حوار مع محمد الحيرش


فئة :  حوارات

حوار مع محمد الحيرش

حوار مع محمد الحيرش

حاوره: د. مولاي أحمد صابر

"لا تتخذ التأويليات من الموضوعية معيارا للتسليم بــ "منظور مطابق أو إطلاقي إلى الحقيقة"؛ إن الموضوعية ليست سوى ما يُجيز لنا الإقرارَ بصلاحيةِ (validité) فهمٍ ما في علاقته بفهوم أخرى"

تقديم:

الأستاذ الدكتور محمد الحيرش باحث وأكاديمي مختص في اللسانيات والتأويليات بكلية الآداب والعلوم الإنسانية التابعة لجامعة عبد المالك السعدي بتطوان. صدرت له مجموعة من الدراسات والأعمال الفردية والجماعية التي اهتم فيها بالعلاقة بين التأويليات الحديثة والتأويليات القديمة، نذكر منها (النص وآليات الفهم في علوم القرآن: دراسة في ضوء التأويليات المعاصرة، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، 2013)، و(أخلاقيات التأويل: من أنطولوجيا النص إلى أنطولوجيا الفهم، دار الفاصلة للنشر، طنجة، 2019). كما سيصدر له خلال هذه السنة عملان: أحدهما حول "لسانيات اللغة ولسانيات التواصل: الأصول والتحولات"، والثاني حول "دُنيوية التأويل: المؤول والنص والعالم".

يشرف داخل كلية الآداب بتطوان على "مختبر التأويليات والدراسات النصية واللسانية" الذي نظم في السنوات الأخيرة مجموعة من الفعاليات العلمية والمؤتمرات الدولية، من بينها مؤتمر "التأويليات وعلوم النص" الذي انعقد بشراكة مع مؤسسة مؤمنون بلا حدود في أبريل 2019.

في هذا الحوار، سنناقش مع الأستاذ الحيرش بعض القضايا التي تدخل في مجال اهتمامه كالحديث عن الأهمية التي أصبحت تحظى بها التأويليات في الفكر الإنساني المعاصر، والآفاق التي تفتحها أمام متطلبات تجديد الخطابات التأويلية الدينية، كما سنتوقف معه عند طرحه الأخير الموسوم بــ "أخلاقيات التأويل".

صابر أحمد: بداية نرحب بكم الأستاذ محمد الحيرش، ونشكركم على قبول الدعوة لإجراء هذا الحوار. من منطلق كونكم واحدا من المتخصصين في التأويليات إلى جانب علوم اللغة، ما هي في رأيكم الآفاق الفكرية التي تفتحها أمامنا التأويليات اليوم؟ وأية مكاسب يمكن إفادتها منها، سواء في نظرتنا إلى ذواتنا وإلى الآخرين، أو في تعاملنا مع ماضينا وحاضرنا؟

محمد الحيرش: شكرا لكم الدكتور أحمد صابر ولمؤسسة مؤمنون بلا حدود على هذه الاستضافة... من المناسب الإشارة في البداية، إلى أن العصر الذي نعيش فيه بات يُنعت بأنه عصر تأويليٌّ بالمعنى الواسع للكلمة. فمنذ النصف الثاني من القرن العشرين ارتقت التأويليات (الهيرمينوطيقا) إلى ثقافة فلسفية مشتركة يستلهم حوافزَها في البحث والتفكير المشتغلون بالدراسات اللغوية والنصية والفنية، ويفيد من مفهوماتها ومقترحاتها أيضا المتخصصون في العلوم الإنسانية والاجتماعية؛ ذلك لأن أسئلة التأويل صارت تحظى في وقتنا الراهن بأهمية بالغة في كبريات التقاليد الفكرية الكونية؛ إضافة إلى أن الأعمال المرجعية التي تنتجها الجماعاتُ التأويلية المشتغلة بالنصوص الدينية أو الدنيوية تنتظم بوجه عام داخل إبدال تأويلي (paradigme herméneutique) منه تستلهم تلكم الجماعات أساليب تفكيرها في النصوص، وإلى توجهاته العامة تستند في فهمها ومقاربتها.

