حوار مع د. حمّادي بن جاء بالله : الحرّيّة مآل الإنسانيّة


فئة :  حوارات

حوار مع د. حمّادي بن جاء بالله : الحرّيّة مآل الإنسانيّة

حوار مع د. حمّادي بن جاء بالله[1]:

الحرّيّة مآل الإنسانيّة

حمّادي بن جاء بالله:

- أستاذ الفلسفة بالجامعة التّونسيّة، متخصّص في الإبستمولوجيا.

- حاصل على الدّكتوراه في تاريخ الفلسفة الحديثة، ودكتوراه الدّولة في إبستمولوجيا العلوم الفيزيائيّة الحديثة.

- له مساهمات علميّة منشورة في مجلّات ودوريّات عربيّة وأوربيّة، منها الموسوعة العالميّة للتّربية والموسوعة الفلسفيّة العربيّة.

- من مؤلّفاته: «تحوّلات العلم الفيزيائيّ ومولد العصر الحديث» (1986)، و«العلم في الفلسفة»، و«الزّمن المطلق في الميكانيكا النيوتونيّة» و«تكوّن مفهوم القوّة في الفيزياء الحديثة» (2015). و«مساءلة الزّمن المطلق في المقاربة الإبستمولوجيّة التّاريخيّة» (2002).

الحرّيّة أصلاً وغايةً

د. نادر الحمّامي: الأستاذ حمّادي بن جاء بالله، لعلّك تؤكّد دائماً في أبحاثك ومحاضراتك، أنّ الهدف من الفكر البشريّ، ومن مركزيّة الإنسان وعقله عبر فكرة الحداثة، هو الوصول إلى الحرّيّة، لكن الحرّيّة ليس لها وجه واحد؛ إنّما لها تعريفات كثيرة، ومداخل متعدّدة يمكن التّطرّق إليها، لا عبر العلم أو الفكر فحسب، ولكن عبر الجوانب الاجتماعيّة والدّينيّة؛ فهل يمكن اعتبار أنّ الحرّيّة متطوّرة كغيرها من المفاهيم الأخرى؟

د. حمّادي بن جاء بالله: طبعاً، فالحرّيّة - مفهوميّاً- لها أبعاد مختلفة، وأحياناً، متعارضة أو متناقضة، وهي كثيراً ما تغيب عن الذّهن، وقد لا نتفطّن إلى وجودها في مواطن فنظنّها غائبة، وقد نظنّها حاضرة في مواطن أخرى، وقد تكون في الحقيقة غير موجودة فيها، فهذا الأمر معقّد، لكنّ الأوضاع المعقّدة يجب أن تُواجَه بالأفكار البسيطة، وهذه هي المنهجيّة الدّيكارتيّة؛ فالأفكار البسيطة هي الّتي تسمح لنا بتحليل الأوضاع المعقّدة والسّير فيها، وربّما فتح آفاق لنا فيها، ويمكن -فعلاً- أن نعدّ الحرّيّة هي الأصل، وأنّ العقل والعقلانيّة والعلم هي الوسائط؛ فالحرّيّة هي الغاية الأسمى؛ ويعني ذلك أن ليس بعد الحرّيّة بعدُ، وليس تحت الحرّيّة تحت، وكي تعي الحرّيّة ذاتها وتشقّ طريقها إلى الوجود البشريّ؛ لا بدّ لها من وعي ولا بدّ لها من عقل، ولا أظنّ أنّ هذا خاصّ بالعصر الحديث، رغم أنّه تبلور في العصر الحديث، فعندما نتدبّر في القرآن؛ نجد إعلاناً في سورة البقرة يقول: {وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البَقَرَة: 30]؛ فالقرار الإلهيّ اتُّخذ بجعل خليفة في الأرض، وسنجد في سورة طه أنّ آدم يخرج من الجنّة، وفي نهاية الأمر؛ ما الّذي جعل آدم يتحوّل من كائن فوق ملائكيّ؟ على معنى أنّ الملائكة أُمرت بأن تسجد له، لا سجود العبادة؛ بل سجود الاحترام والتّرحيب، فكأنّما في ذلك معنى بعلويّة آدم - أنطولوجيّاً وأخلاقيّاً - على الملائكة، ونجد أنّ المفسّرين يختلفون في هذا؛ يعني هل آدم أفضل من الملائكة أجمعين أم هو أفضل من بعض الملائكة أم إنّه ليس أفضل من الملائكة؟ ولا أفرّق بين دراسة نصّ دينيّ عن سورة من القرآن، أو دراسة نصّ لنيوتن، أو أسطورة من أساطير هوميروس، وأسأل نفسي -في كلّ الحالات- عن المعنى الّذي ينضوي أو يختبئ أحياناً، أو يحاول أن ينكشف في تلك الآية أو ذلك النّصّ أو تلك الأسطورة، أو في ذاك الرّسم البيانيّ أو الفنّيّ، إلى غير ذلك، فلا أميّز بين النّصوص، بالتّالي، لا تُطرح بالنسبة إليّ مشكلة الإيمان أو عدم الإيمان. وعندما ننظر في قصّة آدم، نجد أنّه قد خُيّر فاختار، وقيل له لا تقرب تلك الشّجرة، ونجد: أنّ المفسّرين اختلفوا في اعتبار ذلك أمراً إلهيّاً أو نصيحة، لكنّ المهمّ أنّ آدم لم يمتثل، واختار ما أراد، وعندما مارس اختياره، أُخرج من الجنّة، فما بين القول: {إِنِّي جاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} وبين ممارسة الاختيار، نجد أنّ آدم تحوّل من كائن فوق ملائكيّ إلى كائن بشريّ؛ أي إلى إنسان يموت ويحيا ويعرى ويشقى ويدرك أيضاً، ولكنّه أدراك قبل ممارسة الاختيار، {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} [البَقَرَة: 31]، ونحن نفترض أنّ ذلك يعني أنّ الله علّمه العلوم وكلّ شيء، ولايبنتس (leibniz) (1646-1716م) يقول: علّمه العدّ من العدد واحد إلى تسعة، ومادام لك ذلك؛ فيمكنك أن تركّب باقي الأعداد، وكذلك، إذا تعلّمت حروف الهجاء يمكن أن تركّب منها باقي الكلام، وليس هذا الأمر مهمّاً، لكنّ المهمّ أنّ الإنسان اكتسب العقل، ولم يكتسب الحرّيّة بعد؛ فالعقل سبق الحرّيّة ليخدمها؛ أي ليفهم الأمر الإلهيّ أو النّصيحة الإلهيّة: «لا تقرب هذه الشجرة»، وليتّخذ عن وعي قرار الاقتراب من تلك الشّجرة أو الأكل منها، وأنا أقول: إنّ الحرّيّة هي الغاية البعيدة أو الغاية الأقصى، والعقل هو الواسطة لبلوغ تلك الغاية، ولا يمكن فصل العقل عن ذلك.

