حوار مع سماحة العلامة هاني فحص: أحوال خاصة في تحولات عامة


فئة :  حوارات

حوار مع سماحة العلامة هاني فحص: أحوال خاصة في تحولات عامة

حوار مع سماحة العلامة هاني فحص: أحوال خاصة في تحولات عامة[1] .


"كل المثقفين المتعصبين للشيعة اليوم كانوا شيوعيين، هؤلاء مسكونون بستالين، ويبحثون عن ستالين آخر دائماً".


ثمة انبعاث مستمر لذاكرة السيد هاني فحص النضرة، وهي تمثل شهادة عميقة على الكثير من المحطات التي يرويها بحياد المؤرخ الذي يعيش زمنه، بعد أن اكتفى من الخسائر واكتفى من المغامرات التي خاضها إلى جانب زعماء ثوريين كبار، مثل: "أبو عمار والإمام الخميني وكمال جنبلاط والإمام موسى الصدر وآخرون"، رافقهم وأعاد رواية سيرهم وأهم مواقفهم والأحداث التي وسمت مساراتهم.

يبدو أن السيد هاني فحص مشغول بالفلسفة والثقافة وربيع السياسة، بالمعنى الذي يستدرج أسئلة تحمل الدأب المعرفي. هو أقل ارتباطاً بثوابت العقل وسكونه، وصاحب رؤية متنامية للديني، كجزء أساس من الثقافة، على الرغم من إدراكه أن الديني محكوم بالطمأنينة والميل إلى اليقين والإطلاق، بينما الاستقرار هو مقتل الثقافي، وهو مضطر أن يقيم في الشك والحركية وتغيير الخطاب.

منذ أن حملته جهات قصدِه من قريته الجنوبية جبشيت إلى رحاب النجف الحوزوي، ومن ثم منظمة التحرير الفلسطينية وصولاً إلى طهران الثورة، وأخيراً تجاوزه تلك المحطات أو فك ارتباطه بها، وهو في حالة تفاعل وجدل وتجدد وقلق، فعاليته النقدية متقدمة، متحمس للثورات وجبهات الاحتجاج، ومتمسك بكيان الدولة الجامعة والمتماسكة.

ذ/ ثناء عطوي: كيف أصبحت رجل دين (شيخاً)؟

العلامة هاني فحص: ما "مشيخني" وجعلني أذهب إلى الحوزة الدينية أمران، هما : اللغة العربية، وعاشوراء من حيث اتصالها باللغة كحساسية إبداع، والشهود الحقيقي والشهادات إبداع. منذ طفولتي وأنا أتمتع بحساسية لغوية، بإيقاع المفردة والصورة، تولّد عندي عالم بديل أعيشه كأنه حقيقي، مجاز اللغة عندي أجمل من الحقيقة اللغوية الجميلة. كنت أقرأ وأكتب ما يشبه الشعر ومواضيع الإنشاء بطريقة لافتة، وكانت اللغة كأنها شأن المشايخ وحدهم، فأطلقوا عليّ لقب الشيخ وأخذتها بجدّ.

بعد أن اجتزت المرحلة الابتدائية سنة 1958 أقنعتُ أمي بأنه ليس من الضروري أن أتعلم، وأنه ينبغي أن أذهب للعمل في بيروت. وكان والدي قد جاء في هذه الفترة إلى المدينة للعمل أيضاً في ورش البناء مع المعلم الذي هو صهره، فوجدتها فرصة، لكني لم أعرف كيف وماذا سأعمل؟ اشتغلتُ في مصبغة لتنظيف الملابس وكيّها لأيام، واشتغلتُ في فرن لأيام كذلك، وفي أماكن عدة فوجدت الأمر صعباً، عدتُ ومكثت في البيت، ثم حاولت تعلّم مهنة الخياطة لعدة أشهر من عام 1959 لدى الخياط سهيل داغر في بيروت، ثم صبحي نحلة في النبطية، مع عودتي إلى الدراسة بمبادرة من خالي حبيب. كنت أمضي وقتي مع جارتنا العجوز أم علي حرب في الرويس من الضاحية الجنوبية لبيروت، أراقبها، وهي تزرع الأرض (خس وبقدونس وفجل وهندباء)، أسلّيها وأقرأ لها كل ما حفظت، ومن بينها قصة عاشوراء التي حفظتها جيداً، وشاركت في تمثيلها في مسرحية حضرها أهل القرية كلهم. كنا نسعى للاحتفاء بعاشوراء في القرية، حتى لا يذهب الناس إلى مدينة النبطية، ويشاهدوا احتفال الدم الذي يجري كل عام في هذه الذكرى. كان السيد محسن الأمين هو المؤسس لهذا الاجتهاد الذي حرّم جرح الرؤوس منذ العقود الأولى من القرن العشرين، وفسّقه كثيرون، وكفـّره البعض على ذلك، وأصرّ - ولأول مرة في تاريخ الشيعة- يصرّ مرجع على الإصلاح والتجديد ويبقى مرجعاً، وربما كان بعض الفضل في ذلك راجع إلى مكانته وسط التعدد الديني في دمشق.

ذ/ ثناء عطوي: إذن، كانت عاشوراء المدخل إلى المشيخة؟

العلامة هاني فحص: صحيح، وقد وضع أهل القرية في رأسي فكرة النجف، لا سيما وأن والدي حُرم من هذا الأمر لوفاة أبيه مبكراً ولقلة الإمكانات. وقد أتت الفكرة من كون أخواله من آل الزين هم مشايخ القرية وأئمتها، فأتى الإغراء من الداخل أيضاً ومن وجاهة أبيه وأودمته. ذهبت إلى النجف وعمري 17 سنة، كان الذهاب إلى النجف محصوراً قبل ذلك بالمشايخ وأولادهم، مع استثناء ضئيل، لكننا نحن ـ الفلاحين ـ بدأنا نتوجه في تلك المرحلة إلى النجف (أواخر الخمسينيات)، بعد أن تعلمنا في المدارس قليلاً. لم أكن أعرف إلى أين أنا ذاهب ولا شكل البلد، حتى أني قبلت طلب أحدهم أن أحمل له جريدة حركة القوميين العرب "الحرية" إلى شخص ما هناك، في عزّ سيطرة الحرس القومي البعثي وجرائمه، وهذا كان سيؤدي بي إلى السجن حتماً. وصلتُ إلى النجف وأنا إنسان قومي عروبي ناصري، لكني غير متحزّب، ذهبتُ وفي رأسي أن الجنة قد أُحرزت، وكنت متصوراً أنني سأنتقل من النجف إلى الجنة مباشرة. وصلتُ في خريف سنة 1963 إلى هناك، وبقيت 9 سنوات مقيماً في النجف عقلياً وسكنياً فيها وفي الكوفة... وعرفت الطريق إلى بغداد ولقاءات أدبائها وشعرائها... وكثير منهم كان يأتي إلينا سراً، من دون علم الحوزة.

ذ/ ثناء عطوي: ألم تكن لديك أحلام غير الجنة؟

العلامة هاني فحص: لم يكن هناك فلاح من قريتي إلا وحلمه الجنة؛ لأن المتوفر من عناصر الحياة ضئيل جداً وصعب. كنا نحلم بالمدينة ولو بقينا على هامشها، لأن الجنة التي في وعينا تشبه المدينة، وخاصة بيروت ودمشق. كنا نعرف النبطية التي لا تختلف كثيراً عن القرية إلا شكلاً، كمدينة من خارجها من بعيد، غالباً ما كنا نذهب إليها سيراً على الأقدام إلى المدرسة أو سوق يوم الاثنين، أو نمرّ منها إلى بيروت عند الضرورة، القرى المجاورة لم نكن نعرفها إلا في حدود ضئيلة، لأن ركوب السيارة مكلف والطرق البرية وعرة وفيها أفاع ووحوش. كان عالمناً محدوداً جدا، ولولا المذياع لما عرفنا بعض ما يجري من حولنا. حتى اليوم الجنة لا تزال حلماً، لكن تشكلات وعينا لها وتصورنا عنها تغيّر... صارت وصرنا أعقد.

ذ/ ثناء عطوي: ماذا كنت تعرف عن السياسة؟

العلامة هاني فحص: كنت أهتم في طفولتي بالعدوان الثلاثي وعبد الناصر ومصر والسويس، إضافة إلى فلسطين التي كان نازحوها أمام أعيننا في أمكنة تشبه العراء، عرضة للصقيع والحشرات والعوز والغربة، تلك مفردات كانت تشغل رأسي، ثم استفزّتنا الوحدة العربية ما بين مصر وسوريا، وتعاملنا معها وكأنها حل نهائي لقضايانا، وفجعنا بالانفصال. رُحنا نجمع المال بالقرش، حتى نذهب ونرى عبد الناصر، ذهبنا إلى قصر الضيافة في سوريا، ورأيناه في عيد الوحدة، ورددنا أمامه "يا عروبة مين حماك غير البعث الاشتراكي"؟ قبل أن يوقع البعث على وثيقة إعدام الوحدة مع قادة الانفصال... كان المذياع يومياً في حياتنا، إذاعة القاهرة والبرنامج الثاني وصوت العرب، كانت عبارة عن سينما ومسرح ومكتبة مجانية ومكان لمناقشة أطروحات الدكتوراه، عرفت يوسف إدريس ونجيب محفوظ وصلاح عبد الصبور وصلاح جاهين عبر المذياع، وسمعت جلسات نقاش الكتب والمسرحيات، ولا يزال المذياع أنيسي حتى اليوم.

ذ/ ثناء عطوي: كيف استطعت أن تجيّر حماستك الثورية نحو الديني؟

العلامة هاني فحص: لم أتحمس للديني، مع عمق إيماني، تحمست للحياة والحضارة، وتحمست لدور الدين فيها. وقد وصلتُ إلى النجف فلاحاً فالتاً من أية سلطة، لا سيطرة لأحد عليّ، كانت الفوارق الطبقية كثيرة وقاسية بين طلاب الحوزة، فعقـّدت التصور وولّدت عندي قلقاً معرفياً كان وراء سعيي للمعرفة للتعويض عن الحرمان أو الفقر، وحوّلني ذلك إلى مشاغب فكري، وطرح عليّ أسئلة لا تنتهي. صيّرتني هذه الفوارق بسيطاً على قلق وطموح مبكر، حاضرتُ في كلية الفقه وأنا عندي 18 سنة. وجدت في النجف أبعاداً جذابة، فهي مكان مشبع بالحرية. في النجف نختار أساتذتنا، نختار زملاءنا، نختار كتابنا وساعات الدرس، نختار ألا ندرس. كانت هناك حرية إلى حد ما سمّوه الفوضى المنظمة. التأسيس الحوزوي هكذا، من المسجد في بدء الدعوة إلى النظامية في بغداد إلى الزاوية في ليبيا والزيتونة في تونس والقرويين في المغرب...إلخ، والمؤسف أن هذه الحرية لم تستغل بشكل عقلاني وشجاع ومثابر في التجديد، ما جعل التقليد في مأمن، ومنحه قدرة على المواجهة الشرسة أحياناً لأفكار التجديد المستعجلة والملتبسة، وهذا جعلني أتابع وأقرأ كأني بعيد عن الحوزة وأنا في الحوزة. قرأت دوستويفسكي، وتولستوي وكافكا وإدغار آلان بو وسارتر ونابوكوف وبابلو نيرودا وأدونيس وغارودي وكولن ولسون ..الخ.

