حوار مع كاثرين ويتول دو ويندين لأجل وضع حدّ للخوف من المهاجر


فئة :  حوارات

حوار مع كاثرين ويتول دو ويندين  لأجل وضع حدّ للخوف من المهاجر

حوار مع كاثرين ويتول دو ويندين[1]

لأجل وضع حدّ للخوف من المهاجر[2]

أجرت الحوار جوستين كانون

ترجمة: يحيى بوافي

انقضت أربعون سنة كاملة منذ أن شرعت عالمة السياسة كاثرين ويتول دو ويندين في بحث ودراسة مسألة الهجرة على امتداد المعمور، وآخر محاولة لها في هذا السياق، كتاب صدر تحت عنوان: "صور الآخر" وفيه عكفت على تحليل تطور إدراك المهاجر في فرنسا وما أوحى به من خيالات منذ القرن التاسع عشر.

بصفتها باحثة متخصِّصة يتعذر القفز على اسمها وإسهامها في مجال الهجرة، ضاعفت كاثرين ويتول دو ويندين في ظرف أربعين سنة من الحقول الميدانية لبحثها؛ بدءًا من العُمّال الأجانب المتخصصين العاملين بشركة رونو إلى الجنود الشباب في الجيش الفرنسي المنحدرين من أصول مهاجرة، مرورا بـ"حركة الشباب الفرنسي المنحدر من أصول مهاجرة"، وما يميز كتابها الأخير هو أنه جاء أكثر اتصافا بالطَّابع الشخصي، وقد صدر تحت عنوان: "صور الآخر" وفيه تُقدِمُ على وصف الكيفية التي يبني وفقها المجتمع الفرنسي منذ مدة طويلة، فضلا عن الحدود الفيزيائية، سُدوداً أخرى من طبيعة ذهنية هذه المرَّة بغية إقصاء الآخر، المهاجر والغريب، المهاجر غير الشرعي مَنْ لا أوراق؛ ذاك الذي لا يُشبهنا، وبدءا من تصديرها للكتاب عملت على تسميَّة الدافع الذي يوجِّهُ بناءَ التمثلات؛ أقصد الخوف، وعلى العكس من رد الفعل هذا، لا تتوقف هذه الأستاذة الجامعية عن شرح الأسباب العميقة التي تقف وراء الهجرات، وعن الإحالة إلى الأرقام وإزالة كل ما يُضاد الحقائق ويعاكسها... وهو ما لا يمكن الشكوى منه، لأنه بخصوص الموضوعات المجتمعية الحسَّاسة، من الأنفع أن تكون المؤلفات الأكاديمية مؤلفات تربوية أيضا.

جوستين كانون: منذ السبعينيات وأنت تشتغلين على مسألة الهجرة، وهي موضوع سياسي للغاية، فلماذا كانت كتابتك اليوم لكتاب حول صورة المهاجر في فرنسا؟

كاثرين ويتول: لقد وضعت لهذا العمل تصوّرا، حيث يكون بمثابة "عملية ذات أثر استرجاعي"؛ إذ أُتيحت لي الفرصة كي أعود إلى ما سبق لي إنجازُهُ من أعمال بحثية مع اتخاذ مسافة منها، وما أردت القيام به، فضلا عن نتائج البحث، هو إبراز ما يقوله المهاجرون حول مجتمعنا، وحول تمثلاتنا نحن للوافدين الجدد.

جوستين كانون: ما هي المراحل الرئيسة للهجرة التي عرفتها فرنسا منذ نهاية القرن التاسع عشر؟

