حوار مع المفكر العراقي عبد الجبار الرفاعي: أوهام الهوية والخصوصية... عطّلتنا عن الحضور في العصر


فئة :  حوارات

حوار مع المفكر العراقي عبد الجبار الرفاعي: أوهام الهوية والخصوصية... عطّلتنا عن الحضور في العصر

حوار مع المفكر العراقي عبد الجبار الرفاعي: أوهام الهوية والخصوصية... عطّلتنا عن الحضور في العصر*


عبد الجبار الرفاعي؛ مفكر عراقي مرموق، ولد في العراق سنة 1954. حصل على مجموعة من الشهادات العلمية، أهمها الدكتوراه في الفلسفة الإسلامية، ماجستير في علم الکلام، بكالوريوس في الدراسات الإسلامية، دبلوم فني زراعي...

يمتلك هذا المفكر رؤية فلسفية حول تحديث مناهج التفكير الديني، والتي تنبني على رؤية إنسانية، وذلك بالتحيز للفكر العقلاني، والعمل على بسط قيم الحوار والتواصل والتعارف المتبادل والجدال بالحكمة، وبالتي هي أحسن، والتأكيد على أن قيمة السلام هي سبيل الأمن الاجتماعي والعيش المشترك، ولا نجاة للعالم إلا بالتشبث بالوسائل السلمية لحل المنازعات، والتخلص من بواعث العنف والحروب؛ فمقاصد الدين العليا تؤكد على إشاعة التراحم والمحبة بين الناس جميعا.

أصدر عبد الجبار الرفاعي مجلة "قضايا إسلامية معاصرة" سنة 1997، وترأس تحريرها، وقد صدر منها 54 عدداً، وهي مازالت تصدر حتى الآن. كما حرر وأصدر سلسلة من الكتب، ناهز عددها 200 عنوان، نذكر منها: سلسلة كتاب "فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد"، وسلسلة كتاب "آفاق التجديد"، وسلسلة كتاب "فلسفة وتصوف"، وسلسلة كتاب "ثقافة التسامح". وأخيراً أصدر في بيروت سلسلة كتاب "تحديث التفكير الديني". وقد أشرف الدكتور عبد الجبار الرفاعي على أكثر من خمسين رسالة دكتوراه وماجستير في الفلسفة وعلم الكلام، وأصول الفقه، والفقه، والدراسات الإسلامية.

ألف الرجل وأعدّ حزمة من الكتب تعنى بسؤال التغيير وتحديث مناهج التفكير الديني، من بينها: كتاب "الاجتهاد الكلامي"، وكتاب "مقاصد الشريعة وفلسفة الفقه"، وكتاب "فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد"، وكتاب "مناهج التجديد"، وكتاب "الفكر الإسلامي المعاصر: مراجعات تقويمية"، وكتاب "مبادئ الفلسفة الإسلامية، في مجلدين"، وكتاب "محاضرات في أصول الفقه، في مجلدين"، وكتاب "التسامح ليس منة أو هبة"، وكتاب "تحديث الدرس الكلامي والفلسفي في الحوزة العلمية"، وكتاب "إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين".

اشتغل عبد الجبار الرفاعي مديراً لدار التوحيد للبحث والتأليف والنشر ما بين سنتي 1982- 1984. كما عمل أستاذاً للدراسات العليا لمادة الفلسفة الإسلامية والمنطق وعلم الكلام وأصول الفقه والفقه، ومديراً لمركز دراسات فلسفة الدين في بغداد. واعتمد الرفاعي مستشاراً لمجموعة من المجلات والدوريات، من بينها: "الوعي المعاصر" و"الحياة الطيبة" و"نصوص معاصرة" و"التوحيد"، والتي كانت تصدر في بيروت، ثم "الفكر الإسلامي" الصادرة في لندن، و"مقابسات" و"مدارك" الصادرة في بغداد، ثم مجلة "الكوفة" الصادرة عن جامعة الكوفة.

وبقصد تعميق النظر حول قضايا تعنى بسؤال التجديد الديني والتغيير الثقافي، والعمل على بسط قيم العفو والصفح والتسامح في المجال السياسي والديني، ارتأينا أن نجري معه هذا الحوار.

أ. صابر: الدكتور عبد الجبار الرفاعي، نرجو أن تقدم شخصكم الكريم للقارئ في العالم الإسلامي.

د. عبد الجبار: أنا قارئ قبل أي شيء آخر، سرقتني المطالعة من الحياة، حرمتني من ملاعب الطفولة والصبا، غيبتني عن الرياضة وانخراط الناشئة والشباب في ملاعب كرة القدم ومسابقاتها. لا أعرف حتى هذه اللحظة التعاطي مع أية لعبة رياضية، لم أنفق أي وقت للكرة، وحينما كان يلح علي زملائي في المدرسة مشاركتهم اللعب، كنت أفشل أكثر من مرة في مسك الكرة باحتراف واللعب بها، هكذا كنت مع كرة السلة، الطائرة، المنضدة، فضلاً عن كرة القدم...أنا أميّ في ثقافتي الرياضية، أجهل بداهات الرياضة وفنونها، وطالما كنت مورداً للتهكم من أبنائي حين أستفهم عن تلك البداهات. بالرغم من مطالعتي الصحافة منذ المرحلة المتوسطة يوميا، حيثما كنت، وحتى هذه اللحظة أنفق كل يوم حدود ساعتين للنظر في الصحافة، باعتبارها "زاد الفلاسفة" حسب هيغل، غير أن الصفحات الميتة لدي في الصحف هي الصفحات الرياضية. لكن بعد أن أدركت الأهمية الفائقة للرياضة في عصرنا، وآثارها الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية والفنية وحتى السياسية، حرصت على التعرف على شيء من فنونها وآثارها المتنوعة، من خلال أبنائي، الذين أقحموا الصحافة والأفلام والملابس والأدوات الرياضية للمنزل، وكأن الرياضة تنتقم من موقفي المعاند لها، لتستولي اليوم على فضاء بيتي، وتغطي أشياؤها معظم الغرف والصالات والممرات...

أنا حزين على غيابي عن الحياة وعكوفي الأبدي بين الأوراق، أنا حزين على حرماني من المتع البريئة وغير البريئة، حزين على هذا النمط من السجن الذي غيبني على الدوام عن الفئة العمرية التي أنتمي لها، وأجهل أحلامها وتطلعاتها ومشاغلها وجدها وعبثها...لو استقبلت من حياتي ما استدبرت منها ربما أنخرط بتجريب ما في هذا العالم، ربما أتذوق متع الحياة ومراراتها الشديدة الغنى والتنوع. ما زلت أفتقر الى خبرة الكثير من تجارب العيش وفنونها العملية، خارج فضاء الورق، والآن أخرج بالتدريج من الورق، حيث أدخل فضاء العالم الافتراضي، وأغرق في عوالم الأنترنيت والآيباد والآيفون...إلخ.