د. نادر الحمّامي: هل العقل هو الأداة لبلوغ الحرّيّة والشّرط الضّروريّ لتحقيقها؟

د. حمّادي بن جاء بالله: نعم، فهو أداة لخدمة الحرّيّة، وهو شرط ضروريّ لها، لكن تبقى الغاية القصوى: هي الحرّيّة وليست العقل، وخلافاً للتّعريف اليونانيّ الّذي يقول: (إنّ الإنسان كائن عاقل)، يمكن أن نسمّي التّعريف (الإبراهيميّ)؛ لأنّ هذا الأمر ليس خاصّاً بالإسلام فقط، وهو تعريف موجود في العهد القديم، وفي الأناجيل الأربعة، وموجود في القرآن أيضاً، فكيف يمكن أن نفسّر هذه النّصوص؟ يقول ديكارت: «خلق الله الإنسان على صورته»، وهذا من الحديث في صحيح البخاري، كما نجده في العهد القديم وفي العهد الجديد، كما نجده -أيضاً- في الأناجيل القديمة، وكي نفهم الأمر؛ ثمّة مثل يقول: (لو قدّر للأسماك في البحر أن تصبح كائنات واعية فإنّها ستختار إلهاً لها)، وإلهها سيكون -حتماً- على صورة السّمك، فليس في الأمر معجزة؛ إنّما المعجزة هي الحرّيّة، أمّا عن الفرق بين الملائكة وآدم؛ فالملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، في حين أن الشيطان ليس قادراً على الخير، والحال أنّ الحرّيّة تعني: أن يكون المخلوق قادراً على الإثم وعلى نقيض الإثم، والشّيطان ليس قادراً إلّا على السّلبيّ، وهكذا، فلنا ثلاثة مخلوقات هي: الإنسان والملائكة والشّيطان؛ الإنسان قادر على الخير والشّرّ، لذلك هو وحده الكائن الحرّ، الملائكة لا تخرج عمّا سطّر الله لها ولا تعصي أمر الله، والشّيطان -أيضاً- لا خيار له. فما يميّز الإنسان هو الحرّيّة ولا شيء آخر، وعندما نعرّف الإنسان فنحن لا نعرّفه بأنّه كائن عاقل؛ إنّما نعرّفه بأنّه كائن حرّ، وعندما يقول ديكارت في التّأمّل الثّالث: «إنّ الله خلق الإنسان على صورته»، ونفهم من هذا أنّ عظمة الإنسان -في النّهاية- هي من عظمة الله، وعندما تفكّر في عظمة الله لا تفكّر في حقارة الإنسان، لأنّ الإنسان ليس مسألة هيّنة، وتلك الحرّيّة الّتي تميّز الإنسان هي -أيضاً- قدر الله فيه، لذلك؛ كان المعتزلة وغيرهم يخبطون خبط عشواء، فالمعتزلة يقولون: (إنّ الإنسان يختار أفعاله)، ويجيب الآخرون: (إنّ الإنسان يفعل ما قُدِّر له).

د. نادر الحمّامي: لكنّ المعتزلة قالوا ذلك في إطار مبدأ التّنزيه! ولم يكن الإنسان هو الهدف في تلك الذّهنيّة، بل الله هو الهدف.

د. حمّادي بن جاء بالله: لكنّ التّنزيه يرتبط بالإنسان أيضاً، وهو حرّ ويختار أفعاله، لذلك؛ فهو يستحقّ البقاء. لذلك نجد الأمر نفسه، حتّى في الأديان الأخرى. والحقيقة أنّنا نجد هذا الأمر نفسه في «البيلاجيانيزم (le pélagianisme) نسبة إلى بيلاج (pélage) (360-430م)؛ وهو راهب إنجليزيّ انتقل إلى روما في القرن الرّابع ليطوّر الفكر المسيحيّ، فلم يجد آذاناً صاغية، فظنّ أنّه لا يحسن التّدريس، وقرّر أن يحسّن علمه، فأتى إلى قرطاج في زمن القدّيس أوغسطين (354-430م)، وعاش فيها وتعلّم فيها، وكان لا يؤمن -أصلاً- بالتّأثيم (la culpabilité) ولا يرى أنّه ارتكب إثماً أمام الله ولا أمام البشر، وهذا يؤدّي إلى عدّ قضية الخطيئة الأولى مجرّد خرافة، والحال: أنّ قضيّة الخطيئة الأولى لم تكن موجودة قبل أن يختلقها القدّيس أوغسطين، لذلك استعدى عليه هذا الأخير السّلطة السّياسيّة، فطرد من قرطاج؛ لأنّه يؤمن بحرّيّة البشر، وقد كان يعدّ أنّ آدم وإن كان أخطأ أمام الله، فليس للإنسان - عموماً- دخل في ذلك، ونحن لدينا في الإسلام مبدأ «لا تزر وازرة وزر أخرى»، والحقيقة: أنّ المعتزلة لم يزيدوا شيئاً على ذلك، لهذا؛ أدعو المشتغلين بعلم الكلام والدّارسين له أن يراجعوا أفكار القدامى من المسيحيّين واليهود؛ لأنّ الكثير من المقالات هي مجرّد تكرار لأفكار قديمة، وأحياناً، يكون تكراراً ضعيفاً، فالحرّيّة هي الأصل، وليس فوق الحرّيّة فوق ولا تحتها تحت، كما أسلفتُ، فالحرّيّة: هي الغاية القصوى، ويكفي أن نفهم ذلك -أوّلاً- لأنّنا سنجد الكثير من المتشابه والمتناقض في القرآن، فعندما نقرأ مثلاً: {وَما تَشاؤُونَ إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ} [التّكوير: 29]، فهذا صحيح طبعاً، لكن ما هي مشيئة الله فينا؟ ههنا وجب أن نفهم أنّ مشيئة الله فينا أنّه خلقنا أحراراً؛ هذا هو الأصل الّذي وجب أن ننطلق منه، وهي المقولة الّتي أعادها سارتر في «الوجود والعدم» حين عدّ الإنسان مُكرَه على أن يكون حرّاً، فآدم لم يكن حرّاً باختياره. يمكننا القول إذن: إنّ الحرّيّة إرادة إلهيّة، وأنّها مشيئة الله في البشر، وأذكر أنّني قرأت لدى بعض الفقهاء قولهم: «الحرّيّة عافاك الله»، كأنّما هي الإثم الّذي لا إثم بعده.

د. نادر الحمّامي: الكثير من القيم -على مثال الحرّيّة- قد تكون في موروثنا مؤثّمة أو هي بمثابة الذّنب الكبير، ومنها: العقلُ، فلو بقينا في ذات هذه القصّة الإطار؛ أي قصّة الخليقة الّتي بنيت عليها الإنسانيّة، ولو فتحنا كتاب «الملل والنّحل» للشّهرستانيّ، نجده يعدّ ذنب إبليس الوحيد أنّه (قاسَ) -أي أعمل عقله- وهذا ما يقوله بصورة صريحة وواضحة.