ذ/ ثناء عطوي: بمن تأثرت من هؤلاء؟

العلامة هاني فحص: كنت ابن الجميع، ولا أزال أتواصل مع الجميع، وأقرأ روايات قرأتها قبل خمسين سنة، حتى أستاذ الصف الابتدائي لم أنسه، وحتى الشوكة التي وخزتني في القرية لا أزال أحنّ لها. قليل من الكتب، والكتاب لم يترك أثراً في وعيي مع أو ضد. ولذلك، أبدو أني أعيش في الماضي، ولكن لا أحاول أن أحمله إلى الحاضر، أراه من خلال اشتراط الحلم بالذاكرة.

ذ/ ثناء عطوي: بنيت عالماً مختلفاً عن رجال الدين عموماً؟

العلامة هاني فحص: الهوية صيرورة وليست كينونة، لم أستطع مرة أن أعرّف نفسي، ولا أزال أعشق التحرر من التعريف، لأن المعرفة تتوقف إذا حبستها في تعريف صوري. عندما أعرّف نفسي أصبح كائناً أرسطياً؛ أي ساكناً إلى حد الأسطرة، بينما أنا كائن جدلي، هيغيلي إلى حد ما. وأول تقرير كتبته في الفلسفة في كلية الفقه كان عن "الفوارق المنهجية بين الجدل الهيغيلي والجدل الماركسي". كنت أدرس في الحوزة نهاراً وفي الثانوية ليلاً لأشهر، وصاروا يسمونني جبران لكثرة ما كنت أقرأ وأكتب نصوصاً رومانسية قلقة ومتسائلة. حاولت مرة العودة إلى لبنان من شدة الحنين، والمفارقات التي فاجأتني في حياة الحوزة، لكني تراجعت لرغبة والدي الكبيرة في تحصيل علومي الدينية في النجف بهدف الجنة أيضاً.

ذ/ ثناء عطوي: أسست عائلة وأنت في الحوزة؟

العلامة هاني فحص: يصبح الزواج في الحوزة معادلاً للدين والجنة والعلم. كنا من دون نساء بلا نظام نفسي ولا جسدي، ولولا كثرة الماء لما كانت نُظفت أجسادنا. كنا نحسد المتزوجين من رفاقنا على الحب والنظافة، كنا نعيش في صحراء لا ظل فيها، ومن هنا كان ظل الزوجة يشدنا روحياً وجسدياً، وكان حجاب المرأة المسيطر على المشهد اليومي يزيدنا لوعة وشوقاً إليها وتفكيراً بها ... وحلماً، وارتكبنا كوارث في الطبخ فشعرنا بالمرأة كضرورة حياة. عدتُ إلى لبنان بنية الزواج بعد سنة، لكني وجدت من أحببتها متزوجة، وبالمناسبة فقد أحببت أكثر من عشرين صبية قبل ذهابي إلى النجف؛ فمن لا يحب في القرية يكون أقل من عصفور. تقدمت للزواج من شقيقتها فرفضتني، والسبب أنه لا يوجد سينما في النجف، فعدت من دون زواج. في زيارتي اللاحقة، تزوجت وأنا في سن الـ 19، وهي كانت في سن الـ 14. المرأة تكمّل الطبيعة الجميلة في القرية، وتكمّل احتمالات الخصب، هي حاجة روحية عميقة... وقد وقعت روحي في زوجتي على عقل وروح تجاوزت عمر الجسد.

ذ/ ثناء عطوي: هل ممنوع على المرأة أن تدرس في الحوزة؟

العلامة هاني فحص: لا أعرف، أو أعرف أنه لا مانع ولكن كان هناك مانع، واليوم يحصل ذلك كثيراً في قم، ونادراً في النجف، لكن ليس لغرض علمي، بل سياسي، وإن كانت المرأة قد اهتدت إلى حريتها في معاقرة المعرفة وعنائها المغري. لكن لم يكن يوجد ولا امرأة معنا. ألف عام من تاريخ الحوزة، لم تكن هناك امرأة واحدة، علماً أن الحوزة أسسها الطوسي (محمد بن الحسن، ت 460هـ)، وهو عندما جاء من بغداد بعد أن طرده السلاجقة وهدّموا مكتبته وبيته، جاءت معه فتاة عالمة (كريمته)، ولم يتكرر ذلك. المدينة هي عقل المرأة. أما القرية، فهي قلبها، وفيها يتكوّن عقلها على قياس قلبها، لا على قياس حقوقها، والمدينة أمر يختلف كثيراً وعميقاً عن المساحة وعدد السكان والبناء العمودي والصخب اليومي ... المدينة امرأة تحتضن وتجمع جميع أولادها بعدل في الحب والحليب، وبصرف النظر عن تفاوتهم في الجمال والقوة والمال والبرّ بها.

ذ/ ثناء عطوي: أشرفت على مجلة "النجف" مدة سنة، كيف اتجهت إلى الصحافة؟

العلامة هاني فحص: الصحافة الفكرية غير الصحافة اليومية، ولذلك ليس دقيقاً القول بأني انتقلت إلى الصحافة، هذا حصل قبل سنوات في لبنان، عندما كتبت مقالات في الشأن اليومي لأسباب معيشية. وكان في كلية الفقه منبر كنت أتلو منه خطابات في الشعر والأدب والتاريخ، وكنت أكتب قصة ونقداً أدبياً، وعندما أرادوا أن يجددوا المجلة، اختاروني مشرفاً تنفيذياً على العمل فيها كلها. استمرت المجلة سنة قبيل النكسة (67) وبعدها، وكان العدد الأول عن فلسطين، وبعده جرى التركيز على الحداثة واللغة العربية من دون أن تغيب فلسطين. أسهمت المجلة في التأسيس لحالة ثقافية، واتهمني أشخاص من حزب الدعوة بأن المجلة مشبوهة، وتحمل الصفات التالية : أولاً، أن اسمها مكتوب بالكوفي؛ أي أنها قومية عربية، ثانياً أن اسم المجلة على اليسار يعني أنها يسارية، ثالثاً أننا بدلنا الغلاف وأصبح "لوزانج" شبكة معينات، ما يعني ديالكتيك، رابعاً أننا صدّرنا العدد الأول باللون الأسود والخطوط البيضاء، وهذه سوريالية أو وجودية.

بعد ذلك شاركت أنا والسيد محمد حسن الأمين في إصدار أول مجلة أدب حديث في العراق، اسمها "الكلمة"، صدر العدد الثاني منها وعلى الغلاف صورة غيفارا بالأحمر "حي في كل رصاصة". بقيت المجلة تصدر لفترة طويلة، وكان فريقها مؤلفاً من حميد المطبعي، موسى كريدي، عبد الإله الصايغ، عزيز السيد جاسم، حسين مردان، زهير الجزائري، جان دمو، رزاق أبو الطين، زهير غازي زاهر، موفق خضر سعيد، وغيرهم.

ذ/ ثناء عطوي: كنت متاثراً بشخصية غيفارا؟

العلامة هاني فحص: أعجبتني فيه روح التضحية وما في داخله من حلم بالعدالة. بكيت عليه عندما مات وعلقت صورته في المنزل، من يحب الإمام علي يقدّر نضال غيفارا، ومن يحب الحسين سيحب غاندي، ومن يقرأ زين العابدين يتلذذ بقراءة نيرودا وأراغون والسياب ومحمود درويش. هذه الروح الكلية التي تحكم التاريخ، والفضاء الرحب للتعدد والاختلاف. كنت أرى ديني فيها، إنسانياً مشتاقاً للتغيير والعدالة، يتسامح مع الكفر بشرط العدل. الكلاسيك حماني، لأنه كان على علم وتقوى ومطمئناً إلى نيتي وليس الحداثة النجفية التي كانت ضعيفة وغير عميقة... وهي غير محاولات التغيير من الداخل كتجربة (منتدى النشر) المعروفة في العراق.

ذ/ ثناء عطوي: ألم يخفف انشغالك الديني من اندفاعك الثوري؟

العلامة هاني فحص: لا، أبداً، لأن فلسطين كانت قضيتنا الوجودية. شكلنا لجان مساندة وتوجهنا إلى المراجع لدعمنا، واستصدرنا كلاماً مكتوباً وموقعاً. استضافت النجف حركة فتح في ذكرى الرصاصة الأولى سنة 1969، وأحيينا ذكرى الأخضر العربي وذكرى الكرامة وكدنا نسجن، وتعرّضنا للتهديد من قبل الأمن البعثي. كنا نجتمع كل يوم لنسمع أخبار حركة فتح، ومن لم يكن يملك مذياعاً يذهب إلى رفيقه، نجمع الشيفرات ونحللها بخيالنا. بكينا على عبد الناصر وكأن والدنا قد مات، وأثناء النكسة عطّلنا الدراسة في الكلية وأقفلنا على أنفسنا، وكنا إذا تلاقينا نبكي ونتبادل الدموع بدل أن نتبادل التحيات.

ذ/ ثناء عطوي: لماذا عدت إلى النجف؟

العلامة هاني فحص: لم أكن أريد أن أترك النجف، وعلاقتي بمرجعية النجف شبه يومية الآن. تركتُ النجف في اللحظة التي اكشتفتُ فيها أنه كان يبنغي ويمكن أن أستفيد منها أكثر. اكتشفتُ قيمة مكان تتوفر فيه حرية فكرية تمكّن الإنسان من صنع نفسه، لكني نتيجة الشغب الفكري والسياسي لم أستفد منها كما ينبغي أكاديمياً. أصبحت في النجف أديباً وخطيباً، إضافة إلى ما حصلته من علوم، وعندما وصل البعثيون إلى الحكم، حاولوا إرغامي على المشاركة في أنشطتهم والاقتراب أو الالتباس بالحزب، محاولين استغلال موقفي النقدي من الحوزة، هربت إلى لبنان سنة 1972، عدتُ بعدها بسنة تقريباً إلى النجف تلبية لرغبة أستاذي السيد محمد تقي الحكيم في أن نشكل لجنة، لإعادة قراءة التراث الشيعي مع السيد عدنان البكاء كنواة لإعادة إنتاج هذا التراث وتنقيته (موسوعة البحار مثلاً).

عدتُ إلى لبنان بسرعة بعد أن فتح جهاز الأمن العراقي عينيه على مشروعنا فنجونا. أردت التعويض، وشاركت الناس في صلواتهم وأوجاعهم وأفكارهم، تساويتُ معهم في كل شيء، لكن اللوثة الأدبية والفكرية الموجودة عندي أين سأذهب بها؟ هنا قرّرنا تشكيل منتدى أدباء جبل عامل مع حسن العبد الله وحسن داود وإلياس لحود وشربل داغر وياسر بدر الدين ومحمد فرحات وشوقي بزيع ومحمد العبد الله وحمزة عبود ومحمد علي شمس الدين وأحمد فرحات وغيرهم. أقمنا ندوات وأمسيات شعرية وجلسات نقاش للكتب، كلها في الهواء الطلق وبمشاركة أهل القرى. استقطب المنتدى المثقفين وأسهم في تفعيل النقاش الثقافي في الجنوب. استمر نشاطنا سبعة أشهر، ثم سألتُ نفسي إلى أين؟ هذا لا يكفي. قررت أن علاقتي بفلسطين ينبغي تطويرها، لتصبح علاقة عضوية وعمل وليس علاقة حب عذري.