ربما لا أستطيع التحكم في مسار حياتي، حتى لو استأنفتها، ذلك أني بطبيعتي كائن مسكون بمتعة الاكتشاف، والبحث عن كل ما يثير الدهشة التي تنبعث عن كل ما هو غريب، مما تتكتم عليه الجماعات والطوائف والأديان والثقافات. أنا مولع بالهرولة وراء كل ما هو جديد، لا أكف عن سياحتي ورحلتي العقلية والروحية، نموذجي على الدوام في المستقبل. وربما كان لمزاج السير والسلوك الفكري المتواصل في شخصيتي تأثير بالغ على شغفي بالمطالعة وصحبة الورق، ذلك أن الكتّاب يبوحون لي بما يتكتم عليه المجتمع، ويفضحون ما تمنع التصريح به العادات والتقاليد والمعتقدات ومختلف أنواع السلطات.

المطالعة مهنتي الأبدية، إنها محطة استراحتي، إنها ما يمنحني الرضا، ويحررني من نمطية الواقع وتكراره الرتيب الممل، هي ما يفيض علي الهدوء، ويثري لحظات يومي بسعادة غامرة.

أما الكتابة، فأهرب منها، لا أتكلفها وأخوض فيها إلا بعناء، إلا حين أخضع لفروض تمليها علي مهماتي في البحث العلمي والتعليم والتواصل مع تلامذتي وقرائي...في زيارتي لأية مدينة، الأماكن الأشد إغواء لي هي المكتبات، وطالما عبّر بعض رفاق السفر عن تذمرهم من تسكعي في أسواق الكتاب، وضياع وقتهم في أماكن لا تعنيهم ولا تهمهم، وأحيانا يعربون عن استغرابهم، من تكاليف الوزن الإضافي التي أضطر لدفعها لشركات الطيران غالبا، لتجاوز كمية الكتب الوزن المعفو عنه لكل مسافر.

لعل فضيلتي المتميزة تكمن في أني أعرف ما أجهله، وذلك ما يحثني على الدوام للهرولة وراء كل كتاب وكاتب جديد، عساني أضيق مساحات جهلي الشاسعة التي تؤرقني باستمرار، أتساءل مع نفسي: لماذا أفتقر لأية ثقافة سينمائية، مما يضطرني للإفادة من ثقافة ولدي علي في هذا الحقل الشديد الأهمية والرهنية؟ لماذا أفتقر لأية ثقافة في مختلف أنواع الفنون؟ لماذا...؟!

أ. صابر: يحسب لكم جهدكم الكبير في العمل على الدفع بسؤال التجديد والتغيير الثقافي في العالم الإسلامي من خلال كتاباتكم العلمية وإسهاماتكم الفكرية. ما هو تقييمكم لما عليه الفكر الإسلامي اليوم؟ هل تخطى هذا الفكر لحظة المقارنات والموافقات مع الفكر الغربي إلى لحظة الخلق والإبداع الكوني المعاصر؟

د. عبد الجبار: أوهام الهوية والخصوصية، والغياب المزمن في كهوف الماضي، عطّلتنا عن الحضور في العصر. يجد المراقب الخبير بواقع التفكير الديني في مجتمعاتنا، وكل من يتفحص منجزاتنا المعرفية ومكاسبنا الفكرية، أن الأعم الأغلب مما ألّفناه وكتبناه لا يتخطى هواجس الهوية، والحنين إلى الأصول. منذ جمال الدين الأفغاني، أحد أبرز رواد "البروتستانتية الإسلامية"، لما تزل أدبياتنا تنشد مديحاً وتبجيلاً للموروث، تنتج تسميات وتنشئ مقولات هي بمثابة الشعر المفرغ من أية رؤية مضيئة ومضمون معرفي، إنشاء يتكرر بأساليب وصور شتى، تارة بعنوان "الرسالة الخالدة" حسب مصطلح مؤسس حزب البعث ميشيل عفلق، وهي تسمية ملتبسة مضللة، تأطرت بأيديولوجيا عروبية تعصبية، أفضت لإنتاج أشنع نموذج للنظم الاستبدادية في النصف الثاني من القرن العشرين، وتارة أخرى بعنوان "جيل قرآني فريد" حسب تعبير سيد قطب الذي كنت أنا - في مرحلة مبكرة من حياتي- أحد ضحايا أناشيده الحماسية التعبوية، وبالأحرى ضحية لما نُسج على نهجه وإنشائه، من نصوص لا تقول شيئاً، سوى أنها تخلق تخيلات وأوهاما تنوّم الشباب، وتغرقهم في أحلام مُخدّرة، تكف معها عقولهم عن التفكير، وتلبث في إجازات طويلة، تعجز فيها عن إدراك ما يحفل به الواقع الراهن من تعقيد وتركيب عميق، ولا تستطيع الإصغاء لما يحفل به العصر من فتوحات مدهشة للعقل، وما يراكمه من إضافات نوعية للمعارف البشرية.

ما زلنا حتى هذه اللحظة نعيد صياغة عفلق وقطب، وكل تلك الشعارات المضللة المسكّرة، ونسقيها لأبنائنا، عبر منابرنا وفضائياتنا وحتى جامعاتنا...ما زال بعض أساتذة الشريعة والدراسات الإنسانية وربما الفلسفة في بلادنا يكررون ذلك، فيخدعوننا بحيل اصطلاحية، وشقشقات لغوية، ومنحوتات لفظية موهمة، يسوقون فيها عقولنا إلى مقصلة، نغدو فيها مخلوقات مشوهة غير قادرة على الحضور في زمانها الخاص.

هذا مصير التفكير الديني في مجتمعاتنا، لا نعثر على مراجعات نقدية جادة في أدبيات الإسلاميين، وأي مسعى للنقد يتهم صاحبه ويصنف، باعتباره مناهضاً لأمجاد الأمة وماضيها المشرق، وأخيراً يعمد الإسلاميون لتوصيف مثل هذه المحاولات بأنها "جلد للذات"، كما هو متداول الآن في مقالاتهم ومؤلفاتهم.

منذ الأفغاني غرق التفكير الديني في بلادنا في مسار خاطئ، حين عمد جمال الدين ومن اقتفى أثره، وترسم خطواته، وتبنى مفاهيمه وآراءه؛ فخلط ومزج ما هو متغير بما هو ثابت، وما هو تراثي بما هو مقدس، وما هو زمني بما هو ميتافيزيقي، وما هو غيبي بما هو مادي، وما هو أرضي بما هو سماوي، وما هو رؤياوي بما هو محسوس، وما هو رمزي بما هو حرفي، وما هو أخلاقي بما هو فقهي، وما هو قانوني بما هو روحي، وما هو عقلي بما هو قلبي، وما هو إلهي بما هو بشري، وما هو دنيوي بما هو ديني،... إلخ. وهو ما انتهى إلى إنتاج "بروتستانتية إسلامية"، بلغت مآلاتها القصوى في التفكير الديني لأبي الأعلى المودودي، وسيد قطب تبعاً له، وما تحكيه أدبيات الجماعات الإسلامية اليوم.

