المجتمع السليم إريك فروم

فئة :  قراءات في كتب

المجتمع السليم إريك فروم

المجتمع السليم

إريك فروم

ترجمة محمود محمود

إريك فروم عالِم نفس واجتماع وفيلسوف ألماني أمريكي، ويُعدُّ أحد أشهر المفكرين الغربيين في القرن العشرين. تركت أفكارُه وتحليلاته النفسية أثرًا كبيرًا في مجال علم النفس.

فكرة الكتاب

ظهرت الكثير من المؤلفات والكتب في النصف الأخير من القرن العشرين، تنتقد الحضارة الحديثة، رغم ما وفرته للإنسان من رفاهية ومعارف جعلته يدرك كذب وزيف الكثير من المسلمات التي يعتقد بأنها حقيقة، فضلا عن مختلف التقنيات والعلوم التي جعلت الإنسان يعيش حياة غير مسبوقة، في مجال الصناعة والابتكار، والأكل والشرب، والصحة والانتقال من مكان إلى آخر، باختصار زمن الحضارة الحديثة في علاقته بالإنسان، زمن غير مسبوق من جهة السرعة والتقنية والنفاذ إلى جوهر المادة. الكتب التي تنقد الحضارة الحديثة، تركز على الوجود الإنساني في زمن التقنيات والتكنولوجيا التي صنعها الإنسان، وسارت تزاحمه من جهة وجوده الجواني، وحتى وجوده الفزيائي؛ لأن وجود الإنسان وجود مفارق لمختلف الكائنات والموجودات.

والسؤال هنا هل الحضارة الحديثة، تتوافق وتنسجم مع الوجود الإنساني، وهو وجود اختزله البعض في الجانب الغري والبيولوجي، وقد وفرت الحضارة الحديثة لهذا الجانب من الانسان جزءا كبيرا من مما يتطلبه طبيعته الجسمانية، لكن مدى عن الطبيعة النفسية والروحية للإنسان؟ في هذا السياق نستحضر الفكرة الأساسية التي تسود في مؤلفات كُتب ورسائل "إريك فروم" ومفادها "أنَّ الميول الأساسية للإنسان لا تنبثق من غرائزه كما يزعم فرويد ومن لَفَّ لفه من علماء النفس، وإنَّما تنبثق من الظروف الخاصة بالوجود البشري، وهي الظروف التي عزلته عن بقية الكائنات لِمَا اتصف به من وعي ويقظة وعقلية، وأرغمته على البحث عن علاقة جديدة تربطه بالطبيعة، بعد ما فقد العلاقة الأولى التي كانت قائمة في المرحلة الحيوانية التي سبقت ظهور البشرية".[1]

لقد تغلب الإنسان اليوم، عن سؤال الطعام والجوع بشكل عام، رغم مختلف المجاعات، التي تحل في العالم في هذا البلد أو ذاك، وهي مجاعات تكون نتيجة الحروب، والهجرة، والكوارث الطبيعية أحيانا. كما أن الإنسان تغلب على المرض والقضاء على الكثير من الأوبئة، باختصار الإنسان اليوم مقارنة مما مضى من الزمن، يعرف نوعا من رغد العيش، ونحن هنا نتحدث عن الدول التي توصف بكونها متقدمة، المفارقة هنا أن رغد العيش هذا "يبعث في نفوسنا الملل، فيدفعنا إلى إدمان الشراب وإلى الانتحار للتخلُّص من حالة الضجر التي لا تُطاق.