ذ/ ثناء عطوي: عقدت علاقات قوية مع قيادة الحركة الوطنية؟

العلامة هاني فحص: اكتشفتُ اليسار في تلك الفترة، بعدما كنت مندهشاً من بعيد، وأدركت أن في النجف فائض حرية، وهنا فائض دكتاتورية. كانت علاقتي مع كمال جنبلاط مباشرة وأيضاً مع محسن إبراهيم الذي تحمّس لترشحّي للانتخابات الفرعية في النبطية بمواجهة الأسعد، لكن الإمام موسى الصدر عارض ترشحي، معتبراً أنها معركة بينه وبين كمال جنبلاط الذي يمد يده على الجنوب والشيعة عبر العمامة، وأنا كرمته في اعتذاري، وقيمت موقف جنبلاط والقيادات الوطنية.

ذ/ ثناء عطوي: كيف كانت علاقتك بالإمام الصدر؟

العلامة هاني فحص: لم أكن ضمن فريق عمله إلا متأخراً، لم أكن في مشروعه، لكني كنت معجباً بشخصه. لم يتراجع عن محبتي، حتى في لحظة أسأت له فيها، ثم ندمت واعتذرت، وقبِل اعتذاري، وكتبت عنه كتاباً عبرت فيه عن خسارتي الشخصية والوطنية والشيعية في تغييبه.

ذ/ ثناء عطوي: لكن مشروعه كان وطنياً لبنانياً؟

العلامة هاني فحص: كنت في شبهة يسارية في تلك الفترة، ورأيت أن مشروعه ومشروع المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى هو جزء من الدولة التي أعارضها، وبديل عن الدولة التي أسعى إليها. ثم اكتشفت أنه تجرّأ سنة 1967 على دعم الثورة الفلسطينية إلى أبعد الحدود، وأن علاقته بأبي عمار وأبي جهاد عميقة، واكتشفت عداءه للشاه والمخابرات الإيرانية وتمسكه بفكرة الدولة، خاصة عندما رآها في خطر، فتخلى عن المعارضة والمطالبة، ودعا إلى حماية الدولة وإعادة الدور الوطني إلى الجيش، من دون افتئات على المقاومة ومن دون تخل عن نقدها.

ذ/ ثناء عطوي: وعلاقتك بكمال جنبلاط ؟

العلامة هاني فحص: كان مدخلي إلى فضائه هو حركة مزارعي التبغ، ونشاطي بعدها، كان يستقبلني ويحب جلستي، لكنه كان قليل الكلام. لم نفهمه سياسياً حتى الآن، إلا في حدود التخمين، وفهمناه فكرياً من كتبه، وقد ذكرني في كلمته في مؤتمر الحزب التقدمي سنة 1975 في محور حديثه عن الانتخابات وحركة مزارعي التبغ، وقال من لم يرَ هذه الحركة، فإنه لم يرَ المتغير الحقيقي في لبنان، وعبّر عن شعوره بالخسارة، لأني لم أخض الانتخابات النيابية عام 1974.

ذ/ ثناء عطوي: ما كان دورك في حركة مزارعي التبغ؟

العلامة هاني فحص: صدرت قرارات الريجي بهدف مزيد من التضييق على المزارعين، وكانت أختي وأمي وبنات قريتي ينزلن منتصف الليل إلى الحقول ويعملن في زراعة التبغ المضنية لنعيش، فنعيش بصعوبة. وأنا اخترت الفقر على الأكل من الحق الشرعي المؤلف من الخُمس والزكاة إلا في الحدود الدنيا. انخرطتُ في صفوف المزارعين الصغار، لأني منهم وأفهم فقرهم. حاولت أن أمنع الانفجار الذي كانت تريده الدولة نفسها. افتعلوا مشكلاً واشتعل الوضع، اعتصمنا داخل مبنى الريجي احتجاجاً، فأقفلوا علينا وأبقونا في الداخل ثلاثة أيام من دون ماء أو طعام. وعندما جاءت تظاهرة لتأييدنا أطلقوا النار عليهم، فاستشهد حسن الحايك ونعيم درويش، وجرح عدد من المزارعين. كنا 83 شخصاً بيننا شيوخ عمرهم يتجاوز 60 سنة، تعبنا ونعسنا وجعنا، وإذ بسرية من الدرك وأخرى من الجيش بقيادة رائد معروف بالاستقامة تدخل علينا بعيد منتصف الليل ليحملونا في الشاحنات إلى ثكنة النبطية. تكاتفنا جميعاً، وأنا فتحت القرآن ورحت أقرأ، فاقترب مني الضابط وقال : "انهض يا شيخنا، معاوية فعلها قبلك"، يقصد رفع المصاحف في معركة صفين.

ذ/ ثناء عطوي: كيف قرأت الحرب الأهلية في لبنان؟

العلامة هاني فحص: لم أكن مقتنعاً بالحرب، واعترفتُ بمسؤوليتي مبكراً سنة 93 في مؤتمر في تعنايل. قلت: إن الدم على طرف جُبّتي نتيجة موقف خطأ أو السكوت عن أمر معين. حركة فتح وحزب الكتائب والحركة الوطنية جميعهم كانوا شركاء حرب. كنا ضد الحرب، ولم يذهب شاب إلى هذه الحرب الأهلية وأخبرني فرضيت، ولم يعد شاب من هذه الحرب وباركته. لم أرَ أماً من أمهاتنا راضية بالحرب. أسسنا مع بطرس لبكي وروجيه عساف وإبراهيم الشويري وجورج ناصيف ومعين حمزة وأحمد علامة ونايف سعادة والراهبة المارونية نبيهة عفيف والأب الماروني مكرم قزح والكاثوليكي الأب سليم غزال، "لجان إطفاء" في المناطق لتخفيف الاحتقان، وكانت تجربة مختلفة ومهمة... كانت تأسيساً في ظروف الحرب لحوار أهلي وعيش مشترك عميق.

ذ/ ثناء عطوي: ترفض الحرب الأهلية، وتناضل في صفوف حركة فتح؟

العلامة هاني فحص: التحقت سنة 1974 بحركة فتح، كنت أعلّم في مؤسسات الإمام الصدر في المعهد الشرعي، حيث كنا ندرب الشباب على القتال وفك السلاح وتركيبه برضا الإمام الصدر بناء على التزامه بالمقاومة، كانت فتح فضاء واسعاً، ولا مرة تلقينا أمراً ولا مرة جاءنا تعميم تنظيمي، ولا التزمنا برأي أو موقف. كانت حركة شعب، وكان لنا إطارنا التنظيمي المرن، نحن الذين تربينا خارج فتح عقائدياً، كنا نُصدر مجلتنا ونوزعها سراً عن تنظيم فتح أيضاً، وعندما لا يعجبنا هذا القيادي نذهب إلى غيره، وإذا اختلفنا مع أبي موسى مثلاً، نذهب إلى أبي الوليد أو جواد أبو الشعر، وهكذا. خضنا أول عملية سنة 1973 قبل أن ننخرط في صفوف "فتح"، كنا نذهب ليلاً بعد أن نفطر ونصلي، نستقلّ سيارة أجرة، ونتكدّس على بعضنا البعض سبعة أو ثمانية أشخاص، ننزل إلى منطقة برج الشمالي للتدريب، ونذهب إلى العرقوب، لكني لم أكن عنفياً ولم أقتل أحداً... لم يطلب منا ولو طلب لما قبلنا بالقتال في الحرب الأهلية مع معارضتنا الشديدة جداً للجبهة اللبنانية، ونقدنا الشديد للحركة الوطنية والمقاومة.

ذ/ ثناء عطوي: كيف توطدت علاقتك مع منظمة التحرير، ومع أبي عمار تحديداً؟

العلامة هاني فحص: بدأت العلاقة منذ وجودي في النجف، من مكان يجلس فيه الناس ويراقبون فلسطين. جاءت النكسة، فأحبطنا وبكينا ورحنا نفتش عن فرصة، إلى أن بدأت إذاعة "صوت فتح" تتحدث عن عمليات فدائية. شكلنا لجاناً، وبدأنا نجمع من مصروفنا الضئيل ما نرسله للثوار عبر طالب في جامعة بغداد (الدكتور محمد حُوّر)، كان مسؤولاً طلابياً في فتح. اشترى كثيرون منا مذياعاً صغيراً، لنبقى على تواصل مع الثورة، كنا نجلس في حوش المنزل أو الحوزة، نتابع الشيفرات، من "أبو الليل إلى أبو أحمد، ومن فلان إلى فلان..." ثم جاءت معركة الكرامة، وكنا قد استكشفنا قبلها أجواء مراجعنا في النجف حول دعم القضية الفلسطينية. بعدها، أحيت النجف ذكرى الرصاصة الأولى سنة 1969، وكان من أضخم المهرجانات، وفي العام الثاني عندما أردنا الاحتفال بذكرى معركة الكرامة والأخضر العربي، منعنا "حزب البعث"، وكادوا يرموننا في السجون، فأحييناه سراً.

جئت إلى لبنان من دون توجه محدد، اقتربت جداً من فتح لسبب أساس، هو أنني منذ البداية لم أستطع أن أكون حزبياً، لكن من دون أن أكون معادياً للحزبيين. وجدت فتح، مثل النجف فيها حرية إلى حد الفوضى، وفيها أبواب كثيرة للدخول وأبواب قليلة للخروج، لا أحد يحكمنا. بعد أن دخلت في حركة مزارعي التبغ، أصبحت شخصاً معروفاً أكثر، فتنبهت فتح لنشاطي. في هذه اللحظة توقفت وقلت لا بد من تصويب خياراتي. قررنا أنا والسيد محمد حسن الأمين ومجموعة من الشباب أن نؤسس مشروعاً مميزاً، يشبه التنظيم المستقل، يجمع ما بين الوطني اللبناني والفلسطيني والقومي والإنساني والوحدة والحرية والجنوب. كتبنا نصاً وأرسلناه إلى أبي عمار عبر المرحوم هاني الحسن، قصدنا فتح تحديداً، لأنها فضاء واسع يحمينا، وتتعامل معنا براغماتياً على الأقل من دون ضرورة للاختزال الإيديولوجي. استدعانا بعدها أبو عمار إلى لقاء وأبدى موافقته، وأعطانا الضوء الأخضر للبدء بالعمل، وأطلقنا على التيار اسم "التوجه".