لا أريد القول أن التفكير الديني لدينا دخل منطقة استحالة وعقم، لكني أعتقد أن التفكير الديني في حالة ممانعة متصلبة، بل عنيفة لأية محاولة جادة لتجاوز ما هو نمطي قار ساكن.

ولا أظن خبيراً يزعم بأن عقلنا وتفكيرنا في لحظة "خلق وإبداع كوني معاصر "حسب تعبيركم. أتمنى أن نستفيق من غفوتنا المزمنة، أتمنى أن ننتفض على أولئك المحترفين من الخطباء والوعاظ والكتّاب الذين يسقوننا الأوهام، ويخوفوننا من العودة للعقل، ويخدعوننا كل يوم، أتمنى أن نتأمل واقعنا، أتمنى أن نتفحص مصيرنا، أتمنى أن نجرؤ على طرح تساؤلات كبيرة على أنفسنا، مثل: ما هي إضافاتنا للمعرفة البشرية منذ أكثر من خمسة قرون؟ ما هو إسهام مليار وثلاثمئة مليون إنسان مسلم في أعياد التاريخ الحديثة؟ ما هي فتوحاتهم في حقل الاكتشافات والمخترعات العلمية؟ ما هي منجزاتهم في الفلسفة والعلوم الإنسانية؟ كم هو عدد المسلمين ممن حازوا أو سيحوزون على جائزة نوبل والجوائز المماثلة سنويا؟ ما هو...ما هو...لماذا؟ هل نجرؤ على السؤال؟

أ. صابر: تبعاً لمطلب التجديد، ألا يقتضي في نظركم الواقع اليومي وأسئلته، أكثر من أي وقت مضى، نوعاً من التأسيس للفكر الإسلامي يأخذ بآليات المعرفة الحديثة والمعاصرة، ويستفيد من مختلف التجارب الإنسانية في التعاطي مع مرجعية الفكر الإسلامي بغية النظر إلى العلوم بشكل متكامل بدل تجزيئها إلى علوم شرعية وعلوم عقلية؟

د. عبد الجبار: إحدى المشكلات المعقدة في بنية تفكيرنا عموماً وتفكيرنا الديني خاصة، هي "الفوبيا" من المعارف الجديدة والعلوم الإنسانية. إن ما كتب إلى اليوم في رفض المعارف الغربية كم هائل من المؤلفات والمقالات. الأصوات الصاخبة في المؤتمرات والندوات والحلقات النقاشية هي أصوات الذين لا يكفون عن توبيخ وهجاء كل من يدعو إلى مواكبة فتوحات هذه المعارف، ويهتم بتعليمها في المدارس والجامعات. لقد استثمرت مبالغ طائلة في الخمسين سنة الأخيرة، في دعوات أيديولوجية لا صلة لها بالعلم والمعرفة، دعوات لا تكف عن تجنيس المعرفة وتصنيفها: دينيا وجغرافيا وأثنيا، مثل: "إسلامية المعرفة"، و"التأصيل الإسلامي للعلوم"، و"العلوم الإنسانية العربية"، و"العلوم والمعارف القومية"... وغيرها، مما نسج على منوال ما حكته الماركسية في النصف الأول من القرن العشرين عن "الروح الحزبية في العلوم".

آفاق الدراسات الإسلامية مغلقة في الجامعات ومراكز البحوث والحواضر العلمية التقليدية في عالمنا. مشاغل تلامذة هذه المؤسسات وأساتذتها، تتمحور في محفوظات وهوامش وتعليقات وشروح وشروح للشروح، الكل يدور في آفاق رؤية السلف، حتى الدرس الفلسفي في الحوزات يختزل الفلسفة بصدر المتألهين الشيرازي، ولا يتعاطى مع نصوصه نقدياً.

غزارة التراث وتنوعه تحوّله إلى عبء، يجهض أية محاولة لنقده وغربلته، ويعطل أي مسعى للاجتهاد والخلق والابتكار والإبداع. الحجم الهائل لتراثنا يعطل تفكيرنا ويشل وعينا ويغرقنا في مسالكه ودروبه التي لا تقودنا إلّا إلى أين!

أي مسعى للاجتهاد والتجديد لا يمنح لنفسه مشروعية تراثية يقاوم بضراوة ويُنفى. الدعوة للاجتهاد في الفقه تتوكأ اليوم على "مقاصد الشاطبي"، وتستدعيها كما هي، من دون أن تجرؤ لتمنحها روح العالم الجديد وأحلام وتطلعات المسلم المعاصر. إنها لا تتجاوز تقليد الشاطبي، فتستغرق في شرحه، وأحياناً تمعن في تغييب نزوع تلك المقاصد ومسعاها لبناء أصول بديلة لأصول فقه الشافعي ومن رسّخ نهجه.

كيف يمكننا تحديث التفكير الديني في الإسلام مع انسداد آفاق هذا التفكير، والركون إلى رؤى السلف واسترجاعها والتعاطي معها كنصوص عابرة للزمان والمكان والاجتماع الإسلامي، ومناهضة معطيات العلوم والمعارف البشرية؟

المعرفة الدينية أحد تجليات المعرفة البشرية، وافتراض أنها استثناء، ولا تنتمي للمعرفة البشرية ناجم عن الجهل بفلسفة العلوم، والمنطق الحاكم في صيرورة تغير وتطور المعارف والعلوم.

لا سبيل لتحديث المعرفة الدينية، إلا بالانخراط في مخاضات المعارف البشرية والتعرف على مكاسبها، ووعي فلسفة تغيّرها وتحوّلها، لا سبيل لذلك إلا بالاستيعاب النقدي للتراث، وتوظيف المعطيات الجديدة للمعرفة البشرية في تشريح التراث، وإعادة بناء التفكير الديني في الإسلام، في سياق المنهجيات والمفاهيم والرؤى والمعطيات الجديدة للمعارف والعلوم.

أ. صابر: ظهرت منذ سبعينيات القرن العشرين مجموعة من المشاريع الفكرية في العالم الإسلامي عملت إجمالاً على التعاطي مع الموروث الثقافي بشكل نقدي، وكانت تهدف إلى العمل على بسط رسالة التنوير والرفع من شأن الفكر العقلاني في التعاطي مع قضايا الدين والدولة والمجتمع. وفي السنوات الأخيرة، رحل بعض من رجال هذه المشاريع، مثل: محمد أركون ومحمد أبو القاسم حاج حمد ومحمد عابد الجابري ونصر حامد أبو زيد... وغيرهم. في نظركم هل جهد هؤلاء وجد له انعكاساً على أرض الواقع اليوم؟ أم أن جهدهم العلمي بقي محصوراً بين طيات الكتب؟ مع العلم أن الفكر التقليدي الذي يغيب العقل مازال مهيمناً في الوقت الحاضر بشكل مجمل على مختلف أنماط التدين.

