رقصات نيتشه


فئة :  مقالات

رقصات نيتشه

رقصات نيتشه

على سبيل البدء

هناك حاجة ماسة إلى قراءة نيتشه كفيلسوف يعشق الرقص الذي يظل ملازماً لطريقته في الكتابة ولأسلوبه الذي يحاول من خلاله تجاوز التصور التقليدي للكتابة بمعناها النسقي الجاف، واستبدالها بنمط جديد يُسيل المداد بشكل متقطع منفصل، ويعبر عن رغبة فيلسوف يهوى الحياة ويتمسك بها، ويميل إلى كل ما يزيدها بهاءً ويمنحها الجمال الذي يجعلها تستحق أن تعاش، رغم ما تحتوي عليه من ألم ومعاناة. لكن، لماذا نرقص؟ وهل هناك حاجة إلى الرقص؟ ما علاقة الكتابة بالرقص عند نيتشه؟ وهل نرقص من أجل تجاوز رتابة الوجود؟ أم بغية الاحتفاء بالحياة؟ هل توجد علاقة بين الرقص كتعبير عن الجسد والبهجة، وبين الكتابة كفعل ارتبط عند نيتشه بهدم وتحطيم الأوثان الفكرية؟

1- منزلة الرقص في الكتابة النتشوية:

كلّما أقبل القارئ على مغازلة شذرة من شذرات نيتشه إلا وتراءت له بعض ملامح الرقص في فلسفته، حيث في كل مرة يحتفي فيها نيتشه بالكتابة راقصاً، كان يجود علينا بشذرات لربما تقول كل شيء، لكن، المؤكد أنها تنسف الوثوقية نسفاً وتحطم أصفاد العقل وأغلاله. إن الرقص تعبير عن الحرية والتلقائية وتجاوز لقيود الفكر ومعانقة للحياة التي تستحق أن تعاش بعيداً عن كل ما من شأنه أن يعكر صفوها، فالسبيل الأمثل للاحتفاء بالحياة يتجلى في الإقبال على الرقص الذي يشكل تجاوزاً للمألوف وتعالياً عن الخمول والاستكانة، وتعبيراً عن قلق فكري كان يراوده وسيظل يداهم قراءه باستمرار.

عندما نقرأ نيتشه وتحديداً كتابه «الأكثر عمقاً»[1] "هكذا تكلم زرادشت"، نستشف حضور الرقص في مواطن كثيرة من فقراته؛ ففي عبارة جميلة فاتنة منه تدعو إلى التأمل يقول نيتشه: «إنني لن أؤمن إلا بإله واحد يكون قادراً على الرقص»[2]، إذ يظهر من خلالها صاحب المطرقة ملوحاً بانتصاره على خصومه مسترشداً بروح ديونيسوسية لا تخفى ولا تحجب تطلع الرجل إلى الغناء والرقص، بغية فكّ رباط الفكر وتحريره من القيم البالية، التي سعى نيتشه إلى هدمها وتقويضها، حيث يصرح قائلاً: «إن آخر ما يمكن أن يخطر لي أن أعد به هو "إصلاح" البشرية، كما أنني لن أشيد أصناماً جديدة، وليعلم القدامى ما الذي يجلبه الانتصاب على قدمين من صلصال، تحطيم الأصنام (وهذه كلمتي المفضلة للتعبير عن "المثل") هي حرفتي»[3] لقد امتهن صاحب المطرقة صناعة تحطيم الأصنام والمثل العليا التي تراكمت على امتداد تاريخ طويل بفعل الخمول الفكري الذي دعا نيتشه إلى تجاوزه عبر خلق نوع من الفكر الذي أصبح يمشي على قدمين، ويرقص تعبيراً عن إبداع فَرِح لا يخفى. إن ولع نيتشه بالرقص تجلى في كتابته الشذرية وفي أسلوبه الاستعاري الجميل الذي ينأى عن النسقية الجافة والنظام المفرط، ويجنح نحو العفوية والتلقائية، التي تمكننا من الخروج عن السائد، وترسم لنا طريقاً نسير على دربه دون أن نشيد صرحاً جديداً وأصناماً منعدمة المعنى والقيمة.

لقد أظهر نيتشه منذ صغره حبه للفن والموسيقى، حتى إنه أخذ منها وسيلة فعالة للتخفيف من آلامه ومحنه، فكان كلما شعر بالغضب، توسلت فرنسيسكا زوجها ليعزف على البيانو[4] حتى يتحول غضبه ذلك إلى فرح وبهجة، سيحتفظ بها حتى في كبره عندما سيصبح فيلسوفاً وكاتباً بارعاً، يقرأ بنهم ويكتب بإيقاع سريع يحاكي براعته في فن الرقص وإتقانه له من خلال الكلمات والمعاني ثم الدلالات، التي تزخر بها شذراته المتميزة، التي تحمل طابعاً استثنائياً يحث على ضرورة التعامل معها بكيفية خاصة لتجنب مخاطرها الكثيرة، حيث يقول نيتشه في كتابه "هذا هو الإنسان": «من يعرف كيف يتنفس من الهواء الذي يملأ كتاباتي يدرك أنه هواء أعالي؛ هواء شديد قاس، وعلى المرء أن يكون مجبولاً لمثل هذا الجو وإلا فإن الخطر سيكون غير يسير؛ خطر الإصابة ببرد»[5] يحذر نيتشه هنا من خطر التعامل مع كتاباته التي تستهوي نوعاً فريداً من القراء: أولئك الذين يتمتعون بالشجاعة الكافية لمواجهة عمق أعماله التي يشبهها نيتشه «ببئر لا تنضب حيث لا تنزل دلو دون أن تصعد ممتلئاً ذهباً وخيراً كثيراً».[6]

2- الشذرة النتشوية بين الرقص والجسد:

تُعَبر الشذرة النتشوية عن حالة الرقص التي يعيشها الفيلسوف عندما يكون بصدد الاحتفاء بجسده، الذي يعكس القدرة على المشي والحركة التي تولد الشعور بالبهجة والسرور والرغبة في الإقبال على الحياة التي لا ينبغي التعاطي معها بالجدية المفرطة، كما هو الحال بالنسبة إلى شذرات نيتشه التي ينبغي أن نقرأها ونحن نمرح من أجل الوصول إلى بعض معانيها الفريدة والمتميزة، حيث تشكل الدلالات تعبيراً عن الجسد الحركي الذي يهوى المشي وينفر من الخمول والكسل والجلوس، فأن تكون كاتباً بارعاً حسب نيتشه ينبغي أن تكون راقصاً ماهراً ذا جسد خفيف يكاد يطير فرحاً وابتهاجاً كلما أقبل على الكتابة ملهماً، لذلك يقول نيتشه: «أنا الآن خفيف، الآن أطير، الآن أرى نفسي دون منزلتي، الآن يرقص إله من خلالي»[7] واضح هنا سعي الرجل إلى نسف إرادة الخمول والموت، بغية الوقوف صداً منيعاً أمام كل المعادين للحياة، المتبجحون بالروح على حساب الجسد الذي كان يعبر عن الدنس والقرف ويعكر صفاء الروح الطاهرة النقية.

لقد أصبح الفكر مع نيتشه يتجه نحو الدعوة إلى الحياة وعشق كل ما يربطنا بها والابتعاد عن الفكر الوثوقي والدغمائي الداعي إلى الثبات والخمول، وبالتالي تتحدد مهمة الفيلسوف لا في البناء والتشييد، بل في التحطيم والهدم، ونسف كل ما لا يستجيب للإرادة الحياة عبر طرقة بمطرقة، أو كتابة شذرة، تجسد القدرة على الرقص بقدمين يحاكيان تجربة الكتابة، التي تظل ملازمة للفيلسوف بشكل مستمر من أجل إنتاج معرفة مرحة يشكل الرقص واحداً من مقوماتها كما الضحك، فالفيلسوف في نظر نيتشه كالطفل الصغير الذي يضحك باستمرار، يرقص ويلعب دون توقف، لذلك يقول زرادشت مخاطباً الفتيات اللطيفات اللواتي يرقصن داخل أدغال الغابة «لا تتوقفن عن الرقص أيتها الفتيات اللطيفات! ليس مفسد أفراح ذا عين سوء يقبل عليكن هنا، ولا عدوا للفتيات(...) لا يغضبكن مني أيتها الراقصات الجميلات إن رأيتنني أؤدبه قليلا ذاك الإله الصغير! سيصرخ بالتأكيد وينتحب، لكنه سيكون مرحاً حتى وهو يبكي!»[8] ويتضح من خلال ذلك دعوة زرادشت للتشبث بالمرح حتى في لحظات بكائنا وحزننا، والتمسك بطفولتنا في هرمنا وشيخوختنا، وأن نمزج الجدية باللعب، والصرامة بالضحك، حتى نتمكن من الارتقاء بأنفسنا لا كما تقضي تعاليم المعادين للحياة الذين يقولون: «عليك أن تقتل نفسك بنفسك! عليك أن تنجو بنفسك من نفسك!»[9] لأنه من الضروري التحلي بالرغبة الملحة في الاحتفاظ بالمرح وعدم التوقف عن الرقص، من أجل تفادي حالة الحزن التي ألفى زرادشت نفسه عليها بعد أن انتهت الرقصات وانصرفت الراقصات الجميلات.

إن الجسد الذي يرقص يعبر عن قدرة الإنسان على تجاوز رتابة الوجود وتحقيق السعادة التي يتطلع إليها كل مقبل على الحياة، لذلك نجد نيتشه يقول: "لكم هو قليل ما يحتاجه المرء كي يكون سعيدا! صوت آلة هوائية. لو لم تكن هناك موسيقى لكانت الحياة خطأ" ولما استطاع أيضا أن يعانق الحركة والخفة ويبتعد عن الثبات، تماماً كما يفعل الكاتب عندما يظفر بفكرة، أو يدون شذرة يكثف من خلالها معاني ودلالات كثيرة تكسر الجمود وتحطم أوثان الفكر وتتجاوز الخنوع ثم الخضوع، وتبشر بإمكانية للسمو والارتقاء الدائم والمستمر، عبر اتباع مسارات جديدة تفتح الأفق أمام كل متفائل بعيش حياة مختلفة، تؤمن بالسيرورة وتومئ بوجود الفرح وتساعد على الانعتاق من الضجر. لقد كان نيتشه فيلسوفاً يحمل في داخله طفلاً صغيراً يهوى اللعب والرقص ويحب التلقائية والمرح، مما يدفعه إلى استكشاف أعالي الجبال حيث يمكنه القبض على فكرة يحولها إلى شذرة، غير أن أسلوبه بقدر ما يوحي بوجود طفل صغير مقبل على الحياة، ويعشق الانفصال والتقطع في الكتابة ويكره الالتحام والنسقية المفرطة، فإن أسلوبه في الكتابة يعكس رغبة فيلسوف خبر شؤون الطرق بالمطرقة واحترف مهام هدم الأفكار المرضية التي لا تنفع الناس في شيء، عدا أنها تنمي لديهم شعوراً بالسكينة المزيفة والمضللة.

على سبيل الختم:

لم تكن غاية نيتشه أبداً تشييد صرح فكري جديد يتجاوز الأنماط الفكرية السابقة، بل حاول تجاوز ونسف الأفكار السائدة عن الحياة والكتابة معاً، من خلال سعيه الدائم والحثيث إلى الرقص الذي يعكس حبه للموسيقى والغناء والفرح من أجل تأسيس معرفة مرحة تؤمن بالتغير وتتعالى عن الجاهز، لذلك كان يفضل دائماً الكتابة بقدمين، ويميل أكثر للفجوات والمسافات ويترجمها إلى شذرات تستحق أن نمنحها الكثير من العناية والاهتمام.

[1] فريديريك نيتشه، هذا هو الإنسان، ترجمة: على مصباح، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2003، ص4

[2] فريدريك نيتشه، هكذا تكلم زرادشت، كتاب للجميع ولغير أحد، ترجمة: علي مصباح، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2007، ص88

[3] فريدريك نيتشه، هذا هو الإنسان، ترجمة: على مصباح، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2003، ص3

[4] دانيال بلو، تشكل فريدريك نيتشه، السعي للهوية، 1844-1869، ترجمة: محمد الفشتكي، الرافدين للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان، 2018، ص45

[5] فريدريك نيتشه، هذا هو الإنسان، ترجمة: على مصباح، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2003، ص ص8-9

[6] فريدريك نيتشه، هذا هو الإنسان، ترجمة: على مصباح، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2003، ص10

[7] فريدريك نيتشه، هكذا تكلم زرادشت، كتاب للجميع ولغير أحد، ترجمة: علي مصباح، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2007، ص88

[8] المرجع نفسه، ص ص212-213، بتصرف.

[9] المرجع نفسه، ص96