توثقت علاقتي بحركة فتح وأبي عمار وأبي جهاد أيضاً الذي كان في ذلك الوقت يستقبل القوى الإيرانية المعارضة؛ يدربهم ويُشركهم في القتال، وقد سقط منهم شهداء. كنت بدوري على علاقة بالقيادات الإيرانية في الخارج، وأهمهم جلال فارسي. أصبحت أدعى إلى مواقع الإيرانيين، ونقيم حوارات حول لبنان وفلسطين، وبدأوا يتابعون أفكاري ويرسلونها إلى النجف. كان تركيز الإمام الخميني حينها على إيران، وكانت العلاقات الإيرانية الإسرائيلية من أسباب غضبه واعتراضه. جاءني جلال فارسي سنة 1977 وطلب مني أن نشبّك العلاقات جيداً، اتفقنا أن نطلب من أبي عمار توجيه رسالة تعزية إلى الخميني بوفاة نجله في ظروف وجهت الشك إلى السافاك، كتبت الرسالة أنا ووقّعها أبو عمار وحملتها إليه، وجرى حوار طويل وعميق مع الإمام الخميني نُشر بالفارسية والعربية، تناولنا فيه قضية فلسطين ولبنان والمنطقة العربية. بعد ذلك تحولت عملياً إلى ضابط ارتباط ما بين أبي عمار والخميني. لم أفقد دوري على المستوى المحلي، ولم أقبل أي موقع رسمي في فتح، بقيت مستشاراً في قضايا محلية عدة.

ذ/ ثناء عطوي: هل نشأت صداقة بينك وبين أبي عمار؟

العلامة هاني فحص: كانت بيني وبين أبي عمار مودة خاصة جداً وعميقة، كانت علاقتي مميزة مع أبي جهاد أيضاً. أبو عمار يُربك من يختلفون معه أو يتفقون، كان رجلاً إشكالياً في كل شيء، حتى اللغة العربية التي جعلنا نحب أخطاءه فيها ونتفكه بها ونتذكرها وكأنها شعر، ما عدا فلسطين، بل إن إشكالياته كلها كانت، حتى الخطأ كان من أجلها. لم أرَ نرجسياً خفيف الظل في نرجسيته مثله، لكن نرجسيته كلها في خدمة فلسطين، كأنه يختزلها في ذاته، ويضخم هذه الذات في حضرتها، كان في نرجسيته إبداع، كان صعباً ومرناً إلى أقصى الدرجات. فيه شيء قَبلي عشائري، وفيه حداثة حادة، فيه استبداد تفصيلي وديمقراطية عامة، لكنك لن تكون معه على يقين أبداً. أبو عمار حامض وفيه حلاوة خاصة، ولا خلاص منه إلا به. شفيق الحوت ـ رحمه الله ـ بقي يتحدث لساعات عن أبي عمار ناقداً، ثم أردف قائلاً بسخرية : ولكننا نحن نتكلم، وهو يصنع التاريخ.

ذ/ ثناء عطوي: من هو أبو جهاد؟

العلامة هاني فحص: أبو جهاد نمط آخر، جبل ثلج في داخله نار. هو براغماتي فلسطيني، مثل أبي عمار، يواجه الأمور بتأن وبرودة أعصاب مذهلة، وباله في فلسطين على الدوام، زرت تونس مرة والتقيت عدداً وافراً من القيادات الفلسطينية، ولكني لم أرَ فلسطين وانتفاضتها الأولى كما رأيتها في عينيه وحديثه معي وطلباته مني... كان أبو جهاد عملياً ومباشراً، يحب السر ويكره الأضواء إذا كانت قوية وباهرة.

ذ/ ثناء عطوي: بعد نجاح الثورة الإيرانية توجهتم إلى إيران برفقة وفد فلسطيني رفيع على، رأسه أبي عمار للتهنئة، ماذا عن هذه الزيارة؟

العلامة هاني فحص: بقي أبو عمار يعذبنا ثلاثة أيام، ثم أبلغنا أننا قد نسافر إلى إيران في طائرة شحن، بعد يومين من الانتظار دق بابي عند الفجر من ليلة صقيع في كيفون، فكان فتحي رفيق عُمر عرفات، وأبلغني بأننا سنذهب إلى الشام الآن. صعدنا في سيارة فولفو ستايشن، سألته أين أبو عمار ؟ فأومأ لي أنه هو من يقود السيارة. وصلنا إلى الشام، وجاء الرئيس أبو مازن وحامد أبو ستة وهاني الحسن وآخرون، قال لنا: إننا سنذهب نحن من دونه، فسالته ومن سيرئس الوفد؟ ابتسم وقال: أنت إذا أردت. ثم قال سأرافقكم إلى المطار، دخل برفقتنا إلى صالون الشرف، بعد ذلك صعد معنا إلى الطائرة. المهم دخلنا الأجواء الإيرانية من دون علم الأجهزة بهوية الوفد، وذلك بقرار من أبي عمار خوفاً من بقايا نظام الشاه والموساد والسافاك. كشف الإيرانيون الطائرة، فأرسلوا طائرات "فانتوم" لرصدنا وحاصرونا، وألحّوا على معرفة أسماء الوفد الزائر. في هذه اللحظة، وضع أبو عمار "الفيلد" العسكري على رأسه واستلقى، وراح يطل منه ليجيب عن أسئلتنا وأسئلة الأجهزة الإيرانية. قال لنا: أبلغوهم أننا وفد فلسطيني رفيع المستوى ولا تعطوهم أي اسم حذراً من بقايا السافاك في سلاح الطيران وغيره، كما قال لنا، لكن الإيرانيين علموا أن أبا عمار هو من كان على متن الطائرة بعد اتصال بين بيروت والشام وإيران.

هكذا عادت الطائرات تحيينا، وواكبتنا حتى أرض المطار، وخلال دقائق تحول مطار طهران إلى حشد من الجماهير. استقبلونا بحرارة وكسروا زجاج صالة الشرف من شدة حماستهم، واستقبلنا على أرض المطار الشيخ معزي مبعوثاً من الإمام الخميني، ومن هناك توجهنا مباشرة إلى مقر الإمام في مدرسة فرح وعلوي، حيث أقمنا في طابق، والخميني في طابق. كان المقر مزاراً لجماهير إيران التي كانت تريد أن ترى الخميني وتسمعه، ومع وصول أبي عمار زادت الأعداد وارتفعت الحماسة والهتاف "اليوم إيران وغداً فلسطين" (امروز إيران فردا فلسطين)، و"تحية للخميني سلام إلى عرفات" (درودبر خميني سلام بر عرفات ).

ذ/ ثناء عطوي: كان اللقاء الأول الذي يجمع الخميني بعرفات؟

العلامة هاني فحص: كان أول لقاء بين الخميني ومسؤول عربي، كان الجو حاشداً بالعواطف والتبريكات والأحلام. جرت لقاءات شبه عامة، وثلاثة لقاءات خاصة، انحصرت بين الخميني وأبي عمار وجلال فارسي مترجماً، وتركزت على الطرق اللازم اتباعها لحماية الثورة. ولأن أبا عمار قد قرر بالتشاور مع أبي مازن وهاني الحسن أن يكون الأخير أول سفير لمنظمة التحرير في طهران، كان أبو عمار يُطلع الحسن على تفاصيل محادثاته مع الخميني وينقلها لنا على طريقته.

بعد ذلك ظهرت التعقيدات ونَمَت الخلافات بسرعة من دون إفساد الودّ والقضية، والسبب المباشر أن الفلسطينيين لم يكونوا متصورين أن تديّن الإيرانيين تفصيلي وشامل وأساس في بناء العلاقة مع الآخرين، ما تغير لاحقاً بعد ظهور ضرورات الدولة الأقوى من ضرورات وخيارات الدين، وكان الإيرانيون يفترضون أن قداسة فلسطين والقدس، لا بد أن تكون منعكسة عليهم؛ أي أنهم لا بد أن يكونوا ملائكة، هكذا توفر السبب ليظلم كل منهما الآخر عندما يتكاشفون... بالإضافة إلى أنه وبسرعة ظهر اختلاف عميق بين أهداف كل من الطرفين في علاقته بالآخر، كل يريد الآخر كله في مشروعه الوطني... فبدأ التباعد الذي وصل إلى حد القطيعة أحياناً.

ذ/ ثناء عطوي: كيف تعاملتم مع الدخول السوري إلى لبنان؟

العلامة هاني فحص: كنا ضده، ولكن أيضاً ضد مقاتلة الجنود، كنا نجول على مواقع في الجنوب لإقناع الشباب بعدم إطلاق أية رصاصة على السوريين، ما أثار غضب اليسار وحلفائه علينا. ذهبت إلى أبي جهاد غاضباً، وشكوت له أن الناس نسوا قضية فلسطين، فضحك وقال سترى قريباً، إذ كان يهيئ لعملية الشهيدة دلال المغربي ... هكذا كنا نريد للبوصلة أن تتجه.

ذ/ ثناء عطوي: عقدت صلات وثيقة مع الإيرانيين المعارضين قبيل الثورة الاسلامية؟

العلامة هاني فحص: صحيح، بدأت علاقتي مع الإيرانيين في الخارج منذ سنة 1973، كان الشهيد محمد صالح الحسيني صديقي، وهو إيراني الأصل، لكنه نجفي المولد والحياة، طردته حكومة البعث إلى لبنان، وكان مسؤولاً عن تتنظيم الشباب المسلم ومناضلاً حقيقياً، وعلى خلاف مع حزب الدعوة، عاش واستشهد في لبنان. جاءني، وأنا ألقي محاضرة في منطقة النبطية عنوانها "مشروع رؤية لفك حصار الحزن في عاشوراء"، مصطحباً معه جلال فارسي، وهو من أهم قيادات الثورة. بعد انتهاء المحاضرة، طلب مني فارسي الحصول على النص ليترجمه إلى الفارسية ويرسله إلى الإمام الخميني، بعدها أصدرت أنا وفارسي كتاباً عن الخميني وإسرائيل، وكتاباً عنوانه "دروس في الجهاد" جمعنا فيه خطب الإمام الثورية. واستمرت علاقاتنا وتعاوننا طويلاً.

ذ/ ثناء عطوي: زيارتك الأولى إلى إيران لتعزية الخميني أسست لعلاقة متينة مع نظام طهران؟

العلامة هاني فحص: ذهبت إلى الخميني سنة 1977 حاملاً رسالة تعزية من أبي عمار بابنه الأكبر الذي قتل في ظروف غامضة، كما مرّ، وقُتل بعده علي شريعتي في ظروف غامضة أيضاً، حيث التقى الإمام الصدر وأبو عمار في تأبينه في العاملية، ما أثار حفيظة السافاك واليمين اللبناني (شمعون والجميل) وحفيظة كثير من مشايخ الشيعة الذين أصبحوا أصدقاء إيران بعد تشكيل السلطة واستقرار الدولة. سلّمته الرسالة وأجريت معه حواراً لساعتين. ختم حديثه معي عن فلسطين ووحدة العرب، وتمنى أن يركز العرب على هذه القضية. قبلها كنت في النجف، وجاء الخميني سنة 1965 مطارَداً من الشاه. ذهبتُ مع رفاقي وزملائي لاستقباله في بغداد بفرح، كان سلوكه محترماً وبسيطاً ولا يريدنا حاشية له، ولم يكن طارحاً دولة إسلامية، هو جاء إلى تركيا منفياً كمناضل إصلاحي وليس مرجعاً، ولا حامل مشروع دولة بديلة. أقنعه الإيرانيون الذين كانوا يزورونه في تركيا أن عليه أن يكون مرجعاً، فقرر ذلك وصدّر رسالته العملية هناك "تحرير الوسيلة". لم يتحمل الشاه ذلك الخلل في الاتفاق مع الأتراك على موقعه، فطلبوا من الأتراك طرده، وجاء إلى النجف. وإذ كان العراقيون على خلاف مع الشاه، فقد استقبلوه وحاولوا استغلاله، لكنه كان واعياً لهذه المسألة. نسّق معهم ولم ينخرط في سياساتهم، لذلك عندما عقدوا اتفاقية مع الشاه سنة 1975 تراجعوا عن دعمه، لكنهم لم يتخلصوا منه لخوفهم من الشاه أيضاً؛ أي ليبقى رصيداً احتياطياً حتى عام 1978 م.