كاثرين ويتول: لابد أن نتذكر أولا بأن فرنسا مثَّلت بلد الهجرة الأقدم في أوروبا، فبعد أن عرفت ديموغرافيتها تراجعا كبيرا منذ نهاية القرن الثامن عشر الميلادي، شهدت في القرن الموالي مرحلة من التصنيع، هذا في الوقت الذي كانت فيه بالأساس بلدا قرويا، حيث إن ثلاثة أرباع الساكنة الفرنسية كانت تعيش في القرى إلى حدود سنة 1914، ولم يكن النزوح القروي كافياً للاستجابة لحاجات الصناعة من اليد العاملة، فكان الطلب على الهجرة من أجل العمل منذ منتصف القرن التاسع عشر، وهو الأمر الذي كان أسهل وأيسر مقارنة بالدول الجارة مثل ألمانيا وبلجيكا وإيطاليا التي لم يكن قد بدأ تحولها الديموغرافي بعد، ما جعلها قادرة على تلبية احتياجاتها، وقد كان إدراك المهاجرين أكثر سلبية مما هو عليه اليوم؛ ففي الفترة الممتدة من سنة 1870 إلى سنة 1914 كان يُنظر إلى الإيطاليين مثلا، على أنهم غير مؤهَّلين للاستيعاب لا ينبغي أن ننسى أعمال الشغب القاتلة التي ذهب ضحيتها العُمّال الموسميون سنة 1893 بمنطقة إيغ مورت بإقليم غارد Aigues – Mortes(card)، وفضلا عن ذلك توقف الكتاب عند واقعة أساسية مفادها أن تمثل الآخر يتمتع بثبات كبير في الزمن، ونفس القوالب النمطية والجاهزة التي يتم التمسك بها بعناد تجاه المهاجرين تدوم وتستمر عبر الزمن، مهما كانت الفئة السكانية المعنية؛ ففي فترة ما بين الحربين التي تميزت بصعود النزعة المضادة للسامية، تصادفت أيضا مع وصم المهاجرين الإسبان، وبعد سنة 1945 كانت لفرنسا حاجة ماسَّة لليد العاملة لأجل إعادة البناء، مما أدى إلى التنوع في تدفق موجات المهاجرين، فانضافت إلى الهجرات الأوروبية المعروفة؛ أي هجرة الإيطاليين والإسبان والبرتغاليين، الهجرة الآتية من بلدان المغرب الكبير، حيث كان وصول التونسيين والمغاربة متبوعا بهجرة الجزائريين.

وعند الإغلاق القديم للحدود في وجه هجرة العمالة سنة 1974، لاحظنا ظهور هجرة آتية من إفريقيا جنوب الصحراء، والتي ارتبطت بالضغط الديموغرافي والبطالة، لكن موجات تدفق اللاجئين من فيتنام والشيلي، وابتداء من إحصاء 1975، صارت الهجرة الأوروبية أكثر أهمية من حيث العدد.

جوستين كانون: كيف يؤثر السياق الاقتصادي على قبول المهاجرين؟

كاثرين ويتول: غالبا ما يتم إغفال دور أرباب العمل أو الباطرونا مع أنها تضطلع بدور محدّد في مجال سياسة الهجرة؛ ففي فترة ما بين الحربين كانت الجمعية العامة للهجرة La Société générale d’immigration (SGI) تجمع الشركات الفرنسية الكبرى، لا سيما منها تلك العاملة في قطاع المناجم والتعدين، تمثل المناخ المناسب بالنسبة إلى السلطات العمومية من أجل اللجوء إلى اليد العاملة الأجنبية، وبعد سنة 1945 كانت الباطرونا فاعلا أساسيا في اللجوء إلى هجرة العمالة. ومع اختيار أولوية استدعاء وطلب اليد العاملة من أصول إسلامية، التي تم إدراكها، باعتبارها يدا عاملة مطيعة، ولأن هؤلاء العمال المهاجرين كانوا متدينين بشدّة، ومنهم المنحدرون من أصول قروية، كما هي حالة المهاجرين المغاربة بعد الحرب العالمية الثانية، فقد رأت فيهم الباطرونا وسيلة لمواجهة انتشار الانخراط في النقابات وشيوع الالتزام النقابي وسط المقاولات، كما أن أهمية هذه اليد العاملة، بنظر المشغِّلين، تمثلت أيضا في عدم استهلاكها للكحول، بالنظر إلى أن معظم حوادث الشغل في هذا الوقت، كان لها ارتباط بتعاطي عمال قطاع الصناعة والبناء للخمور. وإذا ظهر أن تأثير أرباب العمل أو الباطرونا على سياسة الهجرة قد تلاشى واختفى في الفترة التي أعقبت الثلاثين سنة الذهبية، فإنه يتجه في الوقت الحالي إلى معاودة الظهور بحكم الحاجات إلى اليد العاملة التي لم تتم تَلبيَّتُها في بعض قطاعات النشاط الاقتصادي، وهو ما يتأكد حتى في تلك البلدان التي كانت تقليديا تُوصِد أبوابَها في وجه الهجرة، مثل هنغاريا التي تلجأ اليوم إلى العمال الآسيويين.