إنَّ أرقام الإحصاء تدلنا على أنَّ الإنسان لا يعيش على الخبز وحده، وأنَّ المدنية تقصر عن بثِّ الطمأنينة في النفوس، ولا تفي ببعض حاجات الإنسان العميقة الخفيَّة. وإن كان الأمر كذلك فماذا عسى أن تكون هذه الحاجات؟"[2] وهذه مفارقة عجيبة تستحق الكثير من الدراسة والتحليل، لماذا المدينة القديمة في فاس أو بغداد أو باريس، أو موسكو... حققت للإنسان كثيرا من الطمأنينة والأمن النفسي، رغم مختلف المشاكل التي ترتبط بالطعام والصحة؟ ويمكن أن نطرح نفس السؤال لماذا نجد المدينة في الكثير من الدول التي تنتمي إلى دول الجنوب، وتوصف بأنها في طريق التنمية، فرغم ضعف التقنية وضعف ما توفره لسكانها من رغد العيش، نجد الإنسان في داخلها وخارجها، ينعم بنوع من الطمأنينة والارتياح النفسي؛ وذلك يظهر جليا من قلة الانتحار ورضى الناس عن واقعهم. إنها مفارقة تجعلنا أما نفس السؤال السالف الذكر، هل هي مشكلة نموذج الحضارة الذي لا يراعي ما هو باطني ونفسي وروحي عند الانسان؟ أم هي مشكلة الإنسان عندما يعرض عما هو متعالٍ ومعنوي ويختزل نفسه في كل ما هو حسي؟

الكتاب الذي نحن بصدده لا يتناول هذا الإشكال في علاقته، بالإنسان الفرد، بل ربط ما يجري على الفرد، بأنه قد يجري بشكل واسع على المجتمع. فالإشكال الذي يعالجه الكتاب يرتبط بسؤال تحدي بناء المجتمع السليم، السليم مماذا؟ سليم من مختلف الأمراض النفسية والعقلية، التي يأتي البعض منها نتيجة، الفراغ الروحي والمعنوي وفقدان قيمة وجود الإنسان، فالرفاه التقني وما يصحبه معه، لم يقدم إجابات كافية ومتجددة إلى أسئلة المصير، من قبيل، من أنا؟ من أين جئت؟ وإلى أين الذهاب؟ والمسألة هنا لا تتعلق بإجابات مكتملة بقدر ما تتعلق، بعدم الإعراض عن هكذا أسئلة وتحويلها إلى الهامش على حساب كل ما هو حسي واستهلاكي بطبعه.

مواضيع الكتاب

إنَّ مواضيع هذا الكتاب هي مُحاوَلة للإجابة عن مختلف حاجيات الإنسان النفسية والروحية، كما أنَّ فيها تقديمًا لأثرِ الثقافة الغربية المعاصرة في صِحة العقل، وفي سلامة الشعوب التي تعيش في ظل النُّظم الراهنة من الناحية العقلية. الكتاب فيه تعميق للبحث وتتبع مشكلة الأمراض الاجتماعية عامة.[3] ومن أهم العناوين والمواضيع التي تطرق إليها الكتاب بالدراسة والتحليل نذكر:

هل نحن أصحاء العقول؟. هل يكون المجتمع مريضًا؟. حاجات الإنسان الطبيعية. الصحة العقلية والمجتمع. الإنسان في المجتمع الرأسمالي. حلول مختلفة. الطريق إلى السلامة.

المجتمع السليم

المجتمع المسلم، صيغة عامة وفضفاضة، سليم من أي جهة، هل من جهة احتياجات الناس ومتطلباتهم اليومية؟ هل من جهة طبيعة تدبير شؤون المجتمع ومختلف مؤسساته؟ هل من جهة توفير مختلف ما يحتاجه أفرد المجتمع، بهدف العيش والبقاء؟ أم هو سليم من جهة القيم والأخلاق السائدة بين كل أفراد المجتمع؟ فعندما نتخيل المجتمع السليم، فذلك يعني بكونه مجتمع يتصف بعلاقات جيدة وسليمة، بين مختلف أفراده، من جهة التواصل بين الناس، ومن جهة الحالة النفسية والوجدانية لديهم، ومن جهة عيشهم وتوفير مختلف حاجياتهم اليومية... كتاب «المجتمع السليم» يُناقش مشكلة الإنسان الحديث في مُجتمَع يُركِّز كل هَمِّه في الإنتاج الاقتصادي، ولا يَعبأُ بتنمية العلاقات الإنسانية الصحيحة بين أفراد المجتمع، حتَّى فَقَد الإنسان مكانةَ السيادة في المجتمع، وأصبح خاضعًا لمختلف العوامل يتأثَّر بها ولا يُؤثِّر فيها؛ ذلك أنَّ الإنسان الحديث في رأي إريك فروم قد خَلَق لنفسه عالَمًا من النُّظم المختلفة، ثمَّ فَصَل نفسه عن هذه النُّظم، فلم يَعُد جزءًا منها، مُنسجِمًا معها، بل باتت على كاهله عبئًا ثقيلًا، كما فَصَل نفسه عن إخوانه في الإنسانية، وعن الأشياء التي يستخدمها ويستهلكها، وعن الحكومة التي تُدبِّر له أمره، بل لقد انفصل عن نفسه. وأمسى «شخصية مسيَّرة» ليس له أن يختار. وإذا سارَت الأمور على هذا النَّسق بغير إصلاح فسينتهي الإنسان حتمًا - كما يرى إريك فروك- إلى مجتمع مختلٍّ في توازنه وفي عقله، هذا إن كان للمجتمع عقل، وكل فرد في هذا المجتمع ذَرة منفصلة لا يمسكه بغيره رباط.[4]

