دور الخطاب المسجدي في بناء الهويّة الوطنيّة في الجزائر


فئة :  مقالات

دور الخطاب المسجدي في بناء الهويّة الوطنيّة في الجزائر

مقدّمة:

يعتبر الخطاب الديني الفهم الموجّه للنصوص الدينية، وفي الإسلام يتولى المسجد هذه المهمة من خلال الأئمة، فالإمام لديه شرعية دينية تمكنه من توجيه الناس لما فيه صلاحهم ورقيّهم، ففي الفترة الاستعمارية اعتبر المسجد الحصن المنيع الذي حافظ على الإسلام واللغة والوطن، والذي أعطى نفساً للثوار للمقاومة، ومع الاستقلال ومع تبنّي الجزائر لمشروع الدولة الوطنية، ازدادت أهميّة الخطاب المسجدي، لأنّه يمثل منبعاً للشرعية الدينية وكذلك السياسية، وما شهدته الجزائر من أحداث في التسعينات تبين ذلك، وهنا تطرح إشكالية حول مدى مساهمة الخطاب المسجدي في بناء الهويّة الوطنية للأفراد الجزائريين، ومنه تطرح الأسئلة التالية: كيف كانت علاقة الخطاب المسجدي بالهويّة الوطنية؟

- هل مواضيع الخطب منسجمة مع الهويّة الوطنية؟

- وكيف يتناول الأئمة الهويّة الوطنية؟ وما نتائج هذا التناول على الإمام والمأمومين؟

لمعالجة تلك الإشكالية أستعين بالمقابلة مع الأئمة وتحليل المضمون لخطب الجمعة في إطار مواضيع تخصّ الهويّة الوطنية.

تحليل:

أولاً: ضبط مفاهيمي

في إطار تناولنا لمفهوم الخطاب المسجدي من الضروري تفكيكه إلى الخطاب والمسجد، وإن كانا متلازمين بحكم أنّ خطبة الجمعة تعتبر شعيرة دينية واجب المسلم أن يحضر وينصت لها. وبالنسبة إلى الخطاب فقد جرى تناوله في التراث العربي وخصوصاً في لسان العرب، حيث يقول ابن منظور: "الخطاب والمخاطبة مراجعة الكلام، وقد خاطبه بالكلام مخاطبة وخطاباً، وهما يتخاطبان"[1]، وإن كان يدلّ معنى الخطاب عند العرب أنّه الكلام، ولكن من ناحية أخرى الخطابة لها مكانتها باعتبارها ارتبطت باللغة، وتغيير المواقف والتأثير في الآخرين، وقد استمدّت مكانتها في العهد الجاهلي من سلطة القبيلة، إلا أنّه مع مجيء الإسلام استمدّت سلطة التأثير من نصوصه المقدّسة سواء القرآن أو السنّة، ولهذا تدلّ أيضاً على معنى ما قال ابن منظور: "الخطب: الشأن والأمر"[2].

وهذا ما اختلف فيه معنى الخطاب في التراث الغربي، بإضافة طرح معانٍ أخرى، ففي معجم لاروس (Larousse) وردت كلمة "discours" لتدلّ على "ظاهرة فعلية أو قولية أو كتابية لتحديد إيديولوجيا معينة أو لتحديد حالة عقلية في ظرف مهم بالنسبة إلى مجال معيّن"[3].

ممّا يعني أنّ مفهوم الخطاب قد تطوّر في الفكر الغربي من المجال اللغوي إلى المجال الاجتماعي، وخصوصاً إيجاد العلاقة بين الخطاب والسلطة، ومن أهمّ من تناول هذه العلاقة "ميشيل فوكو" حيث يقول في كتابه "أركيولوجيا المعرفة": "وعلى هذا النحو لا يبقى الخطاب، كما اعتقد الموقف التفسيري كنزاً مليئاً لا ينفد...، بل إنّه سيغدو ثروة متناهية، ومحدودة ومرغوبة ومفيدة لها قوانين ظهورها، وأيضاً شروط تملّكها واستثمارها"[4].

فمن خلال فوكو يتبين لنا أنّه لم يعد الخطاب مجرد لغة فقط، وإنّما تتخلل معانيه علاقاته بالظواهر الاجتماعية وخصوصاً السلطة، لأنّ الخطاب هو علاقة اجتماعية بين فرد أو بين أفراد آخرين، قصد التأثير عليهم، وإكسابهم معايير وقيم اجتماعية، وهذا التأثير في حدّ ذاته سلطة.

ويزداد استثمار الخطاب وقرّائه وعمق معانيه خصوصاً في الحقل الديني، وتستخدمه المؤسسة الدينية كثيراً، لأنّها تعتبر نفسها الممثل الشرعي للدين، ولهذا فإنّ أنسب ما يساعد في التواصل مع المتدينين هو الخطاب، وفي الإسلام يتجسّد الخطاب في خطب الجمعة المرتبطة بالمسجد الذي كان وما يزال مركز تفاعل اجتماعي للمسلمين، بالتقائهم كلّ مرّة في المسجد لأداء صلاة الجمعة، والخطبة أهمّ جزء فيها، ناهيك عن التقائهم في اليوم خمس مرات، وما يصاحب ذلك من إلقاء دروس أو استفتاء الإمام؛ ممّا يدل على أنّ الخطاب المسجدي هو "كلّ ما يقدّمه المسجد من أعمال علمية تتمّ صياغتها لغوياً من خطبة الجمعة إلى درس الجمعة إلى الدروس المختلفة المتعلقة بالمناسبات وغيرها، ممّا يهدف إلى إحداث نوع من التأثير في روّاد المسجد، ويُحدث نوعاً من التأثير في رواد المسجد ويُحدث نوعاً من التغيير في محيط المسجد"[5]، وذلك لأنّ المسجد هو أهمّ مؤسسة دينية في الإسلام تقوم بإنتاج هذا الخطاب العميق والمتعدد في المعاني الاجتماعية، والتي يقبلها المسلمون بسبب ارتكازها على النصوص الدينية (القرآن والسنّة)، ولكنّ طريقة تناول الخطيب للمواضيع إمّا أن تبهر المصلين وإمّا أن تنفّرهم من الخطاب ولا تجعلهم يتأثرون، وبالتالي لا يَقبلون به ولا يُقبلون على المسجد الذي يحتضن هذه النوعية من الخطابات، وهنا يبرز دور انتماءات الأفراد واتجاهاتهم للإقبال على الخطاب المسجدي أو الهروب منه.

وإذا ذكرنا الانتماءات والاتجاهات الاجتماعية نستحضر الهويّة، ممّا يعني أنّها تؤشر على مدى تأثير الخطاب المسجدي وفعاليته، ولكن من جهة أخرى يساهم المسجد في بناء الهويّة، باعتبارها فسيفساء من القيم والمعايير التي يتلقاها ويكتسبها الفرد في تنشئته الاجتماعية، ممّا يطرح صعوبة في تعريف الهويّة لأمرين: الأمر الأول هو تشعّبها وتعدّدها عند الفرد الواحد، والأمر الثاني كثرة المقاربات العلمية والفلسفية لها، مما يُصعّب من مهمة الباحث في دراستها.

لقد درس علم الاجتماع الهويّة وذلك من جانبها في الجماعات وتفاعلهم الاجتماعي، فدوركايم (DURKHEIM.E) ركز عليها من جهة الانتماء، حيث "يعتبر أنّ الوجود الاجتماعي للأفراد (هويتهم الاجتماعية المرادفة للانتماء إلى فئة ملائمة اجتماعياً) هو ما يرثونه دون رغبتهم ويشكّل سلوكياتهم دون أن يدركوا ذلك"[6]، ويضيف دوبار (DUBAR.C) توضيحاً للهويّة من ناحية أشكالها، حيث يقول: "أدعو أولى أشكال الهويّة أشكالاً جماعاتية...أمّا أشكال الهويّة الثانية وهي أكثر حداثة، بل ربما تكون ناشئة، فسأدعوها بالأشكال التطويعية"[7]، ويقترب معنى الأشكال السابقة بمعاني الجوهر والمتغير في الهويّة، فالأشكال الجماعاتية هي الهويّة الكبيرة التي يرتكز عليها الفرد انطلاقاً من إيمانه الراسخ فيها، أمّا الأشكال التطويعية للهويّة فهي اختيارية ومتعدّدة حسب انتماءات الفرد التي يفضّلها.

ولهذا فإنّ دراسة علاقة الخطاب المسجدي بالهويّة الوطنية تستلزم تحديد عناصر هذه العلاقة، وعناصر الخطاب المسجدي هي: الإمام، وخطبة الجمعة، والمسجد. أمّا بالنسبة إلى الهويّة الوطنية فهي: السلطة السياسية، تاريخ الجزائر وخصوصاً الثورة التحريرية، والمجتمع المدني، في خِضم هذه العناصر نحاول أن نرى مدى تضمن الخطاب المسجدي لعناصر الهويّة الوطنية وعلاقة عناصره بعناصرها المذكورة.

ثانياً: الخطاب المسجدي بين المرجعيتين الدينية والوطنية

تتمثل المرجعية الدينية للأئمة في الجزائر في المذهب المالكي، وهو الذي يعتمدونه في خطبهم ودروسهم، ومن خلال المقابلات مع الأئمة (خمسة عشر إماماً) يتبين لنا حرصهم على المرجعية الدينية وفي الوقت نفسه التأكيد على المرجعية الوطنية، التي تأسّست بفعل السيرورة في التراث الفكري الذي زخرت به الجزائر.

ولا بأس أن نورد بعض أعلام المرجعيتين في كلٍّ من العقيدة والفقه، والتي ذكرها "عادل نويهض" في كتابه "أعلام الجزائر من الفتح الإسلامي"[8] ونجد ممّن ألفوا في:

- مجال العقيدة:

* أحمد بن قاسم بن محمد بن ساسي التميمي البوني (1063-1129ه/1652-1726م)

من كبار فقهاء المالكية، ولد ببونة بعنابة شرقي الجزائر، له كتب كثيرة نذكر منها:

- فتح الأعلاق على وجوه مسائل خليل بن إسحاق

- النور الضاوي على عقيدة الطحاوي

- النفحة المكيّة في نظم العقيدة السبكيّة

- فتح المعيد بنظم عقيدة ابن دقيق العيد

- المعارف الأنسيّة بنظم العقيدة القدسيّة

- الفتح الموالي بنظم عقيدة الغزالي

- نظم عقيدة الرسالة

- نظم العقيدة الوسطى للسنوسي

- نظم عقيدة ابن الحاجب.

* محمد يوسف بن عمر بن شعيب أبو عبد الله السنوسي (832-895هـ/1428-1490م)

كبير علماء تلمسان وزُهّادها في عصره، عالم في التفسير والحديث وعلم التوحيد وله:

- عقيدة أهل التوحيد وتُسمّى العقيدة الصغرى

- العقيدة الوسطى

- شرح صغرى الصغرى.

* محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن أبي بكر بن مرزوق (766-842هـ/1364-1437م)، المعروف بالحفيد، فقيه حجّة في المذهب المالكي، عالم بالأصول، حافظ للحديث، وله في العقيدة:

- الآيات الواضحات في وجه دلالة المعجزات.

- عقيدة التوحيد المخرجة من ظلمة التقليد.

* محمد بن عبد الرحمن الديسي (1270-1340هـ/1854-1922م). مقرئ نحوي، متكلم أصولي، فقيه مالكي، ولد في قرية الديس بالصحراء، نبغ في العلوم الشرعية، ومن كتبه:

- درّة عقد الجيد في عقائد التوحيد.

- شرح أرجوزة التوحيد للشيخ شعيب التلمساني.

- العقيدة الفريدة منظومة في التوحيد.

* أحمد بن الطيب بن محمد الصالح بن سليمان العيساوي الزواوي (توفي سنة 1251هـ/1836م)، من كبار علماء المالكية، من آثاره:

- الدرّة المكنونة.

- أرجوزة في عقائد التوحيد وتكملة الفوائد في تحرير العقائد.

- مجال الفقه:

من أهمّ ما ألف في الفقه يتمّ التركيز على الفقه المالكي من أحكام وفتاوى وشروح تخصّ العبادات والمعاملات، ومن أهم الفقهاء الذين عرفتهم الجزائر:

* أبو جعفر أحمد بن ناصر الداودي (توفي سنة 402هـ/1011م)، عالم من علماء وأئمة المالكية، أصله من مدينة مسيلة، وقف ضدّ الشيعة الفاطميين، وكفّر كلّ من يدعو لهم على المنابر، ومن كتبه:

- النامي (وهو شرح لكتاب موطأ الإمام مالك في الفقه والحديث).

- النصيحة (وهو شرح كتاب صحيح البخاري في الحديث).

- كتاب تفسير القرآن الكريم.

- الواعي في الفقه.

- الإيضاح في الرد على القدرية.

* عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف الثعالبي (786-875ه/1384-1470م)، من كبار المفسّرين وأعيان الجزائر وعلمائها، ولد ونشأ بناحية يسر بالجنوب الشرقي من مدينة الجزائر، له أكثر من تسعين كتاباً منها:

- الجواهر الحسان في تفسير القرآن.

- روضة الأنوار ونزهة الأخيار في الفقه.

- جامع الأمهات في أحكام العبادات.

- الذهب الإبريز في غريب القرآن العزيز.

- الأنوار المضيئة في الجمع بين الشريعة والحقيقة.

- الإرشاد في مصالح العباد.

- رياض الصالحين.

- إرشاد السالك.

- العلوم الفاخرة في النظر في أمور الآخرة.

* أحمد بن محمد بن عبد الرحمن المغراوي التلمساني (782-845هـ/1280-1441م)، مفسّر ومحدِّث وأصولي، درس في المدرسة اليعقوبية، ومن كتبه:

- تفسير الفاتحة.

- شرح التلمسانية في الفرائض.

- مقدّمة في التفسير.

- منتهى التوضيح في عمل الفرائض.

- أجوبة فقهية.

* أبو العباس أحمد بن يحيى بن محمد الونشريسي التلمساني (توفي سنة 914هـ)، وهو الذي حمل لواء الفقه المالكي ونظَّر فيه، حيث جمعه في مؤلفه "المعيار المعرب عن فتاوى علماء إفريقية والأندلس والمغرب"، وقد جمع فأوعى، وأحاط بالفقه المالكي أصلاً وفرعاً، كذلك من آثاره:

- إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام المالك.

- عدة البروق في جمع ما في الذهب من الجموع والفروق.

- المنهج الفائق والمنهل الرائق والمغني اللائق بآداب الموثق وأحكام الوثائق.

- مختصر أحكام البرزلي.

من خلال هذه التراجم المختصرة لأغلب علماء الجزائر الذين لا يمكن حصرهم، يُلاحظ أنّهم ركزوا في علومهم على الفقه بالدرجة الأولى والشروح كشرح البخاري، وشرح المتون التي سبقت، ومعظمهم تمركزوا في الغرب، ولعلَّ السبب في ذلك هو انتشار التصوّف في بدايته مع الغرب مع سيدي أبي مدين شعيب التلمساني في نهاية القرن الخامس هجري، بالإضافة إلى انتشار العلوم الفقهية في شتى القطر الجزائري باختلافه في الشرق، ولكن يبقى قليلاً مقارنة مع الإنتاج العلمي في الغرب، وكذلك الصحراء التي انتشر فيها الفقه الإباضي.

فمن جهة الإنتاج العلمي كان غزيراً رغم أنّه حالياً لو حُقِّق لكفى الخطباء مؤونة البحث، ولكن تبقى جهود وزارة الشؤون الدينية والأوقاف، وبالأخص مديرية الثقافة الإسلامية، متواصلة بتحقيق مخطوطات علماء الجزائر.

ولكنّ الملاحظ هو زيادة التأكيد على المرجعية الدينية الوطنية، وفي هذا رمزية للجمع بين المرجعيتين لكونهما مشتركتين في نقاط أهمها: الوحدة وقبول الاختلاف واليُسر وعدم التعصّب، لأنّ المذهب المالكي يتميز عن المذاهب الأخرى، وهذا التميُّز يتجسّد في "الميل إلى اعتبار البُعد الاجتماعي والمصلحي في أغلب الفتاوى والتوجّهات والأحكام بفضل اعتبار المصالح الـمُرسلة، والعُرف أصل من أصوله الفقهية، ومصدر من مصادره التشريعية التي بنى عليها فقهه، وأرسى عليها قواعد مذهبه واستمدّ منها آراءه وأحكامه..."[9].

ولهذا فإنّ المذهب المالكي انتشر في الجزائر بفعل قبوله للعُرف، والذي لا يكون مناقضاً لتعاليم الإسلام، بالإضافة إلى تركيزه على الأبعاد المقاصدية، التي تتعلق بالكليّات الخمس، وهذا ما يفسّر تعايشه مع المذاهب الأخرى، ولكن هذا لا ينفي التعصب الذي يفيض من الأتباع، وخصوصاً إذا تعلقت أفعالهم وعلاقاتهم بالمصالح.

وقد تجسّدت المرجعية الوطنية وتلاحمت مع المرجعية الدينية في الفترة الاستعمارية، لأنّ قضية الشعب الجزائري بدأت في التبلور والتطور، وبفعل رحلات الجزائريين إلى المشرق، فقد تأثروا بالحركة الإصلاحية التي سادت من خلال أعلامها.

وظهرت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين لتمزج بين المرجعية الدينية والمرجعية الوطنية، وإن كان هذا لا ينفي دور المقاومات الشعبية بأهدافها الجهادية المرتكزة على أرضية صوفية، فقد كانت مرجعية دينية أكثر منها وطنية، وكذلك دور المدارس القرآنية التي اقتصرت على تحفيظ القرآن، ولكن من جهة أخرى حافظت على أهمّ مقوّم في الهويّة الوطنية وهو اللغة العربية، واستمرّ الأمر كذلك مع جمعية العلماء المسلمين والتركيز على الإصلاح وتربية الفرد على القيم الفاضلة ونبذ البدع والخزعبلات.

غير أنّ جمعية العلماء المسلمين بطابعها الديني كانت تخفي أبعاداً سياسية، لأنّ السياق الاجتماعي المتميز بالاستعمار ألزم ذلك، وهذا ما يظهر من خلال "موقفها الغامض من قضية الاستقلال، وتصريحها بأنّها جمعية غير سياسية، إلا أنّ خطابها كان سياسياً في الأغلب، كما أنّه وإن لم يُعلن عن ذلك صراحة كان وطنياً"[10]، فمن خلال استقراء خطاب جمعية العلماء في مضامينها الدقيقة نجد فيه بعض المفاهيم التي تعبّر عن المعنى السياسي أكثر من المعنى الديني، ففي بيت شعري مشهور لابن باديس يقول فيه:

شعب الجزائر مسلم     وإلى العروبة ينتسب

فكلمة "شعب" في البيت هي مفهوم سياسي بامتياز، وتعبّر عن تمييز الشعب الجزائري عن الشعب الفرنسي، وفي هذا يشترك ابن باديس مع مصالي الحاج مؤسس حزب الشعب، والداعي إلى الاستقلال، ممّا يعني أنّ الخطاب الديني الإصلاحي مضمونه موجّه إلى الخطاب إلى الاستقلال وإلى تأسيس هويّة وطنية.

ثالثاً: تفاعل الإمام والخطبة مع الهويّة الوطنيّة

لا يمكن معرفة التطور الذي حصل في علاقة الإمام وخطابه مع الهويّة الوطنية دون معرفة ما جرى في الماضي القريب أيام التسعينات، لأنّ المسجد احتوى تلك الأزمة وجرى توظيفه في إنتاج العنف، بدلاً من رسالته السامية الرامية إلى الأمن والسلام والأخوة بين المسلمين.

ففي تلك الفترة المتميزة بالتعددية الحزبية؛ تلك التعددية التي أفرزت العنف، كان المسجد مسرحاً لذلك بحكم تأثره بالتغير الاجتماعي الذي طرأ، حيث "ظهر المسجد كمنبر للتنازع بين السلطة الحاكمة والجماعات الإسلامية والمسلحة منذ إفراز التعدّدية، إذ كان ساحة للحملات الانتخابية التي قامت بها الجبهة الإسلامية للإنقاذ في استحقاقات البلدية والتشريعات"[11]، وجلّ الخطب كانت منصبّة حول تحريض الشعب على السلطة ودعوتهم إلى الدولة الإسلامية وإحياء الخلافة، وأدى الأمر كذلك إلى التصفية الجسدية، ممّا يعني أنّ الهويّة الوطنية تصادمت مع الخطاب المسجدي.

وبعد انقضاء فترة العنف عزمت السلطة في سياستها إلى احتواء التيار الوهابي بفتح الأبواب له، لأنّه انفتح بدعوته إلى السلم وطاعة ولي الأمر، ومن جهة أخرى الاستعانة بالاتجاه الصوفي، لأنّه لم يتأثر بأحداث العنف ولم ينسق وراءها لا المشايخ ولا الأتباع.

فجرى فتح الإعلام الديني بفتاويهم للأئمة الجزائريين ذوي الاتجاه الوهابي، وذلك لأنّ السلطة كانت تطمح في احتواء هذا الاتجاه، وهذا بالفعل، ولكن من جهة الهويّة الوطنية فقد جرى تصادم بين الهويّة الوطنية والأئمة الوهابيين وخصوصاً في مسألة النشيد الوطني، وقد استنكر معظم المواطنين موقفهم الذي "يتمثل في رفضهم الوقوف عند عزف النشيد الوطني خلال اجتماع رسمي أشرف عليه وزير الشؤون الدينية والأوقاف بوعبد الله غلام الله. وجرى الاجتماع...(في جوان 2010م) بـ«دار الإمام» بالضاحية الشرقية للعاصمة، حيث رفض أئمة وظفتهم الوزارة ببعض المساجد، النهوض من مقاعدهم أثناء سماع النشيد الوطني خلافاً لغالبية الحاضرين بالقاعة. وفهم ذلك على أنّهم يعتبرون الوقوف للنشيد، الذي هو عبارة عن أبيات شعرية لشاعر ثورة التحرير مفدي زكرياء، نوعاً من «التقديس». ولم يتفوه الأئمة «المتمردون» بأيّة كلمة، وفضلوا متابعة أعمال الاجتماع الذي جاؤوا من أجله[12].

أمّا الوزير غلام الله، فكان موقفه رافضاً ومستنكراً لموقف هؤلاء الأئمة، وقال: "هل إذا قمت من مكاني لتحية النشيد يعني أنّني أقدّسه؟ هل معنى ذلك أنّ عقيدتي فاسدة؟ إنّ التقديس في مثل هذه الحالات لا يعني العقيدة في شيء، بل هو احترام للشهداء"، يقصد الذين سقطوا في ساحة المعارك من أجل أن تستقل الجزائر من الاستعمار الفرنسي (1962). وتابع وزير الشؤون الدينية: «لست أدري إن كان ذلك (موقف الأمّة) رغبة في التميز، لكنّ التميز يكون في العلم، أمّا ما حدث فهو تميز شيطاني، ومن يحدث الفرقة بين المسلمين لا يستحق إمامتهم"، وتشابهت المواقف مع رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين عبد الرحمن شيبان الذي رأى في الوقوف للنشيد الوطني أمراً مباحاً وليس ببدعة، حيث قال: "إنّ الوقوف للنشيد الوطني «لا يتعارض مع العقيدة مثلما يظنّ البعض، لانعدام ما ينصّ على تحريمه أو اعتباره بدعة يستوجب هجرها، والدليل أنّ أغلب المشايخ وخيرة العلماء، أمثال: محمد الغزالي والبشير الإبراهيمي وأحمد حماني، لم يثبت عنهم أنّهم نهوا تلاميذهم، وهم من علماء الوقت الراهن، عن الوقوف عند عزف النشيد الوطني». ويعتقد الشيخ شيبان، (92 سنة)، أنّ الاستماع للنشيد الوطني «أمر محبب، لأنّ ديننا الحنيف يؤكد أنّ حب الوطن من الإيمان"[13].

إنّ هذه المسألة مرتبطة بالمعاني، حيث إنّ الوهابيين معانيهم منحصرة في النص الديني القرآني ولا يخرجون عنه، لهذا يرون أنّ الوقوف للنشيد الوطني أمر يمسّ المعتقد، ولكن في صميم المعنى فعلهم كأنّه تحدٍّ للسلطة، التي ظنت أنّهم يشكلون استراتيجية لمواجهة الحركات المسلحة، ولكن عندما ظهر العكس، خصوصاً في احتكاكها بالهويّة الوطنية، اعتبرت سلوك الوقوف سلوكاً بدعياً ومخالفاً للشريعة.

وليست المشكلة في عدم القيام بسلوك بروتوكولي شكليّاً، وإنّما الموقف يتحدّد في إطار رأسماله الرمزي بتعبير بورديو، خصوصاً أنّه من موظفين رسميين وفي اجتماع رسمي، "وهو تحدٍ كبير واستعراض للقوة من تيار يعتقد أنّه تمكّن من اكتساب الحصانة التي تجعله يتحدى السلطة من داخلها، ثمّ الترويج لفتاوى تستهدف مقدّسات الرأي العام وتدمّر رموز ومرجعيات شرعية السلطة"[14].

وهذا ما أدّى بخطب الجمعة إلى التأثر بهذا الوضع، حيث يتمّ التركيز على مواضيع المناسبات الوطنية، كثورة الأول من نوفمبر وعيد الاستقلال وعيد النصر وغيرها من الأعياد، ولكن دون تناولها بطابع سياسي، ويتخلل تلك الخطب رؤية عقلانية وكذلك رؤية علمانية: العقلانية بمعناها التوافقي كما نصّ على ذلك ماكس فيبر (Weber M) والعلمانية بمعناها التمايزي، أي تمايز مجال عن مجال آخر، دون نفي وجود علاقة بينهما.

ومن خلال تحليل مضمون الخطب التي تتناول المناسبات نجد من خلال العينة ثلاث خطب وهي: عيد الاستقلال، وطاعة ولي الأمر، والمصالحة الوطنية، وبحكم تجميع معاني الخطاب حسب الرؤية الواقعية التي تعبّر عن العقلانية، وهذه المعاني هي: أهمية الموضوع، والشرعية (التاريخية والدينية) والحثّ والإرشاد، فبالنسبة إلى أهمية الموضوع تتكرّر ألفاظه في موضوع طاعة ولي الأمر ثمّ عيد الاستقلال في درجة ثانية ثمّ تنعدم في المصالحة الوطنية، وذلك لأنّ موضوع طاعة ولي الأمر يستلزم تبيان أهميته خصوصاً في أيام التغير الذي شهدته الدول العربية.

أمّا في الشرعية فتناولها أكثر في مناسبة عيد الاستقلال والاستدلال بالشرعيتين التاريخية والدينية، وكذلك في المصالحة الوطنية، لأنّ تكوين الأئمة منذ 2006م أدرج مادة التاريخ ضمن برنامج التكوين، حرصاً من الوزارة على تكوين الإمام في شتى المجالات حتى تكون له دراية في تناول المواضيع الدينية وغير الدينية، بينما في موضوع طاعة ولي الأمر يتمّ الارتكاز على الشرعية الدينية لغرض التأسيس للوطنية تجاه الدولة الممثلة في شخص الرئيس، ولنشر الأمن والسلم.

وفي معنى الحثّ والإرشاد يركّز على وصف حالة المسلمين السلبية في حالة عدم الانقياد لموضوع الخطبة، وهذا حضٌّ من الإمام للمأمومين على التوحيد العقدي، الذي بدوره يؤسّس للتوحيد الاجتماعي المرتكز على قاعدة "حب الوطن من الإيمان"، وهذا من خلال استعمال ألفاظ: المصالحة ـ السلم - الشعب الجزائري ـ الوطن ـ بلد الجزائر.

ممّا يدل على أنّ المرجعية الدينية تتلاحم بشدّة مع المرجعية الوطنية لتؤسس كياناً واحداً في المسلم المواطن الجزائري، أمّا فيما يخصّ العلمانية في الخطاب المسجدي فيظهر في عدم ممارسة الإمام السياسة، وعدم تناول مواضيع سياسية في الخطبة، والابتعاد عن الأحزاب السياسية، ممّا يعني أنّ المسجد يظلّ محايداً ومتمايزاً بخطابه الذي يدعو إلى الوحدة والأخوة، ولكن في حال عدم تأثيره فهذا متوقف على الأفراد المتأثرين بالمعايير والقيم الاجتماعية الموجودة خارج المسجد.

بالإضافة إلى ذلك تمّ إدخال الجمعيات الدينية في المسجد، التي تعبّر عن مفهوم المجتمع المدني، ولكن ما لاحظناه في واقعها وحسب تصريحات الأئمة أنّها معيقة لعملهم، بل أصبحت في معظم الأحيان تتدخل في مهام المسجد، وخصوصاً في مسألة الزكاة وتبرعات المحسنين للمسجد، ممّا يحيل بعضهم إلى العدالة، والتي لا تنمّ عن حقيقة الهويّة الوطنية، بالمقابل هناك جمعيات تساهم في المسجد، وهنا يتأثر أفراد الجمعية بمبادئهم تجاه الوطنية، وأغراضهم من دخولهم للجمعية الدينية، فإذا كان غرض الفرد ماديّاً فإنّ الجمعية لا تقوم بدورها في المسجد، بحكم الصراعات التي تنشأ بينهم بسبب المصالح الشخصية، وهو ما ينعكس على الخطاب وتصوّر المأمومين لهذا الخطاب، لأنّ فعل الخطاب لا يؤثر إلا إذا كان متأثراً بما يقوله ويفعله، على حد تعبير أحد الأئمة: "باش نأثر لازم نكون متأثر".

خاتمة

وختاماً، من خلال هذه الورقة أردنا دراسة العلاقة بين الخطاب المسجدي وبين الهويّة الوطنية، فهما متجذران في تاريخ الجزائر الثقافي والاجتماعي، وأثناء الفترة الاستعمارية جرى التلاحم بين الهويّة الدينية والهويّة الوطنية، وفي الفترة الحالية تتمّ الاستمرارية في عناصر الخطاب والإمام بعدما شهدت الجزائر صراعاً بين المرجعيتين، وبالتالي فإنّ الخطاب المسجدي هو خطاب له هويّة وطنية في مضمونه ومعانيه المنحصرة في الوحدة والتلاحم بين الأفراد، وبين المرجعية المالكية والمرجعية الوطنية.

 

المراجع والمصادر:

  1. ابن منظور جمال الدين (دت)، لسان العرب، تحقيق: عبد الله الكبير وآخرون، القاهرة: دار المعارف.
  2. العمري مرزوق (2008)، "راهن الخطاب المسجدي والمرجعية الدينية الوطنية" ص ص 06-23، رسالة المسجد، السنة السادسة، العدد 01، محرم 1429هـ، جانفي 2008م.
  3. بغداد محمد (2012)، أزمة المؤسسة الفقهية في الجزائر، الجزائر: ذاكرة الأمّة.
  4. بغداد محمد (2010)، الإعلام الديني في الجزائر، الجزائر: دار الحكمة.
  5. بوزيد بومدين (2011)، "المؤسسة الدينية والأصولية الجزائرية"، في الكتاب الجماعي: حراسة الإيمان المؤسسة الدينية، الإمارات العربية المتحدة: مركز المسبار للدراسات والبحوث، ط03.
  6. بوعلام غمراسة، جدل ديني حول رفض أئمة مساجد تحية النشيد الوطني، يومية إيلاف، الأحد 04 يوليو 2010م، في الموقع: http: //elaph.com/Web /NewsPapers /2010/7 /575254 .html، يوم الزيارة: 10 أفريل 2015م.
  7. دوبار كلود (2008)، أزمة الهويّات، ترجمة: رندة بعث، بيروت: المكتبة الشرقية، ط01
  8. نويهض عادل (1989)، معجم أعلام الجزائر - من صدر الإسلام حتى العصر الحاضر، بيروت: مؤسسة نويهض الثقافية، ط2
  9. مدان محمد (2010)، المرجعية السوسيوتاريخية للسلطة السياسية في الجزائر، تلمسان: مطبعة ابن خلدون.
  10. Faucault Michel (1969), L'Archéologie du savoir, Paris, Gallimard.
  11. Le petit Larousse (1990), Librairie Larousse.

[1] ـ ابن منظور جمال الدين (دت)، لسان العرب الجزء 15، تحقيق: عبد الله الكبير وآخرون، القاهرة: دار المعارف، ص 1194

[2] ـ المرجع نفسه، ص 1194

[3]. Le petit Larousse, Librairie Larousse, 1990, p329.

[4]. Faucault Michel, L'Archéologie du savoir, Paris, Gallimard, 1969, p156.         

[5] - العمري مرزوق، "راهن الخطاب المسجدي والمرجعية الدينية الوطنية" ص ص 06-23، رسالة المسجد، السنة السادسة، العدد 01، محرم 1429هـ، جانفي 2008م، ص 12

[6] ـ دوبار كلود، أزمة الهويّات، ترجمة: رندة بعث، بيروت: المكتبة الشرقية، ط01، 2008، ص ص 27-28

[7] ـ المرجع نفسه، ص ص 23-24

[8] ـ نويهض عادل، معجم أعلام الجزائر - من صدر الإسلام حتى العصر الحاضر، بيروت: مؤسسة نويهض الثقافية، ط2، 1989

[9] ـ بغداد محمد، أزمة المؤسسة الفقهية في الجزائر، الجزائر: ذاكرة الأمّة، 2012، ص 122

[10] ـ مدان محمد، المرجعية السوسيوتاريخية للسلطة السياسية في الجزائر، تلمسان: مطبعة ابن خلدون، 2010، ص 126

[11] - بوزيد بومدين، "المؤسسة الدينية والأصولية الجزائرية"، في الكتاب الجماعي: حراسة الإيمان المؤسسة الدينية، الإمارات العربية المتحدة: مركز المسبار للدراسات والبحوث، ط03، 2011، ص 178

[12] - بوعلام غمراسة، جدل ديني حول رفض أئمة مساجد تحية النشيد الوطني، يومية إيلاف، الأحد 04 يوليو 2010م، في الموقع: http://elaph.com/Web /NewsPapers /2010/7 /575254 .html، يوم الزيارة: 10 أفريل 2015م.

[13] ـ المرجع نفسه.

[14] ـ بغداد محمد، الإعلام الديني في الجزائر، الجزائر: دار الحكمة، 2010، ص 70