د. حمّادي بن جاء بالله: نحن -دائماً- نستأنس بهؤلاء القدامى، لكنّنا لسنا مدينين لهم، فلا يمكننا -مثلاً- حين نبحث في التّفاسير أن نغفل عن كلّ أولئك الّذين اجتهدوا، بغضّ النّظر عمّا توصّلوا إليه بما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، لكن نحن لدينا آفاق أخرى تجعلنا نتجاوز -دائماً- حدود ما توصّلوا إليه، لذلك أقول دائماً: إنّ ما بُنيت عليه الملّة الإبراهيميّة؛ هو الحرّيّة بعدِّها غاية، أمّا العلم والعقل فهما الوسيلة، ونرى كيف أصبح ذلك سياسة دوليّة في العصر الحديث، بالتّالي؛ فإنّ الحداثة هي العصر الّذي تبلورت فيه حقيقة الملّة الإبراهيميّة، والنّتيجة: هي أنّ ليس ثمّة أصلاً عصرٌ سابق لعصرنا كانت فيه الملّة الإبراهيميّة -اليهوديّة أو النّصرانيّة أو الإسلاميّة- في وضع أفضل ممّا هي عليه اليوم، فأعطنِي أيّ عصر - حتّى عصر الخلفاء الرّاشدين وبني العباس وغيرهم- توفّر فيه ما يتوفّر لنا من مدارس أو مستشفيات أو...إلخ؛ فجميع المقاييس المعمول بها في العالم -اليوم- من خلال برنامج الأمم المتّحدة للتّنمية (pnud) (programme des nations unies pour le développement)، لا يمكن أن نجد لها مثيلاً في أيّ عصر، وذلك -طبعاً- رغم الصّعوبات والمشاكل الكثيرة الّتي نواجهها اليوم، والفرق بيننا وبين العصور الأخرى؛ أنّنا لسنا راضين بمآسينا، ونحن نحاول -دائماً- أن نتجاوزها؛ بل وأصبحنا نعدّها من صنع أيدينا. وهذا يعني أنّنا نعي بالمسؤوليّة في ما فعلنا، إضافةً إلى وعينا بمبدأَي العقل والحرّيّة. لو بحثنا في مبدأ الحرّيّة تحليليّاً لوجدنا أنّها تتضمّن مبدأ المسؤوليّة، فلا يمكن أن نكون أحراراً نتصرّف بملء إرادتنا دون أن نكون مسؤولين.

د. نادر الحمّامي: حتّى لا تختلط المفاهيم؛ لأنّنا نسمع في وسائل الإعلام وفي منابر كثيرة، أنّ هناك فرقا بين الحرّيّة والمسؤوليّة، فيقال: «حرّيّة مسؤولة»، ألا تكون الحرّيّة مجزّأة بهذا الفهم؟

د. حمّادي بن جاء بالله: هذا التّعبير موجود في ثقافتنا نحن العرب فقط، فلم أجد ذلك -مثلاً- في الثّقافة الفرنسيّة أو الإنجليزيّة، ولا حتّى لدى اليونان، لذلك؛ أريد -دائماً- أن أقول: إنّ حداثتنا جيّدة رغم ويلاتها، لا سيّما علينا نحن المصنّفين ضمن ما يسمّى بالعالم الثّالث، وخصوصاً نحن معشر العرب والمسلمين، وعلينا نحن معشر التّونسيّين؛ لأنّنا أذنبنا، وذنبنا أنّنا صنعنا ثورة، وأحَبّ من أحبَّ وكره من كره، هي ثورة لا ريب فيها، وهي أنبل ما أنتجت الحضارة العربيّة الإسلاميّة في طول تاريخها؛ أنّ شبابها المثقّف والحاصل على شهادات عُليا يخرج ليثور وينادي بشعار «شغل، حرية، كرامة وطنيّة»، وأنا أؤكّد لك أنّ حضارتنا -كلّها- لم يسبق لها أن شهدت لحظة مثل تلك اللّحظة، لذلك؛ أعدّ أنّنا حين نسبّ الحداثة، فذلك لنبيّن أنّنا لم نفهمها، أو لنبيّن أننا نريد أن نتقصّى عن مسؤوليّتنا فيها، وهنا أذكر مثلاً: حين ذهبتُ إلى العراق، وأنا أعدّها أسطورة الدّنيا، لكنّ المسؤوليّة في ما آلت إليه العراق -اليوم- بغضّ النّظر عن كلّ الأسباب الخارجيّة جميعاً، إنّما تُلقى -أوّلاً- على العراقيّين أنفسهم، وكذلك ما يحدث في سوريا من دمار هو مسؤوليّة السّوريّين أنفسهم، وقس على ذلك اليمن وليبيا والسّودان أيضاً، وأذكر أنّني كتبت سنة (1984) مقالاً في جريدة الرّأي الّتي كانت تصدر آنذاك، وقلت هذا تماماً ما ينتظرنا، وتساءلت في ذلك الوقت حول ما كان يحدث في السّودان من انقلاب إسلاميّ، وقلت: إنّ السّودان تتّبع هذه الحضارة والثّقافة الإسلاميّة، منذ أربعة عشر قرناً، فلماذا لا يزال نصفها وثنيّاً؟ وقد وقع استغلالهم مخزوناً للعبيد، فإلى متى يمكن أن يتواصل ذلك؟ والمشكل أنّ المسؤوليّة في ذلك تُلقى -عادة- على الأطراف الأجنبيّة والاستعماريّة.

صراع أصوليّات أم صراع حضارات؟

د. نادر الحمّامي: تحدّثت في أحد حواراتك السّابقة عن الرّوابط بين ما سمّيته «صراع الأصوليّات» من جهة، و«صراع الحضارات» من جهة أخرى، كيف يتأسس هذا الصراع وما هي دواعي استمراره؟

د. حمّادي بن جاء بالله: أعتقد أنّ هذا الإشكال يتنزّل في إطار فهم العلاقات الدّوليّة اليوم، على الأقل في جانب منها، هو: الجانب الثّقافيّ الّذي يعكس -إلى حدّ بعيد- بقيّة الجوانب، وقد قرأت كتاباً أُلّف في أوائل القرن العشرين، كان عنوانه «صدام المواطنيّات» (le choc des citoyennetés): يبيّن كيف بدأ الاحتلال والامتداد الاستعماريّ، وكيف قُسِّم العالم بين القوى الاستعماريّة في أواخر القرن التّاسع عشر وبداية القرن العشرين، وكانت تلك القوى تفكّر في مصالحها الخاصّة، في حين لم تفكّر الدّول المستعمرة في مصالحها، والحال: أنّ الاستقلال ليس أن تكون في غنى عن غيرك؛ إنّما هو أن تكون حاجتك إلى غيرك على قدر حاجته إليك، ونحن لم نكن حتّى قادرين على أن نعبّر عن مصالحنا، وتلى ذلك فيما بعد صراع الحضارات، وقد استدعتني اليونسكو في مناسبتين، وألقيت محاضرتين حول هذه المسألة، وفي نهاية الأمر: أصبحنا أمام صراع «جهلوت»، فأن نقول: (صراع أصوليّات)، يعني؛ غياب التّفكير تماماً، وقد قرأت كتاب هنتنغتون: وهو كتاب في الدّمغجة والأدلجة على قواعد، وفي تاريخ البشريّة كلّها كان أكبر صراع وأكثر عدد من الضحايا بين المسيحيين أنفسهم، وفي القرن العشرين سُجِّل عدد خمسين مليون ضحيّة، وفي القرن السّابع عشر والثّامن عشر كان أكبر عدد من الضّحايا بين البروتستانت والكاثوليك، وما يزال الصّراع بينهما متواصلاً إلى يومنا هذا -بين الكنيسة الكاثوليكيّة والكنيسة الأرثوذكسيّة- فالرّفض المشترك بين المسيحيّين والقتل بينهم، أكثر ممّا هو بين المسيحيّ وغير المسيحيّ، ولدينا نحن المسلمون -أعتقد شخصيّاً- أنّ أعداد الشّيعة الّذين قتلهم السّنّة، والسّنّة الّذين قتلهم الشّيعة، أكثر من أعداد العرب الّذين قتلتهم إسرائيل، وهذا بين المسلمين أنفسهم.