ولعل الأمر المهم الذي نلمسه اليوم في التأويليات بمنازعها الكبرى، هي أنها لا تقدم لنا نفسَها على أنها ضرب من "الفكر القوي" القادر على بلوغ فهوم جذرية للإشكالات والقضايا التي يهتم بها على نحو ما كان يُلاحَظ ذلك على طائفة من المنازع الفكرية الوضعية المنبثقة من مُثُلِ الحداثة ووعودها؛ كما أن المشتغلين بالتأويليات لا يعدون أنفسهم مدافعين عن دعاوى أو أطروحات مذهبية، مثلما كنا نُلفي ذلك في فلسفات مادية أو مثالية أو غيرها. إن التأويليات لا تعدو أن تكون فكرا مراسيا منفتحا وواعيا أشد ما يكون الوعي بمرونة الآليات التي يتوسل بها في الفهم، ونسبية التأويلات التي يهتدي إليها، وهو يخوض في موضوعاته المختلفة. ولذلك أولى فلاسفةُ التأويل المعاصرين لنسبية التأويل أهمية خاصة، وانصرفوا إلى البحث عن الشروط المفضية إلى إمكانها دون الانزلاق نحو الغلو؛ أي نحو نزعة نسبية مطلقة (relativisme absolu) تغدو بموجبها كلُّ التأويلات متساويةً ومتكافئة من حيث القيمةُ والأهمية. الأمر الذي يجعل التأويليات من هذا الجانب عبارة عن طائفة من الاجتهادات الفكرية التي تأخذ على عاتقها مهمةَ "إضفاء نسبية تأويلية على النزعة النسبية" ذاتها، وانتقادَ كلِّ ميلٍ إلى التسويةِ بين المواقف التأويلية والمماثلةِ الساذَجة بينها.

وفي مقابل ذلك، لا تتخذ التأويليات أيضا من الموضوعية معيارا للتسليم بــ "منظور مطابق أو إطلاقي إلى الحقيقة"؛ إن الموضوعية ليست سوى ما يُجيز لنا الإقرارَ بصلاحيةِ (validité) فهمٍ ما في علاقته بفهوم أخرى، والاعترافَ بأن هناك من الحقائق ما يمكن تأكيدُ وجاهته وفاعليته أكثر من غيره. ولذلك يتعذر علينا في أفقنا الزمني الراهن أن نطابقَ على سبيل المثال بين الحقائق المتوصَّلِ إليها في علمٍ كالتنجيم، وتلكم المتوصلِ إليها في علم الفلك، أو أن نسند القيمةَ التأويلية ذاتَها إلى حقائق علم الخيمياء قديما (l’alchimie) وحقائق علم الكيمياء حديثا، أو نسوِّيَ بين الحقائق المبلوغة في تفسير الأحلام على طريقة ابن سيرين وتلكم المبلوغة في علم النفس الحديث. وما يجري على الحقائق العلمية يجري أيضا على القيم الأخلاقية والسياسية، وعلى الحقائق الجمالية والتراثية وغيرها؛ إذ من غير الممكن بمعايير الفكر السياسي في أزمنتنا الحديثة أن يحظى حُكمٌ مطلق يخرق المبادئ الديمقراطية بالشرعية نفسِها التي يحظى بها حكم تمثليٌّ يحترم هذه المبادئ. فمن وجهة عديد من فلاسفة التأويل المعاصرين كغادامر ورورتي وغروندان وآخرين، هناك دائما في الأفق الزمني الذي نحيا فيه وننتسب إلى تجربته التاريخية "مسوغاتٌ سياقية واعتبارات تداولية هي التي تحملنا على قبولِ حقيقة ما أو تأويلٍ معين، وترجيحِهما على حقائق وتأويلات أخرى".

ومن هذه الإشارات إذن نستطيع القول، جوابا عن سؤالكم، بأن التأويليات تتسع لقدر واسع من الاجتهادات التي يمكن الإفادة منها في تعاملنا مع كثير من القضايا المتصلة بوجودنا في الحاضر أو المتصلة بما كان عليه وجود أسلافنا في الماضي؛ ذلك أن الخبرة بالمعنى في مجالات التواصل الإنساني، والخبرة بالحقيقة في المجالات العلمية والجمالية والتراثية والدينية وغيرها لن يتأتى التعمق في منطق اشتغالهما، ولا تَعقُّبُ مسالكهما في كل مجال على حدة من المجالات المذكورة دون التوسع في تحصيل معرفة تأويلية منفتحة وكافية.

