حوار مع الدكتورة ميادة كيالي حول كتابها "المرأة والألوهة المؤنثة في حضارات وادي الرافدين" المترجم إلى اللغة الإنكليزية

فئة :  حوارات

حوار مع الدكتورة ميادة كيالي حول كتابها "المرأة والألوهة المؤنثة في حضارات وادي الرافدين" المترجم إلى اللغة الإنكليزية

حوار مع الدكتورة ميادة كيالي حول كتابها "المرأة والألوهة المؤنثة في حضارات وادي الرافدين"

المترجم إلى اللغة الإنكليزية

حاورها د. حسام الدين درويش

د. حسام الدين درويش:

مساء الخير؛

هذه جلسة خاصة ومميّزة أكثر من كلّ الجلسات الأخرى، لأسباب شخصيّة وغير شخصيّة. نلتقي اليوم لنحتفل بإطلاق، أو بالأحرى بترجمة، كتاب الدكتورة ميادة كيالي إلى اللغة الإنجليزية، والذي كان عنوانه بالعربية: «المرأة والألوهة المؤنثة في حضارة بلاد الرافدين». والجلسة مميّزة؛ لأن الحدث، بحد ذاته، مميّزٌ؛ فهو أول كتاب يُترجم إلى الإنجليزية من إصدارات مؤمنون بلا حدود، وهو أيضًا أوّل كتابٍ لكِ يصدر بهذه اللغة. هاتان مسألتان تحملان دلالات خاصة، فما الذي تقولينه لنا عن خصوصية هذا الحدث، بالنسبة إليكِ شخصيًّا وبالنسبة إلى المؤسسة أيضًا؟

د. ميادة كيالي:

في الحقيقة، يمثّل هذا الحدث، بالنسبة إليّ، أكثر من مجرد ترجمة كتاب؛ فهو بمنزلة جسر عبور إلى فضاء جديد، إلى لغةٍ وثقافةٍ وقرّاءٍ لم يكن الكتاب العربي يصل إليهم من قبل. اعتدتُ، كما تعلمون، أن تكون حركة الترجمة في دار مؤمنون بلا حدود باتجاه واحد: من اللغات العالمية إلى العربية، وتشكل الترجمات في مؤسستنا ما يقارب ثلث إصداراتها. لكنّ هذا الكتاب هو الاستثناء الذي حملني إلى الضفة الأخرى، حيث لا نكتفي بتلقّي المعرفة، بل نصدرها ونشارك الآخرين ثمار فكرنا. كأنها لحظة ولادةٍ جديدةٍ للمؤسسة ولي أنا شخصيًّا.

أما على الصعيد الشخصي، فيحظى هذا الكتاب بمكانةٍ خاصةٍ في مسيرتي؛ لأنه كان ثمرة بحثي في مرحلة الماجستير في التاريخ والحضارات القديمة، وبدايتي الفعلية في الغوص في عوالم الإنسان الأول: المرأة، والرموز الدينية. لقد شكّل لي تحدّيًا: أن أخرج من اختصاصي الأول في الهندسة، لأقف على أرضٍ راسخةٍ في العلوم الإنسانية. ومن هنا، أرى أن ترجمته إلى الإنجليزية تحمل، أيضًا، رمزيةً مضاعفةً؛ فهي ترجمةٌ لمساري الشخصي بقدر ما هي ترجمة للنص.

أؤمن أن الكتب ليست مجرد نصوص، بل مصائر. والكتاب الذي يُترجم، إنما يفتح لنفسه حياةً ثانيةً، كأنّ الترجمة هي «الولادة بعد الولادة». لذلك، أرى هذا الحدث علامةً على أن المشروع الفكري الذي بدأته لم يكن حبيس اللغة العربية، بل هو قابل لأن ينخرط في النقاشات العالمية حول المرأة والدين والتاريخ.

وأحب أن أستعير هنا عبارة أردّدها دائمًا: "إذا كانت الحضارات تبدأ بحكاية امرأة وإلهة، فإن نهضتها الحديثة تبدأ بامرأة مؤمنة بالمعرفة، وبدار نشر تحمل هذه المعرفة إلى العالم".

د. حسام الدين درويش:

لندخل "في البعد الشخصي" أكثر، هناك خصوصية أن يكون الكتاب باللغة الإنجليزية تحديدًا. أولاً، لأنها اللغة العالمية الأكثر انتشارًا، وثانيًا، لأسباب عائلية، أليس كذلك؟

د. ميادة كيالي:

نعم، هناك خصوصية شديدة لهذه الترجمة، تتجاوز بعدها الأكاديمي أو المؤسسي، لتلامس البعد الإنساني والعائلي. فأنا أهديت جميع أعمالي لأبنائي، لكن هذا العمل، على وجه الخصوص، كان هديتي المميزة لهم. لقد أنجزت هذا الكتاب باللغة العربية، في واحدة من أصعب مراحل حياتي، حيث كنت أحمل، في آنٍ واحدٍ، مسؤوليات عملي، وتربية أبنائي، ومتابعة دراستي، وتحقيق طموحاتي. وكان يلازمني إحساسٌ دائمٌ بالذنب: مهما فعلت، ينبغي أن أقضي معهم وقتًا أطول.

أما اليوم، وقد صار الكتاب مترجمًا إلى الإنجليزية، فأشعر أن أبنائي سيقرؤون فيه ليس فقط بحثًا في الحضارات القديمة، بل شهادة على أنني اجتهدت من أجلهم، وأن كلّ تلك المسؤوليات لم تُبعدني عنهم، بل منحتهم إرثًا يضاف إلى حياتهم. وأنا سعيدة جدًّا أن يقرؤوني باللغة التي يدرسون بها ويتفاعلون من خلالها مع العالم، اللغة التي تشكّل جسرهم المعرفي الأوسع، وهي اللغة الإنجليزية. لم يكن يكفيني أن يعرفوا أن أمّهم كتبت كتابًا باللغة العربية فقط، بل كنت أطمح أن يقرؤوا فكرتي وصوتي بلغتهم المدرسية والحياتية. فبالنسبة لي، لا معنى لإنجاز فكري لا يستطيع أبنائي أن يتفاعلوا معه.

لقد حولت الترجمة هذا الكتاب ليكون ليس مجرد مشروعي الأكاديمي، بل رسالة حبٍّ مكتوبة بلغة أبنائي. ولعل أجمل ما في الترجمة أنها قدمت ما اختبأ وراءها من العاطفة والذاكرة والدافع الخفي وراء المثابرة.

د. حسام الدين درويش:

وحتى جوليوس – مساعدك – كان مسرورًا، لأنه سيحصل على نصٍّ يتمكّن من خلاله أن يتعرّف إلى فكرك الأكاديمي باللغة الإنجليزية، بعد أن عرفك شخصيًّا.

د. ميادة كيالي:

صحيح، هذا الجانب كان حسّاسًا بالنسبة إليّ؛ لأنه يمس موضوع المرأة بالذات. وكما تعلم، أنا أعيش في بيئة متعددة الجنسيات كالبيئة الإماراتية، حيث اللغة الإنجليزية هي الجسر المشترك بين الناس. وكلما تحدّثت عن مشروعي الفكري المتعلق بالمرأة في هذه الأوساط، كان السؤال يتكرر: هل هناك نسخة بالإنجليزية؟ عندها شعرت أن الأمر لم يعد مجرد خيار، بل ضرورة: أن تكون هناك امرأة من الشرق، من هذه المنطقة تحديدًا، تقدّم رؤيتها حول المرأة والتاريخ والدين بلغة عالمية. إن حضور المرأة الشرقية في النقاشات العالمية حول قضاياها هو بحد ذاته فعل رمزي ومعرفي مهم.

أنا أؤمن أن «القضية التي لا تُترجم تبقى أسيرة جغرافيتها»، لذلك كان لزامًا أن أفتح نافذة أوسع، لا من أجل أن يُقرأ الكتاب فقط، بل من أجل أن تكون المرأة الشرقية طرفًا حاضرًا في الحوار الكوني. وقد أردت أن أقول للعالم: ها هي امرأة من الشرق، مهد الحضارات، التي بدأت منها الأساطير، لا تزال قادرة على أن تحكي قصتها، بلغتها وبأصوات أبنائها.

د. حسام الدين درويش:

كلّ كتابٍ له قصة وتاريخ، منذ أن بدأ كفكرة، ثم تحوّل إلى مجموعة أفكار وتطور وتبلور في نصٍّ أوليٍّ ثم في كتابٍ باللغة العربية، ثم وصل إلى اللغة الإنجليزية ... إلخ. حدثينا عن قصة هذا الكتاب، وتاريخه؟

د. ميادة كيالي:

في البداية، لم يكن في بالي مطلقًا أن أسلك هذا الطريق. كنتُ أدرس الحضارات القديمة والأديان القديمة، دون أن يكون موضوع المرأة حاضرًا بشكل مباشر في ذهني. لكنّ نقطة التحوّل جاءت حين كلّفني أستاذي المشرف، الدكتور خزعل الماجدي – وأحب هنا أن أوجّه له تحية وامتنانًا – ببحث حول "دور المرأة في الحضارة السومرية" كجزء من متطلبات الماجستير. وحين شرعتُ في البحث، وجدت نفسي أمام مفاجأة كبرى: اكتشفت أننا - كنساء -لا نعرف شيئًا تقريبًا عن تاريخنا. كل ما وُرّث إلينا هو صورة نمطية متكررة: المرأة كائن ضعيف، خُلقت للأمومة فقط، ولأدوار ثانوية مغايرة للرجل. لكنني حين دخلتُ إلى النصوص والأساطير والآثار، انكشف لي عالم آخر تمامًا: نساءٌ كنّ كاتبات وشاعرات، ملكات ووصيفات، محاسبات في دواوين الدولة، عازفات موسيقى، بل ومحاربات ومقاتلات أيضًا. أدوارٌ ساطعة ومتعددة، لا تقل شأنًا عن أدوار الرجال. من هنا، شعرت أنني وجدت الخيط الذي كنت أفتقده. لم يكن بحثًا عابرًا، بل كان كمن يفتح أمامي بابًا سريًّا إلى تاريخ النساء، الباب الذي لم يخبرونا بوجوده. ومن تلك اللحظة، صار واضحًا لي أنني وجدت الخط الذي أريد أن أتابع السير فيه.

أحبّ أن أقول: أحيانًا، لا نختار موضوعاتنا، بل هي التي تختارنا، وتكشف لنا عن ذواتنا، ونحن نظن أننا نبحث عنها.

د. حسام الدين درويش:

حين انتهت رسالة الماجستير، صدر بعدها الكتاب سنة 2015.

د. ميادة كيالي:

الجميل أن تلك المرحلة أقصد الحصول على الماجستير ومن بعدها إصدار الكتاب ترافق مع لحظة ميلاد أخرى في حياتي بعد أن تأسست مؤمنون بلا حدود عام 2013 وانطلقت في رسالتها لتتكلل بتأسيس دار النشر 2015. كان الأمر مميزًا جدًّا بالنسبة إليّ، أن تكون ثمرة دراستي الأكاديمية، أي هذا الكتاب، واحدًا من الإصدارات الأولى للدار.

حين صدرت الطبعة الأولى عام 2015، كان ذلك بالشراكة مع دار نشر أخرى كانت تتعاون مع المؤسسة في النشر، ثم جاءت الطبعة الثانية لتصدر عن دار نشر مؤمنون بلا حدود حصريًّا باللغة العربية. واليوم، مع صدور الترجمة الإنجليزية، أشعر أن الكتاب يسلك رحلة جديدة، أشبه برحلة حياة ثانية.

ولا أنسى أن أشير بالامتنان إلى صديقي العزيز، البروفسور نجيب عوض، الذي تولّى مهمة الترجمة. لقد كان لاختيار مترجمٍ أكاديمي ومتميز وقريب من المؤلف أثرٌ كبير، حيث تكون الترجمة فعل حوارٍ حيّ، لا مجرد نقل كلمات. فالترجمة في رأيي ليست فقط عبورًا من لغة إلى أخرى، بل هي أيضًا جسر للروح بين مؤلّفٍ ونصٍّ وقارئ جديد.

د. حسام الدين درويش:

إن ترجمة أعمال كاتبٍ ما أثناء حياته مسألةٌ إيجابيّةٌ ومفيدةٌ من ناحيتين على الأقل. من ناحية أولى، تساعد على اطلاع المؤلف على مضامين الترجمة وربما إشرافه عليها جزئيًّا، وهذا يساعد على تواصل المترجم معه للتباحث في بعض الاختيارات اللغوية المتعلقة بالمبنى و/ أو المعنى. فوجود تواصل وتفاعل بين المترجم والمؤلف مهمٌّ، وهو مفيدٌ للطرفين. ومن ناحية ثانية، فثمة قيمة معنوية خاصة في أن يشهد الكاتب في حياته ترجمة أعماله إلى لغة أو لغاتٍ أخرى. ما رأيك؟

د. ميادة كيالي:

صحيح تمامًا، وهذا كان له أثر كبير عندي على المستويين الشخصي والرمزي. فالترجمة ليست مجرد نقل كلمات، بل هي بمثابة شهادة حياة للمؤلف؛ أن يرى نصه يولد من جديد بلغة أخرى، وأن يرافقه في هذه الولادة. بالنسبة إليّ، كان الأمر أشبه بأنني أعدتُ النظر في كتابي بعين قارئٍ جديدٍ، عبر لغة جديدة.

لكن ما منحني معنى خاصًّا هو أن هذا الجهد صدر عن امرأة وباحثة من الشرق، وأنه خرج اليوم إلى فضاء أوسع. قد يبدو كتابًا واحدًا صغيرًا في بحر كبير، لكنه بالنسبة إليّ أشبه بـ "قشّة في مجرى التاريخ"، تحمل معها أثرًا وتترك بصمتها في مسيرة المرأة. أشعر أنني عبر هذا العمل أديت جزءًا مما عليّ تجاه قضيتي الكبرى: أن يكون للمرأة صوتها، وأن يقرأه الآخرون بلغتهم.

ليس المهم حجم الخطوة التي تخطوها المرأة في المعرفة، بل قيمتها الرمزية: أنها تترك أثرًا، وتفتح طريقًا لمن يأتي بعده.

د. حسام الدين درويش:

سنعود إلى موضوع المرأة كذات، والمرأة كموضوع. لكن دعينا نشرح الأطروحة الأساسية لهذا الكتاب؛ فهو مؤلف من فصلين مطولين، ويزيد عدد صفحاته عن 200 صفحة. فما الأطروحة الأساسية للكتاب؟

د. ميادة كيالي:

تتمثل الأطروحة الأساسية للكتاب في إعادة إضاءة تاريخ النساء، وإبراز حقيقة أنّ المرأة لم تكن كائنًا هامشيًّا في مسيرة الحضارة، بل كانت فاعلًا رياديًّا، بل ومهيمنًا في مراحل معينة. فهناك مجتمعات أمومية كانت قائمة بذاتها تحت سلطة المرأة، سواء على الأرض من خلال المجتمع والنظام الاجتماعي، أو في السماء عبر حضور الإلهة المرتبطة بالأساطير والطقوس والعبادات. كانت المرأة متسيّدة في هذه الأدوار جميعها، حاملةً صورة "الذات المقدسة" و"المرجع الأعلى". لكن مع مرور الزمن، حصل الانقلاب الذكوري، فانتقل مركز السلطة إلى الرجل، وتمّ تهميش المرأة وإقصاؤها لتصبح تابعة. وهنا تكمن أهمية هذه القراءة: أنها تطرح سردية بديلة للتاريخ، تاريخًا لا يكتبه الرجال وحدهم، بل يشارك فيه النساء بقوة. هذه ليست دعوة للتطرف ضد الرجل أو لصالح المرأة، بل لإعادة التوازن للرواية التاريخية، وتأكيد أن المرأة كانت شريكًا أساسيًّا في صناعة الحضارة وفي استقرار الإنسان. فالمرأة - كما تروي المصادر- حملت أول ثورة في التاريخ، وهي الثورة الزراعية التي قادت إلى الاستقرار. وكانت صاحبة أول الصناعات اليدوية، وحارسة النار، بل إنها، كما يذكر ول ديورانت، لم تُدجّن الحيوان فقط، بل ساهمت أيضًا في "تدجين الإنسان" وقيادته نحو المدنية.

يمكنني أن أقول إن جوهر الكتاب هو: إعادة كتابة التاريخ بمنظورٍ لا يقصي المرأة، بل يضعها في مكانها الطبيعي: شريكة في الخلق، وصانعة للحضارة.

د. حسام الدين درويش:

عندما كنا نتحدث مع البروفيسور هانس كوشلر، كان هناك مفهوم للتقدم لدى المنظمات الدولية، وهذا المفهوم قد يُستخدم أحيانًا من منظور مركزية غربية، وقد يكون موضع شكّ في بعض الأحيان. من خلال سردك للأحداث، يمكن القول إن التغير التاريخي، والانتقال من مرحلة إلى أخرى، لم يكن دائمًا تقدّمًا؛ إذ لا يمكن القول إن المرحلة التالية كانت بالضرورة أفضل، من ناحية حقوق الإنسان على الأقل.

د. ميادة كيالي:

صحيح، فالتغيّر التاريخي لم يكن دائمًا مرادفًا للتقدّم. أحيانًا تفرض الظروف تحوّلات معينة، لكن المشكلة تكمن في الإصرار على أن ما تلاها هو الشكل الأعلى والأمثل لتطور البشرية. خذ مثلًا ما أسمّيه "الانقلاب الذكوري".

د. حسام الدين درويش:

كانت له ضرورات معينة؟

د. ميادة كيالي:

تمامًا، "الانقلاب الذكوري" ارتبط بظروف اقتصادية أو اجتماعية أو حتى سياسية، لكن المشكلة لم تكن في وقوعه وحسب، بل في استمرار هيمنة النظام الأبوي عبر القرون، حتى صار يُنظر إليه بوصفه النموذج الطبيعي والوحيد للحياة البشرية.

نعم، حصلت تحوّلات كبرى كان لابدّ منها: اكتشاف المعادن، صناعة المحراث، بناء السفن، وصعود الرجل كمحارب. كانت تلك مرحلة جديدة، وربما كانت ضرورة في سياقها، لكن لا يمكن أن نعدّها "قانونًا أبديًّا" أو مرحلة أغلقت كل ما قبلها. لا يمكن أن نقول إن المرأة كانت مجرد عاطفة و"طبيعة" عابرة انتهى زمانها، بينما الرجل هو "العقل" و"الثقافة"، وأنه من الطبيعي أن تهيمن الثقافة على الطبيعة حتى قيام الساعة. ما حدث هو أنّ ظروفًا تاريخية واقتصادية وسياسية أدّت إلى تغيّر موازين القوى، لكن هذا لا يعني أن تلك الموازين قدرٌ محتوم. لذلك، حين أسمع اليوم من يكرر أن المرأة خُلقت ضعيفة، أو أن أدوارها البيولوجية قدر لا فكاك منه، أشعر أننا ما زلنا أسرى تلك الحتميات القديمة، بل إن بعض الفلاسفة نظروا إلى المرأة بوصفها "رجلاً ناقصًا"؛ أي إنسانًا ناقصًا بالمعنى الوجودي!

من هنا أقول: إن الانتقال من مرحلة إلى أخرى، لا يعني بالضرورة تحسين شروط الإنسان أو ضمان حقوقه. على العكس، يمكن أن تكون المراحل اللاحقة أشدّ قسوة أو أكثر ظلمًا، خصوصًا في ما يتعلق بالمرأة. فالمجتمعات الأمومية التي مثّلت لحظة إشعاع إنساني وحضاري، تم تقويضها لصالح سلطة الرجل، وهذا لم يكن "تقدّمًا"، بل تراجعًا عن مكاسب إنسانية عميقة. وأرى أن مفهوم التقدّم بحاجة دائمة إلى مراجعة نقدية؛ لأن ما يُعدّ "قمة تطور" في عصرٍ ما، قد لا يكون إلا تكريسًا لأشكال جديدة من السيطرة والإقصاء. فليس كل تغييرٍ تقدّمًا، وليس كل انتقالٍ ارتقاءً، بل أحيانًا يكون ارتكاسًا في لبوسٍ جديد.

د. حسام الدين درويش:

في كلّ الأحوال، لا يجب أن يكون معيارًا يُطبّق حاليًّا بدعوى أنّ هذه هي طبيعة الأمور. لقد تناولنا الموضوع كثيرًا، وأعرف عنك الكثير، ومع ذلك فوجئت بأنك لست من اختار هذا الموضوع. أعتقد أنّه من "الطبيعي" أن تختاريه؛ فكل ما في حياتك وتاريخك يرتبط دائمًا بالمرأة، وبكونك امرأة، سواء عندما تحدثت عن علاقتك بالوالد، أو بالوالدة، أو بالمربّي، أو بالأستاذ في المدرسة، فإن مسألة المرأة كانت دائمًا حاضرة، ومع ذلك لم يخطر ببالك أن تتخذي دور الشارحة لوضعها والمدافعة عنها؟

د. ميادة كيالي:

صحيح، لم يكن في ذهني أن أختار هذا الموضوع، منذ البداية، رغم أن مسألة المرأة كانت تحضر في حياتي بشكلٍ أو بآخر. السبب أننا - وللأسف - نعاني من نقص واضح في الدراسات التاريخية التي تتناول المرأة، فهي ظلّت مهمَّشة ومغيّبة عن سرديات التاريخ الكبرى. كنت أؤمن بقدراتي كامرأة، لكنني لم أكن أملك تصورًا واضحًا لدور المرأة في التاريخ. وفجأة، ومع البحث والاطلاع، وجدت أن هناك أدوارًا ساطعة تم تغييبها. فذهبتُ أفتّش عنها، فوجدت نفسي أمام ضالتي: تاريخ آخر غير الذي رُوي لنا. وصحيح أنني لم أفترض هذا مسبقًا، حرصًا على الحياد العلمي، لكن البحث كشف لي أن الحياد لا يعني الصمت أمام السرديات الناقصة. لقد وجدت شيئًا مختلفًا عمّا ترويه الرواية السائدة، ووجدت أن عليّ أن أكتب هذا الاختلاف وأوثقه.

باختصار، نعم لم أختر موضوع المرأة، بل هو الذي اختارني، وكشف لي عن غيابه وأنا أبحث عنه في ظلال التاريخ.

د. حسام الدين درويش:

سأعود إلى مسألة الحياة الشخصية، ورؤيتك لمسيرتك المهنية والشخصية. لكن دعيني أذكِّر بأن مسألة وضع المرأة ومكانها ومكانتها؛ أي المسألة النسائية/ النسوية بشكل عام، حاضرة في كتبك الأخرى الفكرية منها والإبداعية، مثل كتاب: "هندسة الهيمنة على النساء؛ الزواج في حضارات العراق ومصر القديمة"، وهو عنوان قوي. حدثينا عن هذا الحضور عمومًا، ولا سيما في الكتاب المذكور؟

د. ميادة كيالي:

كلمة «هندسة» لم تأتِ اعتباطًا في العنوان، بل هي مفتاح لقراءة التاريخ؛ لأنها توحي بأن ما جرى لم يكن تطورًا طبيعيًا تلقائيًا، كما يُقال أحيانًا، بل كان هناك وعي وتخطيط وتدريج. فحين نعود إلى آلاف السنين، نجد أن الرجل لم يكن يعرف دوره البيولوجي في العملية الإنجابية. كان النسب الأمومي أمرًا طبيعيًّا لا لبس فيه؛ فالمرأة وحدها كانت المرجع. لكن عندما اكتشف الرجل دوره، خاصة بعد تدجين الحيوانات، بدأ يبحث عن وسيلة لنقل النسب إلى جانبه. ومن هنا ظهرت أولى القوانين، وكان أولها تحريم تعدّد الأزواج للمرأة، بعد أن كان الأمر متاحًا لها من قبل. بهذا، بدأ الرجل يشرّع ويتحكّم بجنسانية المرأة، ويضع أولى اللبنات لنظام قانوني يخدم مصلحته.

ثم جاء دور الحرب والقتال. في السابق، كانت المرأة تشارك فيهما، لكن بسبب قِصر العمر في تلك الأزمنة، كان الخطر كبيرًا: لو خرجت المرأة للقتال بكثافة، لانقرضت البشرية. وهكذا، جرى إبعادها تدريجيًّا عن أدوار الحرب، ثم عن أدوار الصيد، وتم حصرها في الإنجاب والتربية، حتى يضمن الرجل كثرة الأولاد ويحوّل خط التوريث إلى جانبه.

من هنا، أقول إن هناك بالفعل «هندسة تاريخية» لوضع المرأة، تمت عبر القوانين والأساطير والطقوس. ويمكن أن نرى هذا التدرج بوضوح: ففي الحضارة السومرية ظلّت المرأة محافظة على حضورها وهالتها المقدّسة، لكنها كلما ابتعدت عن سومر تراجعت مكانتها. ففي أكاد كانت لا تزال متميزة، لكن مع بابل بدأ التدهور أكثر، وهو ما يظهر جليًا في أساطير الخليقة وخصوصًا الإنوما إيليش. ومع الآشوريين اشتدّ التشدد تجاه المرأة، وبدأت تظهر صورتها بوصفها مصدر الغواية والفتنة.

هذه الصورة لم تختفِ، بل تسللت إلى التشريعات في الأديان السماوية التي جاءت بعدها، فاستمرت المرأة تُقدَّم على أنها ناقصة، أو مدنّسة، أو سبب للشرور، وظلّ يُفرض عليها حجابٌ اجتماعي أو ديني بدرجات متفاوتة، وصولًا إلى منعها أحيانًا من حضور المعبد أو المشاركة في الدروس الدينية. حتى موضوع الحجاب نفسه له تقسيم تاريخي، لا يمكن فصله عن هذا السياق الطويل من "هندسة الهيمنة". فبالتأكيد، لم يكن تراجع المرأة صدفة، بل كان مشروعًا مؤسسًا وممنهجًا، بدأ بالقانون والأسطورة، وما زالت آثاره تلاحقنا إلى اليوم.

وأستطيع القول إن هذا الكتاب جاء امتدادًا طبيعيًّا لكتابي الأول «المرأة والألوهة المؤنثة في حضارات وادي الرافدين». فبعد أن تتبّعتُ حضور المرأة كإلهة مقدّسة وفاعلة كبرى في الحضارة الأولى، كان عليّ أن أبحث: كيف تراجع هذا الحضور؟ ومن أين بدأ الانقلاب الذكوري؟ فجاء كتاب «هندسة الهيمنة على النساء»، ليكشف أن الأمر لم يكن عفويًا أو مجرد تطور طبيعي، بل كان عملية ممنهجة، جرى فيها تحويل المرأة من مركز السلطة والمعرفة إلى هامش التبعية والوصاية. وبهذا المعنى، أرى أن الكتابين معًا يشكّلان مسارين متكاملين: الأول يُظهر ذروة حضور المرأة، والثاني يشرح بداية أفولها. ومن خلالهما معًا، تتضح صورة التاريخ كما كان: تاريخًا لم يُكتب بالرجال وحدهم، ولا يمكن أن يُفهم دون استعادة صوت المرأة.

د. حسام الدين درويش:

الطريف في الأمر أنّك، بوصفك إنسانةً وفتاةً وامرأة، واجهت هذه المسائل التي تتحدثين عنها تاريخيًّا في مجتمعك، وأعلنتِ اختلافك عنها، وخلافك مع أيّ طرف يتبناها ويحاول فرضها، وتمرّدك عليها وعليه. ومع ذلك، أنت تُظهرين تفهّمًا لهذه الأوضاع في إطار الرؤية التاريخية للتطور الحضاري، الثقافي، الاجتماعي، والاقتصادي، إلخ، وكأنك ترين أنّ هذا ربما كان مطلوبًا في بعض السياقات التاريخية. وأذكر أنني خلال حديث سابقٍ لنا قمت بإدانةٍ ما، لأمر يتعلق بوضع المرأة، ونفيت سمة التقدم عنها، وأشرت إلى إمكانية ان يكون ذلك مرتبط بالتقدم في جوانب أخرى، ولأسباب حضارية مختلفة. فبأي معنى يمكن أن نَصِف هذا بأنه نسويٌّ أو غير نسوي؟ لأنك حين تبدين تفهمًا لإخضاع النساء في مراحل تاريخية وتدهور أوضاعهن، فإنك تتوقفين عن الرؤية المعيارية. فكيف تفهمين النسوية؟ وبأي معنى يمكن أن تصفي نفسك، أو تصفي غيرك بالنسوية أو عدم النسوية؟

د. ميادة كيالي:

هذا السؤال طُرح عليّ أكثر من مرة: هل ترين نفسك نسوية؟ وإجابتي دائمًا تعتمد على تعريف "النسوية". فإذا كانت النسوية تعني السعي إلى استعادة حقوق المرأة التي تستحقها، والمطالبة بالعدالة في التعامل معها، والاعتراف بأنها إنسان كامل، مسؤول عن نفسه وجسده وحياته، فأنا نسوية، وأبصم على ذلك بكل فخر.

أما إذا كانت النسوية تُختزل في أطر أيديولوجية ضيقة، أو تُحمَّل أحيانًا بمفاهيم مشوّهة تتعارض مع الإنسان والعدالة ذاتها، فأنا لا أنتمي إلى هذه الصورة. أنا أرى نفسي باحثة في التاريخ والإنسان، أحاول أن أفهم الشروط الحضارية والاجتماعية التي قادت إلى إخضاع المرأة، لا من باب تبريرها أو قبولها، بل من باب فهمها ونزع هالتها "الطبيعية" المزعومة. فالفهم هنا ليس تبريرًا، بل تفكيكًا للسردية السائدة.

أستطيع أن أقول إنني أمارس نسويةً ذات جذور معرفية وتاريخية، لا صراعًا ضد الرجل بقدر ما هي بحث عن توازن إنساني. فالمرأة لا تحتاج إلى أن تكون ضد أحد، بل أن تُستعاد إلى مكانها الطبيعي: شريكة في الحياة، وشريكة في الحضارة.

أنا نسوية بقدر ما تكون النسوية بحثًا عن الإنسان، لا عن انتصار جنس على آخر.

د. حسام الدين درويش:

إذن هذه نسوية ما، وهناك نسوية أخرى؟

د. ميادة كيالي:

نعم، هناك نسوية أخرى مختلفة تمامًا، تلك التي تنطلق من موقع الخصومة مع الرجل، وتضعه في موضع الخصم التاريخي والأبدي، فتحمّله وحده تبعات كل ما جرى منذ الأساطير الأولى، وكأن الرجل هو "مردوخ" الذي قتل "تيامَت" وشقّها نصفين. هذا النمط من التفكير يجعل الرجل العدو الوحيد، ويحوّل النسوية إلى معركة ضد نصف البشر. لكن الحقيقة أكثر تعقيدًا من ذلك؛ الرجل في مجتمعاتنا أيضًا مسحوق في جوانب كثيرة، محروم من حقوقه كمواطن وكإنسان. فكيف أطالب رجلًا لم يُعترف بإنسانيته كاملة أن يكون حاملًا لمشروع العدالة والمساواة؟ لذلك، أنا لا أرى في "النسوية" معركة ضد الرجل، بل أراها مشروعًا لاستعادة التوازن الإنساني، حيث يتحرر الرجل والمرأة معًا من قيود الهيمنة، كلٌّ بطريقته.

أحب أن ألخص الأمر بعبارة: «حين يُسحق نصف المجتمع لا يمكن أن ينهض نصفه الآخر، فالمرأة لا تتحرر حقًا إلا بتحرر الرجل أيضًا». فأنا لا أبحث عن انتقام من الرجل، بل عن مصالحة مع التاريخ، تُعيد للإنسان – رجلًا كان أو امرأة – كرامته المفقودة.

د. حسام الدين درويش

بهذا المعنى، النسوية ضد الذكورية، لكنها ليست ضد الرجولة. وإذا رجعنا لمسألة كتبك، فالمرأة حاضرة في أكثر من كتاب، حتى في "ظلال الياسمين"، ليست فقط كإنسانة، بل كامرأة. كيف تحكين لنا عن تجاربك الحياتية؟ بمعنى ما الذي دفعك إلى الاهتمام بهذه المواضيع، وكيف تعبّرين عن ذلك؟

د. ميادة كيالي:

تجاربي الحياتية واسعة ومتنوعة، لكن يمكنني أن أقول إن أجمل ما في التنظير أو الكتابة أو حتى النضال الفكري، أن تنبع من تجربة معيشة، لا من فكرة مجرّدة. فما نكتبه ونؤمن به يكتسب قوته حين يكون متجذّرًا في حياتنا. وأنا شخصيًّا نشأت في بيتٍ لم يكن فيه أيّ توزيع جندري صارم للأدوار. والدي – رحمه الله – كان يرى فيّ قوةً وشجاعة، وكان يقول إنني "سبعة من السباع". لم أشعر يومًا أنني أحتاج إلى الانتظار حتى يقوم أخي بعملٍ ما، أو أن هناك مهمة تخص الذكور وأخرى تخص الإناث. في بيتنا، الكل يعمل، والكل يتحمل المسؤولية.

حتى في موضوع المحاسبة، كانت العدالة حاضرة: الوقت الذي أقضيه خارج المنزل كان يُحاسب عليّ بالطريقة نفسها التي يُحاسب بها أخي، ومساءلتي عن أخطائي كانت مساوية تمامًا لمساءلته. لم يكن هناك ميزان مزدوج للذكر والأنثى. لهذا، كبرتُ وأنا أشعر أنني إنسانة كاملة، لا ينقصني شيء لأكون قادرة على الفعل أو القرار. أظن أن هذه التربية زرعت في داخلي الثقة التي جعلتني فيما بعد أواجه التمييز حين رأيته في المجتمع، وأرفضه بالفكر والكتابة. وبالفعل حين تنشأ الفتاة على المساواة، تكبر وهي لا تقبل أن تُعامل كناقصة.

د. حسام الدين درويش:

إذن، أنت نشأت في بيئة منصفة، لكنك واجهتِ أيضًا بيئة غير منصفة؛ أي إنه توجد حالتان متناقضتان أسهمتا في توجيه هذا المسار. كيف تفهمين تأثير كلّ حالة من الحالتين في حياتك ورؤيته الفكرية لأوضاع المرأة؟ كيف ساعدك الإنصاف على أن تكوني ما أنت عليه اليوم؟ وهل اقتصر دور البيئة غير المنصفة على الإزعاج والعرقلة أم إنها أثارت الرغبة في المقاومة والسعي إلى التغيير؟

د. ميادة كيالي:

نعم، نشأت في بيئة منصفة داخل أسرتي، حيث شعرت منذ طفولتي أنني إنسانة كاملة، مسؤولة مثل أخي، لا تُفرض عليّ قيود لمجرد أنني فتاة. هذا الإنصاف منحني الثقة الداخلية، وأعطاني إحساسًا بأن المساواة أمر طبيعي، لا استثناء. في المقابل، حين خرجت إلى المجتمع، اصطدمت بواقع آخر يقوم على التمييز والقيود. هنا بدأت التناقضات: بيئة منحتني القوة، وأخرى حاولت تقييدي. لم يكن تأثير البيئة غير المنصفة مجرد إزعاج أو عرقلة، بل على العكس، كانت الشرارة التي أيقظت رغبتي في المقاومة والسعي إلى التغيير. وأستطيع أن أقول إن الإنصاف ربّى في داخلي الإيمان بذاتي، والظلم حفّزني لأدافع عن كل امرأة لم تجد من ينصفها. وهكذا اجتمع العاملان معًا ليشكّلا رؤيتي: أن المساواة ليست حلمًا بعيدًا، بل تجربة ممكنة، وأن الظلم ليس قدرًا، بل حالة قابلة للتغيير.

د. حسام الدين درويش:

دعيني أختم بسؤال أخير يتعلق بذلك الانقسام في حياتك، أولًا بين الهندسة وغير الهندسة أو الفكر، وثانيًا بين الأعمال الإدارية والأعمال الفكرية، كيف حصل هذا الانقسام وما تأثيره في حياتك وفي مدى نجاحك في كل مجالٍ من المجالات المختلفة؟

د. ميادة كيالي:

أنا درستُ الهندسة ومارستها لثماني سنوات، وأحببتها كثيرًا، ثم توقفت تمامًا عن العمل قرابة اثني عشر عامًا بعد الزواج، وانقطعت خلالها عن الهندسة وكل ما يتصل بها. ومع ذلك، اكتشفت لاحقًا أن الفكر الهندسي لم يغادرني، بل ظلّ حاضرًا في طريقتي في التفكير وتنظيم حياتي. لقد علّمتني الهندسة كيف أحلّل الأمور بطريقة منطقية، وكيف أضع لكل مسألة مقاربة عقلانية، وهذا ما انعكس لاحقًا على عملي الإداري والثقافي.

عندما انتقلت إلى الإمارات، وبدأت مسيرتي الجديدة في المجال الثقافي، لم يكن المشروع الذي عملت عليه في البداية ممأسسًا، بل كان مجرد مشاركة في فريق لترجمة الأفكار الرئيسة في كتب المفكر السوري الراحل محمد شحرور، للإنجليزية وتقديمها للقارئ الغربي، لكن سرعان ما حولت هذا المشروع إلى مؤسسة ضمت جملة من المشاريع الفكرية، وتوسعت بشكل أكبر لتضم خارطة من المفكرين والباحثين، هذا التوسع كان عليّ أن أواكبه. وما تعلمته من الهندسة عاد ليخدمني في كل تفاصيل الإدارة ورحلة الإنجاز.

أستطيع أن أقول إنني لم أغادر الهندسة يومًا، بل ترجمتها إلى الفكر والإدارة؛ فهي التي منحتني القدرة على الجمع بين العقلانية والتحليل من جهة، وبين الشغف بالمعرفة والعمل الثقافي من جهة أخرى. الهندسة أعطتني الأدوات، والفكر أعطاني الغاية.

أحيانًا لا نترك مهنة خلفنا، بل نحملها معنا في طرائق جديدة، فتتحول الهندسة إلى إدارة، ثم إلى فكر، لكنها تبقى دائمًا جزءًا من طريقة النظر إلى الحياة.

د. حسام الدين درويش:

ماذا عن الجانب الفكري؛ هل يمكن بالفعل الاستمرار في الكتابة والتأليف والعمل الفكري، على الرغم من مسؤولياتك الإدارية الكبيرة؟

د. ميادة كيالي:

أتمنى ذلك، وأعترف أن الإدارة أخذت مني الكثير. حين كبر المشروع وتحوّل إلى مؤسسة واسعة، وجدت نفسي مضطرة إلى الانشغال بالإدارة على حساب التأليف. صحيح أن دار النشر صارت تنتج الكثير من المعرفة، لكنّ انهماكي في إدارتها جعلني أؤجل مشاريعي الفكرية الخاصة، فأصبحت بعض مخطوطاتي حبيسة الأدراج. أحيانًا أشاهد مقابلات قديمة لي، فأرى كيف كنت أعد بإكمال مشروع ما، وأشعر أنني ما زلت أحتفظ بالحلم ذاته، ينتظر لحظة اكتماله. ومع ذلك، أحاول دائمًا أن أستعيد هذا الجانب من حياتي، ولو بجهد متقطع. ربما تكمن الفرصة أحيانًا في أن يذكّرني أحدهم، بلطف أو بإلحاح، بأن أعود إلى الكتابة، وألّا أكتفي بدور الإدارة.

وأحبّ أن أذكر هنا ما قالته فرجينيا وولف: إن المرأة لكي تكتب تحتاج إلى غرفة خاصة بها وقليل من المال. كانت وولف تشير إلى أن النساء عبر التاريخ ساهمن في إبداع الرجال وعبقرياتهم، وهنّ خلف الستار، بينما هنّ حُرمن من شروط الإبداع الأساسية. أنا اليوم أجد نفسي في المفارقة ذاتها: الإدارة تأخذ وقتي، لكنها في الوقت نفسه تمنحني المال والمساحة لأحصل على تلك "الغرفة الخاصة" التي أستطيع أن أعود فيها إلى البحث والكتابة.

قد أكون متفرغة للإدارة الآن، لكنها ليست الغاية، بل الوسيلة التي تتيح لي أن أستعيد صوتي الباحث والكاتبة في اللحظة المناسبة.

د. حسام الدين درويش:

مع ذلك، سأختم بما قالته لك والدتك، رحمها الله، عندما قالت لك "ليست ميادة التي لا تستطيع أن تحمل بطيختين أو تقوم بأمرين معًا". وقد كان لهذا القول مفعول السحر في تأثيره في حياتك، أليس كذلك؟

د. ميادة كيالي:

صحيح، كانت تلك الجملة من أمي - رحمها الله - بمثابة بوصلة أعود إليها كلما شعرت بثقل المسؤوليات. حين أخبرتها أنني تركت العمل والدراسة من أجل تربية أبنائي، نظرت إليّ بثقة الأم التي ترى أبعد مما نرى نحن، وقالت عبارتها الشهيرة: «ليست ميادة التي لا تستطيع حمل بطيختين بيد واحدة». لم تكن مجرد كلمات، بل كانت شهادة إيمان بقدرتي، ورسالة ثقة عميقة. مع مرور الزمن، أدركت أن تلك الحكمة الأمومية كانت درسًا في الحياة: أن الإنسان يملك طاقات لا يعرفها حتى يختبرها. واليوم، عندما أنظر إلى أبنائي، أرى فيهم تلك الطاقات الكامنة التي رأتْها أمي فيّ يومًا ما.

تلك الجملة لم تمنحني فقط قوةً في لحظتها، بل منحتني فلسفة كاملة: أن أثق بقدرتي على الجمع بين الأدوار، وألا أستسلم لفكرة الاستحالة.

د. حسام الدين درويش:

في كلّ الأحوال، مبارك لك ولمؤمنون بلا حدود، وأتمنى لك كل التوفيق في ما هو قادمٌ.

د. ميادة كيالي:

شكرًا لك دكتور حسام على هذا الحوار العميق، الذي لم يكن مجرد أسئلة وأجوبة، بل رحلة لاستعادة المعنى. وما أطمح إليه في النهاية، هو أن يتحوّل هذا الكتاب، وسائر كتبي، إلى دعوة مفتوحة للتأمل في تاريخ المرأة والإنسان معًا، وأن يكون خطوة صغيرة في طريق طويل نحو معرفةٍ أعدل، وتاريخٍ يُكتب بيد الجميع، لا بنصفه فقط. فالحوار بالنسبة إليّ ليس مناسبة عابرة، بل فعل تأسيسٍ دائم لأسئلةٍ جديدة، ولرغبة في أن يبقى الفكر حيًّا، نابضًا، وقادرًا على فتح الدروب أمام القادمين.