جوستين كانون: كتبتم: "إن استقبالنا لا يكون بنفس الكيفية، بل تبعا للحرب التي منها كان فرارُنا"، عند أي مستوى تؤثر السياسة أيضا في علاقتنا بالمهاجرين؟

كاثرين ويتول: لنأخذ مثالا بسيطا يتمثل في أن المهاجرين الفيتناميين إبّان السبعينيات من القرن العشرين، كان يتم استقبالهم بالأحضان المفتوحة؛ لأنهم يمثلون رمزا لفشل الأنظمة المستوحاة من الماركسية في مواجهة غرب مضياف، لذلك مُنِحت صفة لاجئ لما يقارب نصفهم في فرنسا، وهو ما يبقى كافيا لبيان إلى أي حد يصل تأثير السياسة الخارجية في سياسة اللجوء. إن معدلات قبول طلبات اللجوء تبقى أضعف بشكل لامتناهٍ في الوقت الحالي. وهذان "المكيالان" يظلان هما نفسهما في التعاطي مع المهاجرين من أصول إفريقيا جنوب الصحراء والمهاجرين الذي ينتمون إلى الشرق الأوسط، ويبرزان بصورة أكبر مع المدنيين الذي هربوا حديثا من أوكرانيا؛ ففي البداية جرى استقبالهم من طرف الدول الجارة، وهي ظاهرة التي تشيع في معظم الأزمات الدولية، بحكم التشابهات الثقافية، علاوة على ما يوجد من روابط تاريخية بين أوكرانيا وبولونيا وهنغاريا، إلى جانب التحالف القائم بين الدول التي كانت خاضعة في السابق لسيادة الاتحاد السوفياتي في مواجهتها لموسكو، ولأجل تشجيع استقبال المدنيين داخل مجموع الاتحاد الأوروبي، تم تفعيل مرسوم 2001 حول الحماية المؤقتة، الذي تم إقراراه أثناء حرب كوسوفو، والقاضي بفتح الباب أمام اللاجئين من الإقامة والشغل والتربية والتعليم والرعاية الصحية.... وفضلا عن ذلك، وجَّهَت ّالسّلطات العمومية الدعوة للمواطنين من أجل استضافة هؤلاء اللاّجئين، ومن الواضح أن هذه المعاملة لا يحظى بها جميع الأجانب، بل وأكثر من ذلك، نجد بالأحرى ميلا واتجاها إلى صناعة صورة "غير المرغوب فيه" بالنسبة إلى باقي المهاجرين، خصوصا ممن هم من غير الأوروبيين، مما يضطرهم أحيانا إلى العيش في الشارع، وفي الوقت الذي يتم فيه ترويج القول بتمتعهم الكامل بالحقوق الاجتماعية، نجد أن لا شيء من ذلك بكائن في الواقع.....

جوستين كانون: تستحضرين على مستوى التمثلات التمايز والفرق المبني تدريجيا بين "المهاجر" و"اللاجئ"، كيف انبثق هذا الاختلاف؟

كاثرين ويتول: هناك أولا سبب تاريخي هو المتمثل في غلق الأبواب في وجه هجرة العمل سنة 1974؛ فمنذ ذلك الوقت صار بإمكان المهاجرين تقديم طلب اللجوء، من أجل الوصول إلى أوروبا، حتى يتحصّلوا على وضع لاجئ، عندها لن يكونوا فقط مجرّد أشخاص من دون أوراق. ومنذئذ تزايدت بانتظام وتيرة استخدام لفظ "اللاَّجئين" في النقاش العمومي، وهو ما يمكن أن يخلق خلطاً بين المهاجر واللاجئ، والحال أن المصدر الرئيس للدخول إلى الأراضي الفرنسية هو التجمُّع العائلي، فضلا عن أن اللاجئين لا يمثلون على المستوى العالمي إلا جزء من مجموع المهاجرين؛ ففي سنة 2022 نجد أن من لهم وضع لاجئ قد بلغ عددهم 27 مليون شخص، حسب المفوضية العليا لللاجئين التابعة للأمم المتحدة (UNCR)، بينما بلغ عدد المهاجرين على الصعيد العالمي في ذات السنة 280 مليون مهاجرا.