د. عبد الجبار: أود التنويه بجهود مهمة لمفكرين آخرين، مثل: عبدالله العروي، أدونيس، جورج طرابيشي، فؤاد زكريا، عبدالكبير الخطيبي، حسن حنفي، طيب تيزيني، محمد سبيلا، وعبدالسلام بنعبد العالي...وغيرهم.

وفي الدراسات الدينية، ينبغي الاهتمام بالمنجز الرائد في بلادنا العربية للصديق عبد المجيد الشرفي، و"مختبر الدراسات الدينية" - كما أود تسميته - الذي أسسه بمعية مجموعة متميزة من تلميذاته وتلامذته في تونس.

لا شك أن الإنتاج الفكري لهؤلاء المفكرين ذو راهنية وأهمية فائقة، لو تم استيعابه وتصنيفه وتقويمه وتوظيفه لتجاوز العقل في بلادنا المدارات الموروثة، وانتقل إلى آفاق تتسع لأسئلة عميقة، وتسعى لصياغة مفاهيم بديلة، تحاول توظيف مناهج حديثة، لم يعرفها باحثو ودارسو التراث من قبل، فتعمل على تفكيك التراث وغربلته والتوغل في بنياته المتراكمة، وما لا تكشف عنه المناهج والأدوات التقليدية.

للمرة الأولى، تحيلنا تلك المناهج إلى تجاوز الأسلوب التقليدي في دراسة المدونة الفقهية، وترشدنا إلى ما يتخطى فهمنا السائد، فنبحث عن مرجعيات مستترة توجّه عقل الفقيه، وتعمل على تبنيه لموقف فقهي معين ورفض ما سواه. كنا في الدرس الشرعي حين نسعى للإفتاء في مسألة معينة، نعمل على تطبيق أصول الفقه والقواعد الفقهية وعلوم الدراية ودراسة أسانيد الحديث وأدوات اللغة ومعاجمها، لنستعين بها في فهم نصوص الكتاب والسنة، وفي حالة فقدان النصوص نعود للمقاصد والمصلحة والإجماع والاستحسان والقياس...وغير ذلك، تبعا لتنوع الموقف الاجتهادي للمذاهب في أصول الفقه وطرائق الاستنباط. بينما أتاحت لنا المناهج الجديدة في: الهرمنيوطيقا والألسنيات وفلسفة العلم وعلوم النفس والاجتماع والأنثروبولوجيا...أن نكتشف ما لم تبُح به مناهجنا التقليدية، فنبهتنا إلى وجود منابع مضمرة تسهم في صياغة فتاوى ومواقف الفقهاء، لم نتنبه لها من خلال مناهجنا وأدواتنا ومفاهيمنا الموروثة، فمثلا الرؤية الكونية للفقيه ونمط إيمانه ومعتقداته، تعمل على فرض موقف عليه ينسجم مع معتقده، فلو كان معتزلياً أو أشعرياً أو ماتريدياً أو إمامياً أو أباضياً، يبدو له معنى النص وفقاً لرؤيته الاعتقادية. وهكذا اكتشفنا عبر المناهج الجديدة أن سياقات إنتاج الفقه، ترتبط بنمط تربية الفقيه وعصره وبلاده وبيئته ومجتمعه وإثنيته وثقافته وخبراته الحياتية المتنوعة...إلخ. كل هذه العوامل وما يماثلها لها تأثير مباشر في طبيعة فهم الفقيه واستنباطه. كذلك ترتبط فتاواه بحدود الدين ومدياته ومجالاته في الحياة، وأيضا ترتبط بأفق انتظاره، وما يترقبه وتوقعاته وتطلعاته ومطامحه.

في ضوء هذه المعطيات، نستطيع أن نتعاطى مع المدونة الفقهية الموروثة وما يفتي به الفقهاء في كل عصر، باعتباره معرفة بشرية مشتقة من تلك المنابع المشار إليها وما يماثلها. مما يعني أن كل عصر ينتج مدونته وأحكامه الفقهية الخاصة، وهي مدونة لا تتسع أحكامها لكافة العصور، ولا تستوعب مختلف الأزمان، وحسب تعبيرنا في أصول الفقه: "ليس لها إطلاق زماني وأحوالي".

هذا نموذج ذكرته للإمكانات الفائقة الأهمية التي تمنحها لنا المناهج والأدوات والمفاهيم المعروفة في العلوم الإنسانية الجديدة، للقيام بحفريات عميقة في المدونة الفقهية والكشف عن بنيتها التحتية وما تستقي منه. كذلك يمكننا الإفادة من تلك الإمكانات واستخدامها في دراسة مدونات التفسير والحديث وعلم الكلام والفلسفة والمنطق والتصوف والعرفان...وكل ما هو موروث.

بيد أن جهود هؤلاء المفكرين لم تحقق وعودها في الدراسات الدينية عندنا، ولبثت المقررات والمساقات التعليمية في الجامعات الإسلامية وكليات الشريعة والدراسات الإسلامية والرسائل الجامعية، ومراكز البحوث والدوريات والمؤلفات...حبيسة المناهج القديمة، لا تكترث بالمناهج الجديدة، وفي الحالات المحدودة التي يهتم بها الباحثون والمدرسون، فإنهم لا يدرسونها بغية التعرف عليها وفهمها، وحتى لا يقاربونها نقديا، وإنما يتعاملون معها بوصفها "شبهات"، و"بدع"، و"معتقدات باطلة"، و"مغالطات"...إلخ، هدفها تضليل المسلم واختراق عقيدته. وهنا أستأنف ما تحدثت عنه في مناسبة أخرى، قبل عدة سنوات، حول ضرورة تحديث التفكير الديني في الإسلام داخل المؤسسة الدينية، وضعف تأثير المفكرين والدارسين والباحثين خارج هذه المؤسسة، بالرغم من أهمية منجزهم وريادته؛ ففي مراجعة عاجلة لحركات الإصلاح الديني الفاعلة والمؤثرة في تاريخ الأديان، والتي امتدت وترسخت عبر الزمان، نجد الحركات المشتقة من المؤسسة الدينية والمتولدة منها خاصة، كحركة الإصلاح الديني التي قادها مارتن لوثر من داخل الكنيسة، هي ما أحدث منعطفا وتحولا مهما في تقاليد ونظام المؤسسة الدينية، ويظل على الدوام صوتها مسموعا ومؤثرا في المؤسسة. تحديث المسجد لا يتحقق إلا حين ينبثق من داخل المسجد، وتحديث الحوزة لا يتم إلا عندما ينطلق من الحوزة، لكيلا يفتقر التحديث للمشروعية، وتبعا لذلك يتوافر له حامل اجتماعي. بينما لا تجد الدعوات والكتابات في الإصلاح من خارج المؤسسة الدينية حاملا اجتماعيا، يعتنقها ويتبناها ويتفاعل معها، في داخل المؤسسة، ويستخدم الإمكانات التي يتيحها له انتماؤه للمؤسسة الدينية، كالمنابر والشعائر والمواكب ودور العبادة في التثقيف على المفاهيم والمقولات والرؤى والأفكار التي تدعو إليها. ولا أعني ب"المشروعية" هنا المفهوم الميتافيزيقي أو الفقهي، بل أعني المفهوم السوسيولوجي والأنثروبولوجي؛ أي إن خطيباً على منبر بوسعه تعبئة وتحريض المستمعين على اعتناق آرائه مهما كانت، تبعاً لما يمنحه المقام الذي يصدر عنه حديثه من مكانة وقيمة ومشروعية. فيما لا يمتلك المفكر والباحث والمثقف خارج المؤسسة الدينية ما يمنح آراءه هذه القيمة الرمزية والمشروعية.