د. نادر الحمّامي: حتّى الحركات الإسلاميّة المتطرّفة تستهدف -اليوم- قتل المسلمين، فهو اقتتال في إطار الدّين نفسه.

د. حمّادي بن جاء بالله: إذن، فليس خصام ثقافات مختلفة بالضّرورة، بقدر ما هو صراع أصوليّات يمكن أن تكون متقاربة في إطار الدّين الواحد، وقد كتبت بالفرنسيّة (les chocs des incultures)؛ أي صراع الجهلة، وهذا أمر قد خبرته في حياتي الخاصّة وليس في النّظريّات؛ فقد عرفت الإسلام السّياسيّ وعاشرته منذ ما يقرب من أربعين عاماً، وأعرف كيف يفكّر منتسبوه، وأعرف مداهم، وأعرف شخصيّاتهم جميعاً؛ ففيهم من درس عليّ وهم كثر، وفيهم من درّس معي، وفيهم من درَس معي، وعلى مسؤوليّتي أقول: إنّ ما يجمع بين هؤلاء جميعاً أنّهم تنقصهم كلمة الحقّ؛ فكلّ شيء جائز لديهم في سبيل أن يشوّهوا سمعتك وأن يطيحوا بك، وأتذكّر في مدينتي كيف دُعي عليّ في المساجد، ومع ذلك، لا أعتقد أنّ في ما درست أو درّست ما يخرج عن الإسلام، لكن على النحو الّذي أفهمه أنا، وهو: أنّ الدّيانة الإبراهيميّة هي ديانة الحرّيّة المطلقة، وقد اختار آدم مصيره بحرّيّة، وفي الأخبار -بغضّ النّظر عن صحّتها طبعاً، فذلك لا يهمّ، إنّما ما يهمّ هو المغزى منها- قيل: إنّ سيدنا موسى جاء يعاتب آدم على اختياره، فقال له: يا موسى كيف لي أن أهرب ممّا قدّره الله لي، لذلك نقول: إنّ آدم كان مكرهاً على أن يكون حراً؛ لأنّ تلك الحرّيّة هي الّتي حوّلته من كائن فوق ملائكيّ اسمه آدم، إلى بشر يموت ويحيا.

الأمر الآخر الّذي ألاحظه: أنّ الدّين ما إن يمسّ السّياسة إلّا وتذهب بركتها، ولا عيب عندي -أصلاً- في أن تكون مسلماً ورجل سياسة، وأعرف بورقيبة، وأؤكّد لك أنّه كان حافظاً للقرآن، وحافظاً لديوان المتنبّي، وامتلك ثقافة إسلاميّة عميقة، لكن ليس مثل الشّيوخ، والإسلاميّون كانوا يؤثّمون البنت الّتي لا تحمل الحجاب، ويعدّونها خارجة عن ملّة الإسلام، ويوم تضع الحجاب يعدّونها دخلت الإسلام، وهذا - في الحقيقة- عيب في حقّ الإسلام؛ لأنّه براء من هذا، والإسلاميّون يبجّلون شيخهم أو كبيرهم، وعندما يسألونه: هل الحجاب فرض؟ يقول: لا ليس فرضاً، فلماذا يعدّونه فرضاً، وهو أمر بسيط لا يحتمل الكثير من الاختلاف، لذلك؛ أعدّ صراع الأصوليّات جاء من إرادة استغلال الدّين في السّياسة، وهذا خطر كبير على الدّين، لكن أعتقد أن الدّين سيتخلّص منه؛ لأنّ الكذب لا يدوم كثيراً، فللباطل جولة فقط، وتعود الأمور - في النّهاية- إلى حقائقها.

د. نادر الحمّامي: نعم، تعود الأمور إلى حقائقها، لكن كيف؟ هذا هو السّؤال، هل يكون ذلك بقرارات سياسيّة؟ وهل هنالك إرادة فعليّة للفصل بين المجالَين السّياسيّ والدّينيّ؟ وهل تقبل مجتمعاتنا بمثل هذا الفصل؟ هذا هو الإشكال الحقيقيّ الّذي يواجهنا، أم إنّنا سنتكلّم بمنطق الحتميّة التّاريخيّة، ونقول: في نهاية المطاف سنصل إلى هذا الأمر؟