رأى الخميني في النجف حركة "حزب الدعوة"، وطروحاتهم حول الدولة الإسلامية في اللحظة التي كانوا متأثرين فيها بالإخوان المسلمين، كانوا تلاميذ لسيد قطب، وكان السيد محمد باقر الصدر من المؤسسين، ثم تنبّه وذهب إلى المرجعية. رأى الخميني ذلك، فتأثر بهم، وقرر أن يتمايز عنهم. أعدّ أطروحة شيعية مستنداً إلى نصوص متداولة، لكن لم يكن لها هذه القوة العلمية، ولم تكن تتمتع بقوة الإسناد في مداركها؛ أعني ولاية الفقيه. جاؤوه في باريس بعرض للانتقال إلى ليبيا، خوفاً من رفض الفرنسيين تمديد إقامته، وكي لا يصبح تحت رحمة القذافي، لأنه سيتاجر به، اقترحنا عليه بالتفاهم مع أبي عمار الانتقال إلى البقاع في لبنان في أيلول سنة 1978، وإقامة حوزة له في البقاع. سأل الخميني عن موضوع الأمن، فطمأناه أن الأمن سيكون بالتنسيق ما بين السوريين والفلسطينيين، وافق الخميني، وكان الحديث بحضور ولده أحمد والدكتور إبراهيم يزدي وبني صدر، لكنه طلب التريث قائلاً: عليّ أن أستشير زوجتي، ما أدهشنا؛ بعدها أبلغني نواف سلام وطوني عبد النور أن دومينيك شوفالييه الأستاذ الكبير ومستشار الخارجية والداخلية الفرنسية، يريد رؤيتي، وعندما التقينا أبلغني أن الفرنسيين سيمدّدون للخميني إقامته الباريسية؛ لأنهم يريدون المحافظة على مصالحهم في إيران في المستقبل القريب.

ذ/ ثناء عطوي: عايشت عن قرب كبار رجالات السياسة في طهران؟

العلامة هاني فحص: عشتُ في طهران ثلاث سنوات، وشغلت منصب عضو اللجنة العلمية للمؤتمرات التي تضم شخصيات علمية كبيرة. كنت مستشاراً غير معين للإذاعة والتلفزيون الإيراني سنة 1982 ومسؤولاً مشاركاً في القسم العربي في هيئة الإعلام الحوزوي، كما أشرفت على مجلة أبحاث اسمها "الفجر". درّست في قم فنّ البحث والكتابة، وهو فرع استحدثته، ودرّست أيضاً تاريخ الشعوب والاستعمار من القرن الثامن عشر. عُيّنت مستشاراً ثقافياً لشؤون العلاقة والاتصال بالعلماء المسلمين حول العالم في مؤتمر أئمة الجمعة والجماعة، وكان رئيس الهيئة العليا السيد علي الخامنئي رئيس الجمهورية، وأمينها العام الشيخ علي المشكيني، وأعضاؤها مجموعة من العلماء من بينهم السيد محمد خاتمي عندما كان وزيراً للإرشاد، وفي أساس نشاطها والده المرحوم السيد روح الله خاتمي.

ذ/ ثناء عطوي: من كان السيد خامنئي؟

العلامة هاني فحص: كان مثقفاً مطّلعاً على نتاجات العالم الثقافية إلى كونه فقيهاً ذا ذوق فقهي، وكان البُعد الثقافي في تكوينه أرجح من البعد الفقهي أو يعادله. أما اجتهاده الفقهي أو أهليته لولاية الفقيه، فليست مسلّمة عند جميع أهل الخبرة. الشيخ هاشمي رفسنجاني روى أن السيد الخميني قال: إن السيد الخامنئي مؤهل للقيادة، وهذا أقوى ما استند الخبراء إليه في توليته، بعدما تمت مراعاة الأهلية السياسية وظروف إيران، وبقي من يشك في أصل اجتهاده. أعتقد أنه بالمعايير الكلاسيكية الصارمة قد يكون ذلك صحيحاً، لكنه لاحقاً اشتغل على نفسه فقهياً، وتجاوز هذه الحالة وبقي عاقلاً وفهم أن مرجعيته هي إحدى المرجعيات، وإن كانت فتواه تُلزم الجميع في الدولة وفي فضائها الشعبي في إيران، فذلك عائد إلى قوة السلطة الحاكمة أيضاً. حتى حزب الله، مرّ في مرحلة لم يكن قادراً فيها على فرض الخميني أو الخامنئي، لكنه الآن ارتاح لأن الحزبية أصبحت أكثر تماسكاً وأكثر قدرة على الإلزام.

ذ/ ثناء عطوي: عملت إلى جانب الخميني والخامنئي، بمن تأثرت؟

العلامة هاني فحص: لم أتأثر بأحد، ولو أعجبني وشدّني. كنت أحب الشعب الإيراني وأكره شاه إيران، لأنه ساعد إسرائيل على أهل فلسطين، أحب العدالة والفقراء وحرية الفكر. منذ أن كنت في النجف، توجهت نحو المعارضة الإيرانية من دون تفريق، كان أصدقائي من مجاهدي خلق والليبراليين وجماعة بازركان وكريم سنجابي والكفاءات الليبرالية الإيرانية (هاشم صباغيان)... وكنت أقرب إلى حركة الخميني منسجماً في ذلك مع وضعي... ثم كانت أخطاء مجاهدي خلق شنيعة، وقد ظهرت مبكراً، والليبراليون، وهم جزء الآن من حركة الإصلاح، أخطأوا في تقدير موازين القوى، ثم صححوا مسارهم، ولكن بعد الخسارة.

ذ/ ثناء عطوي: من كان الإمام الخميني؟

العلامة هاني فحص: لقد عاينا سلوكه العرفاني، وذوقه الرفيع وأناقته وحرصه الشديد على اختيار ألوان ملابسه من دون ترف. لا يُتمتم بالدين كغيره، حياته الشخصية كانت بسيطة، لم يتبدل مصروفه بعد أن أصبح حاكماً أعلى. كان فطوره جبنة وريحاناً، وكل طعامه من حواضر البيت، وبقي كذلك، ولم يورث لأفراد أسرته شيئاً. كان يستيقظ باكراً، يصلي ويقرأ القرآن، يستخدم المنبّه، يلفه بحرام صوف ويضعه تحت أذنه، كي لا يزعج زوجته. في عيد الميلاد وأثناء إقامته في باريس، دعا جيرانه كلهم إلى حديقة منزله ووزع عليهم الورد وهنأهم، أذكر عندما زارته صحفية إيطالية كبيرة ومعروفة بجرأتها وقررت تحدّيه نازعة الحجاب في نهاية المقابلة. لم يقل كلمة واحدة، نظر اليها نظرة، قالت بعدها: أحسست أنه عرّاني، فخرجتُ وأنا أتلفـّت ورائي.

ذ/ ثناء عطوي: ما الفرق بين الخميني والخامنئي؟

العلامة هاني فحص: أولاً الفرق بين مؤسس ووارث بالمعنى الإداري لا السلالي، بين من قاد الثورة ومن أنتجته الثورة والدولة، وهناك فرق بينه وبين عموم رجال الدين، هو الوهج الشخصي. كانت له سطوة، وهو يتيم وغريب، أصله هندي، وهو آت من كشمير. توفي والده مبكراً، فربّته أمه وعمّته. كان شخصاً مرتاحاً إلى خياراته وسلوكه ومتعباً لشركائه، يُشعِر من يكون إلى جانبه أنه ضئيل وإن لم يُشعره، لأن حضوره يطغى، وقد يلغي.

ذ/ ثناء عطوي: لم تطل إقامتك في ايران؟

العلامة هاني فحص: اتفقت مع عائلتي أن يعودوا ويستقروا في لبنان أول خريف 1985، وأن أبقى أنا في إيران، بناءً على إلحاح قيادات عليا في قم (منتظري). وفي إحدى الليالي، فتحت المذياع فجاءني صوت فيروز "يا قمر مشغرة"، نهضت من فراشي وأبلغتهم قراري بالعودة معهم إلى لبنان. الحنين هو الذي أعادني، اكتشفتُ أن أي شخص في أي بلد في العالم، ومهما أصبح عظيماً، لا بد أن يفكر ويحنّ إلى جذوره وقريته وأصدقاء طفولته... تماماً كحنين الرسول (ص) إلى مكة. ومهما بلغ مجده أو ماله في المغترب، فإنه يشعر بالنقص... وقد دعاني أحد أرحام السيد الخميني إلى الغداء... وقال لي : هذه الدعوة ليست كرماً مني، وإنما هي حرص عليك. وأنا اكتشفت صفاء نيتك، فقررت أن أنصحك بالعودة إلى بلدك، لأنك من الصعب أن تحصل على اعتراف بدورك هنا وقال كلاماً فيه شيء من القسوة على سلوكيات الدول الثورية تجاه أنصارها القدامى.

ذ/ ثناء عطوي: هل تسمع فيروز اليوم؟ أليست الأغاني من الأعمال الحرام؟

العلامة هاني فحص: ليس صحيحاً، كل ما هو مفيد أو جميل حلال، وحديثاً اشتريتُ 60 أغنية لمحمد عبد الوهاب وغيره. الأغاني الراقية تشعرني بروحانية عالية، وأنا أبحث عن الروح في الطرب، لا أخالف الشرع، ورأيي أن بعض الأصوات الطربية أحنّ وأكثر روحانية من أصوات بعض المنشدين وقارئي الأدعية، بطريقة تبعثر ما فيها من رقة وروح وجاذبية، وتحولها إلى لوائح مطالب شخصية وأنانية من الله. هذه أمور خلافية عند الفقهاء، ما يحرّمها هي اللحظة والمزاج والثقافة، كما تتحكم فيها مزاجية مرجعية مضطرة إلى ترسيخ التقليد، لأن التجديد يؤثر سلبياً على سلطة المرجعية عموماً.