فكان أن انتشرت الفكرة التي تقضي بأن اللاجئ هو مهاجر "جيد" عكس المهاجرين الآخرين الذين يأتون بحثا عن العمل، وهم في الغالب من الأفارقة الذين يُنظر إليهم على أنهم "غشاشون"؛ وهذه النظرة أدنى ما يُقَال عنها أنها مدعاة للاندهاش في قارة هي بأمس الحاجة إلى هذه الهجرة من أجل العمل؛ فأصحاب القرار من السياسيين يتمسَّكُون بإغلاق الحدود في وجه الهجرة الاقتصادية تفاديا منهم لإعادة إطلاق رفض موضوعة الهجرة وتنشيطها من جديد داخل الرأي الأوروبي؛ وبداخل هذا السياق يحاول بعض المهاجرين "إضفاء الصبغة السياسية" على ملفّهم، حتى يتمكنوا من الدخول ضمن فئة اللاجئين.

وإذا كانت المؤسسات الدولية قد ميّزت تاريخيا بين حق اللجوء والهجرة الاقتصادية والهجرة الأسرية، فإن ما نعاينُه هو "إزلاق" تدريجي لهذه الفئات وإدخال بعضها في بعض؛ لأن الواقع السوسيولوجي للمهاجرين الذين صاروا يقطنون المدن ومؤهَّلِين جعلهم بمنأى عن هذا التصنيف، ما جعل بعض الأشخاص يستعيرون الكثير من "الوسوم"؛ فهم طالبو لجوء، ثم هم مجرّدون من حق اللجوء، ثم هم أشخاص من دون أوراق، قبل أن يروا وضعيتهم الإدارية تصل مرحلة التسوية بعد سنوات عديدة من العمل.... لذلك، فإن سَجْن الأفراد داخل هذه التحديدات والحتميات لا يتوافق إطلاقا مع الواقع كما تؤكّده مسارات المهاجرين.

جوستين كانون: أظهرت أن بعض الخطابات حول مشكلة الهجرة كما هو حال الخطاب القائل بالمنافسة التي تتسبب فيها اليد العاملة المهاجرة على مستوى سوق الشغل، لا تنّم إلا عن خرافات، فكيف تفسيرين بقاءها واستمرارها؟

كاثرين ويتول: على غرار ما هو حاصل في العديد من المجالات العلمية، غالبا ما يكون الرأي متأخرا عقودا من الزمن عمَّا هو حاصل في الميدان من وقائع، ومن أجل استئناف الحديث عن موضوع المنافسة التي تتسبَّبُ فيها اليد العاملة المهاجرة على مستوى سوق الشغل، يذهب الظّنّ ببعض الفرنسيين إلى أن سبَبَ عدمِ حصولهم على مناصب شغل هو استيلاء المهاجرين عليها وانتزاعها منهم، وهي موضوعة قديمة جدا، فقد كانت حاضرة حتّى في عمل الروائي الفرنسي إميل زولا، بينما تُظهِرُ الأرقام أن مناصب الشغل التي يترشح لها الفرنسيون ليست هي ذاتها التي يشغلها المهاجرون؛ فعند وصول هؤلاء يشغلون مناصب شغل لأجل الاستفادة منها، يتحملون من أجل الاستفادة منها التخلي بشدة عن مؤهلاتهم، حتّى يتمكَّنوا من التعويض السريع لتكاليف العبور أو لأجل إرسال مبالغ مالية إلى أسرهم في البلد الأصلي، كما أن الكثير من مناصب الشغل التي لا يقبل بها أبناء الوطن، إمّا لأنها ذات أجور ضعيفة، ولأنها لا تتوافق مع مستواهم الدراسي، أو لأن الأمر يرتبط بقطاعات من النشاط تتسم بالشدة وتتطلب مشقة جسمانية، كما هو الحال بالنسبة إلى الفلاحة وللعمل في المطاعم ... هذه القطاعات، هي التي تلجأ بصورة منتظمة إلى اليد العاملة المهاجرة.

جوستين كانون: وماذا عن الفكرة المبتذلة الأخرى التي ترى أننا "كلّما أسأنا استقبال المهاجرين، كلّما كان ذلك ردْعاً لهم عن المجيء عندنا"؟