ولهذا، فلئن كان للتأويليات ما تتيحه لنا اليوم، فهي لا تتيح قطعا أيَّة سردية جامعة مانعة (métarécit) يتعين أن تُحاكى وتُحتذى. إنها تمكننا بالأحرى من حوافز التفكير، ومن "ثقافة تأويلية" مرنة ومنفتحة تجعل من الاحتفاء بالتسامح، والاعتداد بالاختلاف، واستلهام التنسيب بعضا من اختياراتها المعرفية والقيمية لفهم القضايا والإشكالات المتنوعة التي تدرسها. وبهذا تفسح أمامنا التأويليات مسالكَ متجددة نحو التفكير في وجودنا ولغاتنا، في تراثنا وحاضرنا، في نصوصنا ومُختلِف إبداعاتنا؛ وهي مسالكُ يتكامل بعضُها مع بعض لتحفيز تفكيرنا على أن يكون أكثر اعتدالا وإنسانية من خلال مُدافعةِ العنف والتحجر بكافة تجلياتهما، ووضع ما أخذ يستشري من أسبابٍ داعيةٍ إلى الانغلاق والتشدد موضعَ نقدٍ وتأزيم.

صابر أحمد: اهتمت الثقافة العربية الإسلامية بمفهوم التأويل تبعا لسياقات معرفية وثقافية وفكرية؛ واعتبارات تختلف عن محيطنا المعرفي والثقافي الحالي، فكيف نتعامل مع ذلك الموروث اليوم؟

محمد الحيرش: من الملاحظات التي ينبغي إثارتها في هذا الصدد أن مفهوم التأويل في تراثنا العربي الإسلامي هو مفهوم واسع ومتعدد الوظائف، إذ لا يرتبط بالعلوم المختصة بفهم القرآن فحسب كعلوم التفسير وعلوم القرآن، بل يكاد يمتد إلى مختلف المعارف والعلوم التي اهتم بها القدماء من قبيل: الكلاميات، والشرعيات، والفلسفة، والتصوف، والنحو، والبلاغة، وعلم التناسب، وعلم الحروف، وتفسير الأحلام، وغيرها. وبهذا يظهر كيف كان التأويل في مجالنا العربي الإسلامي القديم عبارة عن قارة شاسعة ومترامية الأطراف يتعذر على باحث فرد الإحاطةُ بتشعباتها والتحرك في مسالكها الكثيفة والشائكة؛ إذ ما من مسلك في هذه القارة إلا ويمثل تأويلية قائمة بذاتها تختلف عن غيرها من التأويليات، ولا تقبل المقايسة معها (incommensurable). ففي مجال التفسيريات أو الكلاميات تواجهنا مواقف تأويلية ضاربة في التعدد والتشعب يستعصي التقريبُ بينها أو ردُّ بعض أصولها المذهبية إلى بعض. كما أن سائر المجالات الأخرى لا تَشُذُّ عن هذا الملمح التعددي والاختلافي؛ ذلك أن ما يلفت انتباهنا في كل مجال من المجالات المشار إليها هو ذلك الاختلاف البالغ في الآراء التأويلية، والتنوع البارز في آليات الفهم وبرامجه، بل إن هذا الاختلاف والتنوع يلازمان حتى المواقف التأويلية التي تشترك في القواسم المذهبية نفسِها؛ إذ يكفي أن نأخذ مصنفين اثنين يجمع بينهما انتماء مذهبي واحد في مجال التفسيريات على سبيل المثال، أو في مجال الشرعيات أو الكلاميات لنلمس أن اشتراكهما في وحدة مذهبية سنية أو اعتزالية أو شيعية لا يؤدي إلى تطابقهما التام في الاختيارات والمرجعيات المعرفية المعتمَدة في كلٍّ منهما؛ فالانتظام داخل مذهب محدد لا يوجب تطابقَ المُنتَظِمين بعضهم مع بعض في الرؤية المعرفية وفي منهج التناول. وقد سبق لي في هذا الخصوص أن أثرت الانتباه في العملين اللذين تفضلتم بذكرهما في التقديم إلى أن كثيرا من جوانب الغنى ومكامن الاستنارة التي تزخر بها العلوم التأويلية المقترنة بالنص القرآني تبقى متواريةً خلف غزارة الآليات الفهمية التي توسل بها المفسرون، ومستترةً في ثنايا الموسوعات العلمية التي صدروا عنها في تفاسيرهم؛ إذ لا يمكن أن نجد مفسرا يعتمد على علم مفرد في تفسيره، حتى وإن كان يُغلِّب مرجعيةً علمية محددة كالمرجعية النحوية أو البلاغية أو الفقهية أو الإشارية أو غيرها؛ فلا بد له أن يمتلك ثقافة علمية موسوعية؛ لأن من شروط المفسر عند القدماء أن يكون متبحرا في العلوم. كما أن من بين المسلمات المعرفية التي يستندون إليها في مزاولة تفسير القرآن المسلمةَ القاضية بأنه نص "لا يتفسر إلا بتصريف جميع العلوم فيه".