لا شك بأن العالم اليوم وبالأخص العالم الغربي، يمتلك من الثروة والطاقة ما لا تستطيع أن تملكه حضارة من قبل، ولكن هذه الثروة الاقتصادية والطاقية، المنقطعة النظير من جهة الكم والكيف، لم تمنع العالم وخاصة العالم الغربي، أن يسقط في فخ "الفتك بالملايين من البشر فيما أطلقَت عليه اسم «الحروب» وما فَتِئَت الحرب تنشب بين شعب وآخر على صورة صغرى أو صورة كبرى، لا تهدأ ولا تفتُر. وكيف نستطيع أن ننسى في هذه المعركة البشرية المستمرة الحروب العالمية الكبرى تلك الحروب التي كادَت أن تشمل رقعة العالم بأسْره، والتي زعم فيها كل خصم من ناحيته أنَّه يُقاتل دفاعًا عن نفسه، وعن شرفه، وأنَّ الحق معه، والله ناصره، وأنَّ العدو شيطان مُتمرِّد قاسٍ لا بُدَّ من القضاء عليه لكي يتخلَّص العالم من شره. كيف نستطيع أن ننسى ذلك؟ ثمَّ تضع الحرب أوزارها، فيُمسي العدو صديقًا والصديق عدوًّا، وتهدأ النفوس فترة، ثمَّ تعود إلى ثورتها ويتأهَّب العالم مرة أخرى إلى الحرب من جديد، وهكذا دواليك".[5]

السؤال هنا ما هي قيمة الثروة والطاقة، في وقت يبدو معه أن العالم عاجز أن يضع حلًّا لمختلف الحروب؟ سواء منها تلك التي تخاض باسم الوكالة، أو تلك التي تتورط فيها معظم الدول الكبرى. وكل حروب تخوضها الدول بهدف الوصول إلى مختلف الثروات والطاقة، وهي حالة يبدو معها بأن المجتمعات الحديثة، والدول والسياسات التي تدير شؤونها، لا تعرف حدودًا معقولة في نظرتها الكمية والكيفية للثروة والطاقة، إلى درجة تحويل مصير الإنسان والشعوب إلى ضحايا وقرابين، تسفك دماؤها في مختلف الحروب، من أجل الحفاظ على مصادر الثروة والطاقة، بهدف الهيمنة والسيطرة التي تتقدمها المركزية الغربية الأمريكية عبر العالم.

وفق هذا السياق، يحاول إريك فروم، وهو يطرح إشكالية «المجتمع السليم» "أن يُبيِّن لنا أنَّ الحياة في ديمقراطية القرن العشرين [وما بعده] ما هي إلَّا مُحاوَلة التهرُّب من المسؤولية التي أَلقَت بها الحرية على عواتقنا بِشتَّى الطُّرائق والوسائل. ويشغل حيزًا كبيرًا من الكتاب في تحليل طرائق الهروب المختلفة التي تتركَّز كلها حول فكرة الحياة الانفصالية التي يحياها إنسان العصر الحاضر، والتي يعيش فيها منفصلًا عن رغباته الحقيقية وطبيعته الإنسانية".[6]

[1] إريك فروم، المجتمع السليم، ترجمة محمود محمود، مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة، ط.1، 2014م، ص.8

[2] ص. 15

[3] ص. 15

[4] ص.7

[5] ص ص. 11-12

[6] ص.8