حوار مع يوسف الصّدّيق قراءة التّراث: مدخل إلى روح العصر


فئة :  حوارات

حوار مع يوسف الصّدّيق  قراءة التّراث: مدخل إلى روح العصر

حوار مع يوسف الصّدّيق[1]

قراءة التّراث: مدخل إلى روح العصر

 

حاوره د. نادر الحمامي

 يوسف الصّدّيق:

.        فيلسوف تونسيّ متخصّص في اليونان القديمة وفي أنثروبولوجيا القرآن. مهتمّ بالنّصوص التّأسيسيّة في الحضارة الإسلاميّة.

.        حاصل على الدّكتوراه في المعهد الأعلى للدّراسات الاجتماعيّة (ecole nationale des hautes études en sciences sociales) في باريس.

.        له عدّة أبحاث ودراسات منشورة باللّغة الفرنسيّة متعلّقة بالحقل القرآنيّ وتوابعه الثّقافيّة. ساهم في إنجاز «المعجم التّاريخيّ للفكر الاقتصاديّ العربيّ والإسلاميّ»

.        أنجز ترجمات عديدة إلى اللّغة الفرنسيّة شملت «الأحاديث النّبويّة» و«نهج البلاغة» و «موطّأ الإمام مالك» و«رسائل ابن سينا» إضافة إلى ترجمة ذات صبغة فكريّة لمعاني القرآن.

*- ملامح في مسيرة الحياة والفكر

د. نادر الحمّامي: الأستاذ يوسف الصّدّيق، لعلّ أوّل ما يطالعنا في كتاباتك أنّك تصدّرها بإهداء إلى محمّد حفناوي الصّدّيق، والدك، فهل هو اعتراف منك بالأثر الكبير الّذي خلّفه هذا الرّجل في شخصك؟ وكيف انعكس ذلك الأثر على مسيرتك؟

د. يوسف الصدّيق: لعلّني حين أقارن في حياتي الخاصّة بين مراحلها الأولى المتعلّقة بالتّنشئة والتعلّم وهذه المرحلة الّتي أعيشها الآن، أرى أنّني توغّلت مسافة كبيرة في التّجربة والاطّلاع والتّفكير والكتابة، ومع ذلك فلا يمكن أن أفصل ما وصلت إليه عن تلك البدايات البعيدة؛ حين كان والدي، وهو صاحب مكتبة، يعتمد عليّ مع إخوتي في إفراغ الكتب الّتي كانت تصل إلينا من الشّرق، وتنظيمها وترتيبها في الرّفوف، وكان يكلّفني من حين لآخر أن أتولّى نسخ بعض منها، فأنتبه إلى محتواها، وكثيراً ما أعجب بما تضمّنته. لقد كان والدي رجلاً بسيطاً سهل الطّباع بشوشاً، ولعلّي انتبهت مبكّراً إلى سماحته؛ فقد كان حين يغضب من تصرّفات أحدنا، يكتفي بأن يتوجّه له بالقول: «الله يهديك»، كما أنّه لم يكن يتدخّل في واجباتنا الرّوحيّة، فقد كانت أختي الصّغرى لا تصلّي، ومع ذلك لا أذكر أنّه أجبرها يوماً على الصّلاة، رغم التزامه الدّينيّ الصّارم مع نفسه، وشغفه بمخالطة شيوخ الزّيتونة وتطارح المسائل الدّينيّة والأدبيّة مع النّاس. حتّى أنّه كان يعتزم أن يدخلني جامع الزّيتونة الّذي كان على بعد أمتار من مكتبته وعلى بعد عشرات الأمتار من بيتنا بجانب نهج العطّارين، وقد سمعته يقول ذلك لأحد الشّعراء الكبار حين سأله عن مشروعه فيّ، أقصد الشّاذلي خزندار الّذي كنّا نسمّيه أمير الشّعراء، لأنّه كان ذا حظوة لدى بيوت البايات وأعيان المدينة، وقد التقطت بفطنة الصّبيّ الّذي لم يبلغ سنّ السّادسة بعد، قوله لأبي «أقترح أن تُدخله إلى مدرسة تكون فيها الفرنسيّة على قدر المساواة مع العربيّة»، وأضاف مؤكِّداً عليه «يا سي الحفناوي إنّ الفرنسيّة ستصبح سلاحنا عندما نفوز بالاستقلال»، وقد اقتنع أبي برأيه، وسجّلني في مدرسة فرنكو-عربيّة، وزاولت فيها تعليمي وقد تكوّنت في اللّغتين العربيّة والفرنسيّة تكويناً جيّداً، ثمّ انتقلت إلى «المدرسة الصّادقيّة» بعد ذلك. وأعتقد أنّني كنت من المحظوظين، عندما قرّر والدي أن يُقحمني في منظومة عصريّة يكون فيها المتنبّي وفكتور هوجو بابين لتكويني الشّخصيّ والمعرفيّ.

د. نادر الحمّامي: لعلّ لتلك البيئة الّتي نشأت فيها أثراً في ذاتك، بالنّظر إلى أهمّيّة الأعلام الّذين عاصرتهم، على غرار الفاضل بن عاشور وأبيه الطّاهر بن عاشور والبشير خريّف، فكيف كانت علاقتك بهؤلاء؟

د. يوسف الصّدّيق: الفاضل والطّاهر كانا يرتادان المكتبة ثلاث أو أربع مرّات في الأسبوع، على الأقل، وكانا قُبيل صلاة الجمعة يمرّان على أبي، ويقفان في انتظاره وهو يغلق الباب وينزع الصّناديق البلّوريّة الّتي تزيّنه، ليذهب معهما إلى الجمعة، ويرجع ثلاثتهم بعد ذلك إلى المكتبة، فيتحدّثون عن معاني الخطبة ويناقشون أخطاء الإمام وزلّاته... إلخ. وكنت أتمتّع كثيراً بتلك الأحاديث والرّوايات وما يَعرِض في نقاشاتهم من أخبار ومقاصد، وكانت تشدّني بعض الملامح في شخصيّاتهم وتصرّفاتهم وهيئاتهم. حتّى إنّني أذكر أناقة الفاضل بن عاشور ولباسه الّذي يفصّله لنفسه بعناية فائقة، وعمامته ذات اللّفافة الواحدة الّتي كانت تشبه عمامة الشّيوخ المصرييّن، في حين كان والده الطّاهر متواضعاً جدّاً في هيئته، وكان يلبس جبّة تونسيّة ذات لون خمريّ، غاية في البساطة والشّعبيّة، ويضع نظّارات ذهبيّة صغيرة بالكاد تتّسع لعينه، وكان كثيراً ما يسألني عن موضع آية أو معناها أو معجم بعض ألفاظها، فأعجز في أكثر الأحيان عن الإجابة، فيبادر باسماً بتفسير ما أعجزني، ولا أنسى كيف فسّر لي «غاسق إذا وقب» و «من شرّ النّفّاثات في العقد» ولم أكن قبل ذلك أفهمها أبداً. ولعلّه أذكى في نفسي ملكة السّؤال عمّا لم أكن أفهم من آي القرآن أو السّور، فكنت أستوضح المعنى من والدي، أو أخي الأكبر، أو شخص آخر عزيز عليّ كان يعتني بي كثيراً، هو البشير خريّف، وكنت ألجأ إليه أيضاً لأفهم بعض ما أقرأ من تلك الكتب الكثيرة الّتي تملأ رفوف مكتبتنا، ومن بينها ما يزخر بمختصرات لأعمال عالميّة في الآداب والفكر مترجمة إلى العربيّة ضمن المنشورات الّتي تأتينا من مصر أو من لبنان، وقد قرأت «الملك لير» و«دونكيشوت» والكثير من الكتب الّتي كنت أستقي منها معرفتي الأولى بكتّاب غربيّين كبار، ولعلّ الكثير من تلك العناوين لم أطالعها إلى الآن في لغاتها الأصليّة، وكأنّني اكتفيت بتلك التّرجمات الّتي أخذت حيّزاً من اهتمامي في مرحلة مبكّرة من تكويني. وقد أثّر ذلك الجوّ الفكريّ والثّقافيّ والاجتماعيّ والدّينيّ في تفكيري وأفضى إلى توجّهي لدراسة الفلسفة بعد ذلك.