وعلى هذا الأساس، تبين لي أن الاستقراء الإبستيمولوجي الدقيق للآليات والموسوعات العلمية التي توسل بها المفسرون في الفهم يظل أحد المسالك البحثية الضرورية والملحة؛ لأنه يقودنا من جهة إلى الوقوف على مظاهر تعدد تراثنا التأويلي وثرائه المعرفي، كما يسمح لنا من جهة أخرى بنقدِ ما يحيط به من وثوقيات تتعارض مع نسبية الفهومِ المنتَجة فيه، وتفكيكِ ما يطوقه من غلو وتشدد يحولان دون انجلاء الطابع الدنيوي والتاريخي للعقل التأويلي الذي يستتر فيه.

ولذلك، أفترض أن القراءة الإبستيمولوجية المتأنية لتراثنا التأويلي هي إحدى السبل النقدية المناسبة لتقصي وجوه تعدده ورحابته، وتعميق النظر في حدوده وإمكاناته. وكلُّ من يعتقد أنه قادر على الإحاطة به في تواتره الزمني الطويل، وفي شساعة مجالاته من مجرد محاصرته في تقاطباته المذهبية، أو من طريق تجريده في بضع مقولات معرفية قارة ومتجانسة، أو من خلال اختزاله في منظومة مسكوكة من الضوابط التأويلية لن ينتهي به المآل إلا إلى التضحيةِ بتكوثره، وطمسِ منابع غناه. ويبدو لي أن كل من انتحى من الدارسين هذا النحوَ من القراءة الاختزالية هو أشبه ما يكون بمن يُمعِن، من حيث لا يحتسب، في تشديد الخناق على عقل تأويليٍّ تأبى حيويتُه المراسية ورحابةُ إمكاناته أن ترتدا إلى عقل ميتافيزيقي يميل إلى اجتثاث الكثرة والتعدد، وينزع إلى إقامة التنميط وتأبيد التطابق.

وعلى هذا الأساس، أتصور أن السبيل إلى تجديد النظر في تراثنا التأويلي، ووصله بأسئلة العصر يتوقف على التعمق في محتوياته المعرفية واستقصاء مناحي تعدده وثرائه؛ فهذه المحتويات هي الأبقى في كل تأويل مضى، وهي الأقدر على الاستمرار والتجدد إذا ما قورنت بما يحيط به من خصومات مذهبية أملتها شروط تاريخية وملابسات سياقية. فما الذي تبقى اليوم على سبيل المثال من باطنية القاضي النعمان أو من ظاهرية ابن حزم غير كونهما تأويليتين تلفتان اهتمامَنا لا بما يطفو على سطحهما أو يلفُّهما من غطاءٍ مذهبي بادٍ ومكشوفٍ، وإنما بالنواة المعرفية الكامنة خلف هذا الغطاء. فبالكشف عن طبيعة هذه النواة في كل تأويلية على حدة، وتشخيص مكوناتها المعرفية ووظائفها الإجرائية يتأتى لنا إمكانُ عقدِ مواجهةٍ حوارية منفتحة بين تأويلياتنا القديمة، وبين الاجتهادات التأويلية المعاصرة، مواجهةٍ تساعد على إغناءِ فاعلية التأويل في ذاتها، وتوسيعِ إنتاجيتها ومجالات انطباقها. فكل تأويلية اليوم هي في أساسها حوار معرفيٌّ لا ينقطع مع تأويليات أخرى قديمة أو حديثة، الأمر الذي يبسط أمام تقاليدنا التأويلية من الحوافز والأسباب ما به تغدو متفاعلةً أشد ما يكون التفاعل مع متغيرات أزمنتنا ومقتضيات أحوالنا، و"متورطة" على نحو منتج في تفهم شؤوننا ومجريات حياتنا؛ إذ لا نوجد في العالم لنحيا فيه بمعيار الحقيقة الأحادية، كما لا نخوض تجربتنا الحية فيه بالتقوقع في الماضي أو بالتحصن المطلق في الحاضر. ففي كلتا الحالتين، نكون في أمس الحاجة إلى عقد صفقةٍ غير تاريخية، إما مع "أصل" من أصول الماضي نفترض أنه قابل للتكرار، وإما مع "أصل" من أصول الحاضر نلوذ به لتصورنا أن إليه النهايةَ والمآل. وجودنا في العالم هو وجود بالتفاعل وبالجوار؛ أي بتفاعلنا مع تجربتنا التاريخية في الماضي ومع تجربتنا في الحاضر، وبمجاورتنا للآخرين وتقاسم أواصر العيش المشترك معهم.