ذ/ ثناء عطوي: تصف تعامل إيران مع شيعة لبنان وكأنهم جالية إيرانية؟

العلامة هاني فحص: نعم، لأن الإيراني قوي وذو ذاكرة إمبراطورية استتباعية أو استيلائية، لا يحب أن يكون له دور، بل نفوذ. الدور يعني الشراكة، الدور يشترط الآخر، والنفوذ استتباع واستلحاق، زبائني ريعيّ يشتري الرقبة والقرار، يهمه الوصول إلى هدفه، هو براغماتي جداّ ومسكون بهاجس الإمبراطورية التي يريد استعادتها بمنطق القوة الفارسية أو الشيعية أو الإيرانية مقابل الكثرة العربية الضعيفة والمشتتة. وقد حصلت للإيراني فرصة ذهبية سنة 1982 عندما ترك العرب فلسطين ولبنان، فاستغلّ غفلتهم أو كسلهم أو استقالتهم، وذهب إلى قضية العرب الأولى، وإلى قضية السنّة الأولى وأمسك بها، فلسطين، ونظّم حركة مال وذهب إلى النظام السوري. في الوقت نفسه، كان العرب يدلّلون حافظ الأسد، ولم يقدموا مشروعاً للعراق، تركوا الجنوب، وتركوا فلسطين، وراحوا يقدمون مالاً بلا عقل ولا برنامج.

ذ/ ثناء عطوي: هل المال الإيراني ذكي فعلاً؟

العلامة هاني فحص: جداً، وفي التعبير الإيراني الشعبي (حسابي)؛ أي مدقق... قد يكون ذلك آتياً من الجينات الآرية، وقد لفتني أن الإيرانيين يسمون البخل قلة سخاء! سمعت بأذني مسؤولاً مالياً إيرانياً يقول: إذا أردت أن تعطي عربياً أو لبنانياً ألف تومان، فلا تعطه إياه دفعة واحدة، بل ثلاث دفعات، كي تربح منه ثلاثة أضعاف.

ذ/ ثناء عطوي: ما الذي جعلك تعيد النظر في أفكارك السياسية وبموقفك من إيران وحزب الله؟

العلامة هاني فحص: تنبهتُ إلى وطنية إيرانية عميقة. أنا كنت شخصياً كوزموبوليتياً عابراً للوطن في إيران وقبلها، لا وطنياً، أو لي وطن خرافي، بلا حدود، بلا مكان معين. انتبهت إلى أن هناك وطنية إيرانية ومواطنية، رغم كل الخطابات الأممية والإسلاموية والشيعوية، وأنا مسلم، فهل وطنيتهم هي ضد الإسلام، ضد الشريعة؟ هذه وطنية إيرانية في مكانها، لماذا لا ألتفت إلى وطنيتي ولبنانيتي؟ لماذا لا أتنبّه إلى عروبتي؟ ليس بالضرورة أن أكون بعثياً، ولا قومياً عربياً من جنس سياسي آخر، لكني عربي، وهذا جزء من هويتي المركبة. بناء على هذا، قررت العودة إلى لبنان لبنانياً عربياً من دون عداء لإيران، لكني مصرّ على التمايز، وهكذا بدأت أتغير من موقع فكري رؤيوي تصحيحي بناء على تجربة ملموسة، وجدّدت قراءاتي لمعنى العروبة الثقافية، ونشأة الكيان اللبناني ودوره ومعناه، ومعنى المواطنة كاختيار لا بد أن يصبح قانوناً.

ذ/ ثناء عطوي: أما زلت ثابتاً على عدائك لإسرائيل؟ وكيف تنظر إلى القضية الفلسطينية اليوم؟

العلامة هاني فحص: لا عدو لي إلا اسرائيل، لكن عداوتي ليست على النسق العربي المحكوم بالمبالغات التي تنتهي إلى فداحة في التنازلات، أنا أقبل بدولتين وأقبل بدولة واحدة. أقبل بدولة واحدة، وأرجحية لليهود فيها. أوافق على أن يبقى رئيس الدولة الواحدة، حتى آخر العمر يهودياً. لا أريد أن أحل المأساة الفلسطينية بمأساة يهودية أخرى. القضية الفلسطينية هي قضية حق الشعب الفلسطيني أولاً، لها بُعد عربي وديني، لكنها قضية الفلسطينيين بالذات، وتديينها أو أسلمتها هو أسرلة لها، هذا لا يعني أن معناها خالٍ من الدين، إنه غني جداً بالمشترك الروحي الديني وتحت مظلة التوحيد الإبراهيمي، وهذا ما يمكن الاستفادة منه من أجل خلاص القدس وفلسطين من التهويد. إن التنمية هي الحل، وهي المقاومة الحقيقية .

ذ/ ثناء عطوي: أية مرجعية هي أكثر معاصرة وانفتاحاً؟

العلامة هاني فحص: أنا لا أمنح شهادة، كل مرجع له ميزة، لكن رأيي أن من رفض أن يصبح مرجعاً، واختلفت جداً معه في أمور إجرائية لا فكرية ولا سياسية، هو الشيخ محمد مهدي شمس الدين. لقد كان نموذجاً فذاً وفريداً، هو بدأ كلاسيكياً متشدداً وصعباً، وانتهى إلى حداثة وَقِرة. لم يكتب ولم يقل شيئاً دون المستوى، وكان أهم من قرأ الثقافة المجتمعية التعددية اللبنانية من منظور حديث وتقانة كلاسيكية، فتلبنن بوقار وقوة وتوازن باتزان وشجاعة، ومن دون عداوات، ومع كثير من الاختلاف والاعتراض.

ذ/ ثناء عطوي: من تقلد اليوم؟

العلامة هاني فحص: مرجعي هو السيستاني، وكنت أول من قلّد الإمام الخميني في لبنان.

ذ/ ثناء عطوي: لماذا غيرت؟

العلامة هاني فحص: هذا طبيعي في الوسط الشيعي، ثبت لي أن السيستاني أعلم من الموجودين، على علوّ شأنهم العلمي، ثم إنني لا أقلد الميت، لقد انتقلت من الخميني إلى المنتظري، ومن بعده إلى السيستاني.

ذ/ ثناء عطوي: السيد فضل الله نصّب نفسه مرجعاً وحورب، هل فكرت أن تعلن نفسك مرجعاً؟

العلامة هاني فحص: لا أبداً، أنا مثقف ورجل إشكالي. والانقطاع عن الدراسات الفقهية المعمقة والتدريس التخصصي لمدة سنة يخل بأهلية المرجعية، فكيف إذا كان الانقطاع عقوداً؟ وكان استيلاء البعث على السلطة ومد يده إلى النجف مانعاً لك من استكمال بنائك العلمي؟ .. والمسؤولية هنا معرفية وأخلاقية ودينية. أنا طامح كي أكون جزءاً من حركة مرجعية فكرية واجتماعية، تمر بالفقه والفتوى، لكنها ليست مضطرة أو مهتمة بإنتاج الفتوى، لأن لها آلية إنتاج ليست متوفرة لدى المثقف الديني، بل هي من أدوات الفقيه. والسيد فضل الله حورب، لأنه تصدى للمرجعية في اللحظة التي طرح فيها السيد خامنئي للمرجعية مع قناعة إيرانية بعدم جواز أن يكون للأطراف مرجعية عامة في موازاة مرجعية المركز (قم).

ذ/ ثناء عطوي: متى حسمت خياراتك الفقهية والمرجعية؟

العلامة هاني فحص: سألت نفسي إلى أين؟ كنت خارجاً من إطار حركة تحررعربي، وذهبت إلى مثيلها، نظام شمولي، والسبب خيبة الأمل. تعصبتُ جداً ورأيت نفسي متناقضاً وأنا لست أنا، فهدأت ورأيت أن أزمتي آتية من ولاية الفقيه، مع كونها فرعاً فقهياً وليست أصلاً، وهي ليست جزءاً من العقيدة، هي مسألة حكم فقهي فرعي يستطيع أن يخالفه المرء من دون خروج عن الملة. هم يعملون لتحويلها إلى أصل وعقيدة، لكنَ هناك تيارا شبابيا واسعا جداً هو مصدر حيوية إيران، بدأ يتجاوز هذه المسألة، ولا يريد أن يطوّر ولاية الفقيه من عقيدة قابضة إلى فكرة حاضنة كما كان مشايخ الإصلاحيين، وهذا تيار كاسح يريد أن يلغيها من الدستور مع إمكان أن تبقى في حدودها العملية الفقهية بالمعنى الأقرب إلى التعبد لا التوصل ولا التوسل. حتى في وسط المحافظين ولاية الفقيه ليست قناعة عميقة، وإنما أداة عمل. كان في إيران رجلان مهمان، هما الشيخ يوسف صانعي والشيخ حسين منتظري ـ رحمه الله ـ، السيد الخميني كان صاحب فكرة ولاية الفقيه، لكن من عمّقها وأصّلها فقهياً هو منتظري، ومن نشرها بين الناس كان صانعي، وهذان الاثنان عادا عن الفكرة.

ذ/ ثناء عطوي: هل الدين هو جزء مكمل للثقافة؟ وهل يوجد ما بين الدين والثقافة مسافة توافق؟

العلامة هاني فحص: الدين جزء أساسي من الثقافة، أية ثقافة، سواء كانت تقبله أو ترفضه، تحاوره أو تساجله. من دون جدل بين الديني والثقافي يتراجع السؤال وتتناقص المعرفة، والدين من أهم نواظم حياة وعلاقات الجماعات والأفراد، خصوصاً مع غياب الدولة أو ضعفها، وسلّة الرموز الدينية هي مصدر الحيوية التي تفتح الأفق على مزيد من الخوف والرجاء. وليس قبول الدين وحده هو الذي يحرك الحياة والحوار، بل حتى رفض الدين هو محرك أيضاً، وقد تكون الحركة أقوى في الاختلاف، وأقصد بالدين ديناً ما، قد لا يكون سماوياً.

ذ/ ثناء عطوي: لماذا العلاقة متوترة دائماً بين الديني والثقافي؟

العلامة هاني فحص: التوتر ميزة للديني والثقافي معاً، التوتر الديني يشغـِّل الدين، والتوتر الثقافي يجدّد الثقافة، ويساعد على تبادلها. لكن الديني محكوم بالميل إلى اليقين، إلى الاستقرار على حال والتعميم والسكون، ولا يتحمّل القلق الدائم، بينما الاستقرار هو مقتل الثقافي، وهو مضطر أن يقيم في الشك، وتغيير الخطاب وفقاً للمستجد والمتغير العلمي أو الواقعي أو الاجتماعي. من سكونية الدين كضرورة دينية، وحركية الثقافة، يأتي التوتر الخلاق، ولولاه يستقيل الديني من كل الأسئلة، لأن الثقافي حين يكفّ عن السؤال يصبح دينياً بمعنى طغيان الثوابت على المتغيرات، وتصبح الحياة ذات بعد واحد؛ أي موتاً يشبه الحياة.