كاثرين ويتول: يرتبط الأمر هنا أيضا بفكرة مسبقة خاطئة، فحين يكون عُمْرنا عشرين سنة، فإنّنا لا نهاجر لأجل الضمان الاجتماعي والحقوق المتعلقة بالتقاعد، فهذه الفكرة غالبا ما تكون رائجة ومنتشرة في أوساط الأشخاص المسنين؛ لأنهم هم الذين تعودوا على الضمانات في مجال الحقوق الاجتماعية، غير أن هذا البعد لا يحضر إطلاقا في أذهان المهاجرين الشباب الذين تدفعهم الصراعات والأزمات الاقتصادية إلى الهجرة خارج حدود بلدانهم الأصلية، وهي أزمات تتكرر إلى الحد الذي لا تترك لهم أي أمل يذكر في بناء مستقبلهم. وحين تكون لهم القدرة، غالبا ما يأخذون وجهة بلدان تكون بها جماعة مهاجرين لهم نفس جنسيتهم أو يشتركون معهم في الثقافة نفسها. وفي هذا السياق، يمكن طرح سؤال: لماذا يريد الأفغان الهجرة إلى المملكة المتحدة؟ لأن عددا كبيرا منهم كان عليه الهجرة أولا إلى باكستان، ولأن جماعة كبيرة من الباكستانيين توجد في بريطانيا ثم لأنهم يتحدثون اللغة الإنجليزية، وإذن فالعلاقات العابرة للحدود الوطنية والعامل اللساني كلاهما له تأثير مهم في هذه الاختيارات.

منذ سنوت قال أحد النواب المحافظين في حديثه عن مدينة كالييه الفرنسية، إن ما يتعين القيام به هو جعل الحياة مستحيلة بالنسبة إلى المهاجرين حتى لا يفكروا أبدا في الرجوع، لكن مدينة كالييه توجد في مواجهة دوفر البريطانية وستظل دائما، وهذه الواقعة البسيطة تجذب المهاجرين الذين يحاولون عبور قناة المانش إلى بريطانيا، كما أن الجاذبية المزعومة للبلدان ذات الشروط الاجتماعية المواتية والمشجعة يجعلها قابلة لأن تتم معاودة التفكير فيها من قبل من طرف الإدارة، ولابد من أن نسجل أن من بين البلدان الأكثر جذبا للمهاجرين نجد الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة على رأس القائمة، لكنهما في ذات الوقت بلدان لهما نظام حماية اجتماعية أقل ما يقال عنه أنه نظام هشّ...

جوستين كانون: غالبا ما نسمع بالمسلمة التالية: "إذا تحققت تنمية بلدان الجنوب، فإن معدلات الهجرة نحو بلدان الشمال ستتراجع"، والحال أنك تشيرين إلى أن العلاقة بين الهجرة والتنمية تبقى أكثر تعقيدا، لماذا هي كذلك؟

كاثرين ويتول: الواقع أن التنمية تميل إلى الرفع من معدلات الهجرة، حيث كلما نما بلد من البلدان، كلما كان بإمكان سكانه الحاصلين على الشواهد والديبلومات البحث في الخارج عن وضعية تتوافق مع مستوى تأهيلهم الدراسي، هناك بعض البلدان التي تعتمد بشكل كبير منذ البداية على التحويلات المالية لمهاجريها الذين يشكّلون بذلك أداة مهمة للتنمية المحلية، لذلك فإن فكرة أن تنمية بلدان الجنوب ستضع حدا للهجرة نحو بلدان الشمال تعود إلى خلفية خاصة بثقافة الخيريَّة المستلهمة من المسيحية، كما ترجع أيضا إلى أن هذه الفكرة قد تم التحقٌّق منها في الماضي بالنسبة إلى بلدان جنوب أوروبا كما هو الشأن بالنسبة إلى إسبانيا والبرتغال؛ فعلى إثر نهاية الديكتاتوريات العسكرية، كلما حققت هذه البلدان نموا اقتصاديا، كلما كانت تقلُّ معدلات هجرة ساكنتها نحو البلدان الأوروبية، غير أن هذه السيرورة لم يتم التحقق منها فيما وراء البحر الأبيض المتوسط؛ ذلك أن الأنظمة السياسية للبلدان الموجودة جنوب البحر الأبيض المتوسط غالبا ما تجعل الرحيل بالنسبة إلى فئة من سكانها هو الأفق الوحيد الممكن.