د. نادر الحمّامي: رغم أنّك نشأت في ذلك الجوّ التّونسيّ التّقليديّ الأقرب إلى ثقافة الشّرق، فإنّك توجّهت لدراسة الفلسفة في باريس، فهل كان لاختيارك ذاك دور في ما عُرف عنك من موقف معارض لتعريب الفلسفة في تونس؟

د. يوسف الصّدّيق: لقد تخصّصت في الفلسفة في باريس، وعدت للتّدريس في تونس، وكانت الفلسفة تُدرّس آنذاك بالفرنسيّة، قبل أن يطلع علينا أحد الوزراء في الحكومة التّونسيّة، وهو إدريس قيقة، بقرار مفاجئ وصادم، كان له أسوأ التّداعيات على البلاد فيما بعد، وكنت أدرك تماماً حجم خطورته على الأجيال اللّاحقة، أعني قرار تعريب مادّة الفلسفة، ولم يكن ذلك الوزير الّذي انتقل من الإشراف على وزارة الدّاخليّة إلى الإشراف على وزارة التّربية يدرك خطر ما أقدم عليه، ولم يكن قرار التّعريب نابعاً من شغفه باللّغة العربيّة ولا اهتمامه بالثّقافة العربيّة باعتبارها جزءاً من هويّة التّونسيّين، فليس أبداً ممّن يتضلّعون في اللّغة العربيّة ولا ممّن يتذوّقونها، كغيره من الوزراء الّذين سبقوه على رأس وزارة التّربية، بل إنّ قرار التّعريب لديه كان جزءاً من خطّة أمنيّة لا علاقة لها بالتّربية والتّعليم أصلاً، وقد عبّر عن ذلك بصريح القول في سياق تبريره للقرار قائلاً: «علينا تعريب مادّة الفلسفة، حتّى نوصد الباب أمام الفكر الماركسيّ والشّيوعيّ»، على اعتبار أنّ النّخب المثقّفة اليساريّة كانت تعارض سياسة الدّولة التّونسيّة في ذلك الوقت، ولم ينتبه إلى أنّه بذلك القرار كان يفتح الباب لتغوّل نوع آخر من الفكر، الّذي هو أشدّ خطراً على الدّولة وعلى الشّعب وعلى عمليّة البناء السّياسيّ والاجتماعيّ والثّقافيّ عموماً، أعني الفكر الإسلاميّ المتطرّف الّذي بدا الجوّ سانحاً له حتّى يتمدّد ويجتاح المجتمع في عمقه. وكنت أكتب بعض المقالات باللّغة الفرنسيّة في جريدة (la presse) آنذاك، وأخذتُ على عاتقي أن أنبّه إلى ما رأيت من خطر محدق بالدّولة والشّعب على المدى القريب والمتوسّط والبعيد، أعني بذلك ما نعيش ثماره اليوم من تطرّف باسم الدّين والهويّة.

د. نادر الحمّامي: أليس في موقفك هذا المعارض لتعريب الفلسفة، بعض الحيف ضدّ اللّغة العربيّة الّتي مثّلت بالنّسبة إليك مرحلة هامّة جدّاً في تكوينك؟

د. يوسف الصّدّيق: لا يعني موقفي من تعريب الفلسفة أنّ اللّغة العربيّة عاجزة، فقد أعطت هذه اللّغة الّتي أعشقها العالَم علماء كباراً، ساهموا بعلمهم في تأسيس الكثير من النّظريّات الّتي يدين إليها الغرب اليوم في بناء حداثته وتقدّمه، وهي لغة ما تزال حاملة للعلم والأدب والفنون. ولكن ما دفعني نحو ذلك الموقف وأشعرني بالصّدمة، إنّما يتعلّق بافتقار مادّة الفلسفة في اللّغة العربيّة إلى المراجع الضّروريّة والمناهج المناسبة، ولو اهتمّ القرار بتعريب البرامج الّتي تدرّس في المعاهد لتلاميذ البكالوريا، فذلك أمر يسير تقدر عليه الوزارة في وقت محدّد، ولكن ما لا تقدر عليه أبداً بحسب مستوى الإمكانيّات المتوفّرة لها مادّيّاً وبشريّاً، هو تعريب المصادر الفلسفيّة الغربيّة الكبرى الّتي لا توجد أصلاً إلّا باللّغة الفرنسيّة. وقد عبّرت عن ذلك بوضوح، وتحدّيت ذلك الوزير، وقلت في ذلك الوقت «إنّني أقدر الآن أن أخرج إلى الشّارع الرّئيس في العاصمة، وأجمع مئتي نسخة من كتاب ديكارت «خطاب المنهج» باللّغة الفرنسيّة، ولكنّني لا أستطيع أن أجمع عشر نسخ من «المدينة الفاضلة» باللّغة العربيّة، حتّى وإن جبت أنحاء البلاد كلّها». وليس ذلك استثناءً في تونس، فالمكتبة العربيّة تفتقر في ذلك الوقت لترجمات أمّهات الكتب والمصادر الفلسفيّة، فضلاً عمّا يُكتب وينشر في الغرب من دراسات فلسفيّة مهمّة في ذلك الوقت. لقد كان هاجسي الأساسيّ أن أفضح ما سيسبّبه ذلك القرار السّياسيّ المسقط من قطيعة بين الفلسفة وبين عدد متعاقب من الأجيال التّونسيّة الّتي هي في أمسّ الحاجة إلى التّفكير الفلسفيّ العميق انطلاقاً من أسسه السّليمة ومنابعه الأولى في الثّقافة الغربيّة.

د. نادر الحمّامي: هل هذا ما دعاك في أواسط السّبعينيات إلى كتابة «المفاهيم والألفاظ في الفلسفة الحديثة»؟ هل كان ذلك تعاملاً مع أمر واقع؟

د. يوسف الصّدّيق: لقد حزّ في نفسي كثيراً، أن يتّهمني دعاة تعريب الفلسفة بأنّني أعارض قرارهم بسبب ضعفي في اللّغة العربيّة، فآليت على نفسي أن أكتب كتاباً باللّغة العربيّة، واستغرق الأمر ستّة أشهر ليصدر هذا الكتاب. وكان الطّلبة قد استفادوا منه استفادة كبيرة، فقد طبع أربع عشرة مرّة، وكان يُستعمل في كلّ سنة دراسيّة، ولا أزال إلى حدّ الآن أتلقّى اعترافات من أناس أصبحوا أساتذة أو موظّفين كباراً ويعتقدون أنّه أعانهم دون المراجع على أن يتلقّوا الفلسفة بالعربيّة، وقد نجح أكثرهم في أن يتلقّاها بالعربيّة والحمد لله.

د. نادر الحمّامي: ولكن هذا لم يمنع من فتح الباب أمام نوع من «المحافظة» في دراسة الفلسفة وتدريسها، وربّما كان سبباً في توجّه أعلام معروفين، اليوم، نحو دراسة الفلسفة في المشرق عوض دراستها في الجامعات الأوروبيّة.

د. يوسف الصّدّيق: وتوجّهوا كذلك إلى المغرب الأقصى، في تلك الفترة، حيث كانت الفلسفة تدرّس بطريقة أعمق بكثير ممّا كانت تدرّس في تونس، على الرّغم من وجود كفاءات عالية جدّا من الأساتذة الّذين تكوّنوا في فرنسا وعادوا للتّدريس في تونس، وقد سلكوا مساراً مماثلاً للمسار الّذي سلكته، ولم يعقهم قرار التّعريب عن أن يتميّزوا ويساهموا في تكوين أجيال تحمل عنهم المشعل. ورغم أنّني حصلت على شهادة التّبريز في «أميان» في ناسيونال فرنسا، وعلى الدّكتوراه في المعهد الأعلى للدّراسات الاجتماعيّة (ecole nationale des hautes études en sciences sociales) في باريس، فإنّني أعتبر نفسي أحد خرّيجي التّعليم التّونسيّ بالأساس، فقد زاولت معظم فترات تعليمي في تونس إلى حدود مرحلة الماجستير، قبل انتقالي إلى فرنسا، وقد عدت بعد ذلك إلى تونس، للمساهمة بما أحمل من أفكار ومناهج في خدمة الأجيال الّتي آمنت بها وتطلّعت إلى أن أراها تؤدّي دورها على الوجه الأكمل في النّهوض بالبلاد، واخترت الاشتغال في مهنة الصّحافة نظراً لولعي بمتابعة الأحداث السّاخنة في العالم، وميلي إلى الاهتمام بقضايا النّاس اليوميّة ورصد آمالهم وطموحاتهم والاهتمام بالجوانب السّياسيّة وتحليل المعطيات والأفكار وبناء التّصوّرات الحينيّة لما كان يحدث في المنطقة العربيّة وفي محيطنا الجغرافيّ والسّياسيّ من تحوّلات جذريّة عميقة لها أثر في الواقع.

د. نادر الحمّامي: هل يبرّر ذلك خروجك من مهنة الفلسفة باعتبارك أستاذاً أوّلاً، ثمّ خروجك من تونس ثانياً؟

د. يوسف الصّدّيق: لقد اخترت الخروج من مهنة الفلسفة إلى مهنة الصّحافة، للأسباب الّتي كنت بصدد ذكرها، ولكنّ خروجي من تونس في بداية الثّمانينيات، كان بمثابة «انتحار المثقّف»، فقد تبيّن لي بعد فترة قصيرة جدّاً من مزاولة عملي الصّحفيّ، أنّه لا يمكن لي أن أكون صحفيّاً محلّيّاً، فقد كان مناخ الحرّيّات السّياسيّة لا يسمح بذلك، ولم يكن متاحاً لي أن أكتب في السّياسة سواءً منها الدّاخليّة أو الخارجيّة، فلا يمكن لأيّ صحيفة آنذاك أن تتجرّأ على الخوض في مسائل التّنمية المحلّيّة ومناقشة القضايا المتعلّقة بالاختيارات السّياسيّة للدّولة، ولا أن تحلّل القضايا الإقليميّة الّتي لها مساس بعلاقات تونس الخارجيّة. وبما أنّني كنت أشتغل في جريدة (la presse)، وكان الجوّ العالميّ آنذاك يعيش على وقع تطوّرات متسارعة، ولم تكن المعلومات تصل بالشّكل الّذي أصبحت عليه بعد ذلك، إضافة إلى ولعي بالأوضاع الدّوليّة ورغبتي في خوض تجربة «المراسل الصّحفيّ الحربيّ»؛ فقد طلبتُ من الجريدة أن أكون مراسلاً لها في الخارج، وتمّ إرسالي إلى الكثير من بؤر التّوتّر والحروب في المنطقة الإفريقيّة والعربيّة، ومنها التّشاد ولبنان وسلطنة عمان والسّودان وأريتريا، وقد واكبت ميدانيّاً خروج الفلسطينيّين من بيروت، ودخلت إلى الضفّة الغربيّة وإلى القدس، وجُلت بعد ذلك في جنوب لبنان، إلى أن فقدت الإحساس بتقديم الإضافة في الميدان الصّحفيّ، وفهمت أن رسالتي قد انتهت، ولم يكن بقائي في تونس بعد ذلك مريحاً، نظراً للانغلاق الكبير الّذي يواجه المثقّف أو المفكّر، فقرّرت الهجرة نحو فرنسا. ربّما كان ذلك نوعاً من الهروب، ولعلّ السّبب وراءه ذاتيّ، فقد أردت أن أتنفّس الحرّية حتّى أكون قادراً على التّفكير، وعندما أقول إنّني كتبت كتابين باللّغة العربيّة في تونس منذ الفترة الّتي تخرّجت فيها إلى حدود سنة 1982، بينما كتبت أكثر من خمسة وعشرين كتاباً في بلد الغربة، فأعتقد أنّ هروبي لم يكن هروباً من بلادي أو من حضارتي، وإنّما كان هروباً إليها، وانغماساً فيها، ولكن عن بعد. وحالما انبثقت لمحة التّغيير السّياسيّ في تونس منذ سنة 2011، نحو الحرّيّة والدّيمقراطيّة، عدتُ وأنا الآن أعيش في بلدي حيث أمارس حرّيّتي بكلّ فخر.

د. نادر الحمّامي: رغم أنّك اعتبرت هجرتك هروباً من حالة التّضييق على الحرّيّات في تونس، فقد يلومك البعض على غياب أفكارك عن السّاحة التّونسيّة، ويعتبرونك مقصّراً في حقّ أجيال بأكملها لم تتعرّف عليك وعلى إنتاجك الفكريّ طيلة سنوات إقامتك في فرنسا، فكيف تردّ على ذلك؟

د. يوسف الصّدّيق: ليعذرني إخواني المثقّفون التّونسيّون، فلي تحليل آخر، وإن اقتنعوا به، فليتجاوزوا، وإن لم يقتنعوا فليناقشوني؛ فقد وجدت في فرنسا حظوة لم أكن أجدها في بلدي، وكان مرحّباً بي في الأوساط الإعلاميّة والثّقافيّة والأكاديميّة وحتى السّياسيّة، وفي المقابل كان الكثير من أبناء بلدي في الدّاخل التّونسيّ ينظرون إليّ نظرتهم إلى جميع المهاجرين من مثقّفين وكتّاب، أي نظرة تشكيك في الانتماء إلى السّاحة الثّقافيّة التّونسيّة، وبالتّالي فإنّهم يقابلونني بالصّمت والتّجاهل، وهذا هو المشكل الّذي جعل كثيراً من الرّوائيّين مثل حبيب السّالمي ومصطفى التليلي، وغيرهما من المقيمين، سواءً في جنيف أو فرنسا أو إسبانيا لا يعرفهم أحد في تونس، ولا تتمّ دعوتهم إلى ندوات ثقافيّة أو فكريّة أو أدبيّة، كما لا تهتمّ الجامعات التّونسيّة بتدريس أعمالهم أو الإشارة إلى أفكارهم، والحال أنّهم ذوو شأن في الخارج. لذلك فالتّقصير الكبير هو في ما تواجهنا به السّاحة التّونسيّة من تجاهل.

في مساءلة القرآن

د. نادر الحمّامي: من المهمّ هنا الإشارة إلى أنّ إقامتك في فرنسا ساهمت في إنتاجك الفكريّ الغزير، ومن ذلك ما أنتجته من ترجمات لكثير من متون التّراث الإسلاميّ وقد ترجمت معاني القرآن إلى الفرنسيّة، وكأنّك أردت أن تُسائل تلك المصادر القديمة بالفلسفة، أو أن تستعيدها بمنظور الفيلسوف الحديث، فماهي الدّوافع العميقة وراء ذلك؟

د. يوسف الصّدّيق: لقد كنت من المعجبين بفيلسوف كبير درّس في جامعة تونس، ولم أحضر دروسه لأنّني كنت قد غادرت إلى فرنسا حينها، وهو ميشال فوكو (michel foucault) (1926-1984)، ولكنّني تابعت محاضراته في فرنسا بعد ذلك. وقد لاحظت تشبّعه العميق جدّاً بالمصادر الغربيّة القديمة، ولمست انعكاس ذلك في كتابه الأوّل «الكلمات والأشياء»؛ فقد بدأ باستيعاب النّصوص غير المعروفة في محيطه الآنيّ ليتسنّى له مواجهتها فلسفيّاً، وكذلك فعل لفيناس (emmanuel levinas) (1906-1995) الّذي واجه التّوراة بالفلسفة، ودو شاردان (teilhard de chardin) (1881-1955) والوجودي المتديّن كارل ياسبرس (karl jaspers) (1883-1969) اللّذان واجها الأناجيل بالفلسفة؛ وتلك خاصّيّة أوحت لي بأهمّيّة أن أتصارع مع نصّ قديم أُهْمِلَ من طرف الفلاسفة، لا لأنّهم لم يستسيغوا الإقبال عليه، وإنّما لأنّه مخيف. وقد انتبهت إلى أنّ فلاسفة المسلمين القدامى مثل الفارابيّ وابن رشد وغيرهما، قد تهيّبوا من الخوض في القرآن من وجهة الفلسفة. لذلك، قرّرت أن يكون مشروعي مواجهة هذا النّصّ بالفلسفة، بطريقة واضحة ومباشرة أي دون تلاعب. وكان لا بد قبل ذلك أن ألمّ بما أحاط به من نصوص حواف، لذلك بدأتُ بنصّ «تفسير الأحلام لابن سيرين»، فترجمته، وهو ما أعانني على أن أجازف بالتّفسير في تصديق النّبي إبراهيم للرّؤيا، وقد فهمت أنّ إبراهيم ما كان عليه أن يصدّق الرّؤيا ويُقْدم على ذبح ابنه، وأنّ الله لامه على ذلك، كما يذكر القرآن، وفداه بذبح عظيم، وإنّما كان عليه أن يَعبُر الرّؤيا كما فعل النّبي يوسف وقد شكر ربّه أنّه علّمه من تأويل الأحاديث، فكأنّ تعبير الأحلام يقتضي التّأويل والتّفسير لا التّصديق؛ وذلك تماماً ما تأسّس عليه علم النّفس الحديث مع فرويد (sigmund freud) (1856-1939). لقد دفعني ذلك إلى البحث في الكثير من النّصوص والمتون والحواشي، حتّى أعود منها إلى النّص القرآنيّ، أذكر مثلاً أنّني اهتممت في البداية بكلمة «كتاب» في قول المسلمين مشيرين إلى القرآن بأنّه كتاب الله، في حين أن القرآن لم يكن قد دوّن بعد؛ أي إنّهم لم يكونوا يقصدون بلفظ «كتاب» المصحفَ، بل يقصدون به كلام الله. وقد تحوّل المعنى بعد ذلك، ووجدت جذور استعماله الأولى في الإشارة إلى الكتاب بمعنى المؤلَّف لدى سيبويه. أمّا الدّافع الآخر الّذي وجّهني إلى ترجمة تلك المتون فهو الرّغبة القويّة، الّتي كنت أشعر بها، في أن أبيّن للقارئ الفرنسيّ الّذي أتوجّه إليه أنّنا ذوو منطوق آخر للفكر، متميّز، ومختلف عمّا يتلقّاه الأوروبيّ عنّا من أنّنا أهل نقل للمعرفة اليونانيّة القديمة، وأعتبر أنّني قد نجحت في ذلك، بالنّظر إلى ما كنت أحظى به من قبول لديهم، فقد كتب الكثير من الباحثين الفرنسيّين مقالات حول ترجماتي، وكنت أدعى بشكل متواصل إلى وسائل الإعلام حتّى أتحدّث عن الحضارة العربيّة الإسلاميّة ودورها في إثراء الثّقافة الكونيّة. وأعتبر أنّ ذلك المشروع الّذي انطلقت فيه من النّصوص الحواف والمتون والهوامش المبثوثة في المصادر قد أوصلني في النّهاية إلى ولوج النّصّ القرآنيّ من باب آخر فكريّ وفيلولوجيّ وأركيولوجيّ لم يكن يتفطّن الكثير من المفكّرين والفلاسفة والباحثين في التّراث إلى عمق أهمّيّته، وقد نفذت بذلك إلى ما مكّنني من القول إنّنا «لم نقرأ القرآن بعد».

د. نادر الحمّامي: قبل الوصول إلى كتابك «هل قرأنا القرآن، أم على قلوب أقفالها؟» الّذي يحمل إشارة واضحة إلى أنّ النّاس لم يقرؤوا القرآن بعد أي لم يتدبّروا معانيه، فقد لامستَ هذا النّص في ترجمتك لمعاني القرآن تحت عنوان «القرآن قراءة أخرى ترجمة أخرى»، فهل كان اشتغالك على تلك التّرجمة مرحلة «عبور» إلى القرآن؟

د. يوسف الصّدّيق: هذا الكتاب الأوّل «القرآن قراءة أخرى ترجمة أخرى» كان بمثابة المقدّمة؛ لأنّني كنت أجهّز القارئ لأن يتلقّى شيئين خطيرين، وأعتقد أنّ المنظومة الذّهنيّة العربيّة الإسلاميّة لم تستوعبهما إلى حدّ الآن؛ الأولى أنّ النصّ القرآنيّ ليس المصحف، وقد أردت أن آخذ آيات وأفكّكها على هرم قمّته الله وجانباه المعرفة والأخلاق... إلخ. وأن أضمّن في كلّ مرحلة بنائيّة أو بنيويّة الآيات الّتي نتحدّث عنها، ولكن الأهمّ من هذا ما وضعت من تساؤلات في الحواشي، وأذكر من بينها مثلاً ما تعلّق بذي القرنين الّذي يتحدّث عنه القرآن: {قُلْنا يا ذا الْقَرْنَيْنِ إِمّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً} [الكهف: 86]، وقد ذهب المفسّرون القدامى والمحدثون إلى القول إنّ هذا الرّجل جاء قبل الطّوفان، وأنّه ليس تلميذ أرسطو الوثنيّ، لأنّ الله لا يمكن أن يمجّد وثنيّاً. وتساءلت في المقابل كيف يمكن أن يعظّم الله نبيّا أو رسولاً، ويترك له حيّز الفعل مفتوحاً فإمّا أن يعذِّب وإمّا أن يُحسِن، والحال أن تلك الأفعال العظيمة تُنسب للإله وحده ولا يخيّر فيها رُسله، وبيّنت شيئاً فشيئاً كيف أنّ ذا القرنين ليس سوى الإسكندر ذلك الشّخص الّذي تذكره الآثار اليونانيّة، وقد رجعت إليها، ووجدت أنّ أصل اسمه هو «قرنا الكبش» وهو اسم أطلقه عليه الإله آمون، وبيّنت أنّ التّعظيم أو التّمجيد الّذي يُنسب لذي القرنين له علاقة بمناخ الرّهبنة الّذي يُهيّئ شخصاً ما لأن يكون إمبراطوراً، وبيّنت بعد ذلك كيف وصلت قصّة الإسكندر ذي القرنين إلى القرآن؛ لقد كان ذلك عبر الأفلاطونيّة المحدثة الّتي تكوّنت في القرن الثّالث الميلادي مبنيّة على تعاليم أفلاطون وتابعيه الأوائل، وقد امتزجت بالدّيانتين المصريّة واليهوديّة وتأثّرت بها المسيحيّة أيضاً، وقد لاحظت وجود أفلاطونيّة عميقة جدّاً في القرآن، وذلك يرجع أساساً إلى القرب الزّمانيّ والمكانيّ، فقد عاش الأفلاطونيّون الجدد لبضع قرون فقط قبل ظهور الإسلام وكان الكثير منهم من الإغريق المصريّين، وقد تأثّر القرآن بالمناخ القصصيّ والأسطوريّ الدّينيّ الّذي كان سائداً قبله، في العقائد الأخرى وفي الدّيانتين اليهوديّة والمسيحيّة. وقد لاحظت أن بعض المقاطع من آي القرآن يمكن القول إنّها استنساخ حرفيّ لما يوجد في المنحولات وفي الأناجيل المسيحيّة؛ خذ مثلاً مقطع {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} [العَنكبوت: 41] فهو يوجد حرفيّاً في إنجيل يوحنّا، وكذلك {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ} [الأعرَاف: 40] فإنّه يوجد حرفيّاً في إنجيل متّى، فعندما كان المسيح يتصارع مع تجّار المعبد قال لهم «لن تدخلوا ملكوت الله حتّى يلج الجمل في سمّ الخياط». لذلك حاولت أن أبيّن أنّ أهمّيّة النصّ ليست في إعجازه الحرفيّ، فدعنا نتخلّص من الإعجاز الحرفيّ، وإنّما هي في قدرة شخص واحد اسمه محمّد بن عبد الله على استيعاب معلومات العالم، هذا هو الإعجاز وهذه هي رفعة الإسلام. فالكلمات ليست أهمّ من أنّه استوعب حمّورابي (1792-1750 ق.م) وفيثاغورس (570-495 ق.م) وكل الأساطير الّتي نعلمها، والتي لا نعلمها. ولعلّنا بعد أن ندرك ذلك، نكون قادرين على الاعتراف بتواصل القرآن مع نصوص الدّيانات الأخرى والقصص الّتي تأسّست عليها، بغضّ النّظر عن صحّتها التّاريخيّة وصحّة نسبتها أو تحريفها، ما يجعلنا بالتّالي قادرين على مراجعة علاقاتنا، باعتبارنا مسلمين مع المؤمنين بالدّيانات الأخرى.

د. نادر الحمّامي: لكنّك تقول أيضاً «لنقرأ القرآن كأنّ شيئاً لم يكن»، في إشارة إلى ضرورة التّخلّي عمّا أنتج من نصوص حول القرآن منذ أربعة عشر قرناً إلى الآن. ما جدوى ذلك؟

د. يوسف الصّدّيق: أرجو ألّا لا يُواجَه قولي هذا بسوء فهم، فالرّغبة في تقويض إيمان النّاس أبعد ما يكون عن مقصدي من إعادة قراءة القرآن وفهمه فهماً جديداً يختلف عمّا كرّسته المؤسّسة الدّينيّة منذ أربعة عشر قرناً إلى يومنا. فأنا أنتمي إلى هذا الوطن الرّوحيّ الكبير الّذي يسمّى الإسلام، وأعتقد في الحدث العظيم الّذي ظهر مع محمّد بن عبد الله؛ أي النّبوّة والقرآن، ولا أناقش النّاس في إيمانهم أو كفرهم إزاء ما يعتقدون في ضمائرهم، فقد كان الإسلام حدثاً كبيراً ومنعطفاً في تاريخ الإنسانيّة، وتأسّست عليه حضارة ساهمت في إثراء الكونيّة. ولكن كيف يمكن لي أنا المسلم اليوم، أن أواجه الانتقادات الّتي تطال الإسلام الّذي أومن به، بناءً على الخلط الّذي وقع تاريخيّاً بين النّصّ والفهوم المتعدّة الّتي طافت حوله، وحاولت تفسيره ولم تلج إلى عمقه الإيمانيّ؟ ولو اعتمدنا مثلاً على التّفاسير الأولى للقرآن وحتّى النّصوص الفقهيّة الّتي تلتها، باعتبارها معياراً صحيحاً أو نهائيّاً لفهم النّص، فكيف يمكن على سبيل المثال أن نتعامل مع قضيّة الرّق، أو الكفّارتين، أو العتق، أو الصّدقات لليتامى، أو إمساك النّساء في البيوت حتّى يتوفّاهنّ الموت... إذن علينا تحييد كلّ تلك الفهوم البشريّة والمؤسّسيّة من مجال النّص وأن نواجه القرآن وحده بما يمكن أن نتسلّح به حديثاً من مناهج وآليّات يقبل بها العقل ولا يرفضها الذّوق المعرفي الكوني. وليس من العقل في مستوى التّصوّر أن يكون الإسلام حبيس فهم بشريّ معيّن منحصر في القرون الثّلاثة أو الأربعة الأولى، ولا بدّ أن نأخذ موقفاً نهائياً في هذا الأمر، وأن نقرأ القرآن كأنّ شيئاً لم يكن. ولعلّنا حين نواجه القرآن بالفلسفة نتلمّس فيه زخماً فكريّاً عظيماً لم يتفطّن إليه المسلمون من قبل. وأذكر في هذا السّياق، أنّني تحادثت مع جاك رانسيير (jacques rancière) (1940)، وجيل دولوز (gilles deleuze) (1925-1995) حول بعض المعاني الفلسفيّة في القرآن، وعرضت لهما بعض المقاطع المترجمة من آيات ذات عمق فلسفيّ يحمل الإنسان على التّدبّر والتّفكير في ذاته وفي العالم وفي مسائل الخلق، وهو عمق يتجاوز مجرّد الإخبار أو النّهي أو الوعيد وغير ذلك، إلى ما هو أهمّ وأعظم، ومن بين تلك المقاطع هذه الجملة {خُلِقَ الإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبيَاء: 37]، ولم يخفيا شدّة انتباههما إلى ذلك، حتّى إنّ جيل دولوز أشار في كتابه «mille plateaux» إلى أهمّيّة البعد الفلسفيّ المتضمّن في الوحي.

د. نادر الحمّامي: رغم ما تشير إليه من أهمّيّة البعد الفلسفيّ المتضمّن في الوحي، فإنّه لا يلاقي اهتماماً من قبل المسلمين سواء في المستوى الأكاديميّ أو العامّ، وأذكر أنّك عبّرت عن هذا في إشارة إلى أنّ العرب والمسلمين مازالوا يقرؤون القرآن ويرتّلونه دون نفاذ معرفيّ. فأين مكمن الإشكال؟

د. يوسف الصّدّيق: إنّ الإشكال يكمن في فعل القراءة، الّذي يتعامل معه المسلمون على أنّه فعل ترتيل فحسب، ولم يتجاوزوا ذلك إلى المفهوم الحقيقيّ للقراءة الّذي يعني التّدبّر بالأساس، ولعلّ الخلل يرجع إلى ما كرّسته المؤسّسة الدّينيّة حول القرآن، وبالتّالي فإنّ شيوخ الأزهر وشيوخ الزّيتونة وغيرهم ممّن يتعاملون مع النّص، يتحمّلون مسؤوليّة كبرى في ذلك. ورغم أنّني عاشرت الكثير من هؤلاء الشّيوخ وأكنّ لهم الكثير من الاحترام منذ كنت صبيّاً، فإنّني أعيب عليهم هذا التّعامل السّطحيّ مع القرآن الّذي يؤدّي إلى حصر مسألة الإعجاز في مستوى المنطوق من الألفاظ دون المعنى. ومع ذلك ما زلت أعتقد في إمكانيّة أن يستوعبوا هذه المسألة، وقد تحاورت مع أحد الشّيوخ المتحزّبين (عبد الفتّاح مورو) في هذا الموضوع، وكان حديثنا متعلّقاً بما كتبتُه حول «سورة الإخلاص»، حين وجدت أنّها تُطابق حرفيّاً ما قاله بارمينيدس (parmenides) (540 ق.م-480 ق.م)، وقد ترجمت قوله منذ سنة 1994، وهو كالآتي: «الآن قف وقل إنّه أحدٌ صمد»، وكلمة «صمد» في لسان العرب تعني «مُصْمَتٌ لا جَوْفَ له»؛ أي الشّيء إذا ضربته لا يُحدث صدى. فكان ردّه على ذلك أن قال: «لعلّ محمّد بن عبد الله أوحي إليه ببارمينيدس»، لقد رأى ذلك مخرجاً مناسباً حتّى لا يُحرج إيمانه ولا يقدح في إعجاز القرآن، ولكنّني هوّنت عليه الأمر إذ قلت له: «لِم لا نقول بأنّ محمّداً أوحي إليه بكلّ المعارف من قبل، ونكون بذلك بصدد تأكيد مسألة الإعجاز أكثر، على غير جهة اللّفظ»؛ أي أن يتجاوز الإعجاز مستوى ظاهر الألفاظ إلى معانيها. ولعلّنا سوف ننجز بذلك فعل القراءة كما يجب أن يكون.

د. نادر الحمّامي: هل لفعل القراءة الّذي تشير إليه، تأثير على مفهوم الوحي، على اعتبار أنّه كلام ذو طبيعة إلهيّة مفارقة؟

د. يوسف الصّدّيق: علينا أن ندرك أنّ الوحي ليس مسألة إملاء من الله إلى فرد معيّن حتّى وإن كان رسولاً مصطفى، بل إنّه أعمق من ذلك، فما الرّسول إلّا بشرٌ كبقيّة الخلق، وحين نتأمّل في نصّ الوحي نجد أنّه تكلّم بلسان الرّسول حين عجّزه النّاس فنبّههم إلى أنّه بشرٌ مثلهم، انظر الآية {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاّ بَشَراً رَسُولاً} [الإسرَاء: 93] كما تكلّم بألسنة بشر آخرين وبألسنة ملائكة وألسنة حيوان... فالوحي مشترك بين أطراف كثيرة يذكرها القرآن ويشير إليها وينسب لها القول ويتحدّث عن أفعالها وأقوالها وما تُظهر وما تُبطن وما تنوي، لذلك أعتبر أنّ محمّداً قد لوّن الوحي بما حصل عنده من معارف كبرى ومن أخبار الأوّلين، وتذكر المصادر أنّه قبل نزول الوحي كان يخالط فئة من اليهود، يتجادل معهم في تلك الأخبار، وكانوا يسبّون جبريل ويعتقدون أنّ ميكائيل أفضل منه، حتّى بُعث إليه جبريل بالوحي بعد ذلك.

القرآن من التلاوة إلى القراءة

د. نادر الحمّامي: كثيراً ما تُدرج أعمالك ضمن المباحث الفيلولوجيّة واللّغويّة وأصول اللّغة القرآنيّة، في حين أنّك تعتمد كثيراً على الأنثروبولوجيا، ما رأيك في ذلك؟

د. يوسف الصّدّيق: لقد سحبت منظومة بناء مؤسّسات الإسلام من النّصّ طاقته؛ أوّلاً بتوخّي التّلاوة والتّرتيل دون القراءة، نُسيت القراءة تماماً، وأتذكّر أنّنا لمّا كنّا نُسأل ونحن صِبية، عن السّورة الّتي وصلنا إليها في الحفظ، نقول كلاماً ليس له معنى، من قبيل أنا وصلت إلى «سبّح اسم»، وهي ليست جملة تامّة (سبّح اسم ربّك الأعلى)، وهذا تماماً ما يفعله المسلمون اليوم، ولو بشكل آخر؛ أي إنّهم يقفون عند اللّفظ الّذي تقدّمه التّلاوة، ولا يلجون إلى النّص. إنّهم يخافون مواجهة طاقة النصّ الكبرى الّتي تقشعرّ منها الأبدان {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} [الزُّمَر: 23]، تلك الطّاقة قد سحبتها التّلاوة فأضحت ثاوية في متون نصّ لا يتدبّر المسلمون معانيه ولا يبحثون فيه. ثمّ إنّ تلك الطّاقة الهائلة قد سُحبت ثانياً بمفعول الرّهبانيّة الّتي أضفيت على السنّة النّبويّة، وحاصر بها الفقهاء وأصحاب الحديث معاني النّصّ القرآنيّ، والحال أن لا رهبنة في الإسلام ولا كنيسة، وحين ننظر في كلمة «سنّة» نلاحظ أنّها لم ترد أبداً في القرآن بالمعنى الّذي أريدَ لها عند من فرضوها، وقد علّقوها بأقوال الرّسول وأفعاله، وإنّما أوردها القرآن في سياق آخر تماماً يحمّلها معنيين؛ الأوّل يخصّ أخطاء الأوّلين، وهو معنى سلبي ورد في معنى «سنّة الأوّلين»، والثّاني فلسفيّ بامتياز يخصّ سنّة الله في الكون {*سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الأحزَاب: 62]، وهو دعوة للتّأمّل في العالم. إلى جانب ذلك، فالكلمة لم تكن تعني معجميّاً لدى العرب سوى سنّ الطّريق بمعنى مدّها، وسنّ السكّين بمعنى شحذه، وبالتّالي فلا محمول دينيّاً لها، ولا علاقة للكلمة بما أُضفي عليها بعد ذلك، فتمّ فرضها على فترة النّبوّة من خلال تتبّع أفعال الرّسول وأقواله باعتبارها أوامر ونواهي، وقد اسْتُندَ في ذلك على النّصّ القرآني، في قوله {وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحَشر: 7]، في حين أنّ معنى الآية مخالف لما اعتبروه في فهمها «سنّة الرّسول»، وإنّما المعنى الّذي تنجزه يخصّ الحثّ على الرّضاء بالعطاء حين تقسيم الرّسول للغنائم بين المسلمين، وتخصّ معنى إيتاء الرّجل أجره، وإيتاء المرأة مهرها في الزّواج، ولا معنى بالتّالي للقول بأنّها تعنى ما سيفرضه الفقهاء بعد ذلك على المسلمين باعتباره سنّة، فلا حجّة لذلك أبداً. ولعلّ لما تذكره المصادر من أنّ يزيد بن معاوية أنشد قصيدة تُنسب إلى شاعر قرشيّ هو عبد الله بن الزّبعري، وقد كان يُحارب المسلمين في شعره قُبيل فتح مكّة، يقول فيها: «لعبت هاشم بالمُلك فلا خبر جاء ولا وحي نزل» حتّى صارت بعد ذلك شعاراً لبني أميّة ودولتهم، وقد ساهم ذلك الموقف المشكّك الّذي اتّخذه الأمويّون إزاء الوحي والرّسالة في دفع النّاس إلى الاهتمام بأقوال الرّسول وأفعاله، وهاجسهم أن يثبتوا صدق النّبوّة، فظهرت شخصيّات لم يكن لها أيّ ذكر ولا أثر قبل ذلك، والأغلب على الظّنّ أنّها من وضع الخيال ولا وجود لها أصلاً، وقد أسندت لها الأحاديث عن الرّسول، كالبخاري ومسلم، ونذكر ههنا شخصيّة أبي هريرة، وهي شخصيّة غامضة لا يُعرف عنها الكثير، وحتّى ذلك القليل الّذي نجده حولها، إنّما هو يطعن في مصداقيتها، فقد أمر عمر بن الخطاب أبا هريرة بترك رواية الحديث، طعناً به وبروايته، أضف إلى أنّه لم يعرف النّبيّ إلّا سنتين أو ثلاثاً قبل وفاته، فكيف تنسب إليه رواية أكثر من ثلثي الأحاديث عن الرّسول. لذلك لابدّ أن ينتبه المسلمون إلى أنّ السّنّة قد انعكست على القرآن، وحدّت من تلك الطاقة الهائلة الّتي يتضمّنها.

د. نادر الحمّامي: لعلّ مقابلة النّصوص الحواف بالنّصّ المؤسّس هي ما يميّز أبحاثك، الّتي تختلف مع ما تذهب إليه بعض الأبحاث الّتي تنتمي إلى الدّراسات القرآنيّة والتي تؤكّد على الأصل السّريانيّ والأراميّ للنّصّ القرآنيّ وتبحث في ذلك انطلاقاً من اللّغة، بينما تعود أبحاثك إلى الأصل اليونانيّ وتبحث في ذلك انطلاقاً من البعد الأنثروبولوجيّ.

د. يوسف الصّدّيق: لا أعدّ كتاب كريستوف لوكسنبورغ (christoph luxenberg) «قراءة سريانيّة آراميّة للقرآن» الّذي ظهر سنة ألفين، (lecture syro-araméenne du coran) مهمّاً من النّاحية العلميّة، ولا من النّاحية الفيلولوجيّة أيضاً؛ لأنّ اللّغات السيرو-كلدانيّة كلّها تتناسل من بعضها وصولاً إلى اللّغة العربيّة، ومن البديهي أن نجد للألفاظ العربيّة أصولاً مشابهة في جميع تلك اللّغات، فهو لم يأت بجديد في هذا الباب، ولكن ما أتى به، فيه الكثير من الخلط والتّوجيه، فهو على سبيل المثال عندما يتحدّث عن «الحور العين» في القرآن، ويقول إنّها لا تعني سوى العنب الأبيض، وهو ما فاجأ القارئ الغربيّ إلى حدّ التّندّر الّذي قرأته في صحيفة لومند (le monde) الفرنسيّة على اعتبار أنّ الّذين يلتمسون الشّهادة سوف لن يجدوا في الجنّة سوى عناقيد من العنب، فإنّه يتناسى أو لا ينتبه أو لا يعرف ما ورد في القرآن أيضاً في الآية {فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جانٌّ} [الرَّحمٰن: 56]، وهو ما يدلّ على أنّ «الحور العين» وإن كانت تعني العنب الأبيض فإن القرآن يستعملها على سبيل المجاز لوصف النّساء اللّاتي وعد بهنّ الرّجال.

د. نادر الحمّامي: شتيفان فيلد (stefan feld) أحد أعلام الاستشراق في ألمانيا يفنّد هذا أيضاً؛ فهو كتب مقالاً كاملاً حول «الحور العين».

د. يوسف الصّدّيق: ما يهمّني أساساً هو أن نغوص في العمق الأنثروبولوجيّ للكلمة وليس عمقها المعجميّ فحسب، ولا أصل الكلمة في اللّغات القديمة، رغم أنّ ذلك مهمّ أيضاً، وأشير هنا إلى مثال، فعندما ننظر في هذا المقطع من الآية {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُما الأُخْرَى} [البَقَرَة: 282]، نلاحظ أنّ جميع المفسّرين قد فهموها على نحو يسيء إلى المرأة، واعتبروا أنّ «الضّلال» هو نقص العقل، والحال أنّ كلمة «ضلّ» تعني لدى العرب «غاب» (الضَّلال: الغِياب) ويقال عن المرأة الّتي تتزوّج في غير قبيلتها أنّها ضلّت بمعنى غابت عن أهلها، وبالتّالي فإنّه يتعذّر عليها الإدلاء بشهادتها في أمر ما. وعندما ننظر في كلمة أخرى، خذ مثلاً كلمة «طاغوت» الواردة في القرآن خمس مرّات، والتي فهمها المفسّرون على أنّها تعني الطّاغي المعتدي أو كثير الطّغيان، الّذي يصرف عن طريق الخير، وفسّروها أيضاً على أنّها تعني الشّيطان، والكاهن، والسّاحر، وكلّ ما عُبد من دون الله من الجنّ والإنس والأصنام، ولم ينتبهوا إلى أنّها تعني مجرّد اسم علم لآلهة مصريّة هي «هرمس»، وقد اقترنت الإشارة إليها بالإشارة إلى «الجبت» (egypt)، وهو ربّ الأرباب في الدّيانة المصريّة القديمة، وكان الطّاغوت رسوله ويخطف له البنات الإنسيّات اللّاتي يعجبنه... كما كان يفعل الإله «زيوس» (zeus) في الثّقافة اليونانيّة تقريباً. وأعتقد أنّنا يمكن أن نتوصّل إلى نتائج عظيمة إذا اهتممنا بإرجاع القرآن إلى سياقاته الأنثروبولوجيّة، ليس في مستوى الألفاظ فحسب، بل في مستوى ما يقدّمه من أفكار ومن أفعال.

د. نادر الحمّامي: لعلّ ما تدعو إليه يلتقي مع ما ذهب إليه نصر حامد أبو زيد (1943-2010) في كتابه «مفهوم النّصّ» حين تحدّث عن ضرورة ربط النّصّ بـ«مجتمع المتلقّي»، فهل هذا هو الاتّجاه الّذي يجب أن نسلكه إلى النّصّ؟

د. يوسف الصّدّيق: لقد تعرّفت على نصر حامد أبو زيد في التّسعينيات حين بدأت محنته مع الأزهر. كان ذلك من خلال كتابه «مفهوم النصّ»، وأنا ألتقي معه في اعتباره أنّ المفسّرين أرادو أن يجعلوا من النّصّ الّذي نزل في زمانه ومكانه وكأنّه نزل لنا نحن في زماننا ومكاننا بالضّرورة، وبالتّالي فإنّهم يقفزون على المتلقّي الأصليّ الّذي واجهه النّصّ، والّذي كان له دَوْر فيه. وأنا أعتبر أنّ ما قامت به تلك المنظومة التّفسيريّة والفقهيّة حول النّص قد حجب عنّا القرآن أكثر ممّا فسّره لنا، وقد أبعدنا عنه أكثر ممّا قرّبه منّا. لقد مرّت علينا أربعة عشر قرناً من المغالطة، كان فيها تاريخ الإسلام دائماً في صراع النّصّ المؤسّس؛ أي منذ أن بدأ المعتزلة يواجهون النّصّ بالعقل، ويهتمّون بقضيّة خلق القرآن، وقد اعتبروا أنّ المعنى ينزل وحياً، ويتلفّظ به محمّد بن عبد اللّه بلغتنا، لقد كان فهمهم للنّصّ يخرج عن حرفيّة الألفاظ، وكان ذلك سياقاً مهمّاً، لو واصل فيه المسلمون منذ القرن الثّاني الهجريّ لكانوا قادرين على تأسيس علاقة أخرى مع النّص مختلفة تماماً عن علاقتهم به اليوم. ولكن ذلك السّياق قُبر منذ زمن المتوكّل (232-247هــــ) أي بعد ما يسمّيه محمّد أركون انتصار «الأرثوذكسيّة الإسلاميّة» ممثّلة في أهل الحديث. وأُغلق منذ ذلك الوقت باب الاجتهاد، دون أمل في فتحه أو في الإبقاء عليه مفتوحاً، ولعلّ المشكل الأعمق يتعلّق بغلق باب القراءة الّذي لم يُفتح إلى حدّ الآن. والّتي هي أهمّ شيء، فثمّة آيات في القرآن ما تزال غير مقروءة إلى حدّ الآن، وهي ما تزال فلسفيّاً وفكريّاً وذهنيّاً غير مفهومة؛ وكلمة «قراءة» هي عمليّة إنتاج جديد، وأذكر هنا قول عمرو بن كلثوم في وصف ناقة ضامرة جميلة، أنّها «لم تقرأ فصيلاً»؛ بمعنى أنّها لم تلد بعدُ أيّ جملٍ، وأذكر أيضاً أن القرآن يستعمل كلمة «قُروء» في ذِكر فترة العدّة ولا يستعمل كلمة شهور، وفي ذلك إحالة على معنى الولادة من جديد؛ وهذا تماماً ما لم نقم به إزاء النّصّ؛ لأنّنّا لم نقرأه بعد، وبالتّالي فنحن إلى اليوم لم نبعثه ميلاداً جديداً.

د. نادر الحمّامي: أنت تشير إلى تقصير المسلمين في قراءة القرآن، ألا تعتبر في المقابل أن الغرب مقصّر بشكل من الأشكال تجاه هذا النّص؟

د. يوسف الصّدّيق: لم يعد في فرنسا اليوم ولا في أوروبا، مفكّرون كبار من أمثال أولئك الّذين انتبهوا إلى الحضارة العربيّة الإسلاميّة واستوعبوا الكثير من نصوصها المغمورة وأخرجوها إلى النّور، مع مدارس الاستشراق، ومع الفلاسفة الكبار الّذين كانت نظرتهم إلى النّصوص الدّينيّة في الحضارات الأخرى قائمة على الدّرس والنّقاش والتّفكير. ولعلّ هذا الفراغ الكبير أثّر بشكل واضح على مستوى تقبّل الحضارة العربيّة الاسلاميّة في الغرب، ولعلّي لاحظت أثر ذلك وعاينته حين كنت في فرنسا، ومن خلال النّقاشات الكثيرة الّتي خضتها مع فلاسفة ومفكّرين جمعتني بهم مناسبات بحثيّة وندوات مختلفة، وقد لاحظت أنّ الكثير منهم قد تلقّوا أفكاراً حول تراثنا، هي في الحقيقة ما نقوله نحن عن أنفسنا، وعن تاريخنا، وهو مليء بالمغالطات، ما جعلهم يضحكون في بعض الأحيان، ويُطلقون بعض الأحكام المسبقة على نصوصنا الدّينيّة، ويعتبرون القرآن نصّاً بدائيّاً لا يمكن التّعامل مع أفكاره حديثاً وبالتّالي لا يمكن له أن يدخل مجال التّفلسف والتّفكير. وفي رأيي إذا كان ثمّة نصّ يجب استقباله في المنظومة الفلسفيّة أكثر من التّوراة والأناجيل فهو القرآن. وهذا ما حاول الكثير من الباحثين العرب في الدّراسات الإسلاميّة وفي الفلسفة أن يقنعوا به الغرب، كأنّهم يقولون لهم إنّ هذا النّص يستطيع أن يقبل النّقاش وفق المناهج البحثيّة والفلسفيّة الحديثة فانظروا فيه.

د. نادر الحمّامي: ضمّنتَ كتابك «هل قرأنا القرآن، أم على قلوب أقفالها؟» مقولة الفارابي إلى سيف الدّولة الحمدانيّ «أجلس حيث أنا أم حيث أنت»، هل تلمّح إلى علاقة المثقّف بالسّلطة؟

د. يوسف الصّدّيق: لطالما كانت السّلطة في المجال الإسلاميّ، ذات دور في ما وُوجِهَ به القرآن من تقصير، وفي تعطيل دور المثقّف في التّنبيه إلى ضرورة فعل القراءة حتّى تُحسن هذه الحضارة مواجهة نصّها التّأسيسيّ والبناء على ذلك. وأعود هنا إلى المثال الفرنسيّ، لأشير إلى أنّنا لم نبلغ بعد تلك الدّرجة الّتي بلغها الغرب في التّعامل مع المثقّف ومن ثمّ في التّعامل مع حرّيّة الفكر، نحن لم نأت بعد إلى تلك اللّحظة الفاصلة في فرنسا، عام 1968؛ حين قال رئيس الوزراء ميشال دوبري (michel debré) (1912-1996) لشارل ديغول (charles de gaulle) (1890-1970) «لو سجنّا جون بول سارتر لخفّت المظاهرات وهدأت الفتنة في شوارع باريس وفي غيرها»، فقال له ديغول: «يا ميشال لا يمكن أن نضع فولتير في السّجن» (on ne met pas voltaire en prison)؛ وأُثِرت تلك الكلمة الخالدة عن الجنرال ديغول، وكثيراً ما يردّدها الفرنسيّون.

د. نادر الحمّامي: بهذه الدّعوة إلى ضرورة إعادة قراءة النّصّ وأهمّيّة دور المثقّف نأتي إلى ختام حوارنا، الأستاذ يوسف الصّدّيق شكراً جزيلاً لك على ما تفضّلت به.

 

 

[1] - الحوار مقتطف من كتاب أسئلة القيم والتمثلات، لنادر الحمامي الصادر عن دار مؤمنون للنشر والتوزيع