ذ/ ثناء عطوي: هل الأديان هي فعلاً نظام متعالٍ أم نظام الحقيقة والمطلق؟

العلامة هاني فحص: صحيح جداً، إن الأديان مشوبة بشيء من التعالي يصل في شعور كثير من المتدينين إلى استعلاء على الآخر، حتى في المذهب الواحد. أمضيتُ حياتي ولديّ إحساس بالتفوق على الآخرين، على صديقي وعائلتي وعلى السني والمسيحي، هكذا علّموني، والسبب أنني متدين أكثر، لأني أعرف أكثر وأطبق أحكام الشريعة، حتى اكتشفت أني لا أطبّقها، وإنما أطبق أحكامي أنا. هذا العلم الذي ادّعيه، وهو علم الفقه، هو ليس علماً، هو علم الظاهر ولا يحمل قلق المعرفة، هو تكييفي وتكيّفي، لا يتوقع ولا يحتمل، سواكنه أكثر من متحركاته، وهو ارتبط بالسلطة، وذهب إلى مكان آخر خطر، عندما اشتغل على التكليف لا على الحقوق، علماً أن مساحة الحق في الدين أوسع من مساحة التكليف؛ أي أن الحلال أوسع من الحرام والواجب، هو ذهب إلى الخيار الثاني وجعل من الدين تعبّداً فقط، لأنه يصبح الآمر والملزم، بينما في مجال الحقوق (المباحات) هو مرشد لا مولى ولا ملزم، ولا واجب الطاعة.

ذ/ ثناء عطوي: تناولنا التحول في إطار الدين نفسه، لكن ما رأيك في التحول من دين إلى آخر؟

العلامة هاني فحص: أنا أصف هذا النوع من المتحولين بقلة الشجاعة، من ينتقل من مذهب إلى مذهب أو من دين إلى دين قد يكون ضرره أكثر من نفعه، لأنه يصبح متعصباً. إذا كنت متنوراً أكثر ضمن جماعتي، أبقى ضمنها فأنوّرها، كما أنني أضيف رقماً إلى الآخر إذا تحولت، ولا أضيف معنى، فلماذا لا أبقى في المشترك؟ أقبل المتحول دينياً، عندما لا يقطع مع ذاكرته وقيم دينه ولا يعاديه. المسألة كلها هي كيف نؤنسن التديّن؟ عموماً، أنا أحارب التبشير المسيحي والإسلامي والمذهبي، وهو وإن كان مؤذياً وتخريبياً إلا أنه فاشل، لأنه يقوم على أوهام، ونجاحاته الجزئية تغريه بمزيد من الوهم والقسوة. أنا أدعو إلى الإيمان وأدعو إلى الله، وأتفهم عدم الإيمان. ورأيي أن الخلاص فردي لا جماعي، وفي القرآن آيات صريحة في ذلك.

ذ/ ثناء عطوي: ما موقفكم مما يجري في سوريا؟ والبيان الذي أصدرتموه أخيراً أثار ردود فعل مستغربة، لماذا ؟

العلامة هاني فحص: أغرب كلام سلبي صدر من أصدقائنا السوريين على موقفنا وبياناتنا كان من الليبراليين السنة. المتطرفون السنة أو جماعة القاعدة أو غيرهم لا نتوقع منهم الرضا ولا نريده. قالوا لنا: تأخرتم، فقلنا لهم: ما ذنبنا إذا لم تقرأوا إلا ما تكتبونه أنتم؟ ونحن قلنا في بياناتنا، إننا نصدر عن تراث شيعي ومسالك ذاتية معروفة في سيرتنا في مواجهة الظلم والاستبداد والفساد القديم والمعاصر، هناك بُعد شخصي في أول بيان، وهناك بُعد ثنائي مهم وذو دلالة مع السيد محمد الأمين في البيان الثاني. لكن هناك شيعة عرباً وقّعوا على الثالث.

ذ/ ثناء عطوي: كان لك موقف من ثورة البحرين عاتبك عليه البعض؟

العلامة هاني فحص: أنا مع الشعوب المعترضة طبعاً، ولكن نقدي للمعارضة شديد، وكان ناصحاً من زمان ويبقى كذلك، وأعرف ثمن موقفي، إذ تراجع السعوديون عن دعوتي إلى مهرجان الجنادرية، لأن ابني قال: إنه يؤيد شعب البحرين، وكتبت مقالاً قلت فيه أنا في بيتي ربيت أولادي على الديمقراطية. مشكلة السعوديين، أنهم يوزعون الناس إلى أتباع وأعداء، ولا يناسبني أن أكون من الاثنين، ويناسبني أن أكون صديقاً بما تعني الصداقة من شراكة. ومشكلة المعارضة البحرينية، أنها تعتبر النقد حتى مع المحبة عداء كالحكام تماماً. لقد وقعت في فخ تطييف معارضتها إلى حد كبير، ما أعطى لإيران فرصة لمزيد من التداخل معها لتعود إيران في اللحظة المناسبة، فتفاوض عليها كما عودتنا في السابق. ويبدو أخيراً، أنها تنبهت إلى ذلك ـ إن شاء الله ـ ما يعني أن الحوار سوف يستمر من أجل تحقيق المطالب المشروعة من دون مبالغة أو التفاف على الحقائق والحقوق.

ذ/ ثناء عطوي: تقول إن رجال الدين سبقوا السياسيين إلى الفتنة؟

العلامة هاني فحص: صحيح، ولو تُرك الناس من دون رجال دين، ومن دون سياسيين لكانوا صنعوا عيشهم المشترك بهدوء، وعبدوا ربّهم بروحانية أعمق، وتصرفوا بإنسانية أكثر. وكانت مصالحهم المشتركة جمعتهم، وأيقظت وعيهم على قيمهم المشتركة ومصيرهم المشترك.

ذ/ ثناء عطوي: لكنك رجل دين؟

العلامة هاني فحص: أنا مثقف ديني، ليس بمعنى أنني مستودع علم، أنا مستودع أسئلة. الثقافة هي السؤال، والمعرفة أيضاً سؤال يولد من سؤال. أنا لست عقائدياً في السياسة والاجتماع، ثوابتي المعرفية والفكرية قليلة جداً، أرى الآخر شرطاً معرفياً ووجودياً، ديني من دون المختلف ينقص، لا أرى أن أحداً غير مؤمن، بماذا يؤمن؟ كيف يؤمن؟ هنا الخلاف.

ذ/ ثناء عطوي: مع من أنت في السياسة اليوم؟

العلامة هاني فحص : لا أعرف، أبدو أقرب إلى 14 آذار لكني لست منهم، هذا إذا كان قد بقي لدينا 14 آذار، هم يتصرفون وكأنهم عوام، وكأنهم سلة مشاريع متباينة، لا مشروع واحد يحتمل ويتحمل التنوع، انفعاليون أكثر من كونهم فاعلين، وكسلاء، ينتظرون متى يتأزم حزب الله حتى ينشطوا، كالتلميذ الذي سأله والده عن درجته في الامتحانات فقال: (الأخير)، لكن إذا مات رفاقي كلهم سأكون الأول.

ذ/ ثناء عطوي: ماذا عن 8 آذار؟

العلامة هاني فحص: هناك بُعد أخلاقي وفكري في السياسة، وهناك بُعد تنظيمي. يُعجبني الشق التنظيمي عند جماعة 8 آذار، وإن كانت الخلافات المستورة بشطارة تظهر بين لحظة وأخرى، وتبدو عميقة. ينظمون خبثهم السياسي وتحالفاتهم وانقلاباتهم وتنازلاتهم، المستوى الأخلاقي في عملهم لا يعجبني، ولو أبعدوا الدين والطائفية عن عملهم لكان أفضل. لكني أعيش هاجس الخوف من انهيار حزب الله.

ذ/ ثناء عطوي: هل تريد للحزب أن يبقى؟

العلامة هاني فحص: ليس بهذه البساطة، لا أحد يبقى كما كان، وكلما زاد الحزب تماسكاً كان مهدداً أكثر. لا أريده أن ينهار علينا، أريده أن يُسرع إلى المشاركة العقلية مع الآخرين، وأن يصبح عقله بحجم عضلاته الكبيرة. ولا تحفظ قيمة سلاح الحزب ولا سمعته ولا إنجازه، إلا ضمن إدخاله طوعاً في مشروع الدولة. لا أظن أن أثر شراكته القتالية في سورية، سيكون حميداً على جسمه ومستقبله.

ذ/ ثناء عطوي: كيف يتغير المثقفون؟

العلامة هاني فحص: أجمل مناضل في الدنيا إذا ثبت هو المثقف، وأسوأ مناضل إذا تغيّر هو المثقف أيضاً. هو يعدّ أطروحة لتسويغ خيانته، إنه مثل الشيطان يستشهد بالقرآن، المثقف مرعب. أما إذا سلِم المثقف من إغراءات الوصولية وإملاءاتها، فإنه ينتج أمثولات للأجيال ومنارات، وهناك أعداد غفيرة من المثقفين الذين شهدوا للحق والحقيقة، كانوا شهوداً كالشهداء، أو شهداء بسبب ثباتهم على القيم ودوام نقدهم للأفكار وللذات.

ذ/ ثناء عطوي: هل تعتقد أن المثقف اللبناني كثير التنقل؟

العلامة هاني فحص: ليس متنقلاً، هو في مكان واحد، لكن وجوهه متعددة. لاحظي أن كل المثقفين المتعصبين للشيعة اليوم كانوا شيوعيين، هؤلاء مرضى بالموقف الشمولي، مسكونون بستالين ويبحثون عن ستالين آخر دائماً. من كانوا يقبلونني في البدايات، لأني لست متعصباً للدين يرفضونني الآن، لأني غير طائفي. المثقفون السُنة أيضاً، لا يرون إلا عمامتي السوداء. هناك منفذ واحد يتمثل في المثقفين المسيحيين والدروز المستقلين عن قطائعهم الطائفية، علاقتي بهم ممتازة، وأنا في وجدان الكنيسة.

ذ/ ثناء عطوي: هل تعتقد أن تنقلات المثقفين كانت أقل من قبل؟

العلامة هاني فحص: بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وانكشاف حركة التحرر العربي، خرج المثقف من الدين، والدولة غير موجودة، وفشلت المشروعات، فارتد إلى الطائفة. المثقف ملعون، وأحياناً يريد أن يصفق له، إذا لم يقدّس الرذيلة الطائفية، فقد لا يجد له مكاناً. المثقف الحقيقي هو المكان، وهو المكين، ولذلك فهو يطور مكانه باستمرار.

ذ/ ثناء عطوي: هل يمكن أن تسمي لي مثقفين تنقلوا بشكل لافت؟

العلامة هاني فحص: هناك انقلاب مواقف وسلوك وهناك موقف فكري. شرط المثقف التغيير؛ أي الجدل الدائم مع المتغير، لايجوز أن يتحوّل إلى نمط، ويصبح عقيماً. أنسي الحاج لا يريد جمهوراً، على هذا المستوى شيء عظيم، الطيب تيزيني وأدونيس وفواز طرابلسي ووضاح شرارة وأحمد بيضون وروجيه عساف، هؤلاء كلهم لو لم يغيروا لتحولوا إلى سوسلوف أو عماد فوزي الشعيبي أو فاروق حسني أو يوسف الصايغ العراقي، أو أصبحوا خشبيين كالذين تبقوا من حزب البعث، وإن كان هناك فرق بين خشب وخشب... ولكنه خشب.