د. حمّادي بن جاء بالله: لا يتعلّق الأمر بنوع من الحتميّة التّاريخيّة، لكنّ ذلك يستوجب -دائماً- منطق العقل والحرّيّة، ويجب أن يكون ذلك هو المنطق الأساسيّ، وقد ذكر إيمانويل كانط (emmanuel kant) (1724-1804م) في كتابه «الدّين في حدود مجرّد العقل»، وهو يسأل سؤالاً ويذكّر - في الآن نفسه- بسؤال لايبنتس الّذي يقول: «لماذا وجد شيء ما بدل لا شيء؟»؛ أي لماذا قرّر الإله في وقت ما أن يخلق العالم؟ ولا جواب لذلك، وهو يواجه ذلك السّؤال بجواب: أنّ الله أراد ذلك وكفى، وكانط يطرح سؤالاً: لماذا خلق الله الإنسانَ حرّاً؟ ثمّ يجيب عن ذلك، فيقول: «خلق الله الإنسان للحرّيّة»، ولا ندري هل المقصود بذلك اللّام العاقبة؛ أي لتتجلّى فيه الحرّيّة، أو لام السّببيّة أي لأجل الحرّيّة؛ أي ليكون المجلى الّذي فيه تتجلّى عظمة الله، فالإنسان ليس كائناً حقيراً؛ لأنّه موضع التّجلّي الإلهيّ، لذلك؛ فكلّ إنسان - سواء كان مؤمناً أو غير مؤمن، مسلماً أو غير مسلم- لا يمكن أن يكون حقيراً، ولنا ما يسند هذه الفكرة في أحاديث الرّسول -حتّى إن كانت غير صحيحة فإنّ لها دلالة جيّدة- ويقول الرّسول: «أيّها النّاس أُفشوا السّلام»، لم يقل أيّها المؤمنون مثلاً، وهذا يتعارض مع ما يذهب إليه الفقهاء من عدم جواز السّلام على الكافر، والمضايقة عليه في الطّريق، وذلك غير مقبول طبعاً، ويمثّل خطراً على التّعايش. ولعلّي أذكر حادثة خاصّة لأبيّن ذلك؛ فقد كُلِّفت من طرف اليونسكو لأتابع برنامجاً للإصلاح التّربويّ في بلد عربيّ، وأوّل ما قمت به أنّي تناولت الدّستور الخاصّ بذلك البلد والنّصوص المؤسّسة للدّولة، حتّى أضبط الإطار الّذي أتحدّث فيه، فلاحظت أنّه دستور محترم، وليس بعيداً كثيراً عن دستور سنة (1959) في تونس، وربّما فيه أشياء أفضل، ونظرت -بعد ذلك- في ما يدرّسونه، فوجدت أشياء من قبيل: ما هي عقوبة العبد الآبق؟ فهل هذا معقول! وحين سألتهم: لماذا تدرّسون أشياء حول العبوديّة في حين أن ليس لديكم عبيد؟ قيل لي: إنّها موجودة في أحكام الفقه، فعن أيّ فقه يتحدّثون؟ الفقه: هو حكم الشّارع، والرّسول يقول: تشوّف الشّارع إلى الحرّيّة، والفقه وجب أن يكون بحثاً في أسباب التّحرّر والانعتاق، ونذكر هنا: أنّ البلاد التّونسيّة ألغت الرّقّ منذ سنة (1846م)، وقد أخذ ذلك القرار المشير أحمد باشا باي، وبغضّ النّظر عن الأسباب الكامنة وراءه؛ فإنّه يبقى قراراً عظيماً.

د. نادر الحمّامي: هذه التّجارب، مثل: إلغاء الرّقّ في تونس، الّذي انطلق منذ سنة (1841)، ليُقنَّن لاحقاً سنة (1846)، وقرار مجلّة الأحوال الشّخصيّة، وغير ذلك؛ فهي مسائل سياسيّة، لكنّها كانت تحتاج إلى تشريع دينيّ في ذلك الوقت، ونحن نعلم أنّ إلغاء الرّقّ كان بعد أن أشار المشير أحمد باي على المفتيَين (المالكيّ والحنفيّ) ليصدرا فتوى إلغاء الرّقّ، كذلك احتاج الحبيب بورقيبة في منع تعدّد الزّوجات إلى رأي رجال الدّين؛ فالمسألة تبدأ سياسيّة دائماً، لكنّها تأخذ غطاء دينيّاً لتسويقها اجتماعيّاً، والسؤال هنا: هل يمكن أن ننتظر إصلاحاً اجتماعيّاً أو دينيّاً من داخل المنظومة الدّينيّة أم إن ذلك من غير الممكن؟

د. حمّادي بن جاء بالله: ذلك غير ممكن طبعاً، فوجب أن تأخذ القرار السّياسيّ -أوّلاً- ثمّ تعرف كيف تقدّمه إلى شعبك، لنأخذ -مثلاً- ما فعله نابليون بونابرت: لم يكن هناك تعدّد زوجات في المجتمع الفرنسيّ حينذاك، لكن كان هنالك اليهود الّذين لديهم التّعدّد، وقد احتجّوا ضدّ إجبارهم على الزّواج بامرأة واحدة كما لدى المسيحيّين، فقال لهم: «الأمر سهل؛ فهل أنّكم تريدون أن تكونوا فرنسيّين أو أن تبقوا يهوداً، ولكم الاختيار: لكم أن تبقوا يهوداً وتتصرّفوا مثلما تريدون، لكن لن تكونوا فرنسيّين أبداً، وإن أردتم أن تكونوا فرنسيّين فيجب أن تطبّقوا قوانين الإمبراطوريّة الفرنسيّة»، ونحن - اليوم- نقول الشيء ذاته للتّونسيّين الّذين يعيشون في فرنسا: إن كانوا يريدون العيش في فرنسا؛ فإمّا أن يحترموا قوانينها أو لا يكون لهم ذلك، فنحن في الجهة المقابلة لا يمكن أن نتقبّل أن يفعل الأجانب ما يريدون في بلادنا، بالتّالي، عليهم أن يقبلوا الأعراف الموجودة؛ أي المعروف في المجتمع الّذي يعيشون فيه.

د. نادر الحمّامي: هذا هو الأصل، ونلاحظ هنا التّحوّل الدّلاليّ في مسألة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، في حين أنّ هذا المبدأ -الّذي أصبح مؤسّساتيّاً- لو أرجع إلى دلالاته الأولى، لكان يعني الأمر بما هو متعارف عليه، والنّهي عمّا ينكره المجتمع؛ لأنّه لا يليق به فقط.