صابر أحمد: هناك تباين بين اصطلاح التفسير والتأويل عند القدماء، وكذلك الأمر نفسه عند أهم المختصين في الفلسفة التأويلية المعاصرة؛ كيف نفهم هذا التداخل والالتباس بين المفهومين بهدف تجاوزه؟

محمد الحيرش: غالبا ما يُعرَّف هذان المفهومان في كثير من الدراسات بتعريفات تخلط بين المجالات التي يُستعملان فيها عند القدماء، فلو اكتفينا بتحديداتهما في علوم التفسير على سبيل المثال لا الحصر لما عثرنا لهما على محتويات تعريفية موحدة ومتجانسة. ولذلك، يتعين البحث في أسباب هذا الاختلاف لا من الناحية المذهبية فحسب، وإنما من الناحية الإبستيمولوجية.

وفي هذا الخصوص، سبق لي في (النص وآليات الفهم) أن قدمت تعليلا لهذا الاختلاف بين المفهومين ينطلق من التمييز بين السياقات التي يردان فيها داخل علوم التفسير من جهة، وداخل علوم القرآن أو أصول التفسير من جهة ثانية. فنحن هنا أمام علوم متمايزة في موضوعاتها ومقاصدها؛ فإذا كان المفسر يشتغل بالنص القرآني لفهمه وبيان معانيه، فإن المشتغل بعلوم القرآن أو بأصول التفسير لا يشتغل مباشرة بالنص، إنه يشتغل بعلم التفسير ذاتِه من أجل استكشاف مقوماته المعرفية وآلياته الفهمية العامة التي يشترك فيها كافة المفسرين، وهم يخوضون في فهم القرآن. وتبعا لذلك، لن تكون صيغة عرض تعريفات مفهومي التفسير والتأويل متطابقة بين مفسر ما يتبنى اختيارات مذهبية ومعرفية في التفسير، وبين مشتغل بعلوم القرآن أو أصول التفسير يسعى إلى تجريد الأسس العامة والمرتكزات المشتركة التي تنهض عليها الممارسات التفسيرية في اختلافاتها المذهبية والمعرفية.

وقد سمح لي هذا المنطلق بتصنيف العلوم المذكورة إلى خبرتين تأويليتين متمايزتين: واحدة مراسية تدخل تحتها علوم التفسير في انشغالها بفهم الحقائق الدينية للقرآن. والثانية نظرية تشمل علوم القرآن وأصول التفسير، حيث تنصرف علوم القرآن وبجانبها أصول التفسير إلى استقراء مقومات البرنامج الفهميِّ العام الذي تستند إليه علوم التفسير ذاتُها ولا تستقيم من دونه. وبهذا التصنيف، يصبح موضوع الخبرة المراسية في تنوع مرجعياتها المعرفية والمذهبية هو فهم الحقائق الدينية للنص، في حين تضطلع الخبرة النظرية باستقراءِ الأسس المعرفية التي بُنيَ عليها فهمُ تلك الحقائق، وصوغِ البرنامج التأويليِّ العام الذي يشترك في مقوماته ومرتكزاته كل من يشتغل بعلم التفسير.