جوستين كانون: هناك وجه للمهاجر لا نتحدث عنه إلا لماما، أقصد المهاجرة، ما الذي يجعل النساء أكثر تمثيلية للهجرات المعاصرة؟

كاثرين ويتول: إنهنّ يمثلن في الواقع نصف المهاجرين على الصعيد العالمي، ولا نتحدث عنهن إلا قليلا؛ لأنهنّ غير مرئيات في الفضاء العمومي: فهن تتولين رعاية الأطفال والعناية بالأشخاص المسنين في إقامتهم، كما تشتغلن في الورشات الخاصة بمهن قطاع النسيج...وباستثناء الحالات الحديثة للنساء الأوكرانيات اللاتي تمثلن الغالبية من الساكنة التي هربت من الحرب، بينما لازال الرجال يرابطون في جبهات القتال، تبقى النساء غير مرئيات بشكل قوي في مجتمعات الاستقبال، وهو ما يمكن أن يجد تفسيره كذلك في صورة المهاجرين التي عادة ما يتم نشرها في وسائل الإعلام، والمتمثلة غالبا في من يصلون على متن السفن إلى جزر جنوب أوروبا مثل جزيرة لا مبيد وزا؛ فهذه الصور تعطي الانطباع بأن المهاجرين هم بالأساس من الذكور، بينما تعرف بعض البلدان مثل الفلبين هجرة نسوية أساسا والنساء هن اليد العاملة المبحوث عنها في المهن الخاصة بالخدمة المنزلية في الشرق الأوسط أو مهن الرعاية في أوروبا....ما دمن يمارسن عموما أنشطة يستلزم القيام بها إسكانهن من قبل مُشغّلهن، وفضلا عن ذلك يمكن للمهاجرات إرسال مبالغ مالية مهمة أكثر من الرجال نحو بلدانهن الأصلية، ولنشر في الأخير إلى أن بعض المشغلين يعلنون عن تفضيلات لليد العاملة بدلالة الجنس والجنسية؛ وفي هذا السياق نجد أن المغاربة مطلوبون في قطاع البناء بإيطاليا، بينما النساء الإفريقيات الناطقات باللغة الفرنسية هن من يقع عليهن الطلب في فرنسا لأجل القيام بمهن الرعاية.

جوستين كانون: بالنسبة إليك، ما تقوله تمثلات المهاجر عن مجتمع الاستقبال هو أكثر مما تقوله عن الهجرة نفسها، فما الذي تقوله عن المجتمع الفرنسي نظرتنا للمهاجر؟

كاثرين ويتول: إنها تقول الكثير من الحذر تجاه الهجرات، وغالبا ما حاولت في أعمالي مقارنة الاختلافات القائمة بين إدراك المجتمعات الأوروبية للهجرة وإدراك نظيرتها في القارة الأمريكية لها، حيث نجد في هذه الأخيرة التي جاء الكثير من سكانها بدورهم على متن سفن الهجرة، ثقةً أكبر في بناء المستقبل مع الوافدين الجدد.

والعكس هو الحاصل في أوروبا، حيث توجد صعوبات في إدراكها لنفسها بوصفها في قارة للهجرة، بل وأكثر من ذلك باعتبارها بلدا للإقامة؛ ففي فرنسا، على سبيل المثال، كان يلزم الكثير من الوقت حتى يتم وضع تشريع ضد أشكال التمييز، بينما تتم السخرية من نزعة التعدد الثقافي باستمرار، حيث يتم النظر إليها وإدراكها، باعتبارها نزعة جماعاتية. لقد كان تأسيس متحف تاريخ الهجرة بباريس طويلا وشاقا، في الوقت الذي يبدو فيه افتتاح فضاءات الذاكرة كما هو الحال بالنسبة إلى متحف الهجرة بجزيرة أليس في الولايات المتحدة بمثابة بداهة. فهذا الفرق في الإدراك يمكنه أن يكون تفسيرا لصعود النزعات الشعبوية لليمين المتطرف الذي يقوم مشروع سياسي أساسا على إقصاء الآخر. وفي مواجهة هذا الأمر، لا بد من مواصلة القيام بالعمل التربوي.

[1] كاثرين ويتول دو ويندين، مديرة أبحاث بالمركز الوطني للبحث العلمي في مركز الأبحاث والدراسات الدولية (Ceri) بمدرسة العلوم السياسية، نشرت العديد من الكتب حول موضوعة الهجرة الدولية منها:

- La Question migratoire au 21e siècle. Migrants, réfugiés et relations internationales (3e éd., Presses de Sciences Po, 2017)

- Atlas des migrations. De nouvelles solidarités à construire (6e éd., Autrement, 2021),

- Figures de l’autre. Perception du migrant en France (1870-2022) (CNRS, 2022).

[2] Catherine Wihtol de Wenden: Pour en finir avec la peur du migrant, Propos recueillis par Justine Canonne, sciences humaines N° 352 - Novembre 2022, P: 24-27