قد لا تكون هذه الفكرة محببة لدى بعض المنشغلين بدراسة ونقد الفكر الديني، المنحدرين في تكوينهم الفكري من خارج المؤسسة الدينية، ولعل بعضهم يرى فيها تقليلاً من دورهم التحديثي، إلا أنني أرى أن الواقع التاريخي لمسيرة التحديث ينحاز لصالح هذه الفكرة.

في النهاية، تبدو هذه الملاحظة سديدة إذا بقيت مجتمعاتنا في بنيتها الاجتماعية، وفي مصادر تكوينها العلمي والثقافي، على ما هي عليه الآن. نعم، في ظل نظام تعليمي، لا سيَّما الجامعي منه، جديد أكثر حداثة وتنوعاً وعمقاً مما نجده اليوم، من الممكن توقع دور للنخب العلمية المشار إليها أكبر وأوسع.

أ. صابر: أحياناً ينظر للدين بأنه مصدر للتصادم الاجتماعي فهل هذا صحيح؟ أليس من غايات الدين الكبرى بسط قيم العفو والرحمة والمحبة؟

د. عبد الجبار: نفي الآخر وعدم احترامه، ليس غريباً في تراث ولاهوت الأديان، مقولات "شعب الله المختار...لا خلاص إلا بالكنيسة...الفرقة الناجية"، وما يماثلها في تراث الأديان الإبراهيمية، أغرقت أتباع الأديان في علاقات صراعية مأزومة، لكن "الفاتيكان الثاني 1962 – 1965" استطاع أن يتحرر من لاهوت القرون الوسطى، ويعترف ب"خلاص خارج الكنيسة".

علم الكلام، والفقه المنبثق من الرؤى اللاهوتية الموروثة، يتضمن مجموعة من المقولات والأحكام المشهورة التي تحدد نمط التعامل مع ذوي المعتقدات والآراء المختلفة، كما في "أحكام الارتداد والمرتد...أحكام أهل الذمة...أحكام أتباع الأديان غير الإبراهيمية"...وغير ذلك، مما يجعل أتباع الديانات في مرتبة أدنى من المسلم في أوطاننا.

ومن المؤسف أن معظم المنخرطين في الجماعات الإسلامية، يفتقرون للخبرة بعلوم الدين، فيكررون عبارات يُلقنونها من أدبياتهم المبسطة، تشي بافتقارهم للخبرة العميقة بالتراث، ويقولون كلاماً في منابرهم ومقالاتهم وأحاديثهم، يشدد على مفهوم فقهي للحرية الدينية، يحاكي مفاهيم الحريات الليبرالية، ومفهوم للحقوق يستنسخ "الميثاق العالمي لحقوق الإنسان"، الذي ينص على تساوي البشر بقطع النظر عن معتقداتهم وأجناسهم. لكن من يعرف الفقه، يلاحظ أن الأحكام الفقهية لغير المسلمين في المجتمع الإسلامي تنفي ذلك.

مثلما يكون الدين منبعاً للتراحم والمغفرة والعفو والمحبة، هو أيضاً منبع للصراع والعنف والإرهاب والقتل؛ ففي اللحظة التي أكتب فيها يسقط في بلدي اليوم حدود 400 قتيل وجريح، اليوم هو عيد الفطر لسنة 2013، وهو مناسبة دينية احتفالية اجتماعية إنسانية ثقافية، يبتهج فيها المسلمون ويمرحون ويفرحون، غير أن بعض الجماعات الدينية تسقي سموم مفاهيمها وفتاواها ووعودها للشباب، ليمسي كل منهم انتحارياً، يطمح بلقب "شهيد"، هذا اللقب المشبع بمضمون قيمي روحي غيبي رمزي، يحقق للانتحاري الخلاص النهائي حين يظفر به. هكذا، يسقط أبناؤنا في شراك هذه الجماعات، وينحرون أنفسهم بتفجير المساجد وبيوت العبادة والأسواق والمؤسسات المجتمعية ابتغاء وجه الله والفوز برضوانه والظفر بالنعيم الأبدي والخلود في الجنة...

الدين هو الدواء، وهو الداء، هو المرض، وهو الشفاء، هو السم، وهو الترياق...هكذا، كان ومازال أثر الدين في مجتمعاتنا، لم يتراجع دور الدين منذ عصر البعثة حتى اليوم، ولا نعرف في تاريخنا مرحلة أضحى تأثير الدين فيها هامشياً وضعيفاً. الخروج من نفق التخلف شرطه الأول والأهم هو إعادة بناء فهم للدين، وتفسير بديل للنصوص الدينية، يتوكأ على المناهج والمعطيات الراهنة للعلوم الإنسانية.

السلام بين الأديان مقدمة للسلام بين المجتمعات، ولا يتحقق السلام بين الأديان من دون التحرر من تلك المقولات والأحكام الموروثة، وأية محاولة أخرى هي مجرد طلاء براق سرعان ما يتلاشى ويذوب. نحن بحاجة ماسة إلى قبول البشر كما هم، والاعتراف بهم كما هم، واحترامهم كما هم، مادامت المواطنة هي الإطار المشترك الجامع بين أفراد المجتمع.

التفكير العقلاني منبعه الفلسفة، والتجربة الروحية منبع إلهامها التصوف والعرفان. ميراث الفلسفة والتصوف والعرفان مكثف عميق رؤياوي، لكن الجماعات الإسلامية تناهض الفلسفة والتصوف والعرفان، وتشن حرباً بلا هوادة عليها، وتحضر على أتباعها دراستها ومطالعتها والتعرف عليها، فيما توجههم للموروث السلفي النصوصي المتشدد، وتهتم بتلقينهم مقولات مبسطة ومفاهيم محبطة وشعارات تحث على الموت والهروب من الحياة "الموت أسمى أمانينا"، والابتعاد عن المجتمع "العزلة الشعورية" حسب سيد قطب... وغير ذلك. يسكر الشباب والناشئة بهذه المقولات والشعارات، فتتعطل إرادتهم، وتُشل عقولهم، ويتعرضون إلى هشاشة أخلاقية، وشيزوفرينيا ثقافية، تنفجر معها مشاعرهم وعواطفهم وأحاسيسهم بمقت العالم والحنق على الآخر.