د. حمّادي بن جاء بالله: أعتقد أنّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ليس مؤسّسة إسلاميّة، والحقيقة أنّ المسلمين في العهد العبّاسيّ -عندما كانوا في صراع مع الأمويّين- بعثوا لجاناً شبيهة بما كان يسمّى لدينا «لجان الأحياء»، وهي عبارة عن عيون للنّظام في كلّ مكان، وفكرتها مأخوذة عن الرّومان (le sensor)؛ أي القيّم الّذي يراقب تحرّكات النّاس، ويسائلهم عن كلّ شيء، ويتحكّم في تحرّكاتهم وفي لباسهم وفي سلوكهم، وكان ذلك موجّهاً في المجتمع الرّومانيّ ضدّ النّساء خاصّة، فثارت نساء روما على الإمبراطور، مع العلم أنّه كان أحسن النّاس خلقاً، ولم يكن يعيب عليه أحد شيئاً، وكان مستقيماً غاية الاستقامة، لقد كان ذلك في عصر احتلال الرّومان لأثينا، والمفارقة؛ هي أنّ الرّومان كانوا الغالبين عسكريّاً، لكنّ الأثينيّين كانوا الغالبين فكريّاً وحضاريّاً وثقافيّاً، فجاء الرومان يقلّدون المغلوبين، فيحاولون تعلّم اللّاتينيّة، ويتكلّمون اليونانيّة، ويدرسون أفلاطون، وإلى غير ذلك، وهذا ما لم يتفطّن إليه ابن خلدون حين قال: «إنّ المغلوب مولع أبداً بتقليد الغالب»، ونجد -هنا- أنّ الغالب كان مولعاً بتقليد المغلوب، وهذا كان بداية تفتّت الحضارة الرّومانيّة وذهابها إلى الحضارة اليونانيّة، والأمر الآخر؛ أن هذه الظّاهرة كانت موجودة في القانون اليونانيّ، وقد تحدّث عنها أفلاطون وأرسطو وكانا يسمّونها (les efforts)، وهي لجان تخرج بالقوّة للتّحكّم في المجتمع، ويقول أفلاطون: إنّ هذه الظّاهرة هي الّتي أسقطت الدّيمقراطية اليونانيّة. وأخذ العبّاسيّون من ذلك؛ فيكفي أن نقرأ أفلاطون في «القوانين» وفي «الجمهوريّة»، ونقرأ أرسطو في «السّياسة»، لنفهم أنّهما كانا ناقمين أشدّ النّقمة على تلك اللّجان، وبالعودة إلى ما نشهده اليوم من ظاهرة الإسلام السّياسيّ في تونس مثلاً، ففي رأيي: أنّه بدأ يعي محدوديّة الدّعوة السّياسيّة، وبدأ يفهم أنّ عليه أن يتَتَوْنَس، وأنّه سيبقى غريباً إن لم يفعل ذلك، والحقيقة أنّ الإسلاميّين يعرفون أن أولئك الّذين يدعمونهم من الخارج، يفعلون ذلك بدافع النّقمة على الّذين حكمونا سابقاً، ونحن نرى ما آل إليه وضع بعض الأحزاب اليوم؛ إذ بدأت تبحث عن مراجعات. وحتّى وإن كان الأمر لا يعني مراجعات حقيقيّة، وإنّما مجرّد مناورات سياسيّة تتعلّق بجملة من الإكراهات الرّاهنة، وأنّ ذلك ليس خياراً عن قناعة مبدئيّة، فإنّ الأمر لن يكون له تأثير كبير إذا تحسّنت أوضاع البلاد اقتصاديّاً واجتماعيّاً، فهذه البلاد الّتي قامت على مدرسة الجمهوريّة الّتي أسّسها بورقيبة، كان فيها المنقطعون مبكّراً جدّاً عن التّعليم من أبناء جيلي يستطيعون العمل في أيّ مجال لكسب حياتهم؛ فقد كانت البلاد خالية تماماً من الكفاءات في جميع المجالات، والأمل مفتوحاً أمامنا، في حين أنّنا -اليوم- نشاهد كيف يعاني أحفادنا الّذين يحملون شهادات عليا من انسداد الآفاق وهم يواجهون البطالة وضبابية المستقبل، لذلك؛ نحن في حاجة إلى سياسة بالمعنى الأفلاطونيّ تعطي الأمل للتّونسيّين في غد أفضل، وإن تحقّق لنا ذلك؛ فأؤكّد لك أنّ الإسلام السّياسيّ والحركات الإيديولوجيّة لن تستطيع أن تؤثّر في شبابنا.

نحو رؤية معاصرة للإسلام

د. نادر الحمّامي: كثير من المفاهيم الّتي تستند إليها التّيّارات الإسلاميّة وتروّج لها على أنّها إسلاميّة صرف، أو أنّها ثابت من ثواب الإسلام، قد يكون البحث فيها باباً شارعاً إلى تبيّن أنّها -تاريخيّاً- لا تنتمي إلى الإسلام في شيء، بل إنّها وافدة عليه، وهي تتكرّر في حضارات أخرى، فمسألة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ومسألة الخلافة قد تحوّلنا إلى مؤسّستَين إسلاميّتين، والحال أنّنا لو بحثنا في هذا المفهوم أو في ذاك؛ سنجد أنّه من رواسب حضارات أخرى، وربّما تكون المقارنة بديانات أخرى مدخلاً لبيان أن ما يُعدّ مستندات ومرتكزات أساسيّة قد يكون ضرباً من ضروب الوهم. كيف تنظر إلى هذه المسألة؟