وعلى هذا الأساس، ستخضع تحديدات مفهومي التفسير والتأويل لتباين الخبرتين التأويليتين، ففي الخبرة المراسية لن نجد المفسرين يسندون إلى المفهومين محتويات تحديدية متطابقة، بل يسند إليهما كلٌّ منهم محتوى تحديديا يتناسب مع اقتناعاته المذهبية واختياراته المعرفية. ولهذا كثيرا ما نجد المفهوم الواحد يرد بتحديدات متباينة من مفسر إلى آخر؛ فالمضمون التحديدي لمفهوم التأويل كما يرد في تفسير الطبري ذي المرجعية السنية لا يمت بصلة إلى مضمونه كما يرد في تفسير الزمخشري ذي المرجعية الاعتزالية أو في تفسيرات أخرى ذات مرجعية إشارية أو شيعية أو غيرها. كما يحصل الأمر نفسُه مع مفهوم التفسير، وبذلك لن نقبض في علم التفسير على مضامين تحديدية متجانسة للمفهومين يتفق عليها جميع المفسرين؛ وذلك لأنهم أصلا يصدرون عن مرجعيات مذهبية متباينة، وعن اختيارات معرفية متفاوتة.

أما في الخبرة النظرية، فالأمر مختلف؛ لأن الاهتمام فيها ينصرف إلى بناء خطاب نظري واصف للمعرفة التفسيرية (méta-exégèse) يركز بالأساس على المشترك بين المفسرين، ويميز بين المفهومات حتى لا يلتبس بعضُها مع بعض كما يحدث ذلك في أي خطاب نظري واصفٍ لمعرفة من المعارف القديمة أو الحديثة؛ إذ من خصائص هذا الخطاب درءُ اللبس الدلاليِّ بين المفهومات العلمية، وتجنب الترادف. ولذلك اتجه المشتغلون بعلوم القرآن وأصول التفسير إلى إقامة فروق واضحة بين مفهوم التفسير ومفهوم التأويل، وشددوا على تمايزهما؛ بل أضافوا إليهما مفهوما آخر هو مفهوم المعنى الذي يرتبط عندهم برصد التحققات الدلالية التي تنكشف في النص من تلقاء ذاتها، ودون احتاج إلى بحث أو نظر.

والمثير للاهتمام عند علماء القرآن على وجه الخصوص أنهم ميزوا بين المفهومات الثلاثة ضمن تراتبية فهمية تأخذ بعين المراعاة طبيعة التمفصلات الدلالية التي على منوالها جاء النص، فطبقوا مفهوم المعنى على التمفصلات التي وردت فيه ظاهرة مكشوفة. ولجأوا إلى مفهوم التفسير لبيان التمفصلات التي يتطلب فهمُها استدعاءَ المقتضيات الزمانية والمكانية التي أحاطت بالوحي من أسبابِ نزول، ومكيٍّ ومدني، أو غيرها مما يعود إلى المعرفة المسبقة بقوانين اللغة العربية وعاداتها الجارية في الإفادة والتدليل (signifiance). أما مفهوم التأويل، فتوسلوا به في فهم المعاني التي تقوم على الاحتمال والتشابه. وعلى هذا، فالعلاقة إذن بين هذه المفهومات عند علماء القرآن ليست علاقة انفصال وخصام، بل علاقة اتصال وجوار واقعة ضمن تراتبية يُسْلِمنا فيها كل مفهوم من لحظة فهمية إلى أخرى.

لكن المهم في كل هذا أن تأصيل علماء القرآن لهذه التراتبية الفهمية يضرب بجذوره في بدايات الممارسة التفسيرية مع ابن عباس والصدر الأول من المفسرين؛ فمع هؤلاء كان قد ارتسم فرق واضح بين مهمة التفسير ومهمة التأويل، بما نلمس منه لا تعارضهما أو تنافيهما، وإنما تقاربهما وتكاملهما. وقد عبر الزركشي عن ذلك بمنتهى الدقة، وهو يتناول هذه المفهومات في (البرهان) قائلا: إنها «وإن اختلفت فالمقاصدُ بها متقاربة».