أ. صابر: في نظركم ألا تشكل المؤسسة الدينية في نمطها التقليدي جزءًا لا يتجزأ من تحويل الدين إلى سياق إيديولوجي تراثي مغلق ينتصر فيه أصحابه للمؤسسة الدينية التي ينتمون إليها على حساب المشترك الإنساني؟

ذ. عبد الجبار: تحويل الدين إلى سياق أيديولوجي تراثي مغلق، أو اختزال الدين في الأيديولوجيا خطيئة "البروتستانتية الإسلامية". يكتب شريعتي: "سألني أحد رفاق الدرب: ما هو في رأيك أهم حدث وأسمى إنجاز استطعنا تحقيقه خلال السنوات الماضية؟ فأجبته: بكلمة واحدة، وهو تحويل الإسلام من ثقافة إلى أيديولوجيا". لو طالعت أدبيات الجماعات الإسلامية تخلص إلى أن مضمونها المشترك يتلخص في اختزال الدين في الأيديولوجيا، وتحويل التراث إلى أيديولوجيا.

الدين أرحب وأشمل وأوسع من الأيديولوجيا. الأيديولوجيا مظهر وتعبير اجتماعي للدين، تحويل الدين إلى أيديولوجيا؛ يعني: اختزال الإنسان في بعد واحد، اختزال الروح في القانون، والعقيدة في الثورة، والله في الإنسان، والإلهي في البشري، والسماء في الأرض، والغيب في الشهادة، والميتافيزيقا في الطبيعة" الفيزيقا"، والآخرة في الدنيا، والروح في الجسد، والرمزي في الحرفي، والرؤياوي في المحسوس، والمعاد في المعاش، والعبادات والطقوس في المداليل الاجتماعية والتنمية والإنتاج، والديني في الدنيوي. وحين يتحول الديني إلى دنيوي يمسي لاهوتاً للتحرير والمقاومة، وتختلط الحدود بين ما هو ديني وما هو غير ديني، فيجري تديين الدنيوي، وتعميم الفهم الديني لكافة حقول المعارف البشرية، وتديين المعرفة في خاتمة المطاف يفضي إلى التضحية بالعقل والخبرة البشرية المستقلة عما هو ديني.

أنت تعرف والأصدقاء ممن يطالعون كتاباتي ويستمعون أحاديثي، أني كنت وما زلت ناقداً للنظام التعليمي التقليدي في المؤسسة الدينية، وأنا ممن يعملون على تحديث هذه المؤسسة، ووصلها بالعصر، عبر اكتشاف المنطق الذاتي للموروث من أجل عبوره، وتوظيف المناهج الحديثة في دراسة التراث والنصوص الدينية.

لكن ليس من الصواب اتهام المؤسسة الدينية وتوريطها في ذلك، وقائع تاريخ الإسلام الحديث والمعاصر تدلل على براءة هذه المؤسسة، من " تحويل الإسلام من ثقافة إلى أيديولوجيا"، أو الدعوة ل "دولة دينية"، لا في الماضي ولا في الحاضر. الجماعات الإسلامية هي من فعلت ذلك.

أود أن تطلع على الوثيقة الصادرة عن الأزهر في يونيو 2011، سترى أنها لا تدعو إلى أي شكل من أشكال "الدولة الدينية"، وإنما تحدثت بصراحة عن: "دعم تأسيس الدولة الوطنية الدستورية الديمقراطية الحديثة، التي تعتمد على دستور ترتضيه الأمة، يفصل بين سلطات الدولة ومؤسساتها القانونية الحاكمة. ويحدد إطار الحكم، ويضمن الحقوق والواجبات لكل أفرادها على قدم المساواة، حيث تكون سلطة التشريع فيها لنواب الشعب...".

وهكذا أعلنت المرجعية الدينية للشيعة في النجف أنها تدعو لدولة غير دينية تستند المشروعية فيها إلى الشعب، كما ورد ذلك بوضوح في نص مدون لآية الله السستاني المرجع الأعلى للشيعة في المؤسسة الدينية النجفية، جاء فيه إن: "شكل العراق الجديد يحدده الشعب العراقي، بجميع قومياته ومذاهبه، وآلية ذلك هي الانتخابات الحرة المباشرة...وأما تشكيل حكومة دينية على أساس فكرة ولاية الفقيه المطلقة فليس وارداً مطلقا".

لم أجد جماعة إسلامية انبثقت عن المؤسسة الدينية التقليدية. جماعة الإخوان المسلمين لم يؤسسها أحد من رجال الأزهر، لم تولد الحركة في أروقة الأزهر، وإنما أسسها حسن البنا في الإسماعيلية، وهو لم يتخرج من الأزهر. وحتى اليوم، لم يتقلد منصب "المرشد العام" أزهري. أما المرشدون الذين تعاقبوا بعد حسن البنا حتى اليوم: "حسن الهضيبي، عمر التلمساني، محمد حامد أبو النصر، مصطفى مشهور، محمد مأمون الهضيبي، محمد مهدي عاكف"، فليس فيهم أحد تخرج من الأزهر، أو كان متخصصاً في الشريعة والدراسات الدينية.

وهذا هو حال الجماعات الإسلامية الأخرى؛ فحزب التحرير أسسه تقي الدين النبهاني في القدس، والنبهاني لم يتعلم في المؤسسة الدينية التقليدية. الجماعة الإسلامية في باكستان أسسها أبو الأعلى المودودي، وهو أيضاً لم يتخرج من المؤسسة الدينية التقليدية. جماعة النهضة التونسية أسسها راشد الغنوشي، وهو أيضاً لم يتخرج من الزيتونة، ولم يتخصص في الدراسات الدينية. وهكذا لم يتخرج من المؤسسة الدينية الرجال المؤسسون للجماعات الإسلامية الأخرى شيعية وسنية، وحتى لو عثرنا في مرحلة التأسيس على بعض الفقهاء ورجال الدين المعروفين، كما في بعض الحركات الإسلامية الشيعية، فسرعان ما يغادرونها بعد مدة قصيرة، فيتولى قيادتها وتوجيهها مهندسون وأطباء ومتخصصون في العلوم الطبيعية غالباً، لا علاقة لتكوينهم بالدراسات الدينية ودراسة الشريعة.

وحتى اليوم، يقود الحركة الأخطر والأشد فتكاً وتدميرا "القاعدة" الطبيب أيمن الظواهري. أما المرشد الحالي للإخوان المسلمين، فهو الطبيب البيطري محمد بديع. ولو راجعنا تكوين زعامات الجماعات الإسلامية لن نعثر على فقيه مكرس أو رجل دين مشهور اليوم في قيادتها. معظم القيادات تخرجوا من تخصصات الطب والهندسة والعلوم الطبيعية، والعلوم والمعارف التي لا صلة لها بدراسة وفهم الدين والشريعة والتراث...ومن الطريف أن أتباع هذه الجماعات كأنهم يتنبهون إلى هشاشة الثقافة الدينية والفقهية للمؤسسين والمرشدين، فيعملون على تغطية ذلك بإضفاء لقب "شيخ" على هؤلاء عند ذكرهم وتداول أسمائهم، فيصفونهم هكذا: "الشيخ البنا، الشيخ المودودي، الشيخ الغنوشي...إلخ". لقب الشيخ بمثابة قناع يستغفل الناشئة، ويغطي على هشاشة الثقافة الدينية والفقهية لأولئك المؤسسين والمرشدين.