ذ/ ثناء عطوي: هل تجد نفسك في المكان الذي أردته؟

العلامة هاني فحص: نعم، أنا راضٍ ولو عادوا لعدنا، مع تعديل ضروري في التفكير والسلوك لصالح الاعتدال والنسبية والوسطية. أنا أعرف أخطائي، ومستعد أن أعيد ترتيب حياتي، لكني سأقلل من بعض الأخطاء وسأبالغ في بعضها. استفدتُ من راديكاليتي، وأتذكرها بحنين وألم أيضاً، وكل خيار ذهبت به كان المعيار الأساس هو : هل آذيت أحداً أم لا؟ راديكاليتي لم تغادرني، لكني هذبتها. راديكاليتي اليوم هي الدولة، لا شيء يلغي الدولة ويصبح دولة، بل يلغي ذاته، أريد دولة ولو كانت فاسدة، ثم نعمل على إصلاحها، دولة وقضاءً وقانوناً. لم أتغير، ولن أتغير كثيراً في أحلامي، ولكني شذبتها وجعلتها أكثر واقعية... أصبحت أحلامي احتمالات وتوقعات؛ لأنني طلقت المطلق، وعدلت رومانسيتي بالواقعية... الذي تغير سلبياً متنكراً للمشتركات السلمية آخرون ممن شاركتهم في مسيرتهم.

ذ/ ثناء عطوي: هل هناك أماكن وددت العودة منها، وعلى ماذا ندمت؟

العلامة هاني فحص: على أشياء كثيرة، على عدم قدرتي على التوفيق ما بين الخاص والعام، ما بين أسرتي والمجتمع، وما بين أسرتي والأمة، ما بين فلسطين ولبنان، ما بين الفقراء وضرورات النمو، ما بين العمال وأرباب العمل...إلخ. من لا خاص له لا عام له، والعكس صحيح، وقد دفعت الثمن. أنا نادم وأحاول التعويض؛ المسألة الثانية أنني نادم على عداوات، وانفعالات وأحكام، ولغة المطلقات التي استخدمتها، لأني اكتشفت أن النسبية هي الحقيقة. نادم على القطيعة مع الآخر، في لحظة ما، مع السني ومع المسيحي ومع الليبيرالي ومع الغربي ومع البوذي والعلماني، وحتى مع الملحد أو غير الملتزم بالدين، إذا كان باحثاً عن الحقيقة... أي مثلي، ولكن من طريق أخرى .

ذ/ ثناء عطوي: ما المكان الذي تمنيت المكوث فيه؟

العلامة هاني فحص: أن أبقى في النجف أكثر، وأن أصبح فقيهاً مُجدّداً بشجاعة، وهذا في منتهى الصعوبة. يمكن أن تجدد في أمور محدودة، إذا كنت قادراً على تحمّل النتائج، وإلا تراجعت كما تراجع علي عبد الرازق عن فكره النيّر والشجاع، حتى السيد رشيد رضا تراجع عن محمد عبده إلى السلفية، وذهب إلى ابن تيمية، مع احترامي للجميع. كنت أتمنى أن أكتب رواية، أنا أكتب سرداً، ولكن أتمنى لو كتبت رواية ولو تاريخية على الأقل، حتى لا أقع في إشكالية تابو الجنس والدين.

ذ/ ثناء عطوي: اهتمامك بالمسرح مثير للاهتمام؟

العلامة هاني فحص: بدأت حياتي ناقداً أدبياً، كتبتُ في مجلة مواقف قصة قصيرة، وكتبت نصوصاً مسرحية حوارية وإيمائية، قرأت يوسف إدريس وشكسبير وسعد الله ونوس وشتاينبيك وتوفيق الحكيم، وأخذني كل ذلك إلى إصدار كتاب حول المسرح، قدم له روجيه عساف، تحدثت فيه عن التمسرح كما حكاه يوسف إدريس، ونفذه مسرح الحكواتي.

ذ/ ثناء عطوي: من يعجبك من المخرجين المسرحيين؟

العلامة هاني فحص: روجيه عساف أولاً، ويعجبني جواد الأسدي جداً، لكنه متوتر ومكثف فوق ما نتحمله. ولا أنسى يعقوب الشدراوي وكرم مطاوع وآخرين

ذ/ ثناء عطوي: ما تراك كنت لو لم تكن شيخاً؟

العلامة هاني فحص: كنت أصبحت وكيل مدرس ابتدائي في مدرسة حكومية، أتقاضى مئتين وخمس ليرات في الشهر، وأشارك أمي في زراعة التبغ، وأتزوج امرأة فلاحة تقرأ وتكتب ولو قليلاً، وأبني منزلاً صغيراً أو أضيف غرفة إلى منزل الأسرة. أعيش في قريتي، وأحصل على الثانوية السورية (الموحَّدة) بالانتساب كما فعل أبناء جيلي من فلاحي وعمال الجنوب، وأنتسب إلى الجامعة العربية في بيروت، وأتخصص في الأدب العربي، لأصبح معلماً ثانوياً، وأكون أقرب إلى الله والناس، وقد أكون مشروع شهيد في العرقوب بعد نكسة 1967 وبداية المقاومة. أنا لا أحرّض على الشهادة. أما إذا حصلت، فإني أجلّها.

ذ/ ثناء عطوي: هل أنت مثقف قلق؟

العلامة هاني فحص: عندما يقول لك المثقف إنه غير قلق، قولي له اذهب وتعلم القلق. السؤال هو المعرفة، ومنبع السؤال هو القلق، وعدم اليقين الذي يعني الشك من أجل اليقين المتحرك السليم الذي يمنحك طمأنينة رائعة ولكنها غير نهائية، وهذا أروع ما في يقينيات المعرفة... أي كونها غير مغلقة ولا نهائية.

ذ/ ثناء عطوي: هل ستفرز الثورات نوعاً من النخب الجديدة ؟

العلامة هاني فحص: أرى أننا قد نكون دخلنا في مرحلة إنتاج معرفية واجتماعية وسياسية طويلة الأمد وكثيرة المصاعب، لأن أعطابنا كثيرة وقديمة، وهي تعود إلى مرحلة سقوط مشروع محمد علي. منذ ذلك التاريخ ونحن أمة مسحوقة، عموماً ما من ثورة أنتجت نفسها مرة واحدة، من الثورة البلشفية إلى الثورة الفرنسية والثورة الإيرانية بصرف النظر عن موقفي. والخوف أن تأكل الثورة نفسها وأولادها كما حصل كثيراً ... حركات أو ثورات العرب ضرورية ومتوقعة ومخيفة. وهنا لي لوم شديد على قوى التحديث العربي والمنجزات الثقافية المعاصرة التي شابها نقص معرفي عطل إنجازها لأطروحتها المفتوحة بالشراكة مع الذات والآخر.

ذ/ ثناء عطوي: لكن التكنولوجيا متغير أساس لجهة الوقت والتاريخ؟

العلامة هاني فحص: الآلية مختلفة نتيجة التطور التكنولوجي، لكن القوانين العامة واحدة. اللحظة والزمان والمكان هذه متغيرات أساسية من دون شك... وهناك سنن تاريخية يسهم التطور العلمي في تعديل مساراتها ومواعيدها، لكنه لا يلغيها... والتطور التكنولوجي لا يسقطها، ولكنه يعيد برمجتها وتنظيمها، وقد يحدد لها مواعيدها.

ذ/ ثناء عطوي: ما رأيك في أنظمة الحكم الجديدة من الإخوان وغيرهم؟

العلامة هاني فحص: الأساس هو إسقاط المستبدين والفراعنة، وسواء طال حكم الإخوان أم قصر، عليهم أن يتداركوا أنفسهم أو يرحلوا. أما أن يبقوا شموليين وينجحوا، فهذا مستحيل. الآن هو وقت اختبار مدنيتهم... المسألة مسألة برامج لا عقائد، العقائد في السياسة وتدبير الاجتماع العام والتعددي خاصة، تتحول من مساعد سياج إلى معيق وإغراء بالاستباحة والمصادرة. متأتية من تبادل الإفساد والفساد بين الدين والدولة إذا تورط أي منهما بإنتاج الآخر.

ذ/ ثناء عطوي: فيما يتعلق بالأزمة السورية، هناك خوف عموماً لدى الشيعة؟

العلامة هاني فحص: في البداية كان خوفاً غير منطقي، لكنه صار منطقياً بسبب ورطة حزب الله في سورية، ولا بد من ضبط ردود الأفعال الآن وفي المستقبل. لطالما كان الشيعة محبوبين في سورية، لأنهم خارج لعبة الانقلابات العسكرية والسياسية، وقد علمهم ذلك السيد محسن الأمين. أذكر أنه زارني في طهران بعض وجهاء الشيعة في الشام، وطلبوا مقابلة السيد الخامنئي، ليقولوا له اتركونا في حالنا، ولا نريد قراءة تعزية في ساحة المالكي والبرامكة، كنا نعيش مندمجين في الشام فلا تخرجونا من اجتماعنا الوطني. للأسف تأثر الشيعة بوهج المقاومة، وهذا حسن، والمال، وهذا خطر. نحن نعمل اليوم على حماية التعدد في سورية، على حقن الدماء، ونأمل أن ننجح ولو جزئياً. نعدّ وثيقة لحماية التعدد، وليس الأقليات، بالتعاون مع المعارضة في إيران ومع الفاتيكان وقوى الاعتدال في العالم.

ذ/ ثناء عطوي: هل تعتقد أن سورية ذاهبة إلى استقلال كامل؟

العلامة هاني فحص: ذاهبة إلى استقلال كامل، لكنه مكلف جداً، وقد لا يكون موعده قريباً. حتى الإيرانيون يتوقعون في قرارة أنفسهم أن استقلال سورية من دون الأسد ونظامه سوف يأتي، لكن الباطنية الإيرانية تعمل على أطروحة أخرى... الله يسترنا.


سيرة ذاتية:

-السيد هاني فحص مولود في بلدة جبشيت جنوب لبنان (1946)

-هاجر إلى النجف الأشرف سنة 1963، وانتسب إلى كلية الفقه وتابع دراسته في الحوزة.

-عاد إلى لبنان سنة 1972، وأسس منتدى أدباء جبل عامل مع عدد من الشعراء والأدباء الشباب وقتها.

-شارك في انتفاضة مزارعي التبغ، وسُجن أواخر عام 1972.

-انخرط في المقاومة ضد اسرائيل، وكان له دور بارز في مواجهات العرقوب، عندما دمرت إسرائيل كفر شوبا.

-بنى علاقات وطيدة مع القيادات الفلسطينية والإيرانية في الخارج، وزار الخميني في باريس ثلاث مرات.

-أقام في طهران (1982-1985) .

-عضو مؤسس في المؤتمر الدائم للحوار اللبناني.

-أديب وشاعر، كاتب في الصحافة اليومية والدوريات. صدر له 17 كتاباً في السياسة والثقافة والدين.


[1]- مقابلة أجرتها السيدة ثناء عطوي، ونشرتها في كتاب "حوارات في المسارات المتعاكسة". صدر عن دار بيسان للنشر والتوزيع والاعلام – 2013