في ضوء هذا التحليل إذن يتوقف كلُّ حديث عن مفهوم التفسير والتأويل على وجوب ربطهما بالسياق المعرفي الذي يندرجان فيه؛ أي بنوع الخبرة التأويلية التي يُستعملان فيها كما سبق أن أوضحت. أما ما اقترن بهما في الماضي من صراع، أو تدافع ما زالت آثارهما ممتدةً عند البعض إلى حدود اليوم، فقد ظلت تُذكيه دوافعُ مذهبية ومضمراتٌ سياسية كان الغرض منها لا تشديد السيطرة على النص فحسب، وإنما احتكار مقاليد تفسيره وتأويله أيضا.

صابر أحمد: في سياق حديثكم عن هذا النزوع المذهبي إلى احتكار التأويل، كيف لنا أن نستثمر المعرفة التأويلية الحديثة في فهم النصوص الدينية؟ وإلى أيّ مدى يمكنها أن تسهم في الحد من التشدد والأصولية؟

محمد الحيرش: هناك مداخل متعددة إلى تجديد النظر في ما يتسع له تراثنا التأويلي من إمكانات واجتهادات، لكن المدخل الذي أميل إليه، ويبدو لي أنه يملك بعضَ الوجاهة هو المتمثل في إعادة قراءة هذا التراث على أسس معرفية لا أيديولوجية. ولعل ما يسوغ في نظري هذا المدخل أنه يتسم بميزتين مهمتين: فهو يتسم أولا بقدر من الاعتدال والأناة في التقصي بما يتيح للباحث عدم الانجرار إلى عنف الأحكام، وحِدة التقويمات الأيديولوجية التي انجر إليها عديدٌ من الدارسين المشارقة في مساجلاتهم وكتاباتهم، وكذا بعض الباحثين من المدرسة التونسية. في حين أن المدرسة المغربية كما أرسى معالمها جيلٌ من كبار الباحثين والمفكرين من أمثال عابد الجابري وعبد الكبير الخطيبي وعبد الله العروي وعبد السلام بنعبد العالي وطه عبد الرحمن ومحمد مفتاح وعبد الفتاح كيليطو ومحمد المصباحي وغيرهم، غالبا ما تُنعت في اهتمامها بتجديد الوعي التأويلي بصدد قضايا التراث العربي الإسلامي عامة بأنها مدرسة متسامحة ومنفتحة تتساكن داخلها اجتهادات متنافسة فعلا، لكن دون أن ينجر بعضُها إلى نفي بعض، أو المناداة بإلغائه.

كما يتسم ثانيا بقدرته على إقامة فصل دقيق في تراثنا التأويلي بين الوجه العقلاني الذي كان به ممارسة علمية دنيوية مفتوحة على مختلف المعارف والعلوم المتاحة في عصور القدماء، وبين الوجه الدوغمائي الذي بموجبه استحالت فاعلية التأويل في هذا الموقف المذهبي أو ذاك إلى نسق مغلق من اليقينيات المذهبية المتطابقة. ولذلك كثيرا ما أفضى تغليبُ عديد من الدارسين الاهتمامَ بذلك التراث على أساس تشكلاته الأيديولوجية إلى عدم الالتفات إلى التنوع الذي يطبع تشكلاته المعرفية، وإلى طمس منابع الغنى التي تتصف بها برامجه الفهمية وإبدالاته.

ومن غير شك أنه كان لتكريس النهج القائم على أساس القراءة المذهبية والأيديولوجية لتراثنا التأويلي في كتابات محافِظة أو مجدِّدة في عالمنا العربي، وترسيخِه كما لو أنه هو النهج الدراسي الأوحد والأنسب، آثارٌ بالغة ضيَّقت مجالَ البحث في هذا التراث إلى أبعد الحدود، وعطَّلت طوال عقود إمكان تطوير نهوج دراسية أخرى لبحثه ومقاربته. ولهذا، أعتقد أن الحاجة تشتد اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى تعديد مواقع النظر إلى تراثنا التأويلي، وتنويعها لتدارك الخصاص الكبير الحاصل في بحثه؛ إذ ليس من سبيل إلى "تحريره" من القبضة الأيديولوجية الجاثمة عليه إلا بتجديد مواقع النظر إليه، وتوسيع مساحات الاستنارة المتأصِّلة فيه، وتعميق قيم التسامح والإنصاف المقترنة به.