د. حمّادي بن جاء بالله: لا أستبعد ذلك طبعاً، وأنا بودّي أن ندرج هذا الإشكال في إشكال أعمّ؛ هو إشكال علاقة الأنا بالآخر، وعلاقة الثّقافة والحضارة والدّين بالثّقافات والأديان الأخرى، فضلاً عن أنّه في كلّ مرّة، لا بدّ أن نسأل أنفسنا إن كان للآخر معنى خارجنا، فربّما كان الآخر وجهاً من وجوه الأنا. وفي هذا السّياق أستحضر أنّ كثيراً من النّاس يقولون عن ابن خلدون قوله: «الإنسان مدنيّ بطبعه»، والحقيقة أنّ ابن خلدون لم يقل ذلك بإطلاق؛ إنّما قال ذلك عن الفلاسفة: «يقول الفلاسفة: الإنسان مدنيّ بطبعه»، وهي ترجمة عربيّة سليمة وجيّدة، وربّما قد سبقه إليها غيره، لما في كتاب أرسطو في الفصل الأوّل من كتاب السّياسة من أنّ «الإنسان حيوان مدنيّ بالطّبع»، وأنا أذكر هذا الآن لأبيّن أنّنا عندما نبحث عن الطّرافة، وعن حدود الفصل بين الذّاتيّ والدّخيل، وبين الأنا والآخر وما يميّزها عنه وما يصلها به، وبين علاقات التّداني وعلاقات التّباعد؛ فإنّ المسألة تسترعي انتباهاً أقصى، خذ مثلاً مسألة الخلافة؛ فحتّى أولئك الّذين انتقدوها - على غرار المصريّ علي عبد الرّازق وغيره- لا أحد منهم ذكر أنّها ليست مؤسّسة إسلاميّة؛ إنّما عدّوها إسلاميّة من تلقاء الأمور، والحال: أنّ مقولة «الخليفة ظلّ الله في الأرض» مقولة فرعونيّة؛ وصحيح -أيضاً- أنّ ابن خلدون قال: «العدل أساس العمران»، لكنّه ليس صاحب القولة، وخذ -مثلاً- كتاب «الجمهوريّة» لأفلاطون في دراسة النّظام السّياسيّ واقتراح نظام سياسيّ للبشريّة، يقول: «هذا في الجمهوريّة أو في العدل، باعتبار أنّ أيّ نظام سياسيّ لا يستقيم إلّا بالعدل»، وهي أيضاً فكرة مصريّة، ونحن نعرف أنّ أفلاطون درس على الفراعنة، وجدّه الرّابع صولون هو الّذي أسّس الدّولة اليونانيّة، كان درس في مصر على يد الفراعنة أيضاً، وجاءهم بعلم مكين، وليس هناك فرعون واحد في ما يذكر التّاريخ قال «أنا ربّكم»؛ بمعنى أنا خالقكم، فعندما يقول: {أَنا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النَّازعَات: 24]؛ فذلك بمعنى سيّدكم، أيّ حاكمكم، وهذه الأفكار أخذتها الدّيانة اليهوديّة باعتبار أنّ موسى مصريّ وتربّى في أحضان الفراعنة، وقد أمضى أربعين عاماً مع فرعون، وأربعين عاماً في الشّتات في الصّحراء، وأربعين عاماً على أبواب فلسطين، كما تقول الأسطورة، وهذا التّقسيم لحياة موسى مرتبط بالثّقافة الفرعونيّة، وموسى لم يكن يتكلّم العبريّة؛ لأنّه تربّى في أحضان فرعون، لذلك تقول الأسطورة أنّه اصطحب معه أخاه هارون الّذي كان يحذق العبريّة ليخاطب قومه، لذلك؛ دعا ربّه: {وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي *وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي *يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طٰه: 26-28]، وهكذا، ففكرة الخلافة فكرة فرعونيّة انتقلت إلى اليهوديّة؛ لذلك نجد مقولة: «الخليفة ظلّ الله في الأرض» عند أوّل علماء الكلام اليهوديّ، المسمّى فيلون اليهوديّ أو الإسكندريّ (20ق.م-50م)، وقد كان معاصراً للسّيّد المسيح، ومن غريب الأمر أنّه لم يتحدّث قط عن المسيح، وقد كتب في علم الكلام، وعلم الكلام ليس علماً إسلاميّاً، وبدأ منذ ذلك الوقت، وكان همّه التّأليف بين العقلانيّة اليونانيّة المتمثّلة في أفلاطون وأرسطو والرّواقيّين و... إلخ، وما في التّوراة من أشياء غير معقولة؛ أي كيف نؤوّلها على نحو يستقيم معناها بشكل ما، وسيكون ذلك هو موضوع علم الكلام عند المسلمين -أيضاً- في ما بعد؛ أي الدّفاع عن العقائد الإيمانيّة بالحجج العقليّة، ونحن نجد عند فيلون اليهوديّ مقولة «إنّ الخليفة هو ظلّ الله في الأرض»، ثمّ نجد تلك الأفكار تمرّ إلى المسيحيّة لأنّ السّيّد المسيح كان أوّل أمره يهوديّاً وقد سمّى خلفاً له القدّيس بطرس وهو من الحواريّين ولمّا كان بطرس قُتل في روما فقد بُنيت الكنيسة هناك، وأصبح بالتّالي هو أوّل خليفة للسّيّد المسيح، وهكذا كان كلّ بابا يأتي بعده خليفةً لمن سبقه؛ ففكرة الخلافة فرعونيّة ثمّ يهوديّة ثم مسيحيّة، ومن الخطأ الاعتبار السّائد بأن المسيحيّة دين وليست دنيا وبأن الإسلام دين ودنيا، فهذا غير صحيح أصلاً، فحتّى مقولة «أعط لقيصر ما لقيصر وأعط لله ما لله» لا يصحّ فيها الفصل لأنّ المسيح يقول أنّ كلّ شيء لله، وقد كانت فلسطين في ذلك الوقت واقعة تحت الاحتلال الرّومانيّ وكلّ شخص وقع تحت الاحتلال الرّومانيّ فهو مواطن رومانيّ وبالتّالي فله حقوق لا يمكن لأحد أن يمسّها، والمسيح كان كذلك، فغرّر به اليهود وأرادوا منه أن ينكر العملة الرّومانيّة وهو إن يفعل ذلك فقد أنكر الإمبراطوريّة الرّومانيّة، وبالتّالي سينال العقاب، فسئل عن العملة فقال هذا لقيصر وهذا لله، فهو في النّهاية لم يفصل وإنّما اعتبر لله ملكوت السّموات والأرض. وبالتّالي، فالدّين، مهما كان أمره، يريد أن يكون معالجاً لأوضاع الإنسان بشكل عامّ، وبقدر ما تكون النّظرة إلى الدّين متخلّفة يكون الدّين شموليّاً، فالغزالي في كتابه «الإحياء» يبيّن كلّ ما يجب أن يفعله الإنسان من المهد إلى اللّحد، فهو يحصي عليه أنفاسه تقريباً، وكأن ليس للإنسان ولو لحظة واحدة حتّى يختلي بنفسه، وهو يعبّر بذلك عن شموليّة الإسلام، وهذه الشّموليّة نجدها أيضاً في الأديان الإفريقيّة، فلا يوجد شيء يخرج عن الدّين، إلا أنّ الشّموليّة ليست من خصائص الإسلام ولا من خصائص الدّيانة الإبراهيميّة فحسب، بل هي من خصائص جميع الأديان؛ فبقدر ما يكون الدّين متخلّفاً يكون شموليّاً، وبالتّالي يغذّي النّزعة إلى التّسلّط.

د. نادر الحمّامي: ما معنى أن يكون الدّين متخلّفاً؟

د. حمّادي بن جاء بالله: التّخلّف في الدّين: هو أن يخرج عن الأصل، والأصل هو الحرّيّة، فبقدر خروجك عن الحرّيّة تكون قد خرجت عن الدّين، والحرّيّة لا تكون نسبيّة؛ فكما أنّه لا توجد فكرة المربّع في الهندسة بأقلّ من أربع زوايا قائمة وأربعة أضلاع متساوية، فإنّه لا توجد حرّيّة جزئيّة، والحرّيّة تحمي نفسها بأن تسنّ لنفسها قوانين، والقانون ليس شيئاً مخالفاً للحرّيّة؛ إنّما هو الوجه الآخر لها، فلا معنى للقانون إن لم يكن حماية أصليّة للحرّيّة، ومن هنا أقول: ليس من شيء اختصّ به الإسلام عن بقيّة الملّة الإبراهيميّة إلّا بعض المسائل التّطبيقيّة؛ فاليهوديّ يذهب إلى المعبد ليمارس دينه بكلّ حرّيّة، وكذلك يفعل المسيحيّ الّذي يذهب إلى الكنيسة، ويفعل المسلم الّذي يذهب إلى الجامع، ولو اجتمع هؤلاء كلّهم على مبدأ واحد والتقوا عند غاية واحدة، هي حرّيّة البشر، فإن كلّ الخلافات الّتي بينهم سوف تزول.

د. نادر الحمّامي: ما تتحدّث عنه الآن يعدّ جزءاً من المسألة التّربويّة، ونذكر أنّه كانت لديك تجربة ملموسة ضمن إصلاح النّظام التّعليميّ في تونس مع المرحوم محمّد الشّرفي، وأزعم أنّني مطّلع على ما يكتب في برامج التّعليم -التّاريخيّة والدّينيّة- ويمكن أن أقول: إنّ أنظمتنا التّعليميّة والتّربويّة لا تكرّس هذه المبادئ بقدر ما تكرّس أفضليّة الإسلام على بقيّة الأديان، وتكرّس مبدأ التّراتبيّة وإقصاء الآخر، وأراها غير منفتحة على الدّيانات الأخرى بما يؤدّي إلى الانغلاق، فلعلّ مبدأ الحرّيّة ومعرفة الآخر ليس مكرّساً في برامجنا التّعليميّة الّتي نقول عنها إنّها منفتحة.