وأدق تفسير عثرت عليه لهذه الظاهرة، هو ما قاله الفيلسوف الشهير مارتن هايدغر: "العلم لا يُفكّر"؛ بمعنى أن العلوم الطبيعية ليست علوماً للتساؤل والتشكيك والتأمل والتفكير والتحليل والتأويل والفهم، لأن القوانين الطبيعية تُكتشف وتطبق، وهي جزمية قطعية لدى دارسيها، فلا تتدرب أذهانهم على الظن والتخمين والتشكيك والتساؤل، خلافاً للفلسفة والعلوم الإنسانية.

أ. صابر: من أهم كتبكم ما كان عنوانه "إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين" ماذا عن هذا الكتاب؟ وماذا تعنون بالنزعة الإنسانية؟ هل المقصود بالإنسانية التصور الغربي؟

د. عبد الجبار: يتناول هذا الكتاب الحدود بين المقدس والدنيوي، وينقد عمليات إفراغ الدين من مضمونه وتحريف هدفه، عبر اختزال الدين بالأيديولوجيا. ويشدد على أن وظيفة الدين هي إنتاج المعنى، كما أن نمط إنتاج الآلات ووسائل الإنتاج المادية مادي، فإن نمط إنتاج الدين يرتبط بالمعنى؛ أي أنه يخلع معنى على مالا يمكن أن تمنحه الوسائل والأدوات الأخرى التي يمتلكها الإنسان، ويتنوع هذا المعنى حسب تنوع الظروف والأحوال، واستعداد الأشخاص الروحي، ومستوى اطلاعهم على الفكر الديني، ووعيهم الحياتي وثقافاتهم. بعبارة أخرى: أن المعنى الذي يخلعه الدين على الحياة، حياتنا نحن البشر، يتوقف في تفسيره وأبعاده وشموله ومجالاته على رؤيتنا للوجود البشري ومعناه وحدوده وإمكاناته؛ فقد يُعظَّم ويُبجَّل هذا الوجود ويحتفى به، حتى يُجعل منه غنياً في "كل شيء" عن "كل شيء" ما عداه، فينتهي إلى موقف إلحادي فيما يتعلق بالدين. في المقابل، قد يحط من قدره، فيعتبر تافهاً وضحلاً، فتبدو له حتى عبادة الأوثان شيئاً مهماً وخيِّراً، بل وضرورياً. وقد تتشكل نظرة متوازنة ـ بحسب المؤمنين بالديانات ـ بشأن هذا الوجود فيعود للدين وظيفة ومعنى يشغله في تفسيره أو توجيهه.

وما أعنيه بـ"الإنسانية في الدين" في عنوان هذا الكتاب: الخلاص والتحرر من "نسيان الإنسان" في أدبيات الجماعات الإسلامية، والاعتراف ببشريته ومكانته في الأرض، وتصحيح نمط علاقته بربه، وتحويلها من صراع مسكون بالخوف والرعب والقلق، إلى علاقة تتكلم لغة المحبة، وتبتهج بالوصال مع معشوق جميل.

كما أعني بـ"الإنسانية في الدين": عدم التنكيل بالجسد، والتضحية بمتطلباته الضرورية وحاجاته الغريزية، لحساب الأيديولوجيا، والفهم المبسط للتربية الروحية، الذي يفضي إلى تجاهل طبيعة جسد الإنسان وقمعه وتعذيبه، بمحاربة الغرائز والعمل على اجتثاثها.

وأيضاً أعني بـ"الإنسانية في الدين": الدعوة للسلام واحترام كرامة الكائن البشري، وإشاعة السلام بين المجتمعات البشرية، عبر دراسة الأديان ومقارنتها، والغوص في أعماقها لاكتشاف جوهرها المشترك، ومنابع السلام الكامنة في نصوصها وتراثاتها الدينية. والحوار بين الخبراء والمختصين فيها، خارج إطار المجاملات وعبارات التبجيل والعلاقات العامة.

وهكذا تعني "الإنسانية في الدين": استلهام الميراث المعنوي العميق، واستدعاء التجارب الروحية التطهيرية التنزيهية السامية في التاريخ، وبناء إلهيات عقلانية مستنيرة، تحررنا من التفسيرات التعسفية القمعية للنصوص. وتحديث الإلهيات يتطلب الخروج من السياقات الكلاسيكية للتفكير الديني، وعدم التوقف عن طرح تساؤلات بديلة، والتوكؤ على منهجيات ومفاهيم، مستوحاة من المكاسب الجديدة لفلسفة الدين وعلوم التأويل وفتوحات المعارف البشرية، تفضي إلى التحرر من الصورة النمطية للإله، التي تشكلت في سياق الصراعات الدامية، والفتن والحروب العديدة بين الفرق والمذاهب، والسعي لترسيخ صورة رحمانية للإله، تستلهم ما يتحلى به من صفاته الجمالية، وأسمائه الحسنى، ورحمته التي وسعت كل شيء.

أعني بـ"الإنسانية في الدين": إنجاز مصالحة بين المتدين ومحيطه والعصر الذي يعيش فيه، والإصغاء لإيقاع الحياة متسارعة التغيير، ووتيرة العلوم والتكنولوجيا التي لا تكف عن مفاجأتنا كل يوم بجديد، تتبدل معه صورة العالم، وتختلف تبعاً لها أساليب تعاطينا مع الواقع، وتتيح لنا وسائل تكنولوجيا المعلومات والنانو والهندسة الجينية مغامرات وعي، توقظ عقولنا وتخرجها من الحالة السكونية، وتقدم لنا سلسلة معطيات ومعارف وأدوات، تصوغ لنا تصورات وإدراكات وأفكارا، تتبدل معها رؤيتنا للكون والحياة.

وشددت على أن هذا الكتاب لا يعد بأجوبة، وإنما يهتم بطرح الأسئلة، حتى عبر عنه أحد الباحثين ممن نشر مراجعة نقدية له بأنه "كتاب في التساؤل". إن هذا الكتاب يحرص على تنمية روح التفكير النقدي، الذي يفضي بدوره، وبنحو متواصل، للتساؤل المستمر، وتدريب التفكير على عدم الكف عن التحري وفحص المسلمات. ولا يتجاوز ذلك إلا بمقترحات وافتراضات وآراء، يعرضها للنقاش والحوار والتفكير. إنه محاولة للتفكير خارج الأسيجة التقليدية، ودعوة لمغادرة القطعيات واليقينيات والجزميات، وتكرار المكررات وشروح الشروح التي عطلت التفكير الديني.

أ. صابر: كان لكم الفضل في إصدار مجلة "قضايا إسلامية معاصرة" منذ سنة 1997م حتى الوقت الحاضر، وهي مجلة فريدة من نوعها من حيث القضايا والملفات التي عالجتها؛ فماذا عن هذه التجربة منذ نشأتها وحتى الوقت الحاضر؟ وما هي الرسالة التي يهدف إليها هذا المشروع؟ بصيغة أخرى، ما هو تقييمكم للدور الذي لعبته مجلة "قضايا إسلامية معاصرة" منذ إصدارها في تعميق سؤال تنوير التجديد الفكري؟

د. عبد الجبار: صدرت مجلة قضايا إسلامية معاصرة في مطلع سنة 1997 خارج العراق، تعبيراً عن أحلام وتطلعات بتجديد واجتهاد وإعادة بناء وتحديث للتفكير الديني، بما يواكب متطلبات العصر ووتيرة التغيير المتسارعة في عالمنا، بعد أن لبثت تلك الأحلام عقداً من السنين، يتداولها في حلقات نقاشية نخبة من الدارسين العراقيين في الحوزة العلمية في قم، وسبقتها سنة 1994 مجلة نصف سنوية باسم "قضايا إسلامية"، أصدرتها بتمويل الصديق المرحوم الشيخ مهدي العطار، ثم توقفت بعد ثلاث سنين، فكان توقفها إيذاناً بانطلاق "قضايا إسلامية معاصرة"، بموازاة مجموعة سلاسل كتب، طبع منها مئتا كتاب تقريباً. وتأسيس "مركز دراسات فلسفة الدين" مطلع الألفية الجديدة في بغداد.

أدركت هذه المطبوعة أن مهمتها تتلخص في الانتقال من القول إلى الفعل، والكف عن الاستغراق في الكلام، وترديد الشعارات، من دون أية مبادرة جادة لتحريك ما هو ساكن، فتمحورت جهودها حول الإشكاليات الراهنة للتفكير الديني، والآفاق المعاصرة والمستقبلية للاجتهاد الشامل في مختلف حقول المعرفة الدينية، بنشر كتابات الباحثين والمفكرين المتخصصين في ذلك، سواء كانت باللغة العربية، أو عبر ترجمتها من لغات أخرى.

وقد رفضت استثناء عالم الإسلام من توظيف مناهج العلوم الإنسانية الحديثة في دراسة وتحليل الظواهر الدينية والاجتماعية؛ فاقتحمت حقلاً يحذر بعض المهتمين بالدراسات الإسلامية من التعاطي معه، فيما ينظر إليه آخرون بارتياب وخشية، وحرصت على المراجعات النقدية والحوارات والنقاشات لمختلف المقولات والمفاهيم والرؤى المتداولة في المعرفة الدينية، ولم تتحيز لباحث أو مفكر وتدعو لمقولاته، وعادة ما أردفت نشر أية رؤية خلافية بما ينقدها ويدلل على رفضها، ذلك أنها تنشد الاستيعاب النقدي للتراث والمعارف الحديثة، وتحسب أن المصالحة مع التاريخ والجغرافيا يكفلها وعي الماضي والحاضر والمحيط الذي نعيش في فضائه.

خطاب هذه المجلة تخصصي منذ عددها الأول، مضافاً إلى أن الدعاية لها والإعلان عنها ضئيل، مما منعها من التواصل مع طيف واسع من القراء، وكأنها أضحت محدودة التداول؛ مما ضيق مجال توزيعها وحضورها، والتعرف عليها، والكتابة عنها، حتى الإحالات المرجعية في البحوث والمؤلفات والأطروحات الجامعية إليها، لا تتناسب مع ما تضمه صفحاتها من دراسات ومساهمات وآراء متنوعة.

يتساءل جماعة من المهتمين بقضايا إسلامية معاصرة عن كيفية تحريرها ومكتبها وعدد المحررين العاملين فيها، وميزانيتها السنوية وحجم نفقاتها ومنابع دعمها وتمويلها، وما تمتلكه من إمكانات ووسائل تتيح لها التواصل مع أبرز المتخصصين في المعرفة الدينية واستكتابهم وإثراء ملفاتها بدراساتهم، ومبلغ المكافآت المدفوعة لما ينشر فيها، فيما يبدي آخرون دهشتهم من سقف الحرية الواسع في موضوعاتها، واتساعها لاستيعاب مختلف المواقف التحديثية والمحافظة، مما تضيق به الدوريات الإسلامية الأخرى، وقدرتها على تخطي "الطائفية الثقافية" والانفتاح على مختلف الأقلام، في عصر يطغى فيه الاستقطاب الطائفي ويتعاظم الصراع المذهبي، بنحو يتورط ليبراليون وإسلاميون في الدفاع عن هذه "الطائفية"، ولا يغيضهم تجاهلها للحريات والحقوق.

مجلة "قضايا إسلامية معاصرة" فضلاً عن افتقارها إلى مكتب ومبنى، فإنها لا تتوافر لديها ميزانية، أو ممتلكات وأوقاف خاصة بها، ومساهمات الكتاب فيها تطوعية، ولا تتم عملية التحرير فيها في مكان واحد؛ فتحريرها وطباعتها وتوزيعها تجري في أكثر من بلد، وفريق تحريرها يتألف من "عائلة"، تتولى فيها الأم سكرتارية التحرير منذ العدد الأول، فيما يتولى الابن الإخراج والتنظيم، ويشرف الأب على التواصل مع الكتّاب، واقتراح محاور وموضوعات كل عدد، وإدارة عملية التحرير، وإجراء الندوات والحوارات، غير أن ذلك لم يمنعها من الاستمرار لمدة سبعة عشر عاما، بالنهج الذي اختطته، وبكفاءة فكرية عرفها بها المتابعون لها.

يتفق جماعة من المتابعين لهذه الدورية، من باحثين ودارسين ومهتمين بدراسة الاجتماع الإسلامي، وما يسوده من ظواهر دينية وثقافية، إنها تغلبت على التفكير داخل إطار المفاهيم والآراء الموروثة، واشتقت لنفسها نهجاً لا يتطابق مع ما هو متعارف في الأدبيات الإسلامية المتداولة، اخترقت مجالات لا مفكر فيها، وأحياناً ممنوع التفكير فيها. تغلب على نمط الكتابة فيها استفهامات تتناسل منها استفهامات فرعية، خرجت من الدوائر القارة الساكنة في التفكير الديني، وحاولت أن تتخلص من الجزمية، وتصوغ رؤية تقدمها للنقد والنقاش، من دون أن تبشر بها، أو تدعو إلى قبولها والاعتقاد بها وتبنيها.

التقليد الذي أرسته "قضايا إسلامية معاصرة" عملت على محاكاته بعض الدوريات الإسلامية، فأضحت الـ"معاصرة" عنواناً توشحت به أكثر من مجلة فصلية صدرت فيما بعد، ولاحقت تلك المجلات الإشكاليات ذاتها، وانفتحت على نصوص ظلت منفية تحذر بعض المطبوعات من التعاطي معها...


* مجلة يتفكرون العدد الثاني خريف 2013، اصدارات مؤسسة مؤمنون بلا حدود