صابر أحمد: على ذكر قيم الإنصاف والتسامح وعلاقتها بالتأويل، لديكم طرح معرفي موسوم بـ "أخلاقيات التأويل"، وهو طرح يربط في التأويل بين أسسه المعرفية وقيمه الأخلاقية؛ نود في ختام هذا الحوار أن تقربوا القارئ من هذا الربط؟

محمد الحيرش: من الجوانب التي نكاد لا نلتفت إليها في كتب التفسير وكتب علوم القرآن أنها حافلة بكثير من القيم والأخلاقيات التي تعلي من شأن التعدد والاختلاف في فهم النص، وتقبل بالتسامح في تعامل المفسرين بعضهم مع بعض. فلطالما اهتم المفسرون وعلماء القرآن بهذه الأخلاقيات في المبحث المتعلق بــ "شروط المفسر وآدابه"، فوقفوا فيه على جملة من الشروط والخصال التي يتعين على المفسر أن يتحلى بها، وهو يزاول تفسير القرآن. لكن الأمر لا يقتصر عندهم على الحد الذي يجعل هذه الشروط والآداب موقوفة على المفسر بما هو ذات مؤولة، بل يمتد إلى صميم العملية التأويلية. ولهذا، أميز بين الآداب أو الأخلاقيات المرتبطة بالذات المؤولة، وبين الأخلاقيات الملتصقة بصميم الممارسة التأويلية أو المستترة في ثناياها. وأعتقد أن الأخلاقيات اللصيقة بالممارسة التأويلية هي الأكثر أهمية؛ لأن بها تتكشَّف طبيعةُ العلاقة التي يقيمها التأويل بموضوعه، ونوعُ السلوك الذي ينهجه في مقاربته.

وقد تبين لي بناء على هذا، أن الأفق المعرفي والقيمي الذي ينتظم التفسيريات (وعلى النقيض من الشرعيات والعقديات) هو أفق ينهض على قيم التنسيب، وعلى التواضع والتسامح في التعامل مع النص؛ وذلك لأن ما يجمع بين المفسرين هو صدورهم عن مسلمة معرفية وأخلاقية تقضي بأن ما من أحد منهم بقادر على ادعاء الإحاطة الجذرية بمعاني النص واستيفائها مهما كان متوسعا في العلوم ومتبحرا في فنونها وأدواتها. فالنص بالنسبة إليهم أوسعُ من أن يُختزَل في معان نهائية، أو يُثبَّت في فهم واحد. ويكفي أن نتعامل مع كتب التفسير بقدر من التروي والموضوعية، لنجدها تغصُّ بأقوال صريحة تؤكد أن في القرآن "مجالا رحبا ومتسعا بالغا لأرباب الفهم"، وأن شمولية استقصاء معانيه هي أمر "لا مطمع فيه للبشر"، كما سنجدها أيضا زاخرة بالحجج الداعمة للمنزع التعددي والاختلافي في المعرفة التأويلية، ومن ذلك أن القرآن جُعل فيه (المحكم والمتشابه) "ليجد فيه كلُّ ذي مذهب ما يؤيد مذهبَه وينصر مقالته"، ولتتشاغل به العقول وتتنافس في فهمه.

ولهذا أتصور أنه إذا كان هنالك من درس نفيده اليوم من أخلاقيات التأويل عند القدماء، فهو المتمثل في عدم ادعاء أيٍّ منهم القدرة على استيفاء معاني الوحي واستنفادها. فمنذ أن هبط الوحي إلى العالم ليتحيز فيه وينتسب إليه، توالت أنظارهم إليه، وتفاوتت دونما ادعاء الواحد منهم سلطةَ القبض النهائي عليه، أو الإحاطة الجذرية به. إنهم يثيرون الاهتمام حقا بعدم قذفهم أسبابَ التعدد والاختلاف في النص القرآني إلى غياهب العماء (le chaos) حيث يتعذر الفهم، أو يُحجب ويعاق. لقد تفاعلوا معها بوصفها بواعث حيوية على إمكان الفهم واستمراره. وفي هذا ما يعكس عمقهم ويجسد مظهرا من مظاهر استنارة تآويلهم.