د. حمّادي بن جاء بالله: معك مطلق الحقّ في ما ذكرت، وأنا أتحدّث - أيضاً- عن التّجربة في العراق وسوريا والأردن ومصر ولبنان وغيرها، وأقول: إنّنا لم ننتبه بعد إلى أنّ التّربية الدّينيّة هي تربية على الحرّيّة، وأنّ التّربية -بوجه عامّ- هي تنشئة على الحرّيّة، فإذا فُقدت الحرّيّة ذهبت جميع القيم، فلنأخذ مثلاً؛ الفقهاء -غفر الله لهم- عندما ننظر في ما قاله الخميني مثلاً في كتابه «الوسيلة» حول سنّ الزّواج، نجد أنّه يسمح بأن تُباشَر الرّضيعة، كما نجد أنّ الطّحاوي يعتبر في سرقة الولد، أنّ أول سؤال يُسأل هو هل الولد عبدٌ أو هو حرّ؟ لأنّه إذا كان حرَّا لا تسمّى سرقة وإنّما هو اختطاف، وإذا كان عبداً فيجب أن يُنظر في تقييم ثمنه؛ إن كان يساوي أكثر من دجاجة أو دون ذلك، فهل يحقّ القول عن هذا بأنّه فقه أو تفكير أو ماذا؟ لذلك؛ أرى أنّ جميع هذه المسائل أولى أن يختصّ بها أستاذ التّاريخ؛ فذلك جزء من الثّقافة الجمعيّة الّتي وجب الحفاظ عليها، باعتبارها تاريخاً، وليس باعتبار فعلها الإيمانيّ أو العقائديّ في الواقع، فلا تُستعاد هذه المسائل من أجل تطبيقها؛ لذلك نقول: إنّ الاشكال في المعاصرين وليس في القدامى. فالمعاصرون أصبحوا أمرّ من القدامى، أمّا الأمر الآخر؛ فهو ما يتعلّق بمساهمتَين في الإصلاح التّربويّ مع المرحومين محمّد الشّرفي والدّالي الجازي، لكن بمجرّد خروج الشّرفي من الوزارة، بدأ العبث بذلك الإصلاح، وأعتقد أنّه لو قدّر لذلك الإصلاح أن يصل إلى مبتغاه وإلى نهايته، لتجنّبنا الكثير من المآسي الّتي نعاني منها اليوم، هذا اعتقادي الخاصّ، ولنعرض هنا بعض المقولات الفارغة من قبيل: «تجفيف المنابع»، وغير ذلك؛ فذلك عيب، ولعلّ الواقع -اليوم- يبيّن جدوى ذلك الإصلاح.

د. نادر الحمّامي: يفسّر كثيرون التحاق أعداد كبيرة من الشّباب التّونسيّ بالجماعات الإرهابيّة بما يسمّى (سياسة تجفيف المنابع)، فكيف تردّ على تلك المقولة، الّتي يعدّ أصحابها أنه لو دُرِّس الإسلام الوسطيّ والمعتدل، كما يوصف عادة، لما وجدنا هؤلاء في صفوف داعش اليوم؟

د. حمّادي بن جاء بالله: أذكر أنّ الوزير استشارني في ذلك الوقت، في اعتماد خطب محمّد الفاضل بن عاشور في كتاب مدرسيّ، باعتبار أنّها تمثّل وجهة نظر الإسلام الوسطيّ الّذي من شأنه أنّ يبيّن للنّاشئة أن الإسلام بعيد عن العنف وأنّه يمكن أن يكون الإنسان متديّناً دون أن يصل به ذلك إلى إقصاء الآخرين أو اعتبارهم مارقين على الدّين، فأجبته بأنّ ذلك لن يجدي كثيراً، لأنّ المسألة لا تكمن في مجرّد التّركيز على خطاب بعينه، واعتبار أنّ الحلّ يكمن فيه وحده، وإنّما وجب تغيير وسائل التنشئة برمّتها، والنّظر في أساليب الخطاب، أي كيف يمكن لخطاب من الخطابات أن يجد نفسه قادراً على التّأثير والاستقطاب، واستمالة العقول، وبيّنت له أنّ أهمّ ما في خطب الفاضل بن عاشور؛ هو تلك النبرة الّتي يقدّم بها خطبه، في حين أنّها عندما تقدّم مكتوبة ستكون بسيطة وغير قادرة على استمالة الشّباب اليوم؛ لأنّها تقدّم أوّليّات الفكر ببساطة وعفويّة، ولا تتماشى مع الذّهنيّة الحديثة للناشئة، وبالتّالي لن يكون لها أيّ جدوى، وتلك الأشكال والأفكار والرّؤى آن الأوان لمراجعتها في العمق، ليس من ناحية المضمون فحسب، بل من ناحية أسلوب الخطاب وفقاً لمبدأ عامّ: هو مبدأ الحرّيّة الّذي أقيمت عليه الملّة الإبراهيميّة بجميع محتوياتها، وهذا ليس عمل الهياكل الرّسميّة في البلاد فحسب، وإنّما هو عمل النّخب المثقّفة والمجتمع المدنيّ أيضاً، من خلال الجمعيّات ومراكز البحوث والمؤسّسات البحثيّة ودور النّشر والصّحافة والإعلام، وعلينا العمل على إيجاد الحلول كلّ من جانبه وبالوسائل المتاحة له.

د. نادر الحمّامي: هل هذا ما دعاكم إلى تأسيس جمعيّة «معهد البحوث في الأديان»، وأنتم تطرحون ضمن مبادئها التّأسيسيّة مقارنة الأديان والبحث في مفاهيمها الكبرى من زوايا أكاديميّة واجتماعيّة؟

د. حمّادي بن جاء بالله: في هذا الإطار يتنزّل تأسيس معهد البحوث في الأديان، وهي فكرة أساهم فيها رفقة ثلّة من الزّملاء المخضرمين؛ والغاية القصوى الّتي تجمعنا: هي أن نحاول فهم الأديان بوجه عامّ؛ أي الفكر الدّينيّ أو الظّاهرة الدّينيّة، باعتبار تأثيراتها الاجتماعيّة على أسس سليمة، وأعتقد أنّ ما من شيء يمكن أن يُعتدّ به إن لم يكن في مرحلة ما تعبيراً عن شوق إلى الحرّيّة، وتلك هي الغاية الّتي تجمع بين الأديان؛ سواء في اليهوديّة أو المسيحيّة أو البوذيّة أو غيرها، وأعتقد أنّه آن الأوان لنترك الكثير من الأحكام المسبقة، ونأتي إلى كلمة سواء مع البشريّة، وأن نكون خير أمّة أخرجت للنّاس، بأن نكون أمّة مثل بقيّة الأمم، أو -على الأقلّ- أن ننخرط في الإنسانيّة، فنحن اليوم في أسفل السلّم، ويجب أن نرتقي قليلاً حتّى نضاهي البشريّة.

د. نادر الحمّامي: على هذه الدّعوة إلى مراجعة الأديان عموماً على أساس الحرّيّة، والانخراط في الإنسانيّة، نأتي إلى ختام هذا الحوار معك أستاذ حمّادي بن جاء بالله، شكراً جزيلاً لك على ما تفضّلت به.

[1] - أجري هذا الحوار في 1 حزيران/يونيو 2017