستاذة بثينة بن حسين: جدل الدين والسياسة في الإسلام المبكّر

حوار مع المؤرّخة الأستاذة بثينة بن حسين:

جدل الدين والسياسة في الإسلام المبكّر

حاورها أنس الطريقي

"لابدّ من إعادة قراءة الفترة الأمويّة، خاصّة المتعلّقة بالفتنة الثّانية في مراحلها المختلفة لارتباطها بالواقع الذّي نعيشه حاليّا"

 

بثينة بن حسين تقدّم نفسها:

أستاذة محاضرة بكليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بسوسة ومسؤولة على مشغل بحث التّعمير بالمغرب الوسيط بمخبر أشغال الأرض والتّعمير وأنماط العيش بالمغرب القديم والوسيط (.LR13ES11)، عضو بلجنة التّبريز-تاريخ، وعضو باللّجنة الوطنيّة لانتداب الأساتذة المساعدين بالتّاريخ، وكذلك عضو بلجنة تسيير مركز بحث حول النّوع الاجتماعي بالمتوسّط بجامعة آكس- مرسيليا (GenderMed)

لديها ثلاثة كتب منشورة: الدولة الأموية ومقوماتها الإيديولوجية والاجتماعية، منشورات كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بسوسة 413، 2008 ص. وكتاب الفتنة الثّانية، دار أمل للنّشر والتّوزيع، صفاقس 455، 2010 ص. وقد طبع هذا الكتاب طبعة ثانية بدار الجمل، 2013 بعنوان: كتاب الفتنة الثانية في عهد الخليفة يزيد بن معاوية، وكتاب ثالث زوجات الخلفاء الأموييّن: قراءة جديدة، دار الجمل، مايو 2014

كما نشرت مقالات عديدة حول الفترة الأمويّة كـ"شريح بن الحارث الكندي" و"العنف في الدّولة الأمويّة: الحجّاج بن يوسف الثّقفي نموذجا" و"رمزيّة السّلطة الأمويّة: دراسة أنثروبولوجيّة" و"ثورة عمرو بن سعيد الأشدق: قراءة جديدة" و"صورة الخليفة معاوية بن أبي سفيان من خلال ابن عساكر"، و"سكينة بنت الحسين من خلال كتب الطّبقات" و"رمزيّة الأسود لدى العبّاسييّن". كما كتبت عدّة مقالات حول إباضيّة المغرب -وهو موضوع بحثها حاليّا-: "صورة البربر في المصادر الإباضيّة" و"الطّرقات والمسالك الإباضيّة من القرن 11 إلى القرن16" و"الحدود والمجالات الإباضيّة بالمغرب الوسيط".

أنس الطريقي: نحاورك في سياق التفكير في المقدّمات التأسيسيّة للتصوّر الإسلامي السّياسي للدولة، الذّي يسمّيه دولة إسلاميّة، وأبرز هذه المقدّمات هي قولهم بالتّرابط الضروري بين الدّين والدّولة؛ بمعنى ضرورة الدّولة للدّين، إلى حدّ تحوّلها معهم إلى شرط من شروط الإيمان. ونحن نعلم من خلال كتاباتهم أنّهم يكوّنون حججهم على هذه المصادرة من مصادر مختلفة، أهمّها التاّريخ، وتحديدا التّاريخ الأوّل للإسلام؛ أي ما صار في التّسمية الأكاديميّة يعرف بالإسلام المبكّر. فمن هذا المنظور هم يقولون بأنّ تجربة الرسول، وتجربة خلفائه الرّاشدين، هي تجربة تطبيق الدين بالدولة، وأنّ الدولة كانت ضرورية للدين، ومن ثمّ فالرسالة كان هدفها تكوين الدولة، لتقوم الرسالة بها. ما رأيكم في الموضوع، بصفتكم من تلامذة هشام جعيّط الذي يعدّ من أبرز المؤرّخين الذّين تناولوا هذا الموضوع، ومن أفراد جيل كامل مثله محمّد الطالبي، وعبد المجيد الشرفي، وبرهان غليون، ومحمّد أركون، ومحمّد عمارة، وغيرهم؟

بثينة بن حسين: ارتبط الدّيني بالسّياسي منذ هجرة الرّسول إلى يثرب؛ لأنّ محمّد كان نبيًّا يدعو إلى الإسلام. كما كان سياسيًّا يتقن فنّ السّياسة بامتياز نظرا لجذوره القرشيّة. وتمكّن النبيّ من تأسيس نواة دولة. وبعد وفاة الرّسول، بويع أبو بكر الصدّيق لخلافة رسول اللّه على المستوى السّياسي وللمحافظة على الميراث الرّوحي والدّيني للرّسول. وقد كانت أسباب اختيار أبي بكر في السّقيفة أسبابا دينيّة من وجهة نظر عمر بن الخطّاب[1]؛ فهو من أصحاب القدمة والسّابقة في الإسلام؛ أي من المهاجرين الأوائل و"ثاني اثنين في الغار"، كما أنّه عوّض الرّسول عند مرضه بإمامة المسلمين في الصّلاة. وكانت الأسباب السّياسيّة تتمثّل في انتماء أبي بكر لمجموعة المهاجرين الأوائل التّي كان لها دور في بناء الإسلام في مكّة والمدينة، والتّي ستخلق نواة فئة سياسيّة تسيطر على الحكم استنادا على السّابقة [2] والقدمة في الإسلام وعلى حساب النّخب القرشيّة الأرستقراطيّة من بني عبد مناف خاصّة عليّ بن أبي طالب والعبّاس بن المطّلب والأموييّن. فكانت "الخلافة الرّاشدة" منحصرة في هذه الفئة الجديدة التّي لا تتمتّع بشرف قبلي في قريش، كتيم التّي ينتمي إليها أبي بكر الصدّيق.

وقد أسّس أبو بكر دولة ترتكز على العنف حسب تعريف فيبر للدّولة، حيث أرسل جيوش المدينة للقضاء قضاء مبرما على المرتدّين في كامل أنحاء الجزيرة العربيّة. وكانت حركة الردّة حركة سياسيّة-دينيّة ظهرت بعد وفاة الرّسول برفض دفع الزّكاة للخليفة الجديد، وبظهور زعامات قبليّة تطمح للرّئاسة والاستقلال عن دولة المدينة كحركة الأسود العنسي باليمن ومسيلمة الكذّاب باليمامة، ومجموعات أسد وغطفان وطيّ بقيادة طليحة.

فقد دفع العرب الصّدقة للرّسول؛ لأنّه شخصيّة كاريزميّة (نبيّ تلقّى الوحي). وكانت القبائل العربيّة لا تتصوّر سلطة مجرّدة ودائمة كسلطة الدّولة[3]، كما كانوا متخوّفين من سيطرة قريش على السّلطة في الجزيرة العربيّة. وبعد القضاء على حركة الردّة وتوحيد الجزيرة العربيّة، بدأ الخليفة أبو بكر الصدّيق حركة الجهاد في العراق ضدّ السّاسانييّن، وهو ما يعرف بالأيّام. فقد فهم الخليفة "الرّاشدي" الأوّل أنّه لا يمكن للإسلام أن يبقى حبيس الجزيرة العربيّة، بل يجب أن ينتشر في العالم.

وأسّس الخليفة عمر بن الخطّاب "دولة إمبراطوريّة" لأوّل مرّة في تاريخ العرب بعد الإطاحة بالإمبراطوريّة الفارسيّة، وإنهاء السّيطرة البيزنطيّة على الشّام ومصر. وكانت هذه الدّولة ترتكز على "الجهاد" كعنصر أساسي في تكوينها. وقد أسّس ديوان العطاء أو ديوان الجند الذّي انخرط فيه كلّ المسلمين من العرب أو المقاتلة، وكانوا متفرّغين للجهاد مقابل تلقّيهم العطاء والرّزق؛ أي مرتّبات عينيّة ونقديّة لهم ولذراريهم.

ثمّ بنيت الأمصار في العراق (الكوفة والبصرة) وفي مصر (الفسطاط). واقتسم المقاتلة بالشّام المدن مع السكّان من العرب المسيحييّن. وكانت هذه الأمصار موجّهة أنظارها نحو إكمال حركة الجهاد بسجستان وجرجان وخراسان وبلاد ما وراء النّهر والهند والصّين شرقا. وكانت الشّام ثغرا دائما في مواجهة الإمبراطورية البيزنطيّة التّي كانت على حدودها الشّماليّة.

وأخيرا، كان الفسطاط بوّابة المغرب في ما بعد؛ أي في عهد الخليفة عثمان بن عفّان.

وتواصل التّرابط بين الدّيني والسّياسي في فترة الخليفة عثمان بن عفّان بتواصل الفتوحات في اتّجاه الشّرق-خراسان- وفي اتّجاه الغرب -إفريقيّة- لكنّ الخليفة عثمان بن عفّان غيّر طبيعة الدّولة والحكم نظرا لجذوره الأمويّة، وهو ما سمّاه هشام جعيّط بالدّنيويّة في الحكم. فبنى القصور ولبس الحرير وقرّب القرابة القريبة[4] على حساب الأمّة - أمّة المسلمين أو المقاتلة. وقد انتقل هذا الطّابع الدّنيوي للأموييّن، عندما وضعوا أسس الحكم الأسروي.

أنس الطريقي: أنت من تلامذة المؤرّخ أستاذ الأجيال هشام جعيّط. والمعلوم، أنّه من أبرز المؤرّخين الذّين اهتمّوا بالإسلام المبكّر، في كتبه المعروفة: الفتنة جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكّر، وفي السيرة النبويّة: 1 الوحي والقرآن والنبوّة، و2 تاريخيّة الدعوة المحمّديّة في مكّة. الأستاذ جعيّط لم يرغب في تقديم إجابة على سؤالنا الذي طرحناه، بل سعى إلى إحياء التاريخ الحيّ المجهول للوقائع، والذهنيات، كان يريد أن يحلّل الأجواء، ويقترب ما أمكن من الحقيقة التاريخيّة لتلك الفترة التاريخية المبكّرة للإسلام. هذا المنظور الهرمينوطيقي تقريبا، الذي يمثّل خلفيّة للعلوم الإنسانيّة، والذي حاولت استئنافه في كتابيك (الدولة الأمويّة ومقوّماتها الإيديولوجية والاجتماعيّة، 2008، والفتنة الثانية في عهد الخليفة يزيد بن معاوية، 2013).

بالنظر إلى الفترتين الفترة التي حلّلها أستاذك، والفترة التي حلّلتها، كيف يمكن أن تصفي العلاقة بين الدين والسياسة في تلك الفترة، قياسا إلى جعيط الذي قال إنّ تلك الفتنة الأولى، فتنة أواخر عهد عثمان، كانت تجسيدا لمسار انتقال ذلك التاريخ الإسلاميّ المبكّر من استثنائية متعالية على المصلحية نحو الدولة الإمبراطورية المستندة على القرابة والغنيمة، واستنادا إلى معلوماتك في الموضوع؟

بثينة بن حسين: كانت الدّولة الأمويّة دولة دنيويّة بما أنّ الخليفة معاوية بن أبي سفيان كان وليّ عثمان بن عفّان[5]، وهو ينتمي لبني أميّة من بني عبد مناف (بيت الشّرف في قريش). ونجح الخليفة معاوية بن أبي سفيان في فرض الحكم الأسروي -كعنصر أساسي من عناصر "السّياسي"- بتوريثه لابنه يزيد بن معاوية، ورغم المعارضة الشّديدة من قبل أبناء الصّحابة كالحسين بن عليّ، فأصبحت مؤسّسة الخلافة كسرويّة وقيصريّة؛ أي إنّها تحوّلت إلى ملكيّة أو ملك عضوض كما ذكر ذلك ابن خلدون. وانتقلت الخلافة من الفرع السّفياني إلى الفرع المرواني بتولّي الخليفة مروان بن الحكم السّلطة. وحافظت الدّولة على الحكم الأسروي خاصّة في أسرة الخليفة عبد الملك بن مروان، كما أدخل الخلفاء الأمويّون السّياسي بتركيزهم لدولة ذات مؤسّسات تراتبيّة، فأسّسوا دواوين جديدة كديوان الرّسائل وديوان الخاتم وديوان البريد. فمكّنت هذه المؤسّسات الأموييّن من تركيز الدّنيويّة والسّياسي على غرار الإمبراطوريّة السّاسانيّة والبيزنطيّة.

وأدخل الخلفاء الأمويّون مظاهر السّلطة كالمقصورة في المسجد الأموي بدمشق[6] والتّاج والعصا (عصا الملك) وأسّس الخليفة معاوية بن أبي سفيان التّشريفات؛ أي البروتوكول من حجّاب وتراتبيّة في إدخال النّاس لمجلس الخليفة. وحرص الخلفاء الأمويّون على أن تكون لديهم ثروات خاصّة تمكّنوا بواسطتها من ربط ولاءات مهمّة بأشراف القبائل إلى حدود فترة الخليفة مروان بن الحكم.

وقد طوّر الخلفاء الأمويّون "السّياسي" إلى أبعد حدّ، حيث تلذّذوا بالسّلطة إلى درجة عالية وعناصر التلذّذ بالحكم هي الخمر والأكل والجواري، وهي عناصر متوفّرة في المحيط السّياسي السّاساني والبيزنطي.

وكانت هذه العناصر السّياسيّة من أهمّ التّهم الموجّهة للأموييّن من قبل الفقهاء المعارضين للدّولة.

وتواصل تطوّر السّياسي من قبل الخلفاء الأموييّن في عهد الخليفة يزيد بن معاوية وأساسا في الفتنة الثّانية. فقد قتل عبيد اللّه بن زياد -والي العراق من قبل الخليفة يزيد بن معاوية- الحسين بن عليّ (حفيد الرّسول)؛ لأنّه "شقّ عصا الطّاعة" و"خرج على الجماعة". وبذلك، حدث أوّل قطع للرّحم في الفترة الإسلاميّة وتفوّق السّياسي على الدّيني. وعاقب الخليفة يزيد بن معاوية أهل المدينة لعدم مبايعتهم له، فاستباحها ثلاثة أيّام من قبل جند الشّام، فنزع عنها قدسيّتها. وكان أيضا العامل السّياسي أقوى من العامل الدّيني. وأخيرا، ضرب جند الشّام الكعبة بالمنجنيق لمعاقبة عبد اللّه بن الزّبير المحتمي بها والرّافض لبيعة الخليفة يزيد بن معاوية. وبذلك، فرضت الدّولة الأمويّة السّياسي لخدمة السّلطة.

لكنّ الدّولة الأمويّة ركّزت "الدّيني" في الحكم؛ فقد قام الأمويّون بالجهاد، ووسّعوا رقعة الخلافة الأمويّة التّي أصبحت تمتدّ إلى الأندلس غربا، وإلى بلاد ما وراء النّهر والهند والصّين شرقا.

وعرّب الخليفة عبد الملك النّقود، وكتب عليها سورة الإخلاص معوّضا الصّليب ونقش الإمبراطور البيزنطي. فكان هذا الإنجاز مثقلا بالرّموز تجاه بيزنطة: تركيز الإسلام والعروبة وتوفير العملة للدّولة الإمبراطوريّة. كما ركّز الأمويّون الإسلام، عندما وضع الحجّاج بن يوسف الثّقفي والي العراق وخراسان من قبل الخليفة عبد الملك بن مروان التّنقيط والشّكل في القرآن.

أنس الطريقي: لو عدنا إلى الوراء في ذلك الإسلام المبكّر إلى بعض التفاصيل أو الفترات المهمّة، من زاوية نظر الإسلامويين، الفترة التي نقصد هي الفترة النبويّة، وتحديدا تجربة الرسول في المدينة، في هذه التجربة يبرز خاصة حدث وثيقة الصحيفة. ثمّة آراء تقول إنّ تأليفها كان بعديّا، المرجّح أنّه في الفترة الأمويّة؛ فما رأيك بالنظر إلى معرفتك العميقة بتلك الفترة الأمويّة؟

بثينة بن حسين: حرّرت وثيقة الصّحيفة قبل أو بعد معركة بدر، وهي وثيقة تنتمي إلى الفترة المحمدّية، ولا يمكن أن نرجعها إلى الفترة الأمويّة أو العبّاسيّة كما يروّج بعض المستشرقين من المدرسة الاستشراقيّة التّشكيكيّة الحديثة[7]. وقد درس هذه الوثيقة مونتغمري وات في كتابه حول محمّد في المدينة[8]. مع العلم أنّ هذا المستشرق أورد قراءة رصينة لنصّ الصّحيفة. وكانت حججه حول قدم الوثيقة -معتمدا بدوره على المستشرق الألماني يوليوس فلهوزن- تتمثّل في أنّ العناصر الأساسيّة الموجودة بالصّحيفة لا يمكن تغييرها أو تحريفها في الفترة الأمويّة والعبّاسيّة: كغير المسلمين اللّذين لا ينخرطون بشكل من الأشكال في الأمّة. كما أنّ البنود التّي كانت موجّهة ضدّ قريش لا يمكن الحفاظ عليها من قبل الأموييّن أو العبّاسييّن، وهذا يبيّن أنّ النبيّ كان يستعدّ لمحاربة قريش. وكانت مكانة محمّد في الصّحيفة؛ أي في الفترة المدنيّة الأولى غير مهمّة، لكنّه معترف به كشخصيّة تلعب دور الوساطة بين القبائل المتصارعة في يثرب (الخزرج والأوس)؛ فهو شخصيّة مهمّة إلى جانب شخصيّات أخرى لا تقلّ أهميّة.

أنس الطريقي: حول موضوع الصحيفة أيضا، هناك نوع من السعي إلى تأصيل التعايش السلمي والمدني راهنا استنادا إلى النموذج المروي عمّا فعلته الصحيفة من تأسيس للتعايش بين المسلمين واليهود، فهل هذا ممكن في نظرك؟

ثمّ كيف نظّم الرسول التعايش بين المسلمين والآخر المختلف دينيّا، هل كانت بنود الصحيفة معبّرة عن أفكار مبتكرة، أم أعراف قديمة. وهل كان العيش المشترك مؤسّسا على الانتماء إلى المكان، أم على أساس ضمان حماية، أو مبادلات تجارية، أو اعترافا بالاختلاف؟ هل قبل ذلك التأسيس النبوي الاختلاف والتنوّع وطبق القول القرآني لا إكراه في الدين؟

بثينة بن حسين: بيّنت الصّحيفة دور محمّد في الفترة الأولى وعند قدومه إلى يثرب بدعوة من الخزرج، ليحسم الصّراع بينهم، وبين الأوس (المتحالفين مع اليهود من النّضير وقريظة). فحرص على تنظيم العلاقات بين الخزرج والأوس. وقد بايعه الخزرج (المتفوّقين عدديّا على الأوس)؛ أي اعترفوا به كنبيّ. وكان على محمّد أن يعيد التّماسك لمجموعة الأنصار، وأن يتكفّل بكلّ الأمور بالمتعلّقة بالسّلم والحرب، وهو كما ذكره هشام جعيّط بقوله عن النبي إنّه "زعيم وأقلّ من زعيم، إذ يتعيّن عليه أن يكون محايدا"[9].

فقد فرضت هذه الوضعيّة على الرّسول -كزعيم قبليّ قرشيّ متمرّس بفضّ النّزاعات بين القبائل- أن يحرص على تماسك هذه المجموعات المتصارعة سابقا. وكان الخزرج من المساندين له ومن المؤمنين به (بنو عمرو بن عوف، وبنو عبد الأشهل وبنو النّبيت).

وكان لدى الرّسول الأمل حسب هشام جعيط في هداية اليهود إلى دينه[10] في هذه السّنة الأولى. لكنّ موقفه سيتغيّر منهم، عندما تبيّن له أنّهم لا يبدّلون دينهم بالدّين الجديد. كما انضمّ إليهم المنافقون، فأصبحوا يمثّلون خطرا على دعوته ومكانته بالمدينة. إذن، كانت الصّحيفة مثالا للتّعايش بين المسلمين واليهود في فترة قصيرة من تاريخ المدينة. لكنّ تطوّر دور النبيّ الدّيني والسّياسي وتزايد عدد المؤمنين بدعوته وتشبّث اليهود بدينهم، سيجعل ما ورد في الصّحيفة فترة استثنائيّة في تاريخ الإسلام بالمدينة؛ فقد انتقل الرّسول إلى سياسيّ حريص على وحدة صفّه بالمدينة خاصّة بعد وقعة الخندق (طرد وقتل اليهود).

أنس الطريقي: لو تابعنا تاريخ الخلفاء الراشدين، ثمّة أحداث معبّرة يمكن أن نستنتج منها طبيعة العلاقة بين الدعوة والسياسة، الحدث الأوّل هو حدث خلافة النبيّ. الرواية الإسلامويّة المدرسيّة تتحدّث عن شوريّة، تجعل السياسة جزءا من الرسالة أو وفيّة لها. أمّا الرواية التاريخيّة، فتتحدّث عن عمل سياسيّ صرف جرى حسب الأعراف القديمة (الجابري مثلا)، بهذا المعنى أيضا، يتحدّث عن حروب الردّة، بين رواية تعتبرها حروبا من أجل الدين، وأخرى تعتبرها حروبا سياسيّة. ما رأيك؟

بثينة بن حسين: كانت السّقيفة تعبّر عن الصّراعات التّي ظهرت بعد وفاة الرّسول بين الأنصار والمهاجرين من ناحية، وبين المهاجرين (فئة أصحاب القدمة كأبي بكر وعمر) وفئة القرشييّن من عبد مناف كعليّ بن أبي طالب (وهو من المهاجرين) وأبي سفيان بن حرب (وهو من الطّلقاء)، وهي صراعات بين فريقين ساهما في ظهور الإسلام وتوسّع الدّعوة ونواة الدّولة المحمّديّة.

وحسم الصّراع الشّخصيّة المحوريّة في السّقيفة، وهو عمر بن الخطّاب بالقوّة. وبالتّالي، لم تكن هناك شورى، بل كان الجوّ متوتّرا إلى أبعد الحدود كما ذكر ذلك الطّبري. وانتصر أصحاب القدمة والسّابقة، رغم عدم انتمائهم إلى عشائر قويّة في قريش. كما همّش الأنصار في مدينتهم عن السّاحة السّياسيّة

وكانت حروب الردّة سياسيّة إلى أبعد الحدود لتركيز دولة أبي بكر الصدّيق أو "الخلافة الرّاشدة". فوجب إخضاع القبائل لسلطة الخليفة الجديد أو خليفة رسول اللّه.

أنس الطريقي: بالنسبة إلى الفترة العمريّة، هي في المخيّلة الإسلامية الراهنة، فترة تحقيق للعدالة القرآنية، وبالنظر إلى تاريخ الفكر السياسيّ التالي للفترة الأمويّة، نجد أنّ مفهوم العدالة صار ممثلا لمعنى السياسة الشرعيّة، ولا سيما بعد أن تكرّس الأمر مع القراءة الخلدونية للتاريخ، وتسرّب هذا المعنى إلى سائر الفكر الإصلاحيّ (الطهطاوي، خير الدين، ابن أبي الضياف..)، الذي تمكن من الانفتاح على الدولة الغربية الحديثة من هذا الباب. كيف يمكن أن ننظر إلى الفترة العمرية، حسب محور العلاقة بين الدين والسياسة، هل كان عمر سياسيا أكثر مما كان دينيا أم العكس؟ أم إنّ هناك إمكانية أخرى للتفكير في تجربته؟

بثينة بن حسين: تعدّ شخصيّة عمر بن الخطّاب شخصيّة محوريّة في تاريخ الخلافة الإسلاميّة. وقد كان سياسيّا إلى حدّ كبير بما أنّه كان ينتمي للبيئة القرشيّة. فبنى دولة امبراطوريّة بتأسيس ديوان العطاء، وتركيز كلّ الجهود للقيام بالجهاد، كما أنّه حرص على نقاوة العنصر العربي القرشي، فرفض انتقالهم إلى الأمصار وضيّق عليهم.

وكان عمر حريصا على تركيز مبادئ الإسلام من عدالة اجتماعيّة، وطبّقها على نفسه في لباسه وأكله. وخزن في بيت المال كلّ الغنائم من جواهر وغيرها، وكان شديدا في مراقبته لنساء الرّسول حفاظا على رمزيّة الرّسول. فلا يمكن أن نفصل بين الدّيني والسّياسي في شخصيّة عمر بن الخطّاب.

أنس الطريقي: لو انتقلنا إلى فترة الفتنة الثانية، وهي موضوع اهتمامك، والدولة الأمويّة، هل توفّرت في الدولة الأمويّة خصائص الدولة، وهل عبّرت هذه الدولة عن خروج عن نسق تاريخيّ للرسالة هيمنت فيه على الدولة ووجهتها، إلى نسق جديد أخضع الدين للدولة، حيث عدّت -باستثناء فترة عمر بن عبد العزيز- فترة مظلمة في التاريخ الإسلامي من هذا الجانب، أم يمكن توصيفها خارج هذين الخيارين للسؤال؟

بثينة بن حسين: كانت الدّولة الأمويّة دولة دنيويّة ومتأثّرة بالمؤسّسات البيزنطيّة، فأسّست جهازا إداريّا ومؤسّساتيّا لم يكن موجودا في ما قبل. وتطوّرت الدّولة الإمبراطوريّة المختلفة عن دولة الخليفة عمر بن الخطّاب، وأصبحت شبيهة بكبار الإمبراطوريّات السّاسانيّة والبيزنطيّة.

كما كانت الدّولة الأمويّة دولة عربيّة؛ لأنّها ربطت علاقات مصلحيّة بأشراف القبائل العربيّة اليمنيّة والقيسيّة، لكنّها كانت الدّولة التّي ركّزت الجهاد كعنصر أساسي لها وفتحت مجالات واسعة من المغرب والأندلس وسجستان وجرجان وبلاد ما وراء النّهر، بينما اكتفت الخلافة العبّاسيّة بردّ الهجومات على أراضيها.

وقد بيّنت فترة الخليفة عمر بن عبد العزيز نقاط ضعف الدّولة الأمويّة (عروبة الدّولة ورفضها لإدماج الموالي وضعف شرعيّتها التّاريخيّة مقارنة بأبناء الصّحابة)... وكان عمر بن عبد العزيز من أهمّ المتسبّبين في ضعف الدّولة باتّباعه لسياسة "إسلاميّة" تتمثّل في رفض مظاهر السّلطة والتفرّغ لشؤون الرعيّة والدّين، وإرجاع حقوق الموالي بتركهم يدفعون الصدقة فقط كالمسلمين، بينما كان الأمويّون انطلاقا من فترة الحجّاج بن يوسف، يجبرونهم على دفع الجزية، وهم مسلمون.

أنس الطريقي: الفتنة الثانية كما سمّيتها، الفتنة التالية لتوريث يزيد بن معاوية (61-64هـ)، والتي استعرت نارها إلى حدود عام78هـ، كانت فتنة أحدثت شرخا في الضمير الإسلامي، أو انقساما أكبر فرق الأمة الإسلامية إلى فريقين كبيرين، يختلفان حول تصوّر علاقة الدين بالسياسة، كأنّها كرّست هذا الزعم الدائم بأنّ تميّز الفكر السياسي السنيّ كامن في اعتبار المسألة السياسيّة قضية مصلحيّة اجتهاديّة، وهو زعم تفجّر مع الإسلام السياسيّ، وقبل ذلك بفترة طويلة في التاريخ الإسلاميّ منذ كتب العقيدة، حين جسر هذا الإسلام السياسيّ الفجوة بين التصورين السني والشيعي للسياسة، حين اعتبرها من العقائد أي من شروط الإيمان. فيم تمثّلت أهميّة تلك الفتنة من جهة هذا الموضوع؛ أي موضوع العلاقة بين الدين والدولة، في تكريسها لسياسيّة الدعوة الدينية؟

بثينة بن حسين: عبّرت الفتنة الثّانية عن تيّارين سياسييّن- دينييّن: الدّولة الأمويّة التّي كانت تمثّل التيّار السنّي أو الخلافة التّي ترتكز على الشّرعيّة الدّينيّة والتّاريخيّة، كما استند الخلفاء الأمويّون على إيديولوجيا الطّاعة (طاعة المسلمين للخلفاء) ووظّفوا فكرة القدر الإلهيّ، فكان الخليفة الأموي خليفة اللّه في الأرض. كما ركّزوا خطابهم الإيديولوجي على إيديولوجيا الجهاد (كعنصر أساسيّ من عناصر دولتهم)، كما عتّموا على القرآن والسنّة لإخفاء عدم سابقتهم في الإسلام (فهم من الطّلقاء اللّذين أسلموا بعد فتح مكّة سنة 8ھ) بالمقارنة مع أبناء الصّحابة، كما اتّخذ الأمويّون إيديولوجيا عروبة الدّولة نظرا لانتمائهم لقريش، فرفضوا إدماج العناصر الأعجميّة من الموالي في البوتقة الاجتماعيّة للدّولة، وهو عنصر من عناصر ضعف الدّولة الأمويّة واستغلال العبّاسييّن لهذه الثّغرة، لتقوية حركتهم بالاستناد للموالي الفرس.

ونشأت الحركة الشّيعيّة التّي كان هدفها الأساسي القصاص للحسين بن عليّ بن أبي طالب الذّي قتله الأمويّون بكربلاء. وكانوا يطالبون بالسّلطة لآل البيت العلوي؛ لأنّه من القرابة القريبة للرّسول. كما كانوا يحسّون بالذّنب لعدم إنجاد الحسين خاصّة الشّيعة بالكوفة. وتعدّدت الرّموز وتحدّدت مطالب الشّيعة طيلة الفترة الأمويّة، وأضعفت من شرعيّة الدّولة. لكنّ العبّاسييّن استغلّوا "المجهود الشّيعي" ليفتكّوا السّلطة، ولم ينجح الفاطميّون إلاّ في إفريقيّة في تأسيس أوّل دولة شيعيّة مرتبطة بفاطمة ابنة الرّسول.

أنس الطريقي: بهذه المقاربة للتاريخ من منظور العلوم الإنسانيّة، وبهذه الخلفية الهرمينوطيقيّة الكامنة فيها، والتي تعتبر أنّ الأسئلة التي نطرحها على التاريخ، هي أسئلة مصطنعة تحدّد تاريخنا الرّاهن وتوجّهه، هل ما زال طرح سؤال العلاقة بين الدين والدولة في الإسلام المبكّر، سؤال مفيدا لنا راهنا؟

بثينة بن حسين: أعتقد أنّ الدّيني والسّياسي مرتبطان أشدّ الارتباط في مجتمعاتنا العربيّة الإسلاميّة. وأكبر دليل على ذلك، مقتل الجنرال الإيراني بالعراق من قبل الولايات المتّحدة الأمريكيّة واتّقاد إيديولوجيا البطل- الشّهيد لدى الشّيعة في العراق وإيران، ورجعت ذكرى الحسين بن عليّ بقوّة في كربلاء.

كلمة حرّة:

لابدّ من إعادة قراءة الفترة الأمويّة، خاصّة المتعلّقة بالفتنة الثّانية في مراحلها المختلفة لارتباطها بالواقع الذّي نعيشه حاليّا.

[1] فرض عمر بن الخطّاب البيعة لأبي بكر الصدّيق في السّقيفة بالقوّة على حساب عليّ بن أبي طالب والأموييّن.

[2] رفض عليّ بن أبي طالب وخالد بن سعيد بن العاص مبايعة أبي بكر لمدّة أشهر.

[3] هشام جعيّط، مسيرة محمّد في المدينة وانتصار الإسلام، ص206

[4] أطلق الخليفة عثمان بن عفّان أيدي عائلته، خاصّة منهم مروان بن الحكم بن العاص، يتصرّفون في أموال المسلمين. فكانت سياسة المحاباة من أهمّ أسباب اندلاع الفتنة الأولى ومقتله من قبل الثوّار من القرّاء.

[5] أي ابن عمّه والمطالب بالقصاص له.

[6] باعد الخليفة معاوية بن أبي سفيان بينه وبين النّاس، حتّى لا يقع الاعتداء عليه.

[7] هذه المدرسة تروّج لأفكار خاطئة عن محمّد والإسلام. وهي ترمي بعرض الحائط كلّ الدّراسات الاستشراقيّة القديمة.

[8] Montgomery Watt, Mahomet, Mahomet à Médine,Payot, Paris,1989,p.474-482

[9] هشام جعيّط، في السّيرة النبويّة 3 مسيرة محمّد في المدينة وانتصار الإسلام، دار الطّليعة، بيروت، 2015، ص26

[10] هشام جعيّط، مرجع مذكور، ص28