حوار مع الكاتب والباحث العراقي خزعل الماجدي


فئة :  حوارات

حوار مع الكاتب والباحث العراقي خزعل الماجدي

حوار مع الكاتب والباحث العراقي خزعل الماجدي[1]

ذكر الكاتب العراقي خزعل الماجدي أن الموت هو السؤال الأول في الدّين، وأن الهاجس الديني عند الإنسان ابتدأ بالموت، معتبرا أن الشعوب التاريخية القديمة طرحت الموت كموضوعٍ للتقصّي والبحث، فرأت أنّ الآلهة لا تموت، وأن الموت مرتبط بالإنسان والكائنات الحيّة فقط.

وأشار الباحث في علم وتاريخ الأديان والحضارات أن أسئلة الموت الواخزة لا يجيب عنها سوى العلم، ولكنه يجيب عنها ببطء وتأنٍّ؛ لأن إجابته صحيحة وقابلة للتطور حسب تطور الوعي العلمي والبحث العلمي وأدواتهما. أما أسئلة المخيال الجماعي، فلا توجد إجابات عنها في كل الأديان، موضحا أنه في الوقت الذي أصبح فيه الغرب (في شقّه الشرقي)، وبقية دول المنظومة الاشتراكية، يتعافى من الأمراض الشمولية ويتّجه لبناء البلد وتطويرها، يزداد العرب مأساوية ودماراً وتخلُّفاً في مشروع شمولي جديد، حيث صرنا نتوجّه إلى تخريب بلداننا وقتل مواطنينا وتشريدهم تحت راية الدين والآخرة وغيرها. قائلا: "الدنيا تزداد بهاءً ونوراً بالعلم والحضارة والثقافة، بينما نحن نزداد موتا ودمارا وظلاما بسبب القومية والدين السياسي والطائفي".

وأضاف الماجدي أن الأصوليات تبدأ من نقطة صغيرة أو نواة يرى فيها الإنسان المُعيّن أو الفكر المُعيّن، أنه يمتلك الحقيقة وحده، فيما غيره لا يمتلكها، مشيرا إلى

أن الأصوليات تمجد الفكرة، وتهين الإنسان وتضحي به من أجلها وتسحقه وتدمره وتجوّعه وتشرّده وتسلبه حقوقه. وقال: "في العراق نعيش الموت في حاضرنا بقوة منذ أكثر من نصف قرن، باستمرارية ودون هوادة".

وخلص الماجدي، الذي ذاق مرارة الفقد باختطاف ابنه الإعلامي مروان منذ عام 2006، إلى أن الفاجعة تعمّقت حين صعد الإسلام السياسي، وظهرت مليشيات الموت القاعدية والداعشية والطائفية عموما، حيث مات التحضر، وماتت القيم، وماتت الحرية، ومات الوطن. وقال: "إن الشعر هو الذي جعلني أصمد أمام كارثة فَقْد ولدي، وكانت كتابتي اليومية له تُسرّب لي قوة الحياة، رغم أني كنت أكتب عن الموت، فأرجوك أن تتخيل وجها الشعر (الحياة / الموت) وهما يتماهيان مع بعضهما البعض، وربما هذه - في نظري- هي الوظيفة الأعظم للشعر".

وخزعل الماجدي، باحث عراقي في علم وتاريخ الأديان والحضارات القديمة، وشاعر وكاتب مسرحي ولد في كركوك عام 1951. أكمل دراسته في بغداد، وحصل على شهادة الدكتوراه في التاريخ القديم من معهد التاريخ العربي للدراسات العليا في بغداد عام 1996. عمل مديراً للمركز العراقي لحوار الحضارات والأديان في العراق ما بين 2004 - 2006، وما بين عامي 2007- 2014 حاضر في جامعة "لايدن" بهولندا، وعمل في عدد من الجامعات المفتوحة في هولندا وأوروبا، وهو يدرِّس تاريخ الحضارات والأديان القديمة. ألف مجموعة كبيرة من الكتب في الميثولوجيا والتاريخ القديم والأديان القديمة والشعر والمسرح وتاريخ الأديان وعلم وتاريخ الحضارات.

ومن بين كتبه نذكر: "ميثولوجيا الخلود: دراسة في أسطورة الخلود قبل الموت وبعده في الحضارات القديمة"، و"الآلهة الكنعانية"، و"المعتقدات الرومانية"، و"أديان ومعتقدات ما قبل التاريخ"، و"تاريخ الخليقة - الكون، الأرض، الحياة، الإنسان"، و"كتال إنكي: الأدب في وادي الرافدين" في جزأين، و"علم الأديان".

عبد اللطيف الوراري: بصفتك باحثاً يحفر في التاريخ القديم والأديان والحضارات، كيف تعاملت الشعوب القديمة مع الموت وواجهت تداعياته عليها؟

خزعل الماجدي: كان الموت هو السؤال الأول في الدين، بل إن الهاجس الديني عند الإنسان ابتدأ بالموت؛ فمنذ العصر الحجري القديم والأوسط ظهرت مدافن الإنسان وقبوره وظهر معها السؤال الديني، واستمر في كلّ عصور ما قبل التاريخ. لكن الشعوب التاريخية القديمة طرحت الموت كموضوعٍ للتقصّي والبحث، فرأت أنّ الآلهة لا تموت، وأن الموت مرتبط بالإنسان والكائنات الحيّة فقط. وتفاوتت الديانات القديمة في معرفة طبيعة الموت، فالسومريون رأوا أن الروح تخرج من جسد الإنسان وتذهب إلى العالم الأسفل الذي هو تحت القبر، وتنحبس هناك بلا حساب ولا ثواب ولا جنة ولا نار. أما الجسد، فيتحول في القبر إلى تراب. أما المصريون القدامى، فقد رأوا عكس ذلك تماماً، فهم يعتقدون أن الجسد والروح يذهبان معاً إلى عالم آخر اسمه (دوات)، وهناك يجري وزن الروح بريشة العدل (ماعت)، فإذا كانت الروح خيرة فستذهب إلى حدائق أوزيريس. أما إذا كانت الروح مخطئة، فستذهب إلى عالم الجحيم المليء بالنار والأفاعي. وتؤمن الديانة الهندوسية بتناسخ الأرواح بعد الموت إلى حين تصفية أخطائها، ثم تعود إلى الهيئة البشرية. ويؤمن أتباع الديانة البوذية بدورة الموت والولادة بعدها باستمرار، حتى يعي الإنسان حقيقة الوجود بشكل كامل.

في الصين لم يبالوا كثيراً بعالم الموت، فقد كان كونفوشيوس يقول: "الإنسان لا يعرف ولا يفهم الحياة فكيف سيعرف أو يفهم الموت؟". ومثله، تقريباً، كان لاوتسي يقول: "الموت لا يفهم الحياة، والحياة لا تفهم الموت، المستقبل لا يفهم الماضي والماضي لا يفهم المستقبل، فلماذا سأفكر إذا كنت أنا أو السماء والأرض إلى زوال؟".

أما الديانات التوحيدية، فتؤمن بأن هناك حياة أخرى بعد الموت، وتعتمد على الإيمان والأعمال التي قام بها الإنسان خلال حياته؛ حيث ينال النار عقاباً، أو الجنّة ثواباً.

هكذا ترى أن الإنسان تتفاوت مواقفه الدينية من الموت، وهذا يعني في بعض جوانبه أنه هو من تخيل ووضع هذه السيناريوهات، وينفي أن تكون منزّلةً. أما العلم والموقف العلميّ الحديث فواحد؛ أي القول بأن الموت هو حالة التوقف النهائي لفعاليات ونشاطات الجسد، حيث لا تعود جثته، بعدها، إلى مزاولة أي نشاط، وتبدأ تدريجياً بفقدان درجة الحرارة، ثم البرود والتحلل حيث تقوم الجراثيم التي في داخل الجثة بتفسيخها وتبدأ رائحة كريهة بالانبعاث منها.

عبد اللطيف الوراري: لك دراسة في (ميثولوجيا الخلود) تنكبّ فيها على بحث أسطورة الخلود قبل الموت وبعده في الحضارات القديمة. لماذا - في نظرك - بحث الإنسان منذ القديم عن الخلود؟ وكيف تجسد ذلك عبر الأساطير وخطط السيناريوهات الإسكاتولوجية كما تسمّيها؟

خزعل الماجدي: هو عزاء للإنسان وتطمين بعدم الفناء الكليّ، خوف من المحو الفيزيقي والميتافيزيقي. ولذلك، أقنع نفسه، عبر الدين، أنه سيبقى بعد الموت. وقد جاء ذلك استناداً إلى اعتقاده بوجود الله الذي سيتحمل نتيجة موت الإنسان، مثلما تحمل سبب خلقه وحياته. وهذه هي أحد أهم الأسباب التي أوجدت الدين. في كتابي الذي ذكرته "ميثولوجيا الخلود" تجد في صفحته الأولى هذه العبارة: "يقول الكاتب الإسبانى ميجيل دي أونامونو: كنت أتحدث إلى فلاح ذات يوم، واقترحت عليه فرض وجود إله يحكم في الأرض وفي السماء، كما اقترحت عليه أيضا عدم خلود الأرواح، وأنه لن يكون بعث ولا نشور بالمعنى التقليدي المعروف، ففاجأني الفلاح قائلاً: وما فائدة وجود الله إذن؟".

الخلود حلم الإنسان، بل هو حلم البشرية الذي لا يختلف عليه أحد، وهو أقصى حلمٍ شغل الإنسان. ولذلك، كان البحث عنه يجري بوسائل مختلفة، لكي يبقى الإنسان في العالم ويواصل حياته، وكان الدين - وضمنه الأسطورة- وسائل متاحة للبحث عن الخلود، لكنه لم يحقق شيئاً على صعيد الواقع، وتبقى هي مجرد أحلامٍ ورغبات؛ فحتى من يُعرفون برجال الله المختارين، كالأنبياء مثلا، لم يحققوا شيئا من الخلود.

فالأديان تقترح لنا سيناريوهات مختلفة لما بعد الموت، ولا يوجد سيناريو يشبه الآخر، وهذا يدلُّ على أن كهنة كل شعب لهم طريقة خاصة بهم في التفكير الخيالي. كذلك ترسم الفلسفة طرقاً مختلفة يقلّ فيها الخيال نسبياً ويزداد التأمل العام. أما العلم، فلا يجرؤ أن يتحدث عن شيء لا يعرفه، بل هو يحاول اكتشاف سرّ الموت داخل الخلية وداخل الدي أن أي DNA وداخل القلب والدماغ، ويحاول أن يجد طريقة لإيقاف الموت من داخل الجسد نفسه، وسينجح يوماً ما. إنه لا يذهب إلى الغيب، لأنه لا يعرف شيئا عن حيز مجهول بالنسبة إليه ولا وجود له.

عبد اللطيف الوراري: من الديانات القديمة إلى الديانات التوحيدية، هل ثمّة فروق نوعية يمكن التقاطها في مسألة الفقدان والموت؟ ثُمّ هل قدمت الأخيرة جواباً أو أجوبةً عن أسئلة الموت الواخزة في المخيال الجماعي؟

خزعل الماجدي: مطلقاً... لم تقدم أي شيء.

عبد اللطيف الوراري: كيف ذلك؟

خزعل الماجدي: أفكار الديانات التوحيدية عن الموت وما بعده مأخوذة عن الأديان القديمة، وبصفة خاصة عن الديانة المصرية القديمة. فقد تلقّف أصحاب الديانة اليهودية سيناريو الموت وما بعده (إسكاتولوجيا) من المصريين القدماء، وأجروا عليها بعض التعديلات التي تناسب جهازهم الروحي والفكري، وحذفوا منه بعض الآلهة وحولوا بعضها إلى ملائكة وشياطين. وأخذ الدين المسيحي ما راق له من صورة الموت وما بعده، وصممّ صورة مقاربة، ثم جاء الإسلام وحور ما أتى به الدين المسيحي والدين اليهودي، وأضاف إليه بعض صور المعتقدات الإسكاتولوجية في جزيرة العرب.

الأديان الغنوصية قدمت قبل الأديان التوحيدية سيناريو للموت وصعود الروح وعودتها إلى الروح الكليّ، وهو الآخر مستمدٌّ بطريقة نوعية من الأديان القديمة.

أسئلة الموت الواخزة لا يجيب عنها سوى العلم، ولكنه يجيب عنها ببطء وتأنٍّ، لأن إجاباته صحيحة وقابلة للتطور حسب تطور الوعي العلمي والبحث العلمي وأدواتهما. أما أسئلة المخيال الجماعي، فلا توجد إجابات عنها في كل الأديان القديمة والغنوصية والوسيطة (الموحدة) والحديثة (المصنّعة)، بل هناك إجابات أشبه بالأفلام الممتعة أو المرعبة.

عبد اللطيف الوراري: في عالمنا المعاصر الذي امتلأ بدويّ الفجائع وأدخنة الدمار، نعيش الموت باستمرار. لكن مع الوقت وازدياد منسوبية الدّم صرنا نتعايش مع الفقدان بصورة طبيعية، هل للأمر تفاسير يتداخل فيها ما هو تكنولوجي بما هو نفسي؟

خزعل الماجدي: سقوط المشروع القومي العربي منذ فشل جمال عبد الناصر وإخفاقات صدام حسين وخواء الزعماء والمفكرين القوميين، يُشبه - من وجهة نظري- سقوط وفشل العالم الشيوعي في الغرب والعالم كله. لكن المصيبة المضاعفة التي صاحبت سقوط المشروع القومي هي صعود مشروع الإسلام السياسي بعدها، في حين تحاول الديمقراطية والليبرالية والرأسمالية الصعود بديلا عن المشروع الشيوعي/ الاشتراكي.

والفرق كبير، حيث يزداد العرب مأساوية ودماراً وتخلُّفاً في مشروع شمولي جديد، بينما يتعافى الغرب (في شقّه الشرقي) وبقية دول المنظومة الاشتراكية، من الأمراض الشمولية، ويتجهون لبناء بلدانهم وتطويرها. أما نحن، فنتوجه إلى تخريب بلداننا وقتل مواطنينا وتشريدهم تحت راية الدين والآخرة وغيرها.

الدنيا تزداد بهاءً ونوراً بالعلم والحضارة والثقافة، بينما نحن نزداد موتا ودمارا وظلاما بسبب القومية والدين السياسي والطائفي.

لاشك في أن الشعوب العاطلة عن العمل، مثل شعوبنا، يعوزها العلم والتكنولوجيا، فهي ليست طرفاً فيها ولا تنتجها، ولذلك يكون لديها الوقت الكثير للدين والتطرف والثرثرة السياسية التي تغذي أتون الجهل والخراب والموت؛ أي أن سيكولوجيا شعوبنا المريضة الكسولة تتناسب مع العطل التكنولوجي الذي تعاني منه.

نحن لا نعيش في أوطان معافاة، بل في مصحّات عقلية شاسعة وهياكل دول كارتونية وشوارع لا يسودها القانون، ومن الطبيعي أن نكون على شفير الهاوية، وننسى العلم والتحضر بمعناه الحقيقي، لأن التحضر لا يعني أن نعيش فيه، بل أن نساهم في صنعه، وهذا سبب أزمتنا.

عبد اللطيف الوراري: في فلسطين، والعراق، وسوريا وغيرها من البلدان العربية، ثمّة ملاحم ضائعة، ومآسٍ دموية، وخسائر مدمرة لا تنتهي على الإنسان والعمران والطبيعة. ألا ترى معي أنّ الواقع هو نتاج الأصوليات من كل نوع، وغياب الإنسية وتقهقر خدمات الرأفة بالإنسان وحقوقه؟ وأنّنا بسبب هذا الواقع صار الموت يُعشّش في بيوتنا، ولا نجد طعماً لمعاني الفقد والفجيعة؟

خزعل الماجدي: تبدأ الأصوليات من نقطة صغيرة أو نواة يرى فيها الإنسان المُعيّن أو الفكر المُعيّن، أنه يمتلك الحقيقة وحده، فيما غيره لا يمتلكها. من هنا، تبدأ الكارثة الأصولية حين تُـقْصي الآخر، وتغني لوحدها فتنسج حولها كارثتها القادمة دون أن تدري. لم يعد هناك مكان للفكر الشمولي في العالم، لقد ولّى إلى غير رجعة، وكل من يقاوم هذه الحقيقة سيفشل.

إن الأصوليات تمجد الفكرة، وتهين الإنسان وتضحي به من أجلها وتسحقه وتدمّره وتجوّعه وتشرّده وتسلبه حقوقه. وأنا أؤيدك في أن واقعنا الحالي هو نتاج الأصوليّات وليس نتاج نفسه أو تطوره التلقائي أو الحضاري، بل هو الواقع المهصور الممزق تحت سياط وأسلحة الأصوليات. ومن الطبيعي أن تمتلئ حياتنا بالفجائع والمآسي والخراب والدمار، لأن الوقع لا يحتمل قسر الأصوليات ولا يخضع لها.

لو أن العلم والانفتاح قد سادا في الواقع لكان اتّـضح لك أنّ الواقع ينمو بازدهار، وينتج عن ازدهاره الكثير من رفاهية الناس والحلول لمشاكلهم. العلم هو حلّنا الوحيد، ونحن اليوم أبعد الشعوب عن العلم، ومن يظن أن العلم شموليّ أو أصولي فهو واهم ويضحك على نفسه، لأن العلم لا يفكر يا صديقي. العلم يتحرك وفق آلية القوانين فقط، ويترك التفكير للمفكرين والفلاسفة والأيديولوجيين، ولا يحكم عليهم بل ينتظر نتائج ما يصلون إليه في الواقع، ثم يقوم بتصحيح القوانين التي شكّلت تفكيرهم، أو سببت الخطأ في التفكير عندهم، وهكذا دواليك.

عبد اللطيف الوراري: بصفتك شاعراً عراقيّاً، نكتشف مساحة كثيفة من البكاء والفقدان والموت عبر مجاميعك الشعرية؛ فكيف يفكّر الشاعر داخلك في الموت؛ موت الحضارة، وموت الوطن وموت الابن والأحبة؟

خزعل الماجدي: في العراق نعيش الموت في حاضرنا بقوة منذ أكثر من نصف قرن، باستمرارية ودون هوادة. هذا ما تحدثت عنه وأسميته عنف الأصوليات السياسية. فمنذ تموز/ يوليو 1958، شحذ الثوريون جميعا ومن مختلف الاتجاهات والأحزاب، سيوفهم وبدأت حفلة الدم بمقتل العائلة المالكة حتى وصلنا إلى جحيم صدام، وحروبه ومغامراته وعسكرته وتحزيبه للمجتمع العراقي. وهكذا نبت الموت فينا، مثل غُدّة سامّة في داخلنا، وتسممت حياتنا وصرنا نفكر في الموت بمناسبة وبدون مناسبة. وبعد 2003، تعمقت الفاجعة حين صعد الإسلام السياسي، وظهرت مليشيات الموت القاعدية والداعشية والطائفية عموما.

مات التحضر، وماتت القيم، وماتت الحرية، ومات الوطن.. وحين يكون الشاعر ضمير بلاده وشعبه، فلا بدّ له أن يعبر عما حصل لهم. ومنذ وعيت دوري كتبت الكثير عن مأساة العراق والعراقيين في ظل النظام السابق، فقد نشرت ثلاثة مجاميع شعرية كتبتها قبل سقوط نظام صدام، كانت تفضح كل شيء؛ وهي: "موسيقى لهدم البحر"، و"حيّة ودرج"، و"فيلم طويل جدّاً". وقدمت مسرحيات تقف في وجه الدم والخراب، وتلعن كرسيّ السلطة كما في: "هاملت بلا هاملت"، و"قيامة شهرزاد"، و"سيدرا"، ثم نشرت "أحزان السنة العراقية" عن واقع العراق في ظل حكم الإسلام السياسيّ عام 2006، ومجموعة "لعلّه فجر ... لعلّها بلادي!". كل هذه المجموعات كانت مُوشّاة بالحزن العميق، لأني كنت أراقب بلادي، وهي تركس في الظلام يوماً بعد آخر.

عبد اللطيف الوراري: كيف استطعت من خلال مجموعتك الشعرية الضخمة "أحزان السنة العراقية" أن تؤرشف لسنة عراقية كاملة بكل التفاصيل المؤلمة والموت الذي يجري في نسغها ويحبس أنفاسها؟

خزعل الماجدي: بعد التغيير الذي حصل في العراق عام 2003، عدت إلى العراق من ليبيا، حيث كنت أستاذاً جامعيّاً هناك، وكانت قد سبقتني عائلتي بعامين بسبب ظروف عائلية. استبشرت بالتغيير، وكان علي أن أقوم بواجبي نحو بلدِ يحتاج كفاءة أبنائه في مثل هذه الظروف، لكن أحداث العنف في العراق اشتعلت بعد عودتي مباشرة ووصلت إلى ذروتها عام 2006. كان ولدي الأكبر (مروان) يعمل صحفيّاً في فضائية السومرية، وفي الأول من فبراير/ شباط من هذا العام قامت مجموعة إرهابية مسلحة باختطافه مع زميلة له، وهو يغطي أحداث مؤتمر الحزب الإسلامي العراقي.

منذ ذلك اليوم إلى الآن، لا نعرف من الذي اختطفه وما هو مصيره. بحثنا عنه طويلاً وبذلنا كلّ جهودنا للعثور عليه، فلم نستطع. يومها كتبت قصيدة عن اختطافه ووضعت لها تاريخ الأول من فبراير/ شباط، لكني وجدت نفسي في الأيام اللاحقة أكتب كل يوم قصيدةً تتضمن ما يحدث في أيام الموت والدمار البشعة، فعدت لشهر يناير/ كانون الثاني، ورصدت فيه ما حصل ومناسباته، بما فيها ميلاد ولدي، ثم انتظمت كتابتي لأيام الشهور القادمة.

على الرغم من العذاب والأسى الذي كنت فيه، قررت أن أكتب قصيدة لكل أيام السنة المدجّجة بالأحداث الجسام أضمنها ما يحصل كل يوم، وأستعيد مناسبات الدم والموت والقتل في تاريخ العراق الحديث، وأستثمر بعض مناسبات عائلتي وأصدقائي. وخلاصة القول إني كتبت (روزنامة شعرية) فيها 365 قصيدة، وختمتها بأربع قصائد طويلة، هي بمثابة ضمير الشعر والشاعر، وهو يقف أمام تاريخ الموت في بلاده.

كانت هذه الروزنامة الشعرية بمثابة مدونة علاج شعريّ وروحيّ لي؛ إذ ساهمت، من جهة أولى، في قدرتي على الصمود، وكانت كتابة الشعر والكتابة بشكل عام سبباً للقوة في وجه الفقد والموت، وهي من جهةٍ أخرى بمثابة مذكرات روحية وشعرية لتلك السنة البشعة والمفصلية في حياتي وحياة البلاد، أستذكرها دائماً وأجعلها مدونة ضد النسيان وتذكاراً لولدي ولبلدي الجريحين.

الغريب في الأقدار أن المدونة تتضمن، في نصفها الأول، ما عشته وأنا داخل العراق بأمواج عنفه المتلاطمة. أما نصفها الثاني، فيتضمن معراج خروجي من العراق ووصولي إلى هولندا؛ فهي إذن، تجمع الموت والمنفى في سبيكة واحدة.

عبد اللطيف الوراري: كيف تجعل من كتابتك للشِّعر جواباً عن قدريّة الموت، وعزاءً للأشياء الجميلة التي تضيع منك إلى الأبد؟

خزعل الماجدي: هذه واحدة من أهداف الشعر. لا شك في أنّ للشعر أهدافاً كثيرة، ولكن جوابه وموقفه أمام الحياة وأمام الموت هما الأعظم، فالحياة التي تصل إلى ذروتها في الحب هي فردوس الشعر، والموت الذي يصل في ذروته في الفقد والضياع هو جحيم الشعر، وكلاهما مرتبطان، إذ يمثلان الإنسان والوطن في حضورهما وفي غيابهما.

ليس سرّاً أن أقول إن الشعر هو الذي جعلني أصمد أمام كارثة فَقْد ولدي، وكانت كتابتي اليومية له تُسرّب لي قوة الحياة، رغم أني كنت أكتب عن الموت، فأرجوك أن تتخيّل وجها الشعر (الحياة / الموت) وهما يتماهيان مع بعضهما البعض، وربما هذه - في نظري- هي الوظيفة الأعظم للشعر.

هذه التجربة الشعرية وضعتني في طريق جديد للشعر، وجعلتني أتأمّله من جديد، فقد كنت قبل هذا الوقت أنظر إليه، وهو يزّين الحياة، وأصبحت بعده أنظر إليه وهو يعبر الجسر بين الحياة والموت.

عبد اللطيف الوراري: هل نقول إن "أسطورة الموت والانبعاث" التي راجت لوقت طويل في تاريخ الشعر الحديث والمعاصر، قد انتهت إلى غير رجعة؟

خزعل الماجدي: أسطورة الموت والانبعاث الدينية انتهت فاعليّتُها، لكن أسطورة الموت والانبعاث الشعرية لا تنتهي، لسبب بسيط هو أنّ الشعر لا يصدرها لنا على أنها حقيقة واقعة، بل هو يتجول في غرفها الداخلية بحثاً عن عزاءٍ روحيّ أو جماليّ. في السابق، دخلت هذه الأسطورة في الشعر كإزاحة مباشرة لها من الدين إلى الشعر، وخدمت بعض الأغراض السياسية الثورية في هذا المجال، ولذلك انحسرت. ولكننا اليوم نراها، وهي تشتغل بطاقةٍ جماليّةٍ فقط، وتشحن الشعر بروحٍ خلاّقة وعظيمة. سيساهم ذلك بكسر (تابو) الأسطورة ويجعلها في متناول خيالنا وعبورنا المتكرر ذهاباً وإياباً بين الحياة والموت شعريّاً.

[1]- مجلة